شرح أبيات الشيخ الأكبر ابن عربي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الانبياء والمرسلين،وعلى مولاتنا فاطمةَ الزهراء سيدة نساء العالمين ،وعلى سيدتنا خديجةَ الكبرى امِّ المومنين ،وعلى اله وصحبه اجمعين


التجليات يسميها العارفون كذلك الأعراس الإلهية،أوالواردات بالحقائق والمعاني حين تنزل على قلب العبد،وسميت أعراسا من التعريس وهو نزول المسافرفي منزلة معلومة. التجليات الإلهية هي علة ظهورأعيان الموجودات،وهي بذاتها علة المعرفة التي يقدفها الله في قلب المومن،بعد أن تُجْلَى مرأة قلبه،بالطاعات والمجاهدات،وبتوجيه الهمة إلى الله تعالى وحده،فلايتوكل على غيره، ولايرى فاعلا سواه،فيرحل صعودا عبر دوائر الوجود حتى يصل إلى المشاهدة التامة بعين البصيرة ،فيستيقظ من نومه” الناس نيان وإذاماتوا اسيقظوا”والصوفي موته بموت نفسه،وغفلته برؤية السوى،فالعارف عندما يصل إلى هذه اليقظة المشاهداتية لايرى إلا وجه الله ،وإن اختلفت الصور،وتعددت المظاهر﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾.

ويقسِّم ابن عربي التجلي الى قسمين:وجودي وشهودي . يقول في التجلي الوجودي (الفتوحات ج1 ص 166 ): وتجلي الحق لكل من تجلى له من أي عالم كان،من عالم الغيب أو الشهادة ،إنما هو من الإسم الظاهر،وأما الإسم الباطن فمن حقيقة هذه النسبة أنه لايقع فيها تجل أبدا،لافي الدنيا ولافي الاخرة. أما التجلي الشهودي :فهو التجلي العرفاني المتصل بطبيعة المعرفة باعتباره نوع من أنواع الكشف الذي يورث المعرفة. ويقول(فصوص الحكم ج1 ص 133):فلم يبق العلم الا في التجلي الإلهي،وما يكشف الحق عن أعين البصائروالأبصار من الأغطية، فتدرك الأمور قديما وحديثا،على ماهي عليه في حقائقها وأعيانها اهـ. وكذا قوله في الفتوحات ج2 ص132″….التجلي …ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب..اهـــ.

والحقيقة أم الشريعة،والشريعة من جملة الحقائق،والحقيقة مبطونة في المظاهر،كبطون الزبد في اللبن،وككمون النارفي ذاتية الماء الحار، فصورة الماء ماء،وفي الحقيقة نار تحرق،بغير أن تجانس النارالماء،ولا أن تمازجه،فهي متصلة بالصفات منفصلة بالذات.إنما قرب الماء من النار كساه صفتها النارية،فصار محرقا. والحقيقة تابعة للتجليات الالهية ،التي ترجع الى عين واحدة هو اسم الجلالة (الله).

قال الشيخ الاكبر ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلا كلَّ صورةٍ
فمرعى لغزلان ودير لرهبانِ
وبيت أوثان وكعبةَ طائفٍ
وألواح توراةٍ ومصحفَ قرآن ِ
أدين بدين الحُبِّ أنّى توجّهَت
ركائبُهُ فالدين ديني وإيماني
هذه الابيات تتكلم عن وحدة التجليات الالهية،وان هذه التجليات راجعة على حقيقة واحدة اسم الجلالة (الله).

(لقد صار قلبي):عبر بالقلب،لأن قلب العارف صاحب مقام وحدة الشهود،يتقلب مع التجليات الإلهية.ومنها الجمالية وهي التي وصفها، (بمرعى غزلان)فما في الوجود الاتجليات الاسماء الإلهية،ومقتضياتها، والاسماء الإلهية حسنى،ولايصدر عنها الا الحُسْن(وَقِيلَ لِلّذِينَ اتّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ خَيْراً)فما في الكون الا الجمال لأن مبدعه جميل. اما الجلال المحض فالنبوة المحمدية،حاجز دونه(وَمَاأَرْسَلْنَاكَ إِلَّارَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)فلا يوجد فيه الا جمال الجلال،لوساطة النبوة. تشاجربين الأسماء الإلهية كل يجر الى دائرته ﴿قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ﴾﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (فاطر 15)فكل مايفتقر إليه يصب في مقتضى اسم من الأسماء الإلهية فقر اضطراري، لا اختيار للعبد فيه﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾:
يقول الجيلي :
تجلى حبيبي في مرائي جماله●ففي كل مرئى للحبيب طلائع
فلما تجلى حسنه متنوعا ●تسمى بأسماء فهن مطالع
(ودير رهبان)ينتقل ابن عربي الى وصف التجليات الواردة على قلبه وأنها احيانا تنتج مجاهدات،وخلوة فتفرغ قلبه من السوى،ولا يشغله شيء عن الله في خلوته القلبية.وأصحاب مقام المشاهدة ،العزلة ذاتية لهم، استوت عندهم الخلوة والجلوة.لايشغلهم فرقهم عن جمعهم.ولا جمعهم عن فرقهم.
والرهبانية كما أخبرنا القرءان بدعة(وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّاابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَارَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوامِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)ابتغوا بها وجه الله لكن منهم من رعاها حق رعايتها فٱتاه الله اجره…ومن لم يرعاها فهو من الفاسقين.
وهناك مناسبة بين قول ابن عربي(مرعى)وقوله تعالى(فَمَارَعَوْهَا).

