أبي المحاسن الفاسي القصري

هو أبو المحاسن سيدي يوسف بن محمد بن يوسف الفهري الفاسي القصري، الشيخ الإمام، القدوة الهمام، العالم العلم العلامة، الحبر الفهامة، إمام الطريقة الشاذلية، ومحيي رسومها بالبلاد المغربية، أبو يعقوب وأبو المحاسن سيدي يوسف بن محمد بن يوسف الفهري نسبًا، الأندلسي أصلاً، القصري ولادة ومنشأ ودارا، الفاسي لقبًا ورحلة ومزارا.

ولد –رحمة الله-ليلة الخميس لتسع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول عام 937 بالقصر الكبير؛ مأوى أبيه وجده، ليلة الخميس لتسع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة سبع أو ثمان وثلاثين وتسعمائة، وبه نشأ، آخذا بما يعنيه، واقفا على قدم الجد في كل ما من الله يدنيه. وقرأ كتاب الله العزيز هنالك، وأحكم قراءته بحرف نافع ورسمه وضبطه على الشيخ الصالح أبي الحسن سيدي علي العربي بمسجده المعروف به بطرف القطانين، ثم قرأ عليه المعلم ختمة تبركًا به ؛ لما كان يتوسم فيه من الخير ؛ بسبب ما كان يسمعه من كلام شيخه المجذوب فيه.

وكان –رحمه الله- لا يعرف الفقر ولا ما هو؛ فقيض الله له الشيخ الولي الكامل، العارف الواصل، قطب زمانه في الأحوال، وممد فحول الرجال؛ أبا محمد وأبا زيد سيدي عبد الرحمن ابن ولي الله أبي السرور عياد بن يعقوب بن سلامة بن خشان الصنهاجي ثم الفرجي، المعروف بالمجذوب؛ دفين خارج باب عيسى من مكناسة الزيتون. فكان يطلبه ويحوم عليه، ويراقبه. فكان يأتيه للمكتب، ويذكر بعض ما يؤول إليه امره من الخير، ويخبر عن انتقاله إلى حضرة فاس، وما يكون له هنالك، وقال لهم: ((سبقت إليه قبل أن يأتيه غيري!)). وجاءه يومًا بالمكتب، ومسح على رأسه، وقال: ((علمك الله علم الظاهر والباطن))، ثلاثا. ثم التفت للمعلم، وقال : ((لا بد نوارة هذا تفتح، وإذا أحياك الله ترى!))، وكان قبل ذلك يأتي الحومة ويقول : ((بدار الفاسي نوارة لابد أن تفتح)).

فلما كان في أوان البلوغ وهو مازال في المكتب؛ أتاه الحال منه، وأشرق باطنه بنور التوحيد، واضمحلال ما سوى الله تعالى، وانخراط في سلك الشيخ؛ فصحبه ولزمه، وسلب له الإرادة،وانتسب إليه، وعول في أموره كلها عليه، وبقي مع الأستاذ أبي زيد عبد الرحمن بن محمد الخباز القصري، وقرأ عليه غير ذلك من أنواع العلوم؛ من فقه ونحو .. وغيرهما.

ثم ارتحل مع والده إلى فاس للقراءة على مشايخها قبل سنة ستين؛ فأدرك بها جماعة من المشايخ الأكابر؛ منهم: اليسيتني، وأبو محمد عبد الوهاب الزقاق، وأبو زيد عبد الرحمن ابن إبراهيم الدكالي … وغيرهم من المشايخ. فأخذ عنهم. ولم تطل إقامته بفاس، وعاد إلى القصر سنة ستين.

ثم عاد إلى فاس سنة اثنتين وستين؛ فتلافى الأخذ عمن بقي بها من المشايخ، وكان بها جماعة؛ منهم: خرُّوف التونسي، وابن جلال التلمساني، وأبو العباس المنجور … وغيرهم، فأخذ عنهم. ولازم ابن جلال كثيرًا، وقرأ عليه التفسير وغيره، وأخذ –أيضا- عن أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن مجبر المساري، وسيدي علي بن مبارك التارختي المصمودي السوسي، وعاد بن مبارك التارختي المصمودي السوسي.

