يقول ان عربي :….إعلم أنه لما كان شرع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تضمّن جميع الشرائع المتقدّمة،وأنه ما بقي لها حُكم،في هذه الدنيا،إلا ما قرّرته الشريعة المحمدية، فبتقريرها ثبتت. فتَعَبّدنا بها نفوسنا،من حيث أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم قرّرها،لا من حيث أن النبي المخصوص بها في وقته قرّرها. فلهذا أوتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (جَوامع الكَلم). فإذا عمل المحمدي ــ وجميع العالم المُكَلّف،اليوم،من الإنس والجن،محمدي ــ فلا يخلو هذا العامل،من هذه الأمة،أن يُصادف في عمله،فيما يُفْتَح له منه في قلبه وطريقه ويتحقّق به،طريقة من طرق نبيّ من الأنبياء المتقدّمين، مما تتضمّنه هذه الشريعة وقرّرت طريقته فَصَحبتها نتيجته. فإذا فُتِحَ له في ذلك،فإنه ينتسب إلى صاحب تلك الشريعة،فيُقال فيه: (عيسوي أو موسوي أو إبراهيمي)،وذلك لتحقيق ما تميّز له من المعارف وظهر له من المقام،من جملة ما هو تحت حيطة شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. ولا يقال في أحد،من أهل هذه الطريقة،إنه (محمّدي) إلا لشخصين: إما شخص (إختصّ بميراث علم من حُكم لم يكن في شرع قبله).. وإما شخص (جمع المقامات)،ثمّ خرج عنها (لا منها) إلى (لا مقام)، كأبي يزيد وأمثاله،فهذا أيضاً يُقال فيه محمدي. وما عدا هذين الشخصين فيُنسب إلى نبي من الأنبياء. ولهذا وَرد في الخبر (إن العلماء وَرَثة الأنبياء)،ولم يقُل وَرثة نبيّ خاص ،والمُخاطَب بهذا علماء هذه الأمة. وقد ورد،أيضاً،بهذا اللفظ قوله صلى الله عليه وسلم (علماء هذه الأمة أنبياء سائر الأمَم)،وفي رواية (كأنبياء بني إسرائيل). فالعيسويون الأوائل هم الحواريون ،أتباع عيسى. فمن أدرك منهم،إلى الآن، شرع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،وآمن به وإتبعه،وإتّفق أن يكون قد حصل له من هذه الشريعة ما كان قبل هذا شرعاً لعيسى،فيرث من عيسى ما ورثه من غير حجاب. ثم يَرث من عيسى،في شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، (ميراث تابع من تابع) لا (ميراث تابع من متبوع)،وبينهما في الذوق فرقان. ولهذا قال رسول الله،في مثل هذا الشخص: (إن له الأجر مرتين)،كذلك له (ميراثان، وفَتْحان،وذَوْقان مختلفان)،ولا يُنسب فيهما إلا إلى ذلك النبي.
فهؤلاء هم(العيسويون الثواني)،وأصولهم (توحيد التجريد من طريق المثال). لأن وجود عيسى لم يكن عن ذَكَر بَشري،وإنما كان عن تَمثّل روح في صورة بَشر.ولهذا غَلب على أمّة عيسى إبن مريم،دون سائر الأمم،القول ب(الصورة). فيُصَوّرون في كنائسهم (مثُلاً)ويَتعبّدون أنفسهم بالتوجّه إليها.. ولمّا جاء شرع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،وقد حَوى على حقيقة عيسى وإنطوى شرعُه في شَرعه،فشَرَع لنا (أن نعبُد الله كأنّا نَراه) فأدخَله لنا في(الخيال)،وهذا هو معنى (التّصوير). إلا أنه نَهى عنه،في الحِسّ،أن يَظهر في هذه الأمّة بصورة حسيّة. ثمّ لتَعلم أن الذي لنا من غيرشرع عيسى قوله (فإن لم تكن تَراه فإنه يَراك).. وكان شيخنا(أبو العباس العريبي)عيسوياً في نهايته،وهي كانت بدايتنا.. ثمّ نُقِلْنا إلى (الفَتْح الموسوي الشّمسي).ثم بعد ذلك،نُقِلْنا إلى (هود)عليه السلام. ثم بعد ذلك،نُقلنا إلى(جميع النبيين).ثم بعد ذلك،نُقِلنا إلى(سيدنا محمد) صلى الله عليه وسلم. هكذا كان أمرنا في هذه الطريق.. فأعطانا الله،من أجل هذه النشأة التي أنشأنا الله عليها في هذا الطريق (وجه الحق في كل شيء). فليس في العالم، عندنا،فينظرنا،شيء موجود إلا ولنا فيه شهود عَيْن حَقّ،نُعظّمه منه. فلا نرمي بشيء من العالم الوجودي.. وفي زماننا،اليوم،جماعة من أصحاب عيسى ويونس (يَحِيَوْن)،وهم مُنقَطعون عن الناس.فأما القوم الذين هم من قوم يونس،فرأيت أثَره بالساحل،كان قَد سَبقني بقليل.فَشَبَرْت قَدَمه في الأرض،فوَجدت طول قَدمه (ثلاثة أشبار ونصف ورُبع) بشبْري. وأخبرني صاحبي (أبو عبد الله بن خَرَز الطّنجي) أنه إجْتَمع به،في حكاية.وجاءني بكلام من عنده،ممّا يَتّفق في الأندلس،في سنة خمس وثمانين وخمس مائة (585هـ)،وما يتّفق في سنة ست وثمانين وخمس مائة (586هـ). فكان كما قال،ما غادَر حَرفاً. [وذكر الشيخ الأكبر قصة (الوَصيّ العيسوي)مع (نَضْلَة بن معاوية الأنصاري)، عندما أرسله سعد بن وقّاص،بطلب من عمر بن الخطاب،إلى حِلْوان العراق، ليُغير على ضواحيها..].. هذا الوَصيّ العيسوي،(زُرَيْب إبن بَرْثَمْلا)،لَم يَزَل في جَبَل حِلْوان يَتعبّد،لا يُعاشر أحداً.وقد بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم،أتُرى ذلك الرّاهب بَقيَ على أحكام النّصارى؟ لا ــ والله ــ فإن شريعة سيدنا محمد ناسخة.. فهذا الراهب،ممّن هو على بَيّنة من ربّه،عَلّمه ربه من عنده ما إفْتَرضه عليه من شرع نبينا صلى الله عليه وسلم.. وهذا،عندنا،(ذَوْق مُحقّق). فإنا أخذنا كثيراً من أحكام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،المُقرّرة في شَرعه عند علماء الرّسوم،وما كان عندنا منها علم. فأخذناها من هذا الطريق،ووجدناه عند علماء الرسوم كما هي عندنا. ومن تلك الطريق (نُصَحّح الأحاديث النبوية) و(نَرُدّها)، أيضاً،إذا عَلمنا أنها واهيّة الطرُق.. وإن قَرّر الشارع حُكم المُجتهد وإن أخطأ، ولكن أهل هذه الطريقة ما يأخذون إلا بما حَكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الوَصيّ هو من (الأفراد)،وطريقه في مآخذ العلوم هو طريق (الخضر). فهو على شَرعنا،وإن إختلفت الطريق الموصل إلى العلم الصحيح،فإن ذلك لا يَقدَح في العلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،فيمن أعطِيَ الوِلاية من غير مسألة: (إن الله يُعينُه عليها،وإن الله يَبعث إليه مَلَكاً يُسَدّده) يُريد عصمته من الغلط فيما يحكُم به. وقال الخضر (وما فعلته عن أمري).. ثمّ إنه قد ثَبت،عندنا،أن النبيّ صلى الله عليه وسلم (نَهى عن قَتل الرهبان الذين إعتزلوا الخَلق وإنفردوا بربّهم)،فقال:(ذَروهم ما انقَطعوا إليه).فأتى بلفظ مُجْمَل، ولم يأمرنا بأن ندعوهم،لعِلمه صلى الله عليه وسلم أنهم(على بيّنة من ربهم). فلولا ما عَلِمَ رسول الله أن الله يتولّى تعليمهم،مثل ما تَولّى تعليم الخضر وغيره،ما كان كلامه هذا،ولا قرّره على شرع منسوخ عنده،في هذه الملّة.. فلم يَزل هذا الراهب عيسوياً في الشريعتين،فله الأجر مرّتان: أجر إتباعه نَبيّه، وأجر إتباعه سيدنا محمد. وهو في إنتظار عيسى إلى أن ينزل.. و(كَمْ لله تعالى من مِثل هؤلاء العباد في الأرض). وليس للعيسوي،من هذه الأمة،من الكرامات (المشي في الهواء)،ولكن لهم (المشي على الماء).والمحمدي يمشي في الهواء بحكم التبعيّة،فإن النبي صلى الله عليه وسلم،ليلة أُسْرِي به ــ وكان (محمولاً) ــ قال في عيسى: (لو إزداد يقيناً لمشى في الهواء). ولا نشُكّ أن عيسى أقوى في اليقين منّا بما لا يتقارب،ونحن نمشي في الهواء بلا شك.. فعلمنا،قطعاً،أن مَشْينا في الهواء،إنما هو بحكم (صدق التبعية)،لا بزيادة اليقين على يقين عيسى،قد علم كل منّا مَشْربه،حاشا لله أن نقول بهذا. كما أن أمة عيسى يمشون على الماء بحكم التبعية،لا بمساواة يقينهم يقين عيسى..ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم،ما مشى في الهواء إلا(محمولاُ) على البُراق كالراكب،وعلى الرّفْرف كالمحمول في المِحَفّة. فأظهر البراق والرفرف صورة المقام،الذي هو عليه في نفسه،بأنه محمول في نفسه،ونسبة أيضاً إلهية من قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى)،ومن قوله (ويحمل عرش ربك)، فالعرش محمول،فهذا حَمْل كَرامة بالحاملين،وحال راحة ومجد وعزّ للمحمولين.. و(المحمول أعلى من غير المحمول)،في هذا المقام وأمثاله،وإن كان جميع الخلق محمولين،والحمل على مراتب: حمل عن عجز،وحمل عن حقيقة كحمل الأثقال، و(حمل عن شرف ومجد). فالعناية بهذه الطائفة أن يكونوا محمولين ظاهراً،كما هو الأمر في نفسه باطناً،لتبرّيهم من الدّعوى..
حصل المقال على : 639 مشاهدة