تلخيص لكتاب
المؤلف: الشيخ العارف سيدي محمد عبد الحيّ الكتاني. عنوان الكتاب كاملاً هو: [كيف نشأ التصوف الإسلامي،وظهرت الطّرق الصوفية واختلفت واتّفقت،وتاريخ الزّوايا في الشمال الإفريقي وتسمية الظاهر منها،وآثارها في الدّعاية للإسلام وثمراتها الملموسة]. هذا الكتاب في أصله عبارة عن محاضرة ألقاها الإمام المصنف في مكتبته العامرة بمدينة فاس سنة 1374هـ،في المؤتمر العام للطّرق الصوفية الذي انعقد بمكتبته،وحضره آلاف المريدين والشيوخ والعلماء والوجهاء والأعيان.. وختم كتابه بكلمات توجيهية حول عصره،والحرب الضروس التي كانت مُستعرّة ضد الطّرق الصوفية وأهلها..
تمهيد: أصل التصوف من السنّة ذكر الشيخ الكتاني حديث جبريل حول: الإسلام والإيمان والإحسان.. ثمّ قال: عُلم من هذا الحديث الشريف، وغيره،أن الدّين مجموعة: الأول: “إيمان”: وهو ما يَرجع إلى المعتقدات،كالتصديق بالله ورسوله،وبما جاء عن الله ورسوله. الثاني: “إسلام”: وهو ما يَرجع إلى الأعمال القولية والفعلية،والبدنية والمالية،والمُرَكبة منهما كالحجّ. الثالث: “إحسان”: وهو ما يَرجع شيئاً للآداب والأحوال الواجبة على العبد حال العبادة ومعها. والمسلم مُكلّف بجميع ذلك،ولا يُمكنه أن يكون مؤمناً مسلماً إلا بمعرفة ما يَعتقد والجزم به،والعلم بما يعمل حُكماً وكيفية،والعمل به. وعلم الأدب المطلوب في مقام الإحسان،والتخلّق بذلك قَلباً وقالباً. فقام المتكلّمون ببَيان المعتقدات،والفقهاء ببَيان العمليات،والصوفية ببَيان الأدبيات،ولذا يقولون: “التصوّف كلّه أدب”.وكلّ شيء مأمور به في الثلاثة،له ضدّ مَنهيّ عنه. فمن استكمل المقامات الثلاثة،فقد كمّل دينه،ومن لا فدينه ناقص،يجب على المكلف إزالة نَقصه. وبهذا تَعلم أن علوم الدّين: منها: ما يتعلّق بظاهر العبد وجوارحه، من طاعة أو معصية،وهو المسمّى في الاصطلاح: فقهاً. ومنها: ما يتعلّق بباطنه وقَلبه،وهو علم المعتقدات،ويُسمّى: إيماناً وتوحيداً. ومنها: علم الأدبيات،ويسمّى: تصوّفاً. لأن الإحسان هو: الإتقان،وتفسيره في الحديث بقوله: “أن تعبد الله كأنك تراه،فإن لم تكن تراه فإنه يراك”،من باب تفسير الشيء بسببه توسّعاً: لأن من عمل وهو يُشاهد الرّقيب،ويعلم أن عليه في عمله رقيباً،فإنه لا يَدع شيئاً من وُجوه الأدب والأدبية والإتقان إلا ويأتي به.. وعلم الإحسان واجب على الأعيان وُجوب الإيمان والإسلام.
حقيقة التصوف وقد اختلف في حقيقة التصوف على نحو من ألفي قول، كلها راجعة: لصدق التوجّه إلى الله بما يَرضى من حيث يَرضى،وإنما تنوّعت الأقوال بحسب تنوّع الأحوال. وقد اختلف في اشتقاقه على أقوال: فقيل: من “الصّوف”،لأنه غالب لباس القوم. أو من “الصفّة”،لأنه اتّصاف بالفضائل وتَخلّ عن الرذائل. وقيل: من “الصفا”،قال أبو الفتح البُستي: [تَخالَف الناس في الصوفي واختلفوا // وكلّهم قال قولاً غير معروف. ولست أمنح هذا الاسم غير فَتىً // صَفا فصوفيَ حتى سُمّي الصّوفي.]. وقيل: سُمّي بذلك لأنه يُصفّي القلوب من كدَرات النفس وصفاتها المذمومة.. وقيل: من صُفّة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم،وهي دَكّة كانت في آخر المسجد النبوي،كان يَجلس فيها من الصحابة من لا عمَل له ولا كسب،إلا الانقطاع لتلقّي الوحي الطريّ ووَعْيه،والسّهر في تبليغه، والقيام بنَشره في الجهات على حسب الظّروف والأحوال والماجَرَيّات التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وكان أهل الصفّة هؤلاء نحو أربعمائة رجل من مهاجري قريش، لم يكن لهم مسكن في المدينة ولا عشائر،فكانوا في صفّة المسجد يتعلّمون القرآن بالليل ويَرضخون النّوى بالنهار،وكانوا يَخرجون في كل سَريّة بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال الحافظ مؤرّخ الإسلام تقي الدين المَقْريزي في كتابه (الخطط): [ولاتّخاذ الرُّبُط والزّوايا أصل من السنّة،وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم اتّخذ لفقراء الصحابة الذين لا يَأوون إلى أهل ولا مال مكاناً من مسجده،كانوا يُقيمون به، عُرفوا بأهل الصفّة.]. وقال الأستاذ العرف أبو عثمان سعيد بن أبي جعفر التّجيبي الأندلسي في رسالته (الأنالة العملية): [إن الفقراء المتجرّدين من الصوفية هم الذين وَرثوا أهل الصفّة في الجلوس في المساجد والرّبُط،والتجرّد وقلّة التكسّب. والناس يُنكرون على الفقراء هذه الصفة وهي السنّة،لأن السنّة في عُرف الشّرع: ما أقرّه صلى الله عليه وسلم أو علِمه أو عمله. وكان صلى الله عليه وسلم يُحسن إليهم ويُواسيهم،ولم يأمرهم بتكسّب.]. فالزّوايا والرّبُط،اتّخذت في القرون الأولى الإسلامية وما بعد،تشبّهاً وتبرّكاً وتفاؤلاً بالصفّة التي كانت بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم،ليأوي إليها الفقراء الذين لا أهل لهم ولا مال معهم.. قال الله تعالى: (للفقراء الذين احصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يَحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً). نزلت هذه الآية في أهل الصفّة، وهم أربعمائة من المهاجرين: أرْصِدوا لتعلّم القرآن،والخروج في السّرايا والبعوث،وسُعاة البريد في زمن الوحي. (لا يستطيعون ضرباً في الأرض) أي: سَعياً في الأرض للتجارة والمَعاش،شغلهم الدّين ونَقلُه وحفظه.. (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف تعرفهم بسيماهم) علامتهم التواضع والجهد. (لا يسألون الناس إلحافاً) فلا يقع منهم إلحاح في السؤال،وكانت نفقتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت المال،وكان كل يأتي بفضلة من أكله،وفي بعض الأحيان: يُصبحون في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم،فينصرف كل رجل برجل أو رجلين،وما بقي من أهل الصفّة يُؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم فيتعشّى معه. فمن هنا نشأت الزّوايا والرّبُط في الإسلام،واتّسعت دائرتها في الدول الإسلامية، حسب أعراف كل أمّة وقواعدها،ومن ثَمّ نشأت الطّرق الصوفية أيضاً. كما اشتغل قوم بتعاطي معرفة الحلال والحرام سُمّوا الفقهاء،وتوسّعت حلقاتهم بعد في سائر ديار الإسلام ودُوله،وكثُرت المصنفات في مذاهب الفقهاء، وبُنيَت لهم المدارس والمساجد.وهكذا في جميع ما تفرّع عن القرآن والسنّة،من علوم ومبادئ وفنون، وأصول وفروع،واتّخذ كل ذي نِحلة وغاية وفنّ اسماً،كاللغويين والنّحاة والمتكلمين والأصوليين.. كل اعتنى بمقوّمات الملّة والأمّة والدولة،فكل في بابه وحرفته وفنّه. ولا يتكوّن مجموع الأمة وتكون له قوّة ونُفوذ،وحفظ كيان علمي أو عملي،إلا بقيام هذه الفئات،كل في دائرة اختصاصه وعمله ومذهبه وآدابه.. (ولكلّ وجهة هو مُولّيها).
ما نالَ التصوّف من القُصور نالَ شتّى مجالات الدّين وبكلّ أسف،نَرى الناس في سائر الأعصار،يَخُصّون باللّوم والتّقريع فريقَ الصوفية وحدَهم، ويَحملون عليهم الحملات. مع أن: الفقهاء والنّحاة،والقواد والصّنّاع، والوزراء والقضاة والعدول،والتجّار والفلاح،وكل أصحاب عمل في تكوين الدّلوة العلمي والعملي: فيهم من أحدَث وزوّق وتَساهَل. فسَوْط الشّرع والإنكار على المتنطّعة والمشعوذين في كل نِحلة وباب،ومشروع الإصلاح والترميم والتزيين،يَجب أن يتناول جميع الوِجهات،ويَلج النّقد جميع الأشكال والألوان،لا لون التصوّف وحده أو الطّرق الصوفية وحدها أو الفقر والمُتَفقّرة وحدهم أو الزّوايا وحدها. والإنسان العاقل لا أعزّ إليه ولا أجلّ من سماع النّصح النّزيه والنّقد الوجيه،ولكن خير النّصح: ما كان بمقتضى تعاليم القرآن.. ونحن نَرى أنه إذا تَسرّب اعتقاد الفساد إلى الفروع،بعد الإجماع على سَلامة الأصول، فالأولى أن يكون الإصلاح بطريق التي هي أحسن،فإذا كانت بالتي هي أخشن، آلت النصيحة إلى ما لا تُحمَد عُقباه،ويحصُل منها خلاف ما نتمنّاه. ومن أوسع النّصح وأرشَد طرق الإرشاد العالي،قول الله تعالى له صلى الله عليه وسلم: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن). فبدأ طرق الدعوة بشرط كونها بالحكمة،والحكمة: هي وضع الشيء في محلّه، والعمل على تعليم الناس صغار المسائل قبل كِبارها. وإذا لم تَنجح الدعوة،رجع إلى درجة ثانية من الموعظة،ولكن بشرط أن تكون حسنة المفعول،واضحة الدّلالة،مُبلّغة المقصود،واضحة الإخلاص من سوي السّريرة والعلانية. فإذا لم تنفع الثانية،رجع إلى المرتبة الثالثة وهي: الجدال،ولكن بالتي هي أحسن إقناعاً وأبلغ دلالة..
المُراد بالطريقة والطّرق كما قالوا في قولهم: “طريقة الجنيد”،والمراد بطريقة الجنيد: مذهبه في العمل على تخليص القلب من الرذائل القاطعة له عن الله،الموجِبة لبعده عن حضرته، وتَحلّيه بالفضائل المنوّرة للبصيرة، المُطهّرة للسريرة،الموجِبة للتقريب من الله ودخول حضرته. وذلك متوقّف على معرفة حقائق الأمراض وأسبابها،وكيفية علاجها. ولعلاج تلك الأمراض أسباب وطُرق شتّى،كعلاج الأمراض الظاهرة: (قد عَلم كلّ أناس مَشربهم)،(تُسقى بماء واحد ونُفضّل بعضها على بعض في الأكْل). يقول السيّد الجرجاني في (التعريفات): [إن الطّرق: هي السّيْر المُختصّة بالسالكين إلى الله،مِن قَطع المنازل والترقّي في المقامات]. وتختلف الطّرق باختلاف السير والأعمال التي هي رواحِل لقَطع المنازل وسُلّم للترقّي في المقامات. وسبب اختلاف طرق المشايخ في السّلوك والإرشاد،باختلاف حال السالكين والمُسلّكين،والأعصار والأمصار، والأذواق والطقوس. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلّم بعض أصحابه شيئاً ويأمُره باستعماله،ويَسلك بآخر غير ذلك. فكم من مرّة سُئل صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال، فكان يُجيب كل سائل بحسب ما يقتضيه حال السائل وسلوكه.. فلا شكّ أن التربية والتهذيب والتأديب المعنوي يختلف باختلاف الأشخاص والإستعدادات،وتنوّع القابليات، وتفاوت تأثيرات الأسماء والأذكار والأوراد،كما تتفاوت تأثيرات أدوية أمراض الأبدان والأجساد.. وللشيخ الكامل حظّ أوفر من إشراق نور سيّد البشر،فلا يَبْعُد أن يَنكشف له في شأن داخل طريقته نحو ما كان ينكشف له صلى الله عليه وسلم في شأن المُتشرّف بصحبته. قال الشيخ زروق في قواعده: [أخذ العلم والعمل عن المشايخ،أتَمّ من أخذ دونهم..]