بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد. وعلى آله وصحبه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،بارك الله فيكم إخوتي الأفاضل , بعد سلسلة(التنبيهات حول علو قدر النبوة المحمدية)،سنتطرّق في سلسلتنا الحالية ل(وقفات العارفين مع الحقيقة المحمدية).. وسنبدأهذه (الوقفات) بتَوطئة توضيحية لبعض المفاهيم تُعيننا على إستيعاب هذه الوقفات وعدم الوقوع في الخلط والإلتباس.. فنقول وبالله التوفيق: مفهوم (الوقفة) له معنى عزيز ومقام مُنيف في تراثنا الصوفي، خصوصاً عند أصحاب التصوف العرفاني،أهل الشّهود.. ويكفي أن نذكر الشيخ النّفَري وكتابه(المواقف والمُخاطبات)،والأميرعبد القادرالجزائري وكتابه(المواقف الروحية)..والشيخ ابن قضيب البان وكتابه المواقف الالهية واخيرا الشيخ عبد الله البوسناوي وكتابه مواقف الفقراء.هي مواقف روحية يحكي فيها كل سالك عن تجربته الصوفية، وعن ماحازعليه من العلوم الوهبية اللدنية.مواقفهم لاتخلو من رموز واشارات عن الادراك مستعصية وعلى الاسرار منطوية. يجب الوقوف حيث وقفوا،لفهم من اي بحر ارتشفوا . قال النفري : أوقفني الحق بين يديه ،أي أيقظ قابليتي لتلقي التجلي … يقول عفيف الدين التلمساني: فلا يجب أن لا ينصرف ذهننا إلى دعوى نبوة،وإنما هي لغة صوفية،تعبر عما يُلقى في قلوبهم من الحقائق، في لحظات الصفاء الكامل . يقول الشيخ الأكبرإبن عربي: [واعلم أنه ما من منزل من المنازل، ولا مُنازلة من المُنازلات،ولا مقام من المقامات،ولا حال من الحالات،إلا وبينهما بَرزخ يَقف العبد فيه يُسمّى (المَوقف).. ..
ويقول القاشاني في معجمه (لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام): [ الموقف هو نهاية كل مقام،وهوإستيفاء حقوق المَراسم..والموقف هو موضع الوقفة..].. وللمعنيين المذكورين مُناسبة مع مشربنا المبارك حول الحقيقة المحمدية. ونُؤسّس لهذه الوَقفات المباركة بالتمييز بين ثلاث مفاهيم محورية،وهي:
(الذات الإلهية) و(مرتبة الألوهية) و(الحقيقة المحمدية).
1) الذات الالهية: لا كلام للعارفين عن(الذات الإلهية)،لها الغنى المطلق،ولا يصلُح في حقّها سوى صفات السّلب،أما الصفات الثّبوتية فتٌشبّهها بالمخلوقات..
يقول الشيخ الأكبر:[ العلم ب(ذات الحق)مُحال حُصوله لغيرالله،والإنسان المُدْرك لا يعرف إلا ما يُشابهه ويُشاكله، والباري تعالى لا يُشبه شيئاً ولا هو في شيء مثله،فلا يُعرف أبداً. فلا يعرفه أحد من نفسه وفكره..فاعلم أن الكون لا تعلّق له بعلم الذات أصلاً،وإنما مُتعلّقه العلم بالمرتبة وهومسمى (الله).الذات مجهولة العين والكيف،وعندنا لاخلاف في أنها لا تُعلم،بل يُطلق عليها نُعوت التنزيه.انتهى ].
ويقول الشيخ عبد الكريم الجيلي في كتابه (الإنسان الكامل): [المُتَكلّم في ذات الله صامت،والمتحرك ساكن،والناظر باهت. لأن الشيء إنما يفهم بما يُناسبه فيطابقه أوبما يُنافيه فيُضادّه،وليس لذاته في الوجود مُناسب ولا مطابق ولا مناف ولامضاد. وقد مَنَع أهل الله التّجلّي بالأحدية فضلاً عن الذات..ف(ذات الله)هي عبارة عن نفسه، وهي غيب لا تُدْرك بمفهوم عبارة،ولا تُفْهم بمعلوم إشارة] انتهى.