وعاد إلى القصر بعلم غزير، وعقد مجالس لأنواع العلوم، تنافس الناس في حضورها، والإكباب عليها، وانتفع به فيها الخاص والعام، وظهرت بركته على أهل القصر وغيرهم، وتخرج به كثير من أهل الطلب. فاستقل في ذلك القطر برياسة العلم والدين، منفردًا في ذلك، إماما متبوعا مسموعا، وهو في ذلك ملازم لشيخه، وخادم له، وكان كثيرًا ما يجيئه طالب الإرادة؛ فيرده إلى الشيخ، إلى أن توفي –رحمة الله عليه- وكانت مدة صحبته إياه منذ سلب له الإرادة، تزيد على عشرين سنة، وشيخه في جميع ذلك ينوه باسمه ، ويشيد بذكره ويعرف بحقه، ويفتخر به؛ فكان يقول: ((عندي ابن الفاسي؛ نلقى به المغرب))، وتارة يقول: ((نلقى به الشرق والغرب)).

وكان كثيرا إذا رآه يقول فيه: ((مصباح الأمة))، ويقول: ((إنه يكون إماما في العلمين: الظاهر والباطن))، ويقول: ((إنه لابد أن يكون في مقام الغزالي))، وتارة يقول فيه: ((غزالي عصره))، ويقول فيه: ((لايوجد مثله ولو فتش المفتش ما عسى أن يفتش!))، ويقول: ((إنه كالملح؛ لا يستغني عنه أحد))، ويقول: ((من مَسسَ طعامه؛ فليذهب إليه يملحه له)). وكان يصرح كثيرا بأنه المقصود من بين أصحابه، ويقول فيه: ((إنه الذي خمل بيره حتى للقاع))، ويقول له: ((أخذت مطمورتي بأطواقها)). قال في “المقصد”: ((يريد بذلك: وراثة حاله وكل ماله من الأنار والمعارف. قال: بل صرح لأصحابه بأنه الخليفة، وأوصاهم به)).هـ. ويقول: ((من أحب أن ينظر قلبي؛ فلينظر ابن الفاسي!))، يشير بذلك إلى أنه نسخة منه. وكان يدعو له ويقول: ((الله يجعل منك الزرع والزريعة؛ فالزرع: أنت، والزريعة: أولادك))، وقال في آخر أمره: ((سيدي يوسف كنت أنا شيخه، واليوم هو شيخي!)).

وكان صاحب الترجمة خلال صحبته لشيخه المذكور؛ يلقى مشايخ الطريق في عصره، ويأخذ عنهم، لكن لا على سبيل التحكيم في نفسه وسلب الإرادة؛ بل على سبيل التبرك بهم والاستفادة، فكان ممن لقي: الشيخ أبو سالم إبراهيم الزواري التونسي؛ دفين خارج باب الجيسة، والشيخ الولي العارف المتجرد أبو العباس أحمد ابن منصور الحيحي؛ مستوطن القصر الكبير ودفينه بالموضع المعروف بالزاوية، والشيخ أبو عبد الله محمد كانون المطاعي؛ من أولاد مُطاع؛ قبيلة من العرب بالمغرب معروفة، والشيخ أبو محمد عبد الله الهبطي؛ دفين حوز شفشاون، بإزاء زاويته بموضع يقال له: معاتب، وسماه هو: مواهب. والشيخ أبو محمد الحسن بن عيسى المصباحي؛ دفين الدعداعة على وادي مضى من عمل القصر.

والشيخ أبو عبد الله محمد بن مخلوف الضريسي؛ دفين بوشدفان من بلاد ضريسة، ببلاد الهبط، عمل القصر الكبير، والشيخ أبو النجاء سالم العماري؛ ولقنه ذكرا كان يذكره أدبار الصلوات عن شيخه سيدي عبد الرحمن ابن ريسون عن الشيخ الغزواني، والشيخ أبو عبد الله محمد بن علي الطالب؛ دفين رأس القليعة من داخل باب الفتوح من فاس، والشيخ الولي العارف الكبير، الكامل الراسخ الشهير؛ أبو عثمان سعيد بن أبي بكر المشنزائي؛ دفين خارج مكناسة الزيتون، والشيخ الكبير، الولي الصالح الشهير؛ أبو محمد عبد الله بن ساسي البوسبعي؛ دفين زاويته التي على ضفة وادي تانسيفت بمقربة من مراكش، وقبره مزارة مشهورة هنالك … وغيرهم من المشايخ ممن لا يحصى ولا يعرف شهادة وغيبا.

وأخذ شيخه أبو زيد عبد الرحمن المجذوب عن الشيخ المجذوب العظيم، ذي المدد الجسيم؛ أبي الحسن علي بن أحمد الصنهاجي؛ المعروف بالدوار، المتقدم الذكر، وهو عن الشيخ أبي إسحاق إبراهيم الزرهوني؛ المعروف بآفحَّام؛ دفين جبل زرهون، وهو فتح له أولا على يد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث رآه في النوم، ثم انضاف إلى العارف بالله القطب الغوث أبي العباس أحمد البرنسي المعروف بزروق، دفين مسراته ذات الرمال من أطراف برقة، وسنده مشهور معروف. ثم بعد وفاته، انتقل لصاحب الترجمة بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم والجماعة؛ فأقاموه في الوقت مقامه.

فمن ثم فاضت أنواره، وطار في الآفاق ذكره واشتهاره، وسارع نحوه أرباب الإرادات، وأقبل عليه أهل الفوز والفلاح من العلماء والأولياء والسادات، وكان أول مقبل عليه: أصحاب شيخه المجذوب. وتأهل –رضي الله عنه- للمشيخة في علمي الظاهر والباطن، وتخرج به مشايخ لا يحصون، ونشأ على يده رجال كبار لا يستقصون، وظهرت على يديه الخوارق العظام، والكرامات الجسام، وبقي على ما تقدم بالقصر نحو الإحدى عشرة سنة.

ثم حرك الله قلبه للانتقال إلى فاس، وكان عنده من ذلك ذكر من شيخه المذكور وغيره من المشايخ، فخرج في صورة الزيارة بأهله، ثامن عشر ربيع النبوي سنة ثمان وثمانين وتسعمائة، فاستقر بفاس ونزل في حومة العيون، ثم انتقل في عامه ذلك إلى المخفية؛ فسكن بها بالدار المشهورة بإزاء مسجده الذي بناه بها، واشتهر أمره، وطار في البلاد صيته، وأقبل الناس عليه، وكثر الجمع لديه، وأتاه الناس على طبقاتهم؛ علماء وعباد وزهاد ومريدون ومشايخ … وأذعن له الكافة من العامة والخاصة، وانقاد إليه الملوك والرؤساء، والوزراء وغيرهم من أبناء الدنيا، وخدموه، ولم يستغن عنه أحد، وظهر بذلك مصداق قول شيخه: ((إنه كالملح لا يستغني عنه أحد)). وبقي بفاس خمسا وعشرين سنة كما حد له الشيخ سيدي علي الحنشي. وكان – رضي الله عنه- جبلا راسخا في الارتسام بالسنة واتباعها، وغاية في الارتسام بالحقيقة وأنواعها، أحد صدور المقربين، وعظماء الصالحين، وأصحاب الحقائق والمعارف والتصريف، وخرق العوائد والتمكين والتعريف. وقد كان الشيخ سيدي محمد ابن عبد الله يثني عليه بالشيخوخة والتربية والحكم، ويقول غير مرة: ((آخر الشيوخ بالمغرب: سيدي يوسف))، ويقول: ((كانوا يقولونفيه: إنه غريب في وقته؛ لانفراده به)). وكان يسمه بالقطبانية، كما كان غيره من الشيوخ يسمه بها.

وفي “المنح الصافية” لولده أبي العباس أحمد وصفه بقطب الزمان، وعنصر العرفان. وفي محل آخر: بقطب الزمان، والحامل في وقته لواء أهل العيان. ووصفه في “ابتهاج القلوب” بقطب الجامع، والغيث الهامع. ثم قال بعد ذلك ما نصه: ((وأما مقام القطبانية؛ فقد وصفه به كثير من تلامذته، وكبار أهل وقته من أهل الأذواق العالية، والمنازلات العيانية، كما شاهدت ذلك بخطوطهم في كتب شتى، وبعضها كتب عليه في ظهره جوابه بخط يده المباركة، مطلعا على ذلك، غير منكر له ور مغير. وممن وصفه بذلك ولده الشيخ أبو العباس في كتبه وتراجمه؛ وكان من أعرف الناس به وبطريق القوم واصطلاحهم)). هـ.

وممن وصفه بها أيضًا: سيدي المهدي الفاسي في “الجواهر الصفية” وغيرها، والسيد أبو القاسم الفاسي في “تحفة الوارد والصادر”، وصاحب “عناية أولي المجد” … وغير واحد.

