بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه.
نستمر في شرح القواعد المباركة من (خريطة السلوك العرفاني) لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،ونقف في هذا الدرس مع القاعدة التاسعة التي تقول: [ كلام العارفين ليس قرآناً،ففيه الغثّ والسّمين،والعصمة في كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم.كما يجب التّمييز بين العارف وبين من يدّعي المعرفة ويَجْتَرّ كلام السابقين ].
تتطرّق هذه القاعدة لمسألة وقع فيها خلط كثير،سواء بين الباحثين أوبين المنتسبين للتصوف،وتسبّبت في شجارات فكرية وعقائدية بين مختلف الأطياف وأتباع الطرق الصوفية..ويمكن أن نصوغ هذه المسألة في العبارة التالية: (العارف بين الروحانية والبشرية)..
ومما يُثلج صدورنا،أننا نجد أقوال العارفين واضحة في هذه المسألة،بحيث تُزيل كل لُبْس وإشكال،وتحسم الأمر بين المتخاصمين بمختلف توجهاتهم وإنتماءاتهم.. لدينا نص مميّز وجامع لمتفرقات المسألة،يعود للعارف سيدي عبد العزيز الدباغ،الذي ربط هذا الخلط ب(الكتابات المناقبية)،يقول: [ إن الذين ألّفوا في (كرامات الأولياء)،وإن نفعوا الناس من حيث التعريف بالأولياء،فقد (أضرّوا) بهم كثيراً من حيث أنهم إقتصروا على ذكر (الكرامات)،ولم يذكروا شيئاً من الأمور الفانية التي تقع من الأولياء الذين لهم تلك الكرامات،حتى أن الواقف على كلامهم إذا رأى كرامة على كرامة وتصرّفاً على تصرّف وكشفاً على كشف،(توهّم أن الوليّ لايعجز في أمر) يُطلب منه،ولا يصدُر منه شيء من المخالفات ولو ظاهراً،فيقع في جهل عظيم،لأنه ظنّ أن الولي موصوف بوصف من أوصاف الربوبية،ولم يُعطه الله تعالى لرُسله الكرام،فكيف بالأولياء..وقد يسمع الرجل بالوليّ في بلاد بعيدة فيُصوّره في نفسه على صورة تُطابق الكرامات التي تُنقل عنه،فإذا وجده على غير تلك الصورة التي سبقت في ذهنه وقع له شك في كونه هو ذلك الوليّ..والناس اليوم إذا رأوا وَليّاً دعا فلم يُستجب له،أو رأوا ولده على غير طريق،أوإمرأته لا تتّقي الله،قالوا: (ليس بوليّ)،إذ لو كان ولياً لإستجاب الله دُعاءه،ولو كان ولياً لأصلح أهل داره،ويظُنّون أن الوليّ يُصلح غيره،وهو لا يقدر على إصلاح نفسه،قال تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يُزكي من يشاء)..و العصمة من خصائص النبوة ،و الوَلاية لا تُزاحم النبوة .والخير الذي يظهر على يد الوليّ إنما هو من بركته صلى الله عليه وسلم،إذ الإيمان الذي هو السبب في ذلك الخير إنما وصل إليه بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم..أما ذات الولي فإنها كسائر الذوات،بخلاف الأنبياء فإنهم جُبلوا على العصمة وفُطروا على معرفة الله تعالى وتقواه..الوليّ تارة تظهر الطاعة على جوارحه،وتارة تظهر المُخالفة عليها كسائر الناس،وإنماإمتاز الوليّ عنهم بأمر واحد وهو ما خصّه الله تعالى به من (المعارف) ومنحه من (الفتوحات)..].
الأصل في (الوَلاية) عند العارفين أنها (إصطفاء) من الله تعالى لعبده،ولا يقدر على ضبطها مخلوق من المخلوقات،لأن سرّ الخصوصية باطني أكثر مما هو ظاهري،فسبحان من ستر سرّ الخصوصية بظهور البشرية،ولا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية..
وقد أورد الشيخ إبن عطاء الله في كتابه (لطائف المنن) كلاماً نفيساً،حين أشار لقوله تعالى (الله وليّ الذين آمنوا يُخرجهم من الظلمات إلى النور)،يقول: [ دلّ سبحانه بقوله: (يُخرجهم من الظلمات إلى النور) على وسع رحمته وسُبوغ نعمته..عَلم تعالى أنهم يدخلون في الظلمات،ولكن الله لوَلايته إيّاهم يتولّى إخراجهم،كما قال سبحانه (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون)،فساق ذلك مَساق (المدح) للمومنين،كما ساق الآية الأولى مَساق (البشارة) لهم..].
ونجد شرحاً جامعاً لمضمون المسألة في القاعدة (39) من (قواعد) الشيخ أحمد زروق،يقول: [ مَبْنى (العلم) على (البحث والتّحقيق)،ومَبْنى (الحال) على (التّسْليم والتّصديق).فإذا تكلّم (العارف) من حيث (العلم) نُظرَ في قوله بأصله من الكتاب والسنة وآثار السّلف،لأن العلم مُعتبر بأصله.وإذا تكلّم من حيث (الحال) سُلّمَ له (ذَوْقُه)،إذ لا يوصَل إليه إلا بمِثْله،فهو مُعتبر بوجدانه،فالعلم به مُستنِد لأمانة صاحبه،ثمّ (لا يُقْتَدى به) لعدم حُكمه إلا في حقّ مثله..].
