شرح القاعدة التاسعة والثلاثون

بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى مولاتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين،وعلى سيدتنا خديجة الكبرى أم المؤمنين،وعلى آله وصحبه أجمعين. نواصل شرح القواعد المباركة من خريطة السلوك العرفاني لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،ومع القاعدة التاسعة والثلاثين تقول: [علم التصوف: لا يُعطيك بعضه حتى تُعطيه كلّك،ولا يُعطى إلا بعد الطّلب،ولا يُنال إلا بعد التّعب،ولا يستقرّ إلا مع الأدب ]. القاعدة المباركة تجمع بين شقّي التصوف: النظري التعليمي، والعملي السلوكي.. فلا يصلُح العمل بالشيء إلا بعد معرفة حُكمه ووجهه.. فأولاً لا بد من إحكام العلم بأصول الطريقة، وبعدها السلوك بها على يد شيخ مربي محقّق يختصر لك الطريق ويأخذ بيدك في دهاليزه ومنعرجاته.. فمن لا شيخ له فالشيطان شيخه. _ الكتابة حول التصوف نوعين: كتابة في التصوف،وكتابة عن التصوف. وهما أمران مختلفان اختلافاً نوعياً: الكاتب في التصوف الإسلامي: إنسان عاش حياة التصوف وخَبِر مدارج السلوك،بما فيها من قبض وبسط وجمال وجلال،بما تُعطيه من مواجيد وأذواق.. لتمتاز آثار الكاتب بهذا الاعتبار بالصدق (صدق ال شعور،وصدق الموقف،وصدق الكلمة) وحرارة التعبير. أما الكاتب عن التصوف الإسلامي: فهو إنسان يعتمد الرّصد والاستقراء والتحليل،وهي من أدوات المنهج التاريخي من مناهج البحث، وهو منهج يلزم أن يكون من يكتُب عنه خارج أحداثه،حتى تكون أحكامه وتقييماته موضوعية. ولما كان التصوف هو حركة السالك بالفكر والذكر في طريق العرفان.. فإنه إذا جاء من عاش الحدَث وكابدَ السّير،سالكاً طريق التصوف،ليصف ما عايشه ويُجلي بعض مُدركاته ومَداركه،فلا بدّ من الالتفات إليه والوقوف عنده بعناية،لأنه يُعطي وصفاً دقيقاً لحركة التصوف من داخلها،وهو الأقدر على إعطاء الحقائق الداخلية لهذه الحركة،كما أنه الأكثر دقّة حينما يصف الآليات الفكرية والروحية لحركة التصوف التي يعيشها.. من هنا كان دأبنا في شرح هذه القواعد المباركة الاستشهاد بالعارفين الكمّل الذين يملكون بناصية الحقائق ويقفون على أساس متين في أرض العرفان،رضي الله عنهم وقدّس الله أسرارهم. _ لعلم التصوف،ككل علم،عشرة مكونات،يجب التعرّف عليها للوصول إليه،وهي: معرفة حَدّه وموضوعه وواضعه واسمه واستمداده وحُكم الشارع فيه وتصوّر مسائله وفضيلته ونسبته وثمرته. يقول الشيخ أحمد زروق في القاعدة الستة والثلاثين: [ ضبط العلم بقواعده مهمّ: لأنها تضبط مسائله،وتفهم معانيه، وتُدرك مبانيه،وتَنْفي الغلط من دعواه،وتَهْدي المُتَبصّر فيه، وتُعين المُتَذكّر عليه،وتُقيم حُجّة المُناظر،وتُوَضّح المحَجّة للناظر،وتبيّن الحق لأهله والباطل في محلّه.. ]. بالنسبة لحَدّ التصوف وتعريفه. فكما يقول الشيخ زروق في قواعده: [ وقد حُدّ التصوف ورُسم وفُسّر بوجوه