ويقول ابن عربي :[ فالذات الالهية في أحديتها لا وَصْف لها،ولا رَسْم، فهي في عَماء،حيث كان الله قبل أن يخلق الخلق،كما ورد في الحديث. بمعنى أنه في الكلام عن الصفات يجب الإشارة إلى أن الذات الإلهية لم تكن موصوفة ولا مُسمّاة،فهي في أزل لا أول له. بينما وصف الذات بأسماء وصفات،ولو أنها قديمة وأزلية،إلا أن ثنائية الصفة والموصوف من جهة يوجب لها بداية،وتعلق الصفة،وتحققها في الوجود من جهة أخرى يوجب لها بداية كذلك. انتهى ]
وهذا التعلّق هو الذي عبّر عنه إبن عربي ب (الإثْنَينيّة) عندما قال:[ إذ لا تعقل النّسْبة إلا باعتبار الإثنينية ]. وبهذا التحقيق الدّقيق فإبن عربي يُميّز بين (الذات الإلهية في أحديتها) وبين (الألوهية في تجلياتها).
2= الالوهية: من خلال كلام الشيخ الاكبر وغيره من العارفين نرى تمييزا دقيقا بين الذات الالهية ومرتبة الالوهية، بساط اسم الجلالة “الله” اسم جامع تحت سلطانه جميع الاسماء والصفات الالهية ،ففي (مرتبة الألوهية) خرجت (الأسماء والصفات الإلهية) من أزليتها،وطلبت أن تُعرف وأن تظهر في الموجودات علماً وقدرة ورزقاً وجلالاً وجمالاً،وهذا ما يقتضي وجود أعيان ثابتة تَسمع الأمر الإلهي (كن) وتمتثل له.. يقول الشيخ الأكبر: قال صلى الله عليه وسلم (كان الله ولا شيء معه)، إنما هو (الألوهة) لا (الذات)،وكل حُكم يثبُت في باب العلم الإلهي للذات إنما هو للألوهية،وهي (أحكام ونِسَب وإضافات وسُلوب)،فالكثرة في النّسب لا في العين…وانتهى.
فالكون الإلهي يَسير تحت تجليات الأسماء الإلهية،هي غذاؤه بُكرة وعشياً،وكل ما يظهر في الكون هو من مقتضياتها. وبينت هذا حتى تَعْلَم أن كلام العارفين هوحول (مرتبة الألوهية)،التي تتعلّق بها الصفات الثّبوتية.و(الألوهة مرتبة عقلية معرفية)،أدركتها عقولنا لعجزنا عن إدراك الذات..فكل إضافة أوحُكم أو نسبة لله،إنما هي للألوهة وليس للذات..
3= (الحقيقة المحمدية)بشكل عام هي الوجهة الحقية لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبرزها الله تعالى من نوره،وأفاض عليها جميع كمالاته، وحَلاّها بأسمائه وصفاته، فظهرت ب(أوصاف الربوبية)،قال الله تعالى (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)،وقال صلى الله عليه وسلم (من رآني فقد رأى الحق).. فهي (برزخ البرازخ) الحائل بين جلال التجليات الإلهية والمخلوقات،والوساطة العظمى في كل العطاءات، والرحمة الشاملة السارية في ذرّات الموجودات..فلا يقع شيء إلا عليها،ولا يَصل واصل إلا إليها..فهي سدرة منتهى المخلوقين،ونهاية سَير العارفين .من هنا كانت لها (النيابة) عن الحق تعالى في الكون الإلهي، وهي (الظاهرة)لأهل الكشف والشهود،وهي (السارية) في كل الجزئيات، الوجود .(برزخ) بين الخالق والخلائق..(حاجزاً لهم من صَدمات التجلّيات الإلهية) فمقتضى الإسم الإلهي لا يصل إلى أهل الكون مباشرة بل لا بد من (الإصطحاب) مع النبوة،لكي يكون اللّطف في التجلّيات الإلهية: (الله مُعطي،وإنما أنا قاسم)[الحديث]. فلولاه لما إستطاع الوجود الصمود، ولإضْمَحلّ من حينه لإنعدام (المجانسة والمناسبة) مع الله تعالى. فهو الرّحمة المُهداة التي رُفعت بها الأستار وظهرت الاسرار ،وهو معنى قول القائل: (لولاه لم تخرج الدنيا من عدم،ولولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط). له على كل ذَرّة من ذرات الوجود نعمة الإستمداد ، ف(لا دخول إلا من بابه،ولا شهود إلا فيه،ولا تجلّ إلا منه). . وفي الحقيقة الامر(معاملة الخلق كلها معه صلى الله عليه وسلم) ولله الغنى..