فجمع الشيخ زروق في هذه القاعدة بين (تحقيق العلم) و(تحصيل الأدب)..
يقول الشيخ زكريا الأنصاري: [ لا يَخلو كلام الأئمّة (العارفون) عن ثلاثة أحوال: إما أن يُوافق صريح الكتاب والسنة فهذا يجب إعتقادهجزماً،وإما أن يُخالف صريح الكتاب والسنة فهذا يحرُم إعتقادهجزماً،وإما أن لا يظهر لنا مُوافقته ولا مُخالفته فأحسن أحواله الوقف]..
ويُتحفنا الشيخ عبد الكريم الجيلي بقاعدة عرفانية يقول فيها: [ ما تواتر من الشريعة (تَمْكين في مقام أمين)،والكشف والإلقاء والإلهام وما نَتج عنه (تَلْوين في سُرى السّالكين). فإن وَرد من ضُروب التّلوين ما يُعارض التّمكين،فليَضرب المُريد بالتّلوين عَرض الحائط حتى لا يكون من المُستدرجين من حيث لا يعلمون].
ولا بد أن نستحضر هنا الفرق الذي وضعه العارفون في الفرق بين (العصمة) و(الحفظ)..
وفي موضوعنا ف(العصمة) مرتبطة بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم..و(الحفظ) مرتبط بكلام المجتهدين من العارفين العلماء بالله،وكلامهم يُؤخذ منه ويُترك،لأن الإحاطة بعلم الله تعالى مستحيلة،لأنها مرتبطة بالتجليات الإلهية،ولكل عصر تجلياته،فاختلفت الإحاطة باختلاف العصور،وكلما كان العارف معاصراً كلما كان أكثر معرفة وتحقيقاً..
ومهما كانت معارف العارف مُتّسعة وعميقة،فهي تدخُل في مفهوم (القلّة) بجانب العلمالإلهي،يقول تعالى (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)،والقلّة هنا مرتبطة ب(علوم الوهب) وليس (العلوم المكتسبة)،واليقين مرتبط بالأولى،والظنّ مرتبط بالثانية..من هنا كانت العصمة لكلام الله تعالى وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم،لأنهما من علم الله المُحيط بكل شيء..
ولا بدّ من التفريق بين (أرباب الأحوال) الذين ينبغي (التّسليم) لهم..وبين (العارفين المحققين الكُمّل) الذين هُم قُدوة للناس،يجب عليهم حفظ ظاهرهم (مع أحكام الشريعة)،وإلا عدم الناس النّفع بهم..
وينبغي التنبيه هنا أن العارفين يُناقشون هذه المسألة في حق (العارف المحقق)،الذي يتّصف ب(الأدب) مع الله تعالى ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي الكتاب والسنة)،والذي هو مرابط في باب (الجود الإلهي) يتعرّض للتنزلات المعرفية في كل لحظة ونَفَس..ولكماله وعُلوّ مرتبته فهو مُتجرّد،آيته في (قلبه)،صفته التواضع والأدب مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم..
أما (المُدّعين) فلا كلام معهم إلا من باب التّحذير وكشف عوارهم ودجلهم وتَلْبيسهم،ولا يخلو عصر منهم..علمهم كله سَرقة وخَلط وتدليس..ويكفي أن نستعرض ما جاء في أهم مصادر التصوف الإسلامي،في القرون الأولى،فكيف بعصرنا المتأخر هذا..
يقول الشيخ الطوسي في كتابه (اللمع): [..واعلم أن في زماننا هذا قد كثُر الخائضون في علوم هذه الطائفة،وقد كثر أيضاً المتشبهون بأهل التصوف..والمشايخ الأوائل لم يتكلّموا في المسائل والإشارات إلا بعد قطع العلائق،وإماتة النفوس بالمجاهدات والرياضات والمنازلات والوجد والإحتراق..وقاموا بشرط العلم ثمّ عملوا به ثمّ تحقّقوا في العمل،فجمعوا بين العلم والحقيقة والعمل…].
ويقول الشيخ القشيري في (رسالته): [..إرتحل عن القلوب حرمة الشريعة،فعدّوا قلّة المُبالاة بالدين أوثق ذريعة.ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام.ودانوا بترك الإحترام وطرح الإحتشام.وإستخفّوا بأداء العبادات،وركضوا في ميدان الغفلات،وركنوا إلى إتباع الشهوات،وقلّة المبالاة بتعاطي المحظورات..ثمّ لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال،حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال،وإدّعوا أنهم تحرروا من رق الأغلال،وتحققوا بحقائق الوصال،وأنهم قائمون بالحق..وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية،واختُطفوا عنهم بالكلية،وزالت عنهم أحكام البشرية..
ولما طال الإبتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوّحت ببعضه من هذه القصة،وكنت لا أبسط إلى هذه الغاية لسان الإنكار،غيرة على هذه الطريقة أن يُذكر أهلها بسوء أو يجد مخالف لثلبهم مساغاً..].
والأمثلة على ذلك كثيرة،واللبيب تكفيه الإشارة..
وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد .الفقير الى عفو ربه رشيد موعشي.