السؤال السادس عشر: أيّما أسْلَم للعبد:وقوفه في مقام الفناء أوفي مقام البقاء،مع أنه في مقام البقاء يُخاف عليه الوقوع في الاعتراض؟ .
في حقيقة الأمر،لوطرحوا علي هذا السؤال،لكنت سألتهم ماتقصدون بالوقوع في الاعتراض؟وكيف يكون هذا الاعتراض؟ولطلبت منهم مثالا للاعتراض؟ومثلا لولي وقع له هذا الاعتراض؟وأسألهم عن معنى الفناء بالنسبة لهم؟.ظهر لي أن عندهم فهم خاص عن الفناء والبقاء.لأنه ليس هناك اعتراض مع البقاء،والولي لايعترض أبدا،ومع الفناء يمكن أن يكون شطح.
الفناء على العموم يراد به،أن يغيب العبدعن شهود السوى،فلا يشهد غير الله،ولايتوكل على غيرالله،رجاؤه من الله،وخوفه من الله،وحبه في الله،لايرى الخلق،فالفناء هو الغيبة عن الخلق،بشهود الحق.فالحق هو الواجب الوجود،وغيره ممكن الوجود.
قال أبو المواهب: الفناء هو محو، واضمحلال،وذهاب عنك وزوال.
وقال أبوسعيد بن الأعرابي:هوأن تبدو العظمة والجلال على العبد فتنسيه الدنيا والآخرة،والأحوال،والدرجات والمقامات والأذكار،يفنيه عن كل شيء،وعن عقله وعن نفسه،وفنائه عن الأشياء،وعن فنائه عن الفناء،لأنه يغرق في التعظيم، أي تتجلى له عظمة الذات فتفنيه عن رؤية الأشياء،ومن جملتها نفسه،وقد يكون الفناء في الأفعال فلاي رى فاعلا إلا الله،والفناء في الصفات فلاقدير،ولاسميع،ولابصيرإلا الله،يعنى انه يرى الخلق موتى لا قدرة لهم ولاسمع ولابصر إلا بالله.
قال ابن عجيبة رضي الله عنه:إن الفناء هو أن تبدو لك العظمة فتنسيك كل شيء، وتغيبك عن كل شيء،سوى الواحد الذي (ليس كمثله شيء)، وليس معه شيء. أوتقول:هو شهود حقٍّ بلاخلق،كما أن البقاء هوشهود خلق بحقٍّ …فمَن عرف الحق شهده في كل شيء،ولم يرَمعه شيئًا،لنفوذ بصيرته من شهودعالم الأشباح،إلى شهود عالم الأرواح،ومن شهودعالم المُلك إلى شهود قضاء الملكوت.ومن فنيَ به وانجذب إلى حضرته،غاب في شهود نوره عن كل شيء،ولم يثبت مع الله شيئًا انتهى.
والفناء عن شهود السوى،هو وحدة الشهود،والتي هي غاية الصوفي أي شهود التجليات الإلهية التي اشارت إليها الآية الكريمة(فأينما تولوا فثم وجه الله)وليس مرادهم فناء وجود ماسوى الله في الخارج،فيغيب بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره،وبموجوده عن وجوده،وبمحبوبه عن حبه،وبمشهوده عن شهوده.ومنهم من سمى هذه الحالة سكرا أومحوا. والغيرمتمكن من مقامه من الصوفية،تنزلق رجله في هذا المقام،فيظن أنه اتحد به وامتزج،بل يظن أنه هو نفسه،كمايحكى عن الحلاج قال شهيد الصوفية:
أنامن اهوى ومن أهوى أنا == نحن روحان حللنا جسدا
ولكن لمافاق من سكره عرف أن ذلك فناء في الله،فقال :
عجبتُ منك ومنـّي=يامُنـْيةَالمُتـَمَنّـِي أدنيتـَني منك حتى=ظننتُ أنـّك أنـّي
وغبتُ في الوجدحتّى=أفنيتنـَي بك عنـّي
فهي حالة فناء أفقدته التمييز:افنيتني بك عني حتى ظننت انك أني.. حالة فناء تخرج الحلاج من مقام التمكين،ففي حالة السكر،والمحو، والاصطلام،والفناء قد يغيب عن هذا التمييزفلا يفرق بين نفسه وربه،وفي هذه الحال،قديقول صاحبها مايحكى عن أبي يزيد أنه قال “سبحاني “لا يفرق بين شهوده ومشهوده،وهذا ليس كمال،فالكمال أن يكون فناؤه عين بقائه ،يفنى ولكن لايصدرعنه مخالفة للشريعة قال بعضهم:
فيفنى ثم يفنى ثم يفنى = فكان فناؤه عين البقاء
يعطي للربوبية حقها،وللعبودية حقها،وكان الشيخ النفري،والشيخ عفيف الدين التلمساني،والشيخ ابن سبعين،من أصحاب هذا المقام،سموه الوحدة المطلقة،لايرى غيرالله،فكان ذكر ابن سبعين وأتباعه: ليس إلا الله،ليس إلا الله،ليس إلا الله،فسموا الليسية،وكان ابن سبعين من الشيوخ المربيين،تربى على يده الشيخ الششتري، فكان فناؤه عين بقائه،ولوكان في مقام الفناء بدون رجوع،لما استطاع تربية أحد،اذ لايشهد للسوى اثرا في حياته. والكمال مصاحب لمقام المعرفة،ففناء العارفين عين بقائهم،اذ العبودية هي أكبرمقام للعارف،فمن فنى في النبوة المحمدية،نطق على لسانها ،فهذا هو فناء الكُمَّل من العارفين.فذهاب العقل وانعدام التمييز،والغيبةعن شهود نفسه ،وأفعاله ليس صفة كمال.وقد أدى هذا بالحلاج الى حبل المشنقة.
يقول الشيخ الاكبر: الشطح رعونة نفس، فإنه لايَصْدُرمن مُحقّق أصلاً.فإن المحقق ماله مشهود سوى ربه، وعلى ربه مايفتخر وما يدّعي،بل هو مُلازم عبوديته مُهيّأ لما يَردعليه من أوامره، فيُسارع إليها وينظُر جميع مافي الكون بهذه المثابة.فإذ اشطح إنْحَجب عماخلق له وجهل نفسه وربه ، ولوإنفعل عنه جميع مايدّعيه من القوة فيُحيي ويُميت ويولي ويعزل وليس عند الله بمكان،…انتهى.
فالصحابة رضوان الله عنهم ،وهم قدوة السالكين،لم نسمع عن أحدهم أنه كان يصاب بفناء أوشطح،فلو كان هذا الفناء مقاما كبيرا من مقامات الذاكرين،لكانوا أحق به،
ولم يكن هذا لنبينا صلى الله عليه وسلم ففي المعراج وصفه الحق تعالى باليقظة وقوة الادراك قال تعالى(ما زاغ البصروما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى)فمافنى ولاصعق.
ورجوعا الى سؤالكم ،فالأسلم للعبد، أن لا يختار مع الله، مقامك حيث أقامك
وصلى الله على سيدنا مولانا محمد نبي الله وعلى الزهراء بضعة رسول الله.