، وقال أيضاً: [تعدّد وُجوه الحُسن يقضي بتعدّد وجوه الاستحسان..]. وقد سُئل علامة بغداد الشهاب محمود الألوسي،كما في رحلته (رغائب الاغتراب ونزهة الألباب): كيف يقولون “الطّرق إلى الله على عدد أنفاس الخلائق”،مع إدخالهم ألوفاً في طريقة واحدة؟ الجواب: [إن لكل طريقة من الطّرق المعروفة عرضاً عريضاً،كما أن للشريعة المطهّرة ذلك،ففيها شِعاب،كل شَعْب منها طريق، فإن ما يَصل به شخص إلى مولاه عز وجل غيرَ ما يصل به الآخر، لاختلاف التجليّات. والمراد بقوله: “بعدد أنفاس الخلائق” مجرّد التكثير،ويجوز أن يُراد بتلك الطّرق: تجلّياته تعالى على السالكين المتوجّهين إلى حضرته الجليلة الشأن، فله عز وجل،شأنه في كل آن ونفس،تجلّ خاص على كل سالك،ولا يشترك اثنان في تجلّ واحد،ولا يتكرّر تجلّ لواحد على ما يقولون..].
أصول الطّرق وتعدادُها،والكتب المؤلّفة في ذلك في هذا الوَصْل أذكر أصول الطّرق وتِعدادَها،والكتب المؤلفة في ذلك للمشارقة والمغاربة من القرن الثامن إلى الآن. يقول الشيخ فارس السّناسِن الحنفي السهروَرْدي طريقة،السوداني: [إن الطرق الصوفية الموجودة في هذا الزمان محصورة في أربعة لا خامس لها،كالمذاهب الأربعة،وهي: الغزالية والقادرية والرفاعية والشّاذلية]. وكأنه يُشير إلى أصول الطّرق في الغالب،وإلا فالطّرق لا تنحصر أصولها في هذه الأربعة كالمذاهب، فإنها أكثر من أربعة،إذ المذاهب الفقهية المستعملة والمندرسة أكثر من العشرين، وانحصارها اليوم في أربعة بحسب الشّهرة والظّهور عند أربابها.. قال الشيخ جَسّوس في شرح توحيد “المرشد”: [وقد رجعت الطّرق إلى أربعة: شاذليّة،وهي قسمان: زَرّوقية وجَزولية،وقادرية ورفاعية وغزالية. والمشهور منها في المغرب: الشاذلية]. والطّرق المعروفة المستعمَلة الآن في العالم الإسلامي أو المنقرضة كثيرة،ربما ناهَزت الأربعمائة طريقة،حتى إنها أفردَها الناس بالتآليف العديدة،كل حسب اطّلاعه،أو ما عُرف في جهته وإقليمه أو عصره.. _ وأول من علمته ووجدته أفردها بتصنيف: الإمام الحافظ المسند أبو الفُتوح الطّاوسي (ت 871هـ)،وهو في نحو ثلاثين ورقة،قال في أوله: [أما بعد،فإن هذا مختصر التقطته بالتماس بعض أحبّتي،في نسب خرقتي،التي انتهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة كبارالأولياء الذين نُسبت الخرقة إليهم واشتهرت بهم،لعُلو مرتبتهم وسُمو درجتهم،وسمّيته “جمع الفِرَق لرفع الخِرَق”.]،وقال: [إن من كمال فضل الله عليّ: أن تنتهي خِرقتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة ثمانٍ ممّن أخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة،وسمّيناهم “الوسائط الثمانية”،وإلى كل من هذه الوسائط بطريق مَرّ بها من تلك الواسطة بلا واسطة، وسمّيناهم “الطّرق”.. الواسطة الأولى: الخضر،ثمّ إلياس. الواسطة الثانية: أبو بكر،ثمّ عمر،ثم عثمان،ثم عليّ.. وفي الواسطة الرابعة: وهي علي بن أبي طالب،قال: [وهذه الواسطة أشهر الوسائط وأوثقها عند أهل الخرقة،ولها ستّة طرق]،ثمّ ذَكرها. ثمّ ذكر “القادرية” وشُعبها وفروعها،ثم “الرفاعية”،قال: [ولها شعب كثيرة]