تبلُغ الألفين، مرجع كلها لصدق التوجّه إلى الله تعالى . فمن له نصيب من صدق التوجّه،له نصيب من التصوف.. ]. ويقول الشيخ الشعراني: [ الصوفي في لسان المحققين: هو عالِم عمل بعلمه،أي على وجه الإخلاص لا غيره.. فلو عمل العالِم بعلمه على وجه الإخلاص كان هو الصوفي حقاً ]. فجُلّ تعاريف التصوف الغالب عليها الأحوال التي كانت مسيطرة على قائليها حين صرّحوا بها،فجاءت معبّرة عن جوانب جزئية مختلفة من التصوف،كما قال القشيري في رسالته: [ فكلّ عَبّر على حسب ما لاح لقلبه ]، ويقول الشيخ السهروردي في كتابه (عوارف المعارف)،عند كلامه عن ثلاثية التصوف والفقر والزهد: [ وأقوال المشايخ تتنوّع معانيها،لأنهم أشاروا فيها إلى أحوال في أوقات دون أوقات.. ]. فلكل عصر فتوحاته المعرفية،والتجليات في ترقّ دائم.. من هنا فمن المستحيل تعريف التصوف بالماهية أو حصر مسائله. يقول الشيخ عبد القادر الجزائري: [ قيل لي في واقعة من الوقائع: مطلب علم التصوف هو ما لا يقف التحقيق عند مسألة من مسائله، بمعنى: أن الطالب لمسألة من مسائله، إذاحقّقها،يجعله ذلك التحقّق مُستعداً لما وراءها،فإذا تحقّق بما استعد له ممّا وراء تلك المسألة استعد كذلك وهكذا،فلا نهاية لمسائل التصوف ومطالبه ]. ويقول الشيخ زروق في كتابه (مقدمة في التصوف):[ للتصوف: مقدمة وحقيقة ونتيجة. مقدّمته: خَشية الله،وحقيقته: صدق التوجّه إلى الله،ونتيجته: الفناء في الله. فالخشية مُستفادة من العلم بالله وبما جاء عن الله،ومَظنّته: علوم الوعظ والتذكير. وحقيقته: دائرة على التّقوى والاستقامة كما أمر الله،وإفراد القلب والقالَب لله.ونتيجته: دائرة على كشف الغِطاء،وتحقّق الإمداد والعَطاء.. ].. يقول الشيخ أحمد بن عجيبة: [علم التصوف:هو من أجلّ العلوم قدراً،وأعظمها محلاً وفخراً،وأسناها شمساً وبدراً. وكيف لا وهو لُباب الشريعة،ومنهاجالطريقة،ومنه تُشرق أنوار الحقيقة.. وهو تفسير لمقام الإحسان الذي هو مقام الشهود والعيان.. فإذا تقرّر أنه أفضل العلوم تبيّن أن الاشتغال به أفضل ما يتقرّب به إلى الله تعالى لكونه سبباً للمعرفة الخاصة التي هي معرفة العيان ]. ويقول الشيخ عليّ حرازم:[ علم التصوف: هو عبارة عن علم انقدَح من قلوب الأولياء حتى استنارت بالعمل بالكتاب والسنة،فكل من عمل به انقدح له من ذلك علوم وآداب وأسرار وحقائق تعجز الألسُن عنها،نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام.. فالتصوف إنما هو زبدة عمل بأحكام الشريعة،إذا خلا عمله من العلل وحظوظ النفس ].
