كيف نال الشيخ الأكبر الفتح الأكبر:
بصحبته لكبار الأولياء في الظاهر،قرنها مع صحبته لأرواح الأنبياء في الباطن،لأن كل وليّ على قدم نبيّ..ولما حصلت الجذبة الربانية للشيخ الأكبر،وعمره نحو (14)سنة، أحاطته عناية بعض الرسل،حسبما ذكره في (ديوان المعارف) وفي (الفتوحات)،وخلاصته: [ …أرسل الرحمن لي في أوّل رجوعي للطريق عيسى، وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام في الرؤيا..فعيسى تُبْتُ على يديه ،وأمرني بالزهد والتجرّد،وكنت كثير الإجتماع به في الوقائع،ودعا لي بالثبات على الدّين في الدنيا والآخرة،ودعاني بالحبيب،فهو شيخنا الأول وله بنا عناية عظيمة، لايغفل عنا ساعة واحدة.وموسى بشّرني بحصول العلم اللدُني من علوم التوحيد،وأعطاني علم الكشف والإيضاح ،وعلم تقليب الليل والنهار،فلما حصل عندي،زال الليل وبَقي النهار في اليوم كله، فلم تغرُب لي شمس ولا طلعت.فكان هذا الكشف إعلاماً من الله أنه لا حظّ لي في الشقاء في الآخرة. وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال لي: (يا حبيبي استمسك بي لتَسلم).واستيقظت وأنا أبكي،وقضيت بقية الليل في تلاوة القرآن،وعزمت على التجرّد إلى طريق الله..]..
يقول الشيخ الأكبر في مقدمة كتابه”فصوص الحكم”: [ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة أريتها في العشر الأواخر من محرم،سنة سبع وعشرون وستمائة بمحروسة دمشق،وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب،فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم،خُذه واخرُج به إلى الناس ينتفعون به ،فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا. فحقّقت الأمنية وأخلصت النيّة،وجرّدت القصد والهمّة إلى إبراز هذا الكتاب كما حدّه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان..فما ألْقي إلا ما يُلقى إليّ،ولا أنزل في هذا المسطور إلا ما ينزل به عليّ،ولست بنبي رسول،ولكني وارث ولآخرتي حارث..]. وبحسب هذا السّند المحمدي لكتاب الفصوص،كان الشيخ الأكبر يمنع من جعله تحت نفس غلاف أي كتاب من كتبه الأخرى،حسبما ذكره الجندي في شرحه للفصوص.
يقول الشيخ الأكبر في (الباب 88)من الفتوحات:[فأصل رياضتنا ومجاهدتنا وجميع أعمالنا التي أعطتنا هذه العلوم والآثار الظاهرة علينا،إنما هو من عملنا بالكتاب والسنة.وفيضنا روحاني وإلهي لكوننا سَلكنا على طريقة إلهية تسمى (شريعة) فأوصلتنا إلى المُشرّع وهو الله تعالى،لأنه جعلها طريقاً إليه]..
وقد صرّح الشيخ الأكبر أن ما فصّله في كتبه من حقائق،لم يكن نتيجة دراسات فكرية نظرية ولا اقتباسات من آراء فلسفية،وإنما هو فتح رباني من لُباب النصوص الشرعية.
يقول مثلاً في “الباب الثاني” من الفتوحات: [..فإن الحق تعالى الذي نأخُذ العلوم عنه بخُلوّ القلب من الفكر،والإستعداد لقبول الواردات،هو الذي يُعطينا الأمر على أصله من غير إجمال ولاحيرة،فنعرف الحقائق على ما هي عليه]..
ويردّ الشيخ الأكبر على الذين يزعمون أن هذه العلوم الكشفية الحاصلة لأولياء الله تعالى مقتبسة من النظريات الفلسفية،فيقول في مقدمة الفتوحات: [ولا يحجُبنّك أيها الناظر في هذا الصنف من العلم الذي هو العلم النبوي الموروث منهم،إذا وقفت على مسألة من مسائلهم قد ذكرها فيلسوف أو متكلم أو صاحب نظر في أي علم كان،فتقول في هذا القائل الذي هو الصوفي المحقّق:إنه فيلسوف،لكون ذلك الفيلسوف ذكر تلك المسألة وقال بها وإعتقدها،وإنه نقلها منهم أو إنه لا دين له،فإن الفيلسوف قد قال بها ولا دين له.فلا تفعل يا أخي،فهذا القول قول من لا تحصيل له.إذ الفيلسوف ليس كل علمه باطلاً، فعسى أن تكون تلك المسألة فيما عنده من الحق،ولا سيما إن وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال بها،ولا سيما فيما وضعوه من الحكم والتبرّي من الشهوات ومكايد النفوس وما تنطوي عليه من سوء الضمائر..وأما قولك إن قلت: سمعها من فيلسوف أو طالعها من كتبهم ،فإنك ربما تقع في الكذب والجهل.أما الكذب فقولك سمعها أو طالعها، وأنت لم تُشاهد ذلك منه،وأما الجهل فكونك لا تفرّق بين الحق في تلك المسألة والباطل. وأما قولك عن الفيلسوف لا دين له، فلا يدلّ كونه لادين له ،على أن كل ما عنده باطل،وهذا مُدرك بأوّل العقل عند كل عاقل. فقد خرجت بإعتراضك على الصوفي في مثل هذه المسألة عن (العلم والصدق والدين)، وإنخرطت في سلك أهل الجهل والكذب والبُهتان ونقص العقل والدين وفساد النظر والإنحراف]..
ذ رشيد موعشي