(وبيت أوثان)الكون الإلهي يسير تحت سلطان التجليات الإلهية.التجلي هوالحاكم في الوجود،ويسيره وفق إرادة الله. فالحق تعالى لايعصى كرها(وَلَوْشَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)ولايعبد بدون ارادته وموافقته (وَمَاكَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ). قال تعالى(مَّامِن دَابَّةٍ إِلَّاهُوَآخِذٌ بِنَاصِيَتِهَاإِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) فالدابة ناصيتها بيد الرب،والرب على صراط مستقيم،فلا شك أن الدابة على صراط مستقيم.واعوجاج القوس استقامته لما اريد له.لو استقام القوس اما أدى مهمته.والكل يسير وفق الإرادة الإلهية…لهذا قال(وبيت أوثان)لأن مافيه الا استقامة الرب،واستقامة التجليات،ولا فاعل الا الله. (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا)فحقيقةً الوجود كله، يسبح، ويسجد، ويصلي.
فابن عربي يتكلم عن حقيقة الامور،وشاهد بقلبه هاته التجليات التي تشمل عبدة الاوثان،وهذا لايعني انه يقبلها شريعة،انما الحقيقة اقتضت ذلك. قد آرى الله مظاهرهذه التجليات لسيدنا ابراهيم قال تعالى(وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)راى الملكوت لا الملك،الملك ظاهر للكل.كما رآها ابن عربي.﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي)(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ). (قَالَ هَـذَا رَبِّي) فلولا الهداية الإلهية لضل الله يعبد في صور تجلياته في الوجود.(لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) . قال(قابلا كل صورة)ولم يقل كل حقيقة،فلكل صورة حقيقة.وكل حقيقة تستمد حقيقتها من حقيقة الحقائق،والنور الاسبق الخلائق.
(وكعبة طائف)طائف من الملائكة،ومن صالحي الجن ومن المسلمين.
كل التجليات الإلهية تنطلق من البيت المعمور،وتطوف بالكعبة الشريفة، حتى تصل الى المعني بتأثيرها.قال تعالى(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ)للناس. كل الناس،مومنهم وكافرهم.التجليات التي تخصهم تمر من الحجرالاسعد لتصلهم. وللقلب عين،هي البصيرة.فالعارف صاحب وحدة الشهود يراها ببصيرته.
(وألواح توراة) إشارة إلى الشرائع الأحمدية.والى الوراث الموسويين ففي الالواح كتب كل شيء،يخص زمان موسى وتجليات عصره(وَكَتَبۡنَا لَهُۥفِی ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَیۡء مَّوۡعِظَة وَتَفۡصِیلا لِّكُلِّ شَیۡ).
(ومصحف قرءان)ختم كلامه بالقرءان إشارة إلى العلوم اللدنية المحمدية والنفحات العرفانية،ولأن الشرائع كلها موجودة في القرءان (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)وسيدنا محمد هو(رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ)(سورة البقرة)،والعندية ظرف زمان ومكان فالاية تشير الى ظهور جسمه الشريف،أما قوله تعالى و(رَسُولٌ مِّنْ اللَّهِ)(سورة البينة) فتشير الى النبوة القديمة التي لا علاقة لها بالزمان ولا بالمكان (كنت نبيا وءادم منجدل في طينته).قال تعالى (رَسُولٌ مِّنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً)كلمة قرءان وصف من فعلان،اسم فاعل،مشتق من القرء،أي الجمع والضم،والقراءة ضم الحروف والكلمات بعضها لبعض،،والايات،والسور،ومنه قرأت الماء في الحوض أي جمعته.خص بهذا الإسم ولايسمى به غيره.غيره ليس مقروءا بحق،ولامتلوا بحق.فلا يقال لجمع كل كلام قرءان،فهو قرءان بعد جمعه بين دفتين.أما الصحف،ففيها مواعظ،وأحكام،وعِبَرٌ تخص مسألة معينة،و تعني نبيا معينا.أخذ منها نوح وابراهيم وموسى (فيها كتب قيمة)أي جزء من الكتاب الكلي . قال تعالى(هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي)هذا اشارة الى القرءان،ذكر من قبلي،من الأنبياء.أي ما جئتكم هو الشمولي وليس هناك شئ اخر… لذا عندما قال تعالى(رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ)ذكر الكتاب(كتٰب الله)وعند ذكر (رَسُولٌ مِّنْ اللَّهِ)”تكلم عن الصحف(صُحُفًا مُّطَهَّرَةً) فناسب كل اية بما يليق بها.لهذا قال ابن عربي (مصحف قرءان)ليجمع بين الشرائع الأحمدية والشريعة المحمدية.