ويقول الشيخ عبد المجيد الشرنوبي: [علم التصوف: هو العلم الباحث عن تهذيب الأخلاق وتصفيتها من الأخلاق المذمومة، والتنبيه على ما يعرض للعبادات والمعاملات من الآفات المهلكة،كالكبر والرياء والعجب،وتعريف الطرق المخلصة من ذلك ]. ويقول الشيخ أبو الفيض المنوفي: [ علم التصوف: هو العلم الموصِل بين منهج الظاهر ومنهج الباطن ]. _ وقاعدتنا المباركة تركّز على الجانب العملي والتربوي من التصوف ــ باعتبار أن العمل متضمّن للعلم والحكمة،وإلا كان عبثاً ــ والتصوف العملي هو بحسب السلوك،قلبياً كان أو قالبياً،ممّا يُوافق الشريعة والطريقة والحقيقة،ويحكُم بصحتها القرآن والسنة وطريق المشايخ من السلف. ومن أركانه: الرياضة والمجاهدة والعزلة والخلوة،وهو ما يُعرف بأصول التصوف عند القوم،فلا وصول لمن لم يُحقّق الأصول،وهو معنى قولهم: [ من أشرقت بدايته أشرقت نهايته ] وإشراق البداية بإحكام أصولها.. يقول الشيخ السّراج الطوسي: [ قال بعض الفقراء: أصولنا سبعة أشياء: أداء الفرائض،واجتناب المحارم،وقطع العلائق، ومعانقة الفقر،وترك الطلب،وترك الادّخار إلى وقت ثانٍ،والانقطاع إلى الله تعالى في جميع الأوقات ]. ويقول الشيخ أحمد زروق: [ أصول طريقتنا خمسة أشياء: الأول: تقوى الله في السرّ والعلانيّة. وتحقيق التقوى: بالوَرَع والاستقامة. والثاني: اتّباع السنّة،في الأقوال والأفعال. وتحقيقها: بالتّحفّظ وحُسْن الخُلُق. والثالث: الإعراض عن الخَلق،في الإقبال والإدبار. وتحقيقه: بالصّبر والتوكّل. والرابع: الرّضّى عن الله تعالى،في القليل والكثير وتحقيقه: بالقناعة والتفويض. والخامس: الرّجوع إلى الله تعالى،في السرّاء والضرّاء. وتحقيقه: بالحمد والشّكر في السّرّاء،واللّجْأ إليه في الضرّاء. ]، ويُضيف: [وأصول ذلك كلّه خمسة: عُلُوّ الهمّة وحِفظ الحُرمة وحُسن الخدمة ونُفوذ العَزْمة وتعظيم النّعمة. فمن عَلَت هِمّتُه ارتفعت رُتبته،ومن حَفظ حُرمة الله تعالى حَفظ الله حُرمته،ومن حَسُنت خدمته وَجَبت كرامته،ومن أنْفَذ عَزمته دامت هِدايته،ومن عظُمت النّعمة في عينه شَكرها.. ]. ويقول أيضاً: [ أصول محقّقي الصوفية أربعة: الأول: تحقيق الاعتقاد، وحفظه بالاحتياط.. الثاني: تصحيح العمل بالأحكام،وذلك باتباع الفقهاء،مع التبصّر في أصولها ليحصُل نور الاقتداء بالعلماء مع الاهتداء بالاطّلاع على دلائل الشريعة.. الثالث: تأييد الفضائل بالسنة فيأخذ بالصحيح وما قاربه وما يُحاكيه.. الرابع: تقييد الأدب بالجمع على مولاهم،فكلّ أدب جمعهم على مولاهم قالوا به وعملوا به.. ]. ونستنتج هذه الأصول من خلال حروف كلمة “صوفي”،يقول الشيخ أبو الحسن الشاذلي: [ الصوفي مركب من حروف أربعة: الصاد والواو والفاء والياء. فالصاد: صبره وصدقه وصفائه. والواو: وجده ووِدّه ووفاؤه. والفاء: فَقدُه وفقره وفناؤه. والياء: ياء النسبة إذا تكمّل فيه ذلك أضيف إلى مولاه ]. وقد حدّد أحد العارفين المعاصرين،الجامعين بين العلم النظري والعملي للتصوف،وهو المربي الحفيان الجيلي،شروط إدراك حقائق التصوف،وهي: 1 سَلامة المُدرِك: فوسيلة معرفة الحقائق الإحسانية الشهودية هي القلب،ولذلك ألحّ علماء التزكية الربانية على التخلّي لإزالة العلل والموانع والآفات.. 2_ انتفاء الموانع: وأشدّها خطراً مانعان،وهما: اتباع خُطوات الشيطان،واتّباع ما تهوى الأنفُس.. 3_ الهداية الربانية: وهذا الشرط لا يدخل في مُكْنَة الإنسان،فيلزم الطلب والاستهداء من الله تعالى طريق الحقيقة ومناهج المحسنين. وإدراك هذه الشروط وسيلته المجاهدة والرياضة كما هي في مفهوم القوم،فالمجاهدة ركن أساسي في السلوك.. قال الله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلنا)،قال السدّي وغيره: “إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال”،وقال العلامة ابن الجزي في تفسير هذه الآية: “يعني جهاد النفس”. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المجاهد من جاهد نفسه في الله” الحديث. ولما كانت تزكية النفس عند أهل الله والعلماء بالله فرض عين،وهي لا تتمّ إلا بالمجاهدة،من هنا كانت المجاهدة فرض عين من باب: “ما لايتمّ الواجب إلا به فهو واجب”. يقول الشيخ عبد الغني النابلسي: [المجاهدة في النفس عبادة ولا تحصُل لأحد إلا بالعلم،وهي فرض عين على كل مكلف ]. والمجاهدة من المقامات المُستصحبة للتكليف.. والمجاهدة هي حمْل النفس عن المشاقّ البدنية المؤثّرة في المزاج،وَهْناً وضعفاً. كما أن الرياضة هي تهذيب الأخلاق النفسية بحَملها على احتمال الأذى.. قال بعضهم: [ التصوف أوله علم،وأوسطهعمل،وآخره موهبة من الله تعالى ]،وقيل: [ التصوف ترك التكلف،وبذل الروح ]. وسُئل الإمام الجنيد عن التصوف فقال: [ تصفية القلب عن موافقة البرية،ومفارقة الأخلاق الطبيعية،وإخماد صفات البشرية،ومجانبة الدّواعي النفسانية،ومنازلة الصفات الروحانية،والتعلّق بعلوم الحقيقة،واتّباع الرسول في الشريعة ]. وقد علّق الشيخ ابن الصديق الغماري على قولة الجنيد،في كتابه (وجوب سلوك التصوف)،بقوله: [ ولعل هذا القول أبلغ ما قيل في التصوف وكشف حقيقته.. ]. فالتصوف أوله مجاهدة وآخره مشاهدة،ومن لم يُجاهد لم يُشاهد.. ويؤكّد هذا المعنى الشيخ الهجويري في كتابه (كشف المحجوب) ، عندما ربط اسم التصوف بالصفاء،فقال: [ وللصفاء أصل وفرع،وأصله: انقطاع القلب عن الأغيار،وفرعه: خُلوّ اليد من الدنيا الغادرة.. والصفاء ضدّ الكدر،والكدر من صفات البشر. والصوفي حقاً من اجتاز الكدَر،ولا يكون إلا عن طريق المجاهدة.. ]. ويقول الشيخ الكلاباذي في كتابه (التعرف لمذهب التصوف)، عند عرضه لاشتقاقات اسم التصوف: [ وجميع المعاني كلّها من: التخلّي عن الدنيا وعزوف النفس عنها،وترك الأوطان ولزوم الأسفار،ومنع النفوس حظوظها،وصفاء المعاملات، وصفوة الأسرار، وانشراح الصدور،وصفة السّباق ].. والمجاهدة على ثلاثة أنواع،على عدد أركان الدين (الإسلام والإيمان والإحسان)،وهي: مجاهدة التقوى،بالوقوف عند حدود الله تعالى.. ومجاهدة الاستقادة،بتقويم النفس وتهذيبها.. ومجاهدة الكشف والاطّلاع،بمحو الصفات البشرية وتعطيل القوى القوى البدنية.. ومجاهدة الكشف ــ وهي خاصة بأهل الله،أصحاب السلوك الصوفي العرفاني ــ مشروطة: بتحقيق التقوى والاستقامة ،والاقتداء بشيخ عارف محقّق،وصدق الإرادة.. فالطريقة والحقيقة متوقفتين على الشريعة.. فالشريعة ما ورد به التكليف،والحقيقة ما حصل به التعريف.. يقول الشيخ زروق في قواعده: [ الفقه مقصود لإثبات الحكم في العموم،فمداره على إثبات ما يسقط به الحرج. والتصوف مرصده طلب الكمال، ومرجعه لتحقيق الأكمل حُكماً وحكمة.. وقد علم كل أناسٍ مَشربهم ].. فمن لم يتحقّق بالإيمان والتقوى،فلا مطمع له في علوم القوم،وممّا يدلّك على ذلك ما صرّح به بعض العارفين الكمّل حول من له الأهلية في الاستفادة من كتبهم،كالفصوص للشيخ الأكبر والحكمة المتعالية للشيرازي،كما صرّحوا بذلك في كتبهم أو قيل عنهم من شراح أنفاسهم،رضي الله عنهم أجمعين.. يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام: [ كلّ الناس قعدوا على رسوم الشريعة،وقعد الصوفية على قواعدها التي لا تتزلزل.. ويؤيّد ذلك ما يقع على أيديهم من الكرامات والخوارق، ولا يقع ذلك قط على يد عالم ولو بلغ في العلم ما بلغ إلا إن سلك طريقهم.. ]. ويذكر الإمام الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال)،حين تطرّق لتجربته في سلوك طريق التصوف،يقول: [ فابتدأت بتحصيل علمهم (علم الصوفية) من كتبهم.. وظهر لي أن أخصّ خواصهم ما لا يُمكن الوصول إليه بالتعلّم،بل بالذّوق والحال وتبدّل الصفات.. ].. قال ابن خلدون في مقدمته: [ وهذا العلم ــ يعني التصوف ــ من العلوم الشرعية الحادثة في الملّة. وأصله: أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها،من الصحابة والتابعين ومن بعدهم،طريقة الحق والهداية. وأصلها: العكوف على العبادة،والانقطاع إلى الله تعالى،والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها،والزهد في ما يُقبل عليه الجمهور من لذّة ومال وجاه،والانفراد عن الخلق،والخلوة للعبادة. وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا،في القرن الثاني وما بعده،وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا،اختصّ المُقبلون على العبادة باسم الصوفية ].. وقد استدرك العارف أبو الفيض الكتاني في كتابه (سلّم الارتقاء) على ابن خلدون في قوله عن التصوف بأنه من العلوم المُحدثة،في نصّ بليغ وقيّم يجمع متفرقات كثيرة،نورده رغم طوله،يقول: [.. وانتصبت طائفة أخرى من أهل العلم لحفظ: علوم الإخلاص وعلوم الإيقان وعلوم المجاهدة للنفس،وعلوم المراقبة،وعلوم أسرار الأعمال ونتائجها وبدايتها وأواسطها وأواخرها،وعلوم الشوائب التي تحفظ الأعمال من الرياء والعجب والكبر والحسد والحقد والبغض والشحناء ودقائق الرياء الذي هو الشرك الخفيّ. فتسمّوا بالصوفية، لأنهم عملوا على صفاء الأعمال،وصفاء الأحوال،وصفاء القلوب،وصفاء الأسرار،وصفاء العقول مما يُكدرها من الصّدى والخبث، وصفاء الأرواح عما يحجُبها عن مشاهدة الملكوت والعوالم الغيبية المنتجة للإيمان،بل والإيقان بما أخبرت به الشرائع من الموت والحشر والبعث والصراط والقيامة.. فهذا منشأ أصل التصوف،فإن هذه المقامات ومحاسن الشريعة المحمدية،لما كانت أشرفت على التلاشي والدّثور والانمحاق في جملة ما اندرسواندثر،انتصبت تلك الطائفة الغراء لشدّ أزر ريش الشرع المُطاع من القيام بحقوق العبودية،والقيام بوظائف الربوبية من الخوف والحزن على ما فاتهم من الله والتفكر في نعم الله وآلائه،ومراقبة الباطن والظاهر، واجتناب دقيق الإثم وجليله،والحرص على إدراك خفايا شهوات النفس،ومعرفة مكايد الشيطان ومُدافعته. وعلم الورع في المكاسب والمعاملات،والفرق بين نفاق العلم والعمل، والفرق بين خواطر الروح وبين خاطر الإيمان واليقين والعقل، وتفاوت مشاهدات العارفين ،والبحث عن أوصاف الرجولية في القرآن،والبحث عن آداب الجوارح كل على حدته.. وكل هذا لا يُدرك بالذّوق من الشريعة إلا بواسطة ما تتلمّحه الصوفية،الذي يُعبّر عنه من لا يعلم بالتصوف،ونُعبّر عنه نحن بمَحاسن الكتاب والسنة،بل ومحاسن الكتب الإلهية المنزّلة.. ].. فالمُحدَث في الحقيقة: الكتب والتصانيف،فإنه لم يكن شيء منها زمن الصحابة وصدر التابعين،أما روح التصوف فهو: علم قرآني فُرقاني إلهي نبوي.. يقول ابن عطاء الله في حكمه: [ لولا ميادين النفوس ما تحقّق سير السائرين ]. يقول الشيخ ابن عجيبة في شرح هذه الحكمة: [ فأول ما يُجاهد المريد: في ترك الدنيا أو التخفيف حتى لا يبقى ما يشغله عن ربه،ثم في ترك الناس والفرار منهم .. ثم إسقاط المنزلة والجاه.. ثم الذلّ والانكسار قلباً وقالباً.. فإذا تحقّقت بالذلّ والتواضع والخمول والفقر، وسكنت في ذلك واستحلته،فقد تمكّن منها وملَكها،بل ملَك الكون كلّه.. فلولا مجاهدة النفوس ومُحاربتها في هذه الميادين ما تحقق سير السائرين،إذ لا يتحقّق السائر من القاعد إلا بمخالفته الهوى وخرق العوائد.. ].. من هنا قال الإمام الغزالي،في حُكم التصوف،بأن: [ الدخول مع الصوفية فرض عين،إذ لا يخلو أحد من عيب أو مرض إلا الأنبياء عليهم السلام.. ].. يقول الشيخ الجنيد:[ لو علمت أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه ]. فقد أجمع أهل الله على شرف التصوف،كما أجمع غيرهم ممّن أنصف ولم تحمله حَميّة العصبية والنعرة الجاهلية.. يقول الشيخ زروق: [ وقد صحّ أن شرف الشيء بشرف متعلّقه،ولا أشرف من متعلّق علم التصوف: لأن مبدأه خشية الله،التي هي نتيجة معرفته ومقدمة اتباع أمره،وغايته إفراد القلب له تعالى ]. ويقول الباحث عبد الواحد يحيى: [.. الصوفي بمعناه الحقيقي لا يطلق إلا على من بلغ الدرجة العليا ].. _ ومن أعمدة البيت الصوفي: الفقر والأدب.. يقول الإمام القشيري في رسالته: [ الفقر شعار الأولياء وحلية الأصفياء،واختيار الحق سبحانه لخواصه من الأتقياء والأنبياء. والفقراء صفوة الله عز وجل من عباده ومواضع أسراره بين خلقه،بهم يصون الحق الخَلق وببركاتهم يبسُط عليه الرزق.. ].. فالفقر عند أهل الله حالة معنوية أكثر ممّا هو خُلوّ من المال والكسب،لأنه صفة الممكن مطلقاً،يقول الله تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد).. وقد سئل الإمام الجنيد عن الافتقار إلى الله سبحانه: أهو أتمّ أم الاستغناء بالله تعالى؟ فقال: [ إذا صحّ الافتقار إلى الله تعالى فقد صح الاستغناء بالله تعالى،وإذا صح الاستغناء بالله تعالى كمُل الغنى به. فلا يُقال: أيهما أتمّ الافتقار أم الغنى،لأنهما حالتان لا تتمّ إحداهما إلا بالأخرى ].. ويقول السهروردي في عوارف المعارف: [ التصوف اسم جامع لمعاني الفقر والزهد،مع مزيد أوصاف وإضافات لا يكون بدونها الرجل صوفياً،وإن كان زاهداً وفقيراً. قال أبو حفص: “التصوف كله آداب،لكل وقت أدب،ولكل حال أدب،ولكل مقام أدب”،وسُئل أبو محمد الجريري عن التصوف فقال: “الدخول في كل خُلق سَنيّ والخروج عن كل خُلق دَنيّ”.. فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال،ومن ضيّع الآداب فهو بعيد من حيث يظنّ القُرب ومردود من حيث يرجو القبول. فإذا عُرف هذا المعنى في التصوف،من حصول الأخلاق وتبديلها،واعتبرحقيقته،يعلم أن التصوف فوق الزهد وفوق الفقر.. ].. فخلُص السهروردي إلى أن الفقر أساس التصوف وبهِ قَوامُه،على معنى أن الوصول إلى رُتب التصوف طريقه الفقر. والفقر،بالمعنى المعنوي القلبي،هو أساس طريق الشكر في السلوك الصوفي،وهو ما أكّد عليه ابن عباد في رسائله وشروحاته على الحكم العطائية.. يقول الشيخ الأكبر: [ من شرط المنعوت بالتصوف: أن يكون حكيماً ذا حكمة،وإن لم يكن فلا حظّ له في هذا اللقب،فإنه حكمة كله. فإنه أخلاق،وهي تحتاج إلى معرفة تامة وعقل راجح وحضور،وتمكّن قوي من نفسه حتى لا تحكُم عليه الأغراض النفسية. وليجعل القرآن إمامه صاحب هذا المقام.. فأمر التصوف أمر سهل لمن أخذه بهذا الطريق،ولا يستنبط لنفسه أحكاماً ويخرج عن ميزان الحق في ذلك ].. _ ولما كانت حقيقة التصوف تختلف باختلاف الأحوال والمقامات والتجليات المعرفية،فلكل زمان تجلياته،وهي في ترقّ دائم،ولا تكرار في الوجود.. فمن فتوحات مشربنا المبارك،والتي لن تجدها في مكان آخر،أن التصوف هو: [ معرفة القرآن العظيم بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،ومعرفة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن العظيم ].. وقد أكّد لنا أستاذنا حفظه الله في مجالسه المباركة أنه من لم يعرف الاصطحاب فلا معرفة له بالتصوف.. يقول أستاذنا في موضوع (سرّ الاصطحاب): [ تجدُر الإشارة إلى أن سيدي أبو الفيض محمد الكتاني حقّق الاصطحاب في المعراج،أي زمن الإسراء والمعراج.. أما شيخنا قدّس الله سرّه فقد حقّق أن: الاصطحاب وقع قبل القبل،في بساط الألوهية، حيث اجتمعت النقطتان النورانيتان فأصبحتا نقطة واحدة، محمدية أحمدية .