وكان -رضي الله عنه- يقول: (( لا أحط راسي – وفي لفظ: لا أمد هذه الرقبة – إلا للجبل الراسخ؛ سيدي عبد السلام بن مشيش، سائر الأولياء يقولون، وأنا أقول))، ويقول أيضًا: ((ما في زائد إلا أن قلبي عين صافية)).

وفي “الابتهاج” نقلا عن خط أخيه العارف بالله سيدي عبد الرحمن بن محمد الفاسي أنه: هو المجدد على رأس الألف، وفي “الصفوة” في ترجمة الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمود بن أبي بكر الونكري الشهير بـ “بَنيُعْ”، المتوفى بتنبكت سنة اثنين وألف؛ أن الشيخ سيدي أحمد بابا السوداني قال: ((ولا يبعد عندي أن يكون هو المبعوث على رأس هذا القرن العاشر؛ لما اشتمل عليه من العلم)). هـ. وذكر الشيخ القصار في أبيات كتب بها في رسالة للسلطان أبي العباس المنصور الذهبي أن المجدد على رأس هذا القرن هو السلطان المذكور.

قلت: ولا منافاة بين هذه الأقوال؛ لقول الحافظ في “الفتح”: ((نبه بعض الأيمة على أنه: لا يلزم أن يكون في رأس كل قرن واحد فقط؛ بل الأمر كما ذكر النووي في حديث: لا تزال طائفة. أنه يجوز أن تكون جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع، وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد … قال: ولا يلزم اجتماعهم ببلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وتفرقهم في الأقطار، وأن يكونوا في بعض دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولا فأولا، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا؛ أتى أمر الله)). هـ.

والمشهور أنه: لا يشترط في المجدد أن يكون مجتهدا؛ خلافا لبعضهم، ولا أن يكون هاشميا؛ خلافا لمن اشترط ذلك أيضا، وللحافظ السيوطي قصيدة سماها: “تحفة المجتهدين بأسماء المجددين”.

ولصاحب الترجمة –رحمه الله ورضي عنه- كلام عال في الحقائق، وإشارات صوفية استنبطها من كتاب الله، وأجوبة نفيسة في التصوف وغيره … نفع الله به.

وأحواله ومعارفه لا تخفى ولا تنكر، ومقاماته أجل من أن يعرف بها أو تذكر، وقد أفرد ترجمته بالتصنيف غير واحد: كولده أبي حامد سيدي محمد العربي؛ فغنه ألف فيه كتابه المعروف “بمرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن”، وولده ابي العباس أحمد؛ فإنه ألف فيه: “المنح الصافية في الأسانيد اليوسفية”، وكولد حفيده أبي عيسى سيدي محمد المهدي بن أحمد بن علي بن يوسف؛ فإنه ألف فيه: “الجواهر الصفية من المحاسن اليوسفية”، و”روضة المحاسن الزهية بمآثر الشيخ أبي المحاسن البهية”، وكولد حفيده –أيضا- أبي زيد عبد الرحمن بن عبد القادر بن علي بن يوسف الفاسي؛ فإنه ألف فيه: “ابتهاج القلوب بخبر الشيخ أبي المحاسن وشيخه المجذوب”، وكالشيخ الإمام العلامة، المتقن الفهامة؛ أبي عبد الله سيدي محمد بن الطيب بن عبد السلام القادري الحسني؛ فإنه أفرد ترجمته في منظومة حسنة رائقة؛ سماها “بفريدة الدر الصفي في وصف [ما أبدى] الجمال اليوسفي”، وتعرض فيها لذكر فروعه وبعض أحوالهم ووفياتهم وما يتبع ذلك. وعدة أبياتها: ثلاثمائة وثلاثة عشر بيتا.

وللسلطان الأمجد، العالم الأسعد؛ أبي الربيع مولانا سليمان بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل ابن الشريف الحسني العلوي تأليف مستقل في رهط صاحب الترجمة؛ سماه: “عناية أولي المجد، بذكر آل الفاسي ابن الجد”، وهو تأليف حسن مفيد، جزاه الله خيرا. وفي هذه الكتب وغيرها من أحواله ومناقبه وكراماته ما يغني عن التطويل.

توفي –رحمه الله- بفاس، آخر الثلث الأول من ليلة الأحد الثامن عشر من ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وألف، عن خمسة أو ستة وسبعين سنة

حصل المقال على : 1٬399 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد