السؤال السابع: وسألوني عن سبب تكييف العقول للحق ،مع أن الحق تعالى في ذاته لا يكيف،ولا يمثَّل،ولا يشبَّه، فمن أين جاء للخلق التكييف؟. ؟.
جواب الشيخ الشعراني قدس الله سره:
جاءهم ذلك من شهودهم أنفسهم في مرآة معرفة الحقّ تعالى كالمرآة المحسوسة،فإنك إذا رأيت فيها لاترى إلاصورتك لأنها تسبقك فتطبع في المرآة،فإذا حقّقت النظر وجدت صورتك قد سبقتك فارتسمت قبلك فلا يقع بصرك إلا على صورتك،واجتهد أن ترفع ذلك الارتسام حتى ترى جرم المرآة لا تقدر أبداً..فعُلم أن القلوب لو انجلت مرآتها وقرُبت من حضرة الله،القُرب المشروع،لم تجد في جانب الحق إلاالتنزيه المطلق لأنه تعالى قد بايَن خلقه في سائر المراتب فلا يجتمع مع خلقه في حدّ ولاحقيقة ولاجنس ولا شخص ولانوع،وما ورد ممّا يعطي ظاهره التشبيه ليس هو تشبيه حقيقةً وإنما ذلك تنزيل إلهي لنا رحمة بعقولنا لنتعقّل المعاني التي جاءتنا على أيدي رسله لاغير،لأننا ما نعقل إلاما كان على شاكلتنا بما هو في مقامنا.
قـــلــت:
قال تعالى(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طـه:5).كيف استوى ؟وكيف كان هذا الاستواء؟ ؟…فبسؤالى هذا أدخلت التكييف على صفات الحق،وهو اعتقاد أن صفات الله تعالى على كيفية ما،أي شيء مما تتخيله أوتدركه العقول أوتحده. وليس المقصود نفي وجود كيفية لصفات الله، وإنما المقصود نفي علم الخلق بهذه الكيفية،وأنها لا تدخل تحت حيز التقييد.كما بين ذلك الإمام مالك رحمه الله وغيره من السلف عندما سُئل عن قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) قال:الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب،والسؤال عنه بدعة .فنحن مقيدون بكثافتنا،وبحواسنا،وبالجهات الستة ،وبالليل والنهار…فلا نرى الأمور إلا مقيدة، الإطلاق ليس صفتنا. فيجب على المسلم،أن يثبت لله الصفات التي وصف بها نفسه في كتابه،أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم،في أحاديثه الصحيحة،يؤمن بها لفظاً ومعنى بلا تأويل ،ولاتشبيه ولاتمثيل،ولا تعطيل ولا تكييف،لأنه سبحانه(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
فوحدانية الحق تعالى في صفاته وأفعاله،تنفي المماثلة،وتوجب تنزيه الله تعالى تنزيها مطلقا بدون شرط.وانفي من ذهنك أي اعتقاد،أن صفاته تعالى على كيفية كذا،أو يسأل عنها بكيف. أوتقول كيفية الصفة كذا وكذا .
قال الله تعالى(وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) ومن لا يحاط بعلمه كيف يحاط بذاته وصفاته، فمن يقول أن لله يد (يد الله فوق أيديهم)فقد أحاط بها علما، والحق تعالى لا تدركه الابصار، فقال هذا بغير علم وخالف الآية(وَلاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، وكأنه راى الله وراى اليد،؟ ولنا في رسول الله إسوة حسنة،وهوصلى الله عليه وسلم ،لم يكيف أي صفة من صفات الله(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). فالحق تعالى لانعرفه،ولامناسبة للخالق مع الخلائق، فالادب أحق وأولى .