وهذه غاية التحقيق التي لم يُشر إليها غيره، واستحقّ بها وبغيرها مقام الختمية الكبرى ].. فمن قال بأن هناك تعريفاً للتصوف،يرقى في هذا الزمان هذا الرقيّ،فليأتنا به. فالدّعاوى تُمتحن بالدلائل،وتُقبل بالشواهد.. __ وكخلاصة في كلمات: يقول الشيخ ابن عجيبة: [ واعلم أن علم التصوف ليس هو اللقلقة باللسان،وإنما هو أذواق ووجدان. ولا يؤخذ من الأوراق،وإنما يؤخذ من أهل الأذواق. وليس يُنال بالقيل والقال،وإنما يؤخذ من خدمة الرجال وصحبة أهل الكمال، والله ما أفلح ما أفلح إلا بصحبة من أفلح.. ]. وبهذا يَتّضح أن المعرفة بالنّصوص وحدها لا تَكْفي،كما أن شهادة الأوراق بمَعْزل عن الأخلاق لا تُؤهّل صاحبها ليكون من دُعاة العرفان. .بل لا بُدّ من شهادة الأذْواق الرّفيعة التي يُعطيها القلب المُنير من مقام الروح الكامل،حين يَبْلُغ مقام الرّضا بالسُموّ والتّزكيّة. . وما أُصيب التصوف الإسلامي في مجال الدعوة والتّذكير والإرشاد،في طول ما ألَمّ به من نقائص وسلبيّات في التاريخ، بمثل إصابته بدُعاة جعلوا عقولهم وَراء ألسنتهم والغَرَض الدّنيوي نُصْبَ أعْيُنهم.. ونختم هذا الشرح بحديث عجيب أورده الشيخ أبو الفيض الكتاني،يلخص شرح القاعدة،وهو: عن الربيع بن صبيح عن الحسن أنه قال: من لم يحفظ هذا الحديث كان نقصاً في مروءته وعقله. قلت: وما ذاك يا أبا سعيد؟ قال: فبكى وأنشأ يُحدثنا،فقال: [ لو أن رجلاً من المهاجرين الأولين اطلع من مسجدكم هذا،ما أدرك شيئاً مما كانوا عليه إلا قبلتكم هذه ]. ثمّ قال: [ أهلك الناس ثلاث: قول ولا فعل،ومعرفة ولا صبر، ويقين ولا صدق. ما لي أرى رجالاً ولا أرى عقولاً،وأرى أجساماً ولا أرى قلوباً. دخلوا في الدين ثمّ خرجوا منه،وحرّموا ثم استحلّوا،وعرفوا ثم أنكروا. إنما دين أحدكم على لسانه،ولئن سألته: هل يؤمن بيوم الحساب؟ قال: نعم،وكذب. إن من أخلاق المؤمنين قوة في دين،وحَزماً في لين،وإيماناً في يقين،وحرصاً في علم،وشفقة في مضّة،وخُلقاً في علم،وقصداً في غنى،وتجملاً في فاقة،وتحرجاً عن طمع،وكسباً من حلال،وبراً في استقامة، ونشاطاً في هُدى،ونَهياً عن نشوة،ورحمة للجهود. وإن المؤمن من عباد الله: لا يحيف على من بغض،ولا يأثم ممّن يُحبّ،ولا يُضيع ما استودع،ولا يحسد ولا يطعن ولا يلعن. ويعترف بالحق وإن لم يُشهد عليه،ولا يتنابز بالألقاب. وفي الصلاة مُتخشعاً،إلى الزكاة مُسرعاً،في الزلزال وقوراً،في الرخاء شكوراً. قانعاً بالذي له،لا يدعي ما ليس له،ولا يغلبه الغيظ،ولا يغلبه الشحّ عن معروف يُريده. يُخالط الناس كي يعلم،ويُناطق الناس كي يفهم. وإن ظُلم وبُغيَ عليه،صبر حتى يكون الرحمن هو الذي ينتصر ] اهـ.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد نبي الله،وعلى الزهراء بضعة رسول الله . العارف بحقائق التصوف العرفاني ذ رشيد موعشي ..

حصل المقال على : 286 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد