الطبيب المُفتّش عليه والمتعطّش إليه،قد يكون معك أو تُبايعه وتُشاريه ويُجالسك في المجالس،ولا تلتفت إليه،وربما سخرت به لعدم معرفته بالآداب الوقتية والأمورالسياسية والكلمات النفاقية،ولكونه مغموراً بين الناس ومُوافقاً في الإنسانية وفي جميع الأمور العادية،وهو في باطنه مطمئن البال بمولاه مُنعم بما منّ به عليه وأسداه،مشغول اللسان بالذكر والقلب بالفكر على الدوام. ولايشعر به أحد من خلاّنه وأصحابه وجيرانه،ولايعرفون مقامه ولا ما هو مُنطو عليه من الأسرار،وسَنيّ الأنوار المُفاضة عليه في يقظته ومنامه وجلوسه وقيامه وظعنه وقراره.. وتارة يكون شديد الخمول جداً لما يظهر عليه من الفقر المدقع وعظيم الاحتياج،وبسبب ذلك لا يؤبه له،ولا يُبالى بشأنه لفقره الفادح، وتمسكُنه القادح في ظاهر الحال أو لاتصافه بالأميّة. وقد يكون ذا منصب عظيم وجاه عريض عميم، فيُخفي الله أمره وحاله بذلك بحيث لا يظهر عليه شيء من منصبه الباطني أصلاً. على أن أولياء الله الكمّل يحافظون،المحافظة التامة، على ستر حالهم واخفاء ولايتهم. قال الترمذي الحكيم: الولي دائماً وأبداً في ستر حاله والكون ناطق بولايته،ومدّعي الولاية ناطق بولايته والكون يكذّبه اهـ..
فالسادات لمّا رأوا شدّة الظلام في وقتنا هذا، وشدّة اعراض الناس عن الله تعالى والتفاتهم للدنيا، استتروا غاية الاستتار،ولم يظهروا بكرامة ولا بشيء مما هم عليه في بواطنهم المنورة. ونعلم نحن قطعاً أنهم موجودون بين أظهرنا،ولكنهم استتروا كل الاستتار بالأمور العادية والأشياء الشِهاديّة عن أعيننا خشية أن نحول بينهم وبين مطلوبهم بطَلبنا الأمور الدنياوية ونشغلهم بذلك عنه،وحاشاهم أن يشغلهم شاغل عنه.. واعلم أن من سار في الطريق فلا بد أن يصل،إلا إذا لم يكن له دليل،فلربما ضلّ وتاهَ عن الطريق وانقطع.. إذ قلّ أن يُفتح على الشخص بلا مرشد ــ بأن يجتبيه سيده ويجعله من عبيد المنّة،ويتولّى حسن تربيته وإرشاده من غير واسطة شيخ ولا معاناة مجاهدة،وإنما ينظر الحق تعالى إلى قلبه فيجده في غاية الصفاء والتهيّئ لما يُلقيه في باطنه من الأسرار،فيُفيضها عليه على طريق الجذبة،بل ربما منحه ذلك وهوفي حال غفلته والتذاذه بشهوته ،فتهبّ عليه نسمة من رياح الكرم والفضل السابقية فتوقظه من نومته وتُفيقه من سكرته،وفي لمحة تقع الصلحة ــ غير أن هذا قليل جداً،والغالب لا يكون الفتح إلا على يد شيخ كامل.. ولذلك المرشد الكامل المُعوّل في الوصول عليه علامات: فعلامته الواضحة شدّة المحافظة على الشريعة المحمدية والطريقة المرضية المصطفوية. والشريعة هي فعل المأمورات واجتناب المنهيات ،والطريقة هي تتبع الأفعال المحمدية الشريفة والعمل بها،وقيل هي الأخذ بالأحوط من المأمورات وترك المنهيات والإقتصار على الضروريات من جميع المباحات.والاقتصار على ذلك إنما هو في ابتداء الأمر وسلوك الشخص في الطريق زمان المجاهدة،لادائماً،ولذلك نجد السادات الكمل يتنعّمون بعد الفتح الكبير بالطيبات من أنواع المباحات لاستيلائهم على نفوسهم وصيرورتها تحت قهرهم. وأما الحقيقة فهي أسرار الشريعة..ونتيجة الطريقة هي علوم ومعارف تحصل لقلوب السالكين بعد صفائها من كدرات الطبائع البشرية بكثرة الأذكار مع الآداب المعروفة عندهم..فمن تشوّفت نفسه لطلب الكمال فليبحث على طبيب يُزيل عنه أمراض نفسه الباطنية،وهو الشيخ المرشد الكامل السالك الواصل العارف بالطب الروحاني ــ وهو العلم بكمالات القلوب وآفاتها وأمراضها وأدوائها، وكيفية حفظ صحتها واعتدالها ــ المأذون له في الإرشاد ظاهراً وباطناً من شيخه.. وقد تكفّل الشريشي في رائيته المشهورة بذكر أوصافه وعلامته..
كتاب:نثْر الدّرّ وبَسطُه في بيان كون العلم نقطة) للشيخ أحمد بن محيي الدين بن مصطفى الحسني
.جمعه ذ .رشيد موعشي