إذا تكلمنا عن صفات الله،علينا أن نثبت الصفة بلا تمثيل،ولا تشبيه،ولا تكييف. ونفوض علمها الى الله، هذاجبريل عليه السلام،له ستمائة جناح،وهو مخلوق،كيف يطير بها،وكيف يجلس بها ،وكيف، كيف. …لن تستطيع تكيف خلقة جبريل عليه السلام،وهو مخلوق.وكذا ضحك الرب، ووجه الله،ونزول الرب الذي ورد في الحديث :ينزل ربكم في الثلث الآخير من الليل …نقول ما قال مالك في الاستواء: النزول معقول،والكيف مجهول ،والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة
فالوجود له تعلق بمرتبة الألوهية أي اسم الجلالة “الله” لابالذات الإلهية،هذه المرتبة،لها وجهة حقية ووجهة خلقية:والتكييف جاءهم ،من هذه الوجهة الخلقية لبساط الالوهية ،حيث ظهر الحق تعالى بصفات بشرية.ورد في القرءان الكيد(إِنَّهُمۡ یَكِیدُونَ كَیۡد وَأَكِیدُ كَیۡدا)والمكر(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)،والاستهزاء(ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)وبطبيعة الحال،الكيد،والمكر،والاستهزاء صفات بشرية.
وورد في الحديث:من آتاني يمشي آتيته هرولة .ونسب الهرولة إلى ألوهيته،وورد كذلك في الحديث النزول،وورد في الحديث “مرضتُ فلم تعُدْني،وجُعتُ فلم تُطعمْني”،وأقام الحق تعالى نفسه (ربوبيته) مقام عبده.
وورد في الحديث أن رب العالمين يضحك،فكما ترى الألوهية ظهرت بصفات بشرية.أما الوجهة حقية(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى) هذه الوجهة لا يعلمها إلا الله.
يقول الشيخ ابن مكزون السنجاري:من عرف موقع الصفة،بلغ قرارالمعرفة اهـ .
أي من عرف وأدرك أن الصفات،لاتقع على الذات الإلهية ،وإنما هي مستفادة منها،ومفادة الى بساط الألوهية،والذي هو ديوان الحضرة الإلهية،وراجعة عليها،من عرف ذلك بلغ قرار المعرفة.لهذا نبينا صلى الله عليه وسلم، استعاذ بأسماء وصفات إلهية من أخرى :أعوذ برضاك من سخطك.أعوذ بمعافاتك من عقوبتك …ثم في النهاية سلم الأمورللهوية الإلهية :أعوذ بك منك.ولم يقل صلى الله عليه وسلم،أعوذ بذاتك من كذا،وكذا.حتى الملائكة كانوا في غاية الأدب حين قالوا(ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)وما قالوا، ونقدس ذاتك.وإبليس اللعين أقسم بالعزة(وعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين)وما أقسم بالذات.
فالأسماء الإلهية هي المتجلية في ذرات الوجود ،وسارية فيها، كسريان الماء في الأشجار، والواحد في الأعداد،لاغنى للأشجارعن الماء، ولاغنى للأعداد على الواحد،وللحروف عن الألف.التجلي هو مدد الكون وغذاؤه،والله بكل شئ محيط ،فتأمل ولسان حالك يقول (شعر ابن مكزون) :
نظري في الزجاج أشهدني نفسي ♣ وغيري على خلاف الحال
مثل مافي المرآة أشهد مَنْ خلفي♣ أمامي وعن يميني شمالي
وسوف تقول للزجاج:
أراني فيك موجودا♣ وعني أنت منفرد (ابن مكزون)
قال ابن عربي :هو الظاهر في المظاهر،أي ظاهر بأسمائه التي لاحصر لها،بلا حلول ولا وحدة ولا إتحاد.الرب رب والعبد عبد وإن اشتركا في العهد”واوفوا بعهدي اوفي بعهدكم”اهــ.
ويقول في الباب الخامس ومائتين :هو عين كل شئ في الظهور،ماهو عين الأشياء في ذواتها سبحانه، بل هو،هو،والأشياء أشياء.العبد عبد، والرب رب،فلا تغالط ولا تخاط ،لأن ماهية الحق،غيرماهية العبد،ماهية الحق،واجبة وماهية العبد ممكنة.اهـ
لقد أخطأ من اتهم ابن عربي بالقول بوحدة الوجود.
