الجوهر المَصون والسرّ المرقوم فيما تُنتجه الخلوة من الأسرار والعلوم
يقول الإمام الشعراني:وبعد: فهذا كتاب نفيس ليس في ذخائر ملوك الدنيا مثله،سمّيته بـ “الجوهر المصون والسرّ المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والعلوم”. وضمّنته أسراراً غريبة وعلوماً شريفة فاخرة عجيبة،لامرقى لأحد إلى التسابق إلى معرفة شمس من أسراره وعلومه بالفكر ولا إمعان نظر في كتب، وإنما ذلك هبة من الله تعالى لمن شاء من عباده المختصين: إما من طريق الخلوة المعروفة بين القوم،وإما من طريق الجذب الإلهي للعبد،غير ذلك لا يكون.وإنما خصّصنا تلك الأسرار والعلوم بالخلوة جرياً على الغالب،وإلا فالمجذوب الإلهي قد تحصُل له هذه الأمورولكنه لا يصلح لتربية المريدين لجهله بمراتب الطريق…وأيضاً فإن الخلوة تَجمع القلب على حضرة الربّ،وما دام العبد لم يدخل الخلوة فهو مع الخلق لا مع الحق جل وعلا. ومعلوم أن الخلق ليسوا بأهل لإفاضة هذه الأسرار والعلوم من ذواتهم،وإنما يُفيضها الحق تعالى عليهم إذا دخلوا في حضرته بعد تهذيب أخلاقهم وزوال رعونات نفوسهم كما هو معروف بين العارفين.
ثمّ اعلم يا اخي أن الفقراء في كل عصر،لم يزل فيهم المحققون والمتشبهون،ولكن كان حزب المحققين غالباً على المتشبهين من عصر أبي القاسم الجنيد،إلى عصر الأشياخ الذين أدركناهم أوائل القرن العاشر في مصر وقُراها،كسيدي الشيخ علي المرصفي،وسيدي أبي العباس الغمري،وسيدي محمد ابن عِنان،وسيدي محمد المُنير،وسيدي محمد بن داود،وسيدي محمد السروى،وسيدي أبي بكر الحديدي،وسيدي أبي السّعود الجارحي،وسيدي محمد الشناوي،وسيدي علي الخواص،وأضرابهم.. فلما درجوا إلى رحمة الله تعالى،تصدّر للطريق من لا يصلُح لها وغلب المتشبّهون من أمثالنا على أهل التحقيق من كُمّل العارفين،وراج أمرهم عند أبناء الدنيا أكثر من أشياخهم. فاستخرت الله تعالى في تأليف هذا الكتاب الفارق بين علامات المحققين والمتشبهين،لينظُر فيه الإخوان ويحكُم أحدهم على نفسه بما يراه فيها من التحقق أو التشبّه،ولا يُحوج غيره إلى أن يُخاطبه بشيء من ذلك.. وضعت هذا الكتاب لمن ينصح نفسه من الإخوان بالأصالة ليترقّى من مقام المتشبّه إلى مقام المتحقّق بالسلوك على يد الأشياخ المحققين من أهل عصره ولا يغشّ نفسه،فهذا هو مقصودي الأعظم من تأليف هذا الكتاب. فليحذر المتشبّه من التكدّر إذا قال له أحد من المحققين إنك يا اخي متشبّه بالقوم ولست منهم،كما يقع فيه بعض أهل الرعونات. فإن أمثالنا ربما لا يصحّ له مقام التشبّه بالمتشبّهين بالمتشبهين إلى عاشر درجة. فإن مشايخ كل عصر إنما هم متشبهون بمن قبلهم،ولذلك كان سيدي عليّ المرصفي يقول للمريد إذا لقّنه الذكر وألبسه الخرقة:يا ولدي إنما نحن من المتشبهين بالمتشبهين بالقوم.. اهـ..
واعلم يا أخي أن من أعظم أركان الطريق الخلوة،ولذلك بسطنا لك الكلام على أسرارها وعلومها،وما تُنتجه من الأحوال الشريفة،وعلوم القرآن المُنيفة،من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس،رحمة بك من أن تتصدّر في الطريق من غير اجتماع الشروط فيك أو تُدخل أحداً الخلوة وأنت لم تتحقّق بنتائجها.. ].. ذ شيد موعشي.