يقول الشيخ الأكبر: [..ثم إن الحق (صيّره صلى الله عليه وسلم حجاباً لا يُرفع ،وباباً لا يُقرع،ومن خلف ذلك الحجاب يكون التجلّي،ومن وراء ذلك الباب يكون التدلّي،كما إليه ينتهي التداني والتولّي،وعلى باطن ذلك الحجاب يكون التجلّي في الدنيا للعارفين ولو بلغوا أعلى مقامات التمكين)..].
ويقول الأميرعبد القادر الجزائري…[فصارت حقيقة العقل الأول التي هي (الحقيقة المحمدية)،كالحجاب على وجود الذات، فالعقل أول الحُجُب الكونية..وهذا الحجاب لا يرتفع دنيا ولا آخرة،وهو (الرّداء) المُشار إليه في الخبر الصحيح: (وليس بين القوم وبين أن ينظُروا إلى ربّهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن).
فالحقائق الرئيسية التي يجب على القارئ والمستمع استيعابها هو أن الذات الالهية لا ترى ولا تدرك ،فعندما تجد مصطلح (الذات) عند العارفين،فاعلم انهم لا يقصدون (الذات الإلهية)،تعالت عن ذلك علواً كبيراً.. بل يقصدون به عدّة حقائق يرمزاليها سياق كلامهم ،وعلى العموم ف(الذات) هو الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في تعينها لا في وجودها فكل إسم ،أو صفة إستند إلى شيء فذلك الشئ هو الذات.فالأحدية ذات لأنها (أول مرتبة وجودية)،ومن مُقتضاها (الفيضة القرءانية،ونور النبوة).و(الألوهية ذات) لأن تحت حُكْمها جميع الأسماء الإلهية والتى بها التّجلّي. و(القرآن ذات) لأن الكون كله يرجع إليه.و(الحقيقة المحمدية ذات) لأنها الجامعة لجميع الحقائق،وهي صاحبة الرحمة في الكون الإلهي،والتجليات تحتاج إليها في الظهور.
ويجب استيعاب أن النبوة المحمدية واسطة بين حضرتين يتعذر تواصلهما ،اذ لا مناسبة تجمعهما ولا مجانسة تقربهما :بساط الالوهية وحضرة المربوبين, ويجب استيعاب أن التجليات الالهية تمرعبر حقيقته صلى الله عليه وسلم لإضفاء الرحمة على مقتضياتها ، كما يجب الاقتناع أن التجليات الالهية تتغير حسب كل زمان ومكان ولا تكرار في الوجود وإن ظهر للشهود لكل زمان تجلياته المعرفية وفيوضاته الربانية.. وهذا يعني ان كل شيء في الوجود يسير نحو التطورسواء علوم لدنية أو دنيوية أوتطورات تكنولوجية ،أو علوم كونية. كل شئ به منوط..وهذا يعني من الناحية الصوفية أن المعرفة بالنبوة المحمدية هي كذلك في ترق دائم فكلما إزداد الزمن و(تغيّرت التجليات)الا وضعفت معرفة وتغزّلات من سبقنا من العارفين .قال تعالى: (ففهّمناها سليمان) فَهْم لم يكن عند سيدنا داود عليهما السلام . فلا يأتي الزمن إلا بمن هو أرقى وأكبر وأبْرَك ،وأفيح .. ف(الصراط) الذي سَلَك عليه العارف الفُلاني في الزمن الفُلاني، ب(التجليات الإلهية) الفُلانية،وحسب (مرتبة) ما و(معرفة) ما ب(الحقيقة المحمدية): يُصبح هذا الصراط وقتاً ما ،مُتجاوزاً وسقماً وضعيفاً وعاجزاً عن مُسايرة التجليات الإلهية الحالية..لأن التجليات الإلهية في ترقّ دائم،والحقيقة المحمدية في ترقّ ذاتي في مراتبها.. ولو تتبّعنا الكثير من العارفين لوجدناهم على (صراط تام) بالنسبة ل(تجليات عصرهم)، و(صراط أسقم) بالنسبة ل(تجليات العصور التي تَليهم)،حتى (فتوحات) زمننا هذا سيأتي عليها زمان تتّصف ب(السّقم والضعف والعجز والنّقص) .. وهذا ماعبر عنه الشيخ أحمد التجاني في صلاة جوهرة الكمال(صراطك التّام الأسقم)،.وصلى الله على سيدنا محمد نبي الله ،وعلى الزهراء بَضعة رسول الله ،وعلى اله وصحبه.