وما الوجه إلا واحد غيرأنه ♣ إذا أنت عددت المرايا تعددا
تجليات الأسماء الإلهية متعددة،بتعدد صور الممكنات،فكما تظهرصورتك متعددة في مرايا متعددة ،فتبدو في كل مرآة بزاوية خاصة،ووجه مختلف، متكثر،وأنت أنت لم تتعدد، ولم تحل في المرايا،ولم تتحد معها.ولكل زمان تجليات تخصه ،بل ولكل دقيقة تجل يخصها (كل يوم هو في شان).
فالتجليات الإلهية هي غذاء الكون ومدده،وهي التي تحفظ له بقاءه .فلاتكرار في الوجود وإن ظهر في الشهود،للوسع الإلهي،ومن أسماء الله الواسع.والكون الإلهي هو محل إنفعال المقتضيات الأسمائية ،فالرزاق يطلب المرزوق ،والمرزوق يطلب الرزاق والغفار يطلب المذنب ….وقس على هذا باقي الأسماء.
قال العارف الكبير الامير ابن مكزون:
إذا وصف العشاق معنى جمالكم ♣ فتجريده من كل وصف وصفي
وإن عبروا باللطف عنه فإنني ♣ أقول مفيد اللطف جل عن اللطف
فالذات الالهية بالنسبة له متعالية عن الأسماء والصفات ،فالأسماء والصفات مفادة منها، ولكنها هي ذاتها فوق حدود التسمي وفوق تقييد الصفات:
يفنى الكلام ولايحيط بوصفه ♣ أيحيط مايفنى بما لاينفد؟
يقول ابن مكزون :وتعدد الصفات لاينفي وحدة الموصوف،ومن لطف الله أنه يتقرب إلينا، ويتعرف علينا،بأوصافنا،وذلك على سبيل الإيناس المألوف، بدلا من أن يواجهنا بذاته،التي ليس كمثلها شئ فيسحقنا الجلال(انتهى).
اسم الجلالة “الله “له وجهة الى الذات الإلهية، ووجهة الى المخلوقات،ومن هذه الوجهة تعرف إلينا بأوصافنا،فوصف نفسه بالهرولة والضحك، والسخرية، والإستهزاء،والمكر، والغضب …إلى غيرذلك من الصفات البشرية.والألوهية،هي التي وهبت الأسماء خصائصها،وصفاتها،والذات منزهة عن الوصف،والكيف، لاتحل في كيان،ولا تظهر للعيان. فالصفات الإلهية تقع على بساط الالوهية،ولاتقع على الذات،ومن هنا قال تعالى (سبح اسـم ربك الاعلى)( فسبح باسم ربك العظيم)( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا)(واذكر اسم ربك بكرة واصيلا) (تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام)(اقرأ باسم ربك).فأرجع تعالى الحكم الى ربوبيته.
والمعرفة عند ابن مكزون نوع من الجهل ،المستمرلاينتهي إلا ليبدأ،فهو يحاول أن يعرف الذات بواسطة الأسماء، ثم يفاجَأ، أنه إنما عرف أن الذات هي التي وهبت الأسماء خصائصها، وصفاتها المميزة،واحتفظت ببطونها في غيب سر،غيب السر منزهة عن الوصف والكيف .
عباراتنا شتى وحسنك واحد ♣وكل إلى الجمال يشير
فالله بإفادته القدرة للقادرين سمي قادرا ،وبإفادته الكرم للكرماء سمي كريما، وكذلك كل ما وصف به إنما جرى عليه من قبيل أنه هبة وإفادة،لا من قبيل أن هذا الوصف كمال لذاته ،فصفات الحق بهذا الإعتبار موهوبات من الألوهية،ومفادة لأسمائه الحسنى،أما ذاته فمنزهة عن كل وصف يشبهها بالمخلوقات.فهو سبحانه “تجلى” لهم بوجهة خلقية،ليستأنسوا بها وحتى لا يسحقهم الجلال.
وعدم فهم هذه الرقائق يرمي بالسالك في مستنقع اوحال التوحيد الذي اشار اليها ابن مشيش رحمه الله تعالى .
وصلى الله على حبيبنا محمد وعلى الزهراء بنت الرسول الممجد.
ومن أراد شرح بعض الاسئلة والمشاركة بها فليتفضل مشكورا