أما(دين الحب)فهو إشارة إلى الحديث الصحيح كشفا عند الصوفية.الغير الوارد نقلا عن رسول الله،وهو: كنت كنزا مخفيا،فأحببت ان اعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني.فبالحب ظهر الوجود،وبسيدنا محمد عرف الخلائق الرب المعبود.(فبي = 92= محمد)والدين الخالص الذي جاء به سيدنا محمد،هو دينه يومن بكل ما جاء به. كما يشير(بدين الحب)الى شدة اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، فكلما ازدادت المحبة.ازداد الاتباع ،وكلما ازداد الاتباع ،ازدادت المحبة. (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) . ‏ذكر الشيخ الاكبر(دير لرهبان)اشارة الى العلوم العيسوية،وذكر (ألواح توراة)اشارة الى العلوم الموسوية،وذكر(مصحف قرآن) اشارة الى العلوم اللدنية المحمدية،وأنها جامعة لما تفرق في غيرها من الشرائع من علوم واسرار وحقائق ،وكلها واردات قلبية تشير الى وحدة التجليات الالهية.
والوهابية،واعداء التصوف،وحتى بعض المتصوفة.ظنوا ان الشيخ الأكبر يقول بوحدة الاديان،وهو انما يشير إلى وحدة الشهود،التابعة لوحدة التجليات الإلهية،الراجعة الى بساط الاصطحاب،والى المصطحب معه سيدنا محمد نبي الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى الوارد بالابيات الثلاثة،ورد كذلك في الفتوحات المكية الجزء 3 ص 132 قال:
عقد الخلائق في الإله عقائدا *وأنا شهدت جميع ما اعتقدوه
(أنا شهدت)اشارة الى المشاهدة،أي مشاهدة التجليات الالهية،وسلطانها الحاكم على كل خبايا الوجود.شاهد بعين بصيرته كيف تنفعل التجليات في الخلائق، وأنها هي المسيرة له ،لا يظهر فيه الا مقتضياتها. أعداء التصوف حرفوا البيت وقالوا:
عقد الخلائق في الإله عقائدا *وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
(وأنا اعتقدت)بمعنى ان ابن عربي يعتقد في وحدة الأديان،وبالتالي فلا عقاب ولاحساب.
فما في الوجود الاتجليات الاسماء الالهية،هي الحسنى ولاينتج عنها الا الحُسن ،اي الجمال لهذا أخبرنا بمرعى الغزلان،ولم يذكرعرين الاسود.
يقول الجيلي:
فكل قبيح إن نسبت لحسنه
أتتك معاني الحسن فيه تسارع
وابن الفارض كذلك يقول.
وصرح بإطلاق الجمال ولاتقل
بتقييده بزخرف زينة
فكل مليح حسنه من جماله
مُعارله بل حسن كل مليحة
لا ادري هل سبق وان شرحها احد الصوفية.على اي كلامه يشير إلى وحدة التجليات الإلهية،والى وحدة الشهود،ولاعلاقة له عرفانيا وذوقيا بوحدة الاديان. العارفون المشاهدون للتجليات الإلهية،يرون أنفسهم بين تجل وتجل.هم بربهم ومع ربهم،لايرون فاعلا غيره يحركهم كيف يشاء،يقولون ماذا سيفعل بنا غدا،وغيرهم يقول ماذا سأفعل غدا.وهذا هو توحيد المقربين الذين لايرون في الكون الا الصفة(أحد محمد)وهو المقام الذي سماه الترمذي مقام القرب،أشارإليه الشيخ ابن عربي ،وذاقه كذلك الإمام الجيلي رحم الله الجميع. يقول عنه الحاتمي أنه مقام فوق مقام الصديقية،وقد أنكر الغزالي وجود هذا المقام وقال :رقاب الصديقين لاتتخطى. فلاعلاقة للخالق بالمخلوقات،ولا وجود لوحدة الوجود،ولا لوحدة الاديان، ولا للدين الابراهيمي المصطنع أخيرا.إنما هي وحدة الشهود، شهود سريان الحقيقة المحمدية في كل جزئيات الوجود،لهذا يكون التجلي الإلهي يوم القيامة في صورالمعتقدات،أي التجلي في المقتضى(في الدنيا التجلي يُظهر المقتضى)وتكون وحدة التجليات الإلهية مشهودة،لجميع الخلائق. وصلى الله على سيدنا محمد نبي الله ،وعلى الزهراء بَضعة رسول الله ،وعلى اله وصحبه. محمد بن المبارك غشت 2023 الموافق لمحرم 1445.
من اراده على شكل ب د ف فليراسل بريد المدونة او قناة التصوف السني العرفاني على تلغرام رقمها

091 092 57 6 212

حصل المقال على : 808 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد