_ السؤال (12): كيف تكون صِفَة سَيرهم،يعني إلى هذه المجالس والحديث ابتداءً؟ _
الجواب: بالهِمَم المُجرّدة عن السّوى. وبَسط ذلك هو أن نقول: إن الأمور المعنوية،التي لا تقبل الموادّ ولا تُحدّدها،لا يَصحّ السّير إلى تحصيلها أو تحصيل ما يكون منها بقَطع المسافات وتذريع المساحات. لكن قد تقترن بالهمّة حركات مادية مَبناها على علم أو إيمان،بشرط التوحيد فيهما. فأما سَيرهم من حيث ما هم علماء: فبتصفيّة النفوس من كدورات الطبيعة،واتّخاذ الخلوات لتفريغ القلوب عن الخواطر المُتعلّقة بأجزاء الكون،الحاصلة من إرسال الحواس في المحسوسات،فتمتلئ خزانة الخيال فتُصوّر القوة المُصوّرة منها بحَسب ما تَعشّقت به من ذلك،فتكون هذه الصور حائلة بينه وبين حصول هذه المرتبة الإلهية. فيَجنحون إلى الخلوات والأذكار على جهة المَدح لمَن بيده الملكوت. فإذا صَفَت النفس وارتفع الحجاب الطبيعي الذي بينها وبين عالَم الملكوت،انطبع في مرآتها جميع ما في صور عالم الملكوت من العلوم المنقوشة،فيَطّلع الملأ الأعلى على هذه النفس التي هي بهذه المثابة،فيرى فيها ما عنده فيتّخذها مَجلى ظهور ما فيه،فيكون الملأ الأعلى مُعيناً له أيضاً على استدامة ذلك الصّفاء،ويحول بينه وبين ما يقتضيه حجاب الطّبع. فتتلقّى هذه النفس من العالم العُلوي بقدر مُناسبتها منهم من العلم بالله،فيؤدّيه ذلك العلم إلى التلقّي من الفيض الإلهي،ولكن بوساطة الأرواح النوريّة،لا بد من ذلك،فيُسمّون ذلك سَيراً.. ولولا تعلّق الهمّة بتحصيل ما تقرّر عندها مُجملاً ما صَحّ له توجّه إلى الملأ الأعلى..
فإن اتّفق أن يكون هذا الرجل،في سَيره مع علمه،مؤمناً،أو يكون صاحب إيمان من غير علم،فإن همّته لا تتعلّق إلا بالله. فإن الإيمان لا يدُلّه إلا على الله،والعلم إنما يدُلّه على الوسائط وترتيب الحكمة المُعتادة في العالَم. فصفة سَيْر أصحاب الإيمان: ما لهم طريق إلى ذلك إلا بعزائم الأمور المشروعة،من حيث ما هي مشروعة. وهم على قسمين: طائفة منهم: قد ربطت همّتها على أن الرسول إنما جاء مُنبّهاً ومُعلّماً بالطريق الموصلة إلى جناب الحق تعالى،فإذا أعطي العلم بذلك زالَ من الطريق وخَلّى بينهم وبين الله. فهؤلاء إذا سارعوا أو سابقوا إلى الخيرات وفي الخيرات،لم يَروا أمامهم قَدَم أحد من المخلوقين،لأنهم قد أزالوه من نفوسهم وانفردوا إلى الحق،كرابعة العدوية وعبد القادر الجيلاني وأبي السّعود بن الشبل. فهؤلاء إذا حَصَلوا في المجالس والحديث،خاطَبهم الحق بالكلام الإلهي،من غير وَساطة لسان معيّن. وأما الطائفة الأخرى: فهم قوم جعلوا في نفوسهم أنهم لا سبيل لهم إليه تعالى إلا والرسول هو الحاجب،فلا يشهدون منه أمراً إلا ويَرون في سَيرهم قَدَم الرسول بين أيديهم،ولا يُخاطبهم الحق إلا بلسانه ولُغته،كمحمد الأواني.. وأصحاب الإيمان إذا كانوا علماء لهم الأمرين،فهم أكمل الرجال،بشرط أنهم إذا ساروا إليه وأخذوا مجالسهم عنده بالحديث المعنوي وحديث السّمع ــ رأوا سَريان سَيره تعالى في الموجودات من قوله: “من تقرّب إليّ شِبراً نقرّبت إليه ذراعاً”،ومن كونه ينزل إلى السماء الدنيا التي لا أقرب منها،فإنها أقرب من حبل الوريد. فالتَحق عنده عالَم الطّبع بالعالَم الروحاني،وعادَ الوجود عنده كُلّه ملأ أعلى ومكانة زُلفى،فلم يحجُبه كون ولا شَغله عَيْن،واستوى عنده الأين وعَدَم الأين،وكان وما كان. فرآه في الحُجّاب والعَسَس،وسَمع كلامه وحَديثه في الغَتّ والجرس. ومنهم من كان سَيره فيه بأسمائه،فهو صاحب سَير “منه وإليه وفيه وبه”. فهو سائر في وُقوفه،واقف في سَيره. والخضر والأفراد من أهل هذا المقام. ومن هنا كانت “قرّة عَينه” صلى الله عليه وسلم “في الصلاة”،لأنه مُناجٍ مع اختلاف الحالات المحصورة،من قيام وركوع وسجود وجلوس،ما ثَمّ أكثر من هذه الأركان،وهي حالات تَربيع روحاني،فأشبهت العناصر في التربيع. فحَدثت صور المعاني من امتزاج هذه الحالات الأربعة،كما حَدثت صور المُولّدات الجسمية الطبيعية من امتزاج هذه العناصر.
حصل المقال على : 208 مشاهدة