وقفات مع الشيخ عبد الغني النابلسي

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد، السر المكتم ،والغيب المطمطم ،والبرزخ النوراني المعظم ،وعلى اله وصحبه وسلم.

يقول الشيخ عبد الغني النابلسي:  «فهو الحجاب الأعظم القائم صلى الله عليه وسلم ، لأنه صلى الله عليه وسلم حَجَب العقول عن النظر في حقائق الذات والتفكر فيها ، فَعَقَــــل العقل عن النظر إلى ما ليس له إليه سبيل ،بهذا أرسل صلى الله عليه وسلم وبه أمر، فكان حجاب الله الأعظم القائم له بين يديه تعالى». اهـــ.

قلت : أورد هذا التحقيق ابن مشيش رضي الله عنه في صلاته قال : “وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك”.فهو صلى الله عليه وسلم حجاب الله الاعظم، الجامع للعوالم الملكية ، والملكوتية. شامل  للظاهر و الباطن ،للحس وللمعنى، له الأولية والاخرية والخلافة الكلية.والنيابة القولية والفعلية أما “اليدين” هنا كما تشيرا  الى القضاء والقدر،تشيرا  الى الأسماء الالهية.وإلى أوامر الله تعالى ،و الى مايريد الله اظهاره في ملكه. 

ورد في الحديث :أول ما خلق الله العقل” والعقل من العِقال،أي التقييد فكان هو أول حجاب حائل دون الوصول الى كنه الأحدية ،فضلا عن الذات.” تفكروا في ءالآء الله ولا تتفكروا في ذات الله” فعقلنا و كشفنالا يستوعب الدوائر الكونية ،وكيف خلق الله تعالى الوجود، فكيف بمعرفة خالق الوجود ؟. هيهات هيهات؟

ويقول الشّيخ عبد الغني النّابلسي  :

 الحقيقة المحمّدية:هي حضرة الغيب المطلق عن جميع القيود، المحيطة بالنّسب الأسمائيّة والأعيان الثابتة الكونية ،والوسيلة بينهما “اهـــ .

قلت : نعم النبوة المحمدية غيب لايدرك،قال صلى الله عليه وسلم :ماعرفني حقيقة غير ربي”. تظهر حقائقها ويُكشف عن البعض من غيابات جب اسرارها ،حسب التجليات الالهية وحسب ما يريد الله اظهاره في كل زمن، فَــسَيْــرُ الكون الظاهر والباطن، يُوَاكب تغزلات العارفين في الحقيقة المحمدية. ما ظهر منها فهو عطاء إلهي لأهل ذلك الزمن، وما خفي عنهم فهو رحمة بهم.فظهور الاعيان الثابتة يمرعبر تجليات الاسماء الالهية، ووساطة النبوة المحمدية و الكعبة المشرفة (وقليل من يعرف دور الكعبة في التجليات الالهية).( والقليل ،القليل من ذاق هذه الحقائق وعرف كيف تكون التجليات الالهية، وما دور الكعبة فيها ، وكيف يصل المقتضى الى اصحابه ،كالرزق مثلا كيف يصل الى الشخص المقصود به أي المروزق).

قال رضي الله عنه : الحقيقة المحمّدية هي الصّورة الجامعة للكمالات الإلهيّة ، وهي من تجلي الإسم الفرد .. وهي التي خلق الله تعالى منها كلّ مخلوق .

قلت : هي الحقيقة الجامعة للكمالات الالهية ،و يكفي أنه صلى الله عليه وسلم تخلق بالأسماء الإلهية وكانت مبايعته هي مبايعة لله ليكون  طرفا في تجليات اسم الجلالة ” الله”  وجامعا للكمالات الإلهية.”وإنك لعلى خلق عظيم”.كل المخلوقات تخرج من وجود علمي الى وجود عيني وهي مشهودة لله في حال عدمها لأن الحق تعالى لا يخفى عليه شئ ، ولاغيب بالنسبة له ، الكل مرتوق في حقيقة النبوة ( دائرة الواحدية) وخروجها (المخلوقات) يكون بتجلي الاسم الخالق مصحوبا بمرتبة من مراتب النبوة ليكون اللطف في الكون الالهي ،وهذا التحقيق هام ،فلا يظن احد ان الحق سبحانه وتعالى بعد خلق النبوة اخذ منها، وخلق منها كل مخلوق، هذا الفهم يفيد ان كل الخلائق فيهم طرف من النبوة ،والنبوة من نور الله ،وبالتالي فالخلائق كذلك ؟ قال تعالى ” انما قولنا لشئ اذا اردناه ان نقول له كن قيكون”وسماه شيئا قبل ظهوره، والنبوة شأن وليست شيئا، فحضور النبوة في التجليات الالهية ،ووساطتها هي ماعبر عنها النابلسي بقوله” خلق منها كل شئ” هي ماء الوجود قال تعالى ” وجعلنا من الماء كل شئ حي” ولم يقل وخلقنا من الماء كل شئ حي.( انظر بالمدونة موضوع: السر الجلي الخفي ان ما في الكون الا حي، يزيدك فهما في المسألة ). والجسم الشريف المولود من أم و  أب هو الذي تحت تجليات اسم الجلالة “الله” وبالتالي باقي الاسماء الالهية.

قال  الشيخ رحمه الله تعالى : الحقيقة المحمّدية هي منبع شؤون الله تعالى ، كما أن قرص الشّمس هو منبع جميع الشّعاعات ، وقرص الشّمس غير حقيقة الشّمس ، لأنّه صورة ظهورها في مقام فيض الشّعاعات عنها ، وحقيقتها في نفسها غير صورة قرصها الظّاهر لأهل الأرض ، وكذلك الحقيقة المحمّدية ، بالنّسبة إلى الحقيقة الإلهيّة ». اهـ.

قلت : فعلا كلام  صائب قوله: الحقيقة المحمدية هي منبع شؤون الله تعالى..  لما ؟ لأن الله تعالى غني عن العالمين ،وخلق الخلق للخلق لا له،و لا قدرة للخلائق من  التلقي مباشرة من الحق تعالى ،و الاستمداد دون حائل واقي. فالحقيقة المحمدية تستمد من الحق وتمد الخلق.برزخ له وجهة حقية ،ووجهة خلقية.

        قال الشيخ عبد الغني النابلسي :

        الإنسان الكامل هو الذي قابل شمس الأحدية واقتبس من نورها ، فلم تدخل عليه الظلمة ،والظاهرعليه الوجود الحق ، يكنى : بالبدر ، وبالبدر التمام » اهـ

قلت : اصل النور المحمدي الصفة الاحدية اعلا مرتبة وجودية ،ومَنْ أصْله نور، فهو نور.  ” لقد جاءكم من الله نور وكتاب مبين” ولا اتفق مع الشيخ النابلسي عند قوله ” اقتبس منها”(ولعله قصد اقتباسا ذاتيا) فهو صلى الله عليه وسلم لم يقتبس منها، بل انوار الاحدية ذاتية له ،قال الشاذلي رحمه الله : اللهم صل على سيدنا محمد النور الذاتي” ويقول الكتاني رحمه الله في صلاة المتردي: ” المنفرد بليس كمثله شيء، الأحَدِي الثاني ” قال الأحَدي ونسبه الى الأحدية، كما أن قوله “شمس الاحدية ” وصف ،لاينطبق ذوقيا على الاحدية ، الشمس ظاهرة  وتغيب ومآلها الى الفناء ،وشمس النبوة لا مغيب لها ،كما أنه لا تجل بالاحدية أي لا ظهور، باجماع جميع العارفين. هي حضرة سحق ومحق ،ووصفها  بالشمس يقتضي الظهور .

        ويقول  النابلسي « الإنسان الكامل  :هو واحد في الذات والحقيقة ،كثير بالصور ، ولا يخلو عالم الدنيا منه في كل زمان إلى أن ينفخ في الصور ، إذ هو مرتبة من مراتب الوجود المطلق لو خلا عنه الوجود المطلق لنقص ، بل هو ثمرة شجرة الوجود وغيره أغصان وأوراق »   اهـ

قلت : مما لا شك فيه ان الانسان الكامل واحد بالذات لا ثاني له، قال تعالى ” فاتوا بسورة من مثله” من مثل محمد ، ومحمد صلى الله عليه وسلم فريد ،ويتيم في الكون الالهي بحقيقته وبصورته، انما هو متكثر بتجليات مراتب نبوته التي لا يخلو منها زمان “فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون” قال الكتاني ” المتأحد في عين الكثرة المتكثر في عين الوحدة”. وليس مرتبة من مراتب الوجود، لا..لا..لا…                                                                  

بل سريان حقيقته في مراتب الوجود ،هو الذي اعطاها وجودا ، ولولا هذا السريان لبقيت في طي العدم . و لم يكن لمراتب الوجود وجود .

وهو ليس ثمرة شجرة الوجود، بل هو شجرة الوجود ،إذ الثمرة فرع والشجرة أصل ،ولا يمكن ان يكون سيدنا محمد فرع ، بل هو شجرة الوجود بعينها ،وغيره من الانبياء ثمار وكذا الاولياء وباقي الكون أغصانها وأوراقها وقشورها وظلها.

        ويقول الإنسان الكامل : هو حضرة الرسول الأعظم ، والمخلوق الأول قبل خلق كل عالم وعامل» 

قلت :  الانسان الكامل كما سماه العارفون هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة وصورة  ،ونوابه من الاولياء الذين بلغوا مقام القطبانية وما فوقها كالغوثية والختمية ، نالوا هذا المقام هبة محمدية ، بالتبعية ، هم شعرة في جسده الشريف ونقطة ماء في بحر حقيقته المنيف.

لا اله الا الله محمد رسول الله.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد صاحب الشرائع الاحمدية والشريعة المحمدية، وعلى اله وصحبه.

ابن المبارك

ترجمة العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي: ولد يوم الأحد في دمشق 4 ذي الحجة عام 1050هـ  / 1640م وتوفي في 24 شعبان سنة 1143هـ / 1730 م . ينسب الشيخ إلى الخليفة عمر بن الخطاب، وأصل أسرته من حماة، واسمه: عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني بن إسماعيل الكِتاني الحموي الأصل المقدسي الشهير بابن النابلسي. وفي العشرين من عمره مارس التدريس في الجامع الأموي في دمشق بالقرب من منزله الواقع في العنبريين.كان شاعراً،( جمع شعره الصوفي في ديوان “الإلهيات”) .  أديباً، عالماً ربانياً، فقيها، مفسرا. §   مارس وظيفة القضاء في محكمة الميدان عام 1075ه ولم يلبث أن تركها. و انتخبه أهل دمشق في عام 1135ه مفتياً لدمشق، ما لبث أن جاء المرسوم السلطاني من إستنبول بذلك. ولكنه لم يلبث أن ترك الوظيفة، ليتفرغ للخلوة التي ستمهد له الطريق للوصول.

تلقى الطريقة النقشبندية عن الشيخ أحمد البلخي الذي زار دمشق سنة 1087هـ. وتلقى الطريقة القادرية عن الشيخ عبد الرزاق الكيلاني عام 1075هـ.  بلغت مؤلفاته زهاء ثلاث مئة مؤلف، ما بين كتب ورسائل ودواوين ذكرها خلال رحلته الكبرى، تميز بدافعه عن الصوفية.

ومنها: “الوجود الحق” و”جواهر النصوص في شرح كلمات الفصوص” و”غاية المطلوب، في محبة المحبوب” و”هدية الفقير، وتحية الوزير” و”السانحات النابلسية، والسارحات الأنسية” و”بداية المريد، ونهاية السعيد”، وكتاب “بذل الإحسان، في تحقيق معنى الإنسان” وغير ذلك من الكتب والرسائل…

توفي  في عام 1119هـ  ودُفن في القبة التي كان قد بناها في بيته، ثم أُقيم على قبره جامع في بداية القرن الثالث عشر للهجرة.

ونختم الكلام عن هذا العارف الكبير والشيخ الجليل بهذه الأبيات من كنوز شعره

“خلوة القبر أشرف الخلوات”

خلوة القبر أشرف الخلـــوات= بلقــــــاء الحـــبيب في الخلـوات

خلــــــوة القبــــر للتجـــرد عمــــــا= يشغل الروح عن إثم الصفــات

خلـــوة القبــــر لـــذة ونـعيـــم= لسعيـد قــد ذاق ســـر الممـات

خلـــــوة القبـــر راحـة وســـرور= ودخـول في أشــــرف الجنــات

حضــــــرة تجمــــع المتيم فيهـــــا = أي جمــع أكمــل الحـــالات

هي سعــــــد لكـل عبد سعيد= يتــرقـــى بهـــا عـــــلا الدرجــات

وهي سجن لكل عبد شقي =يتــــــدلى بهـــــــــــا إلى الـــــدركـــات

حصل المقال على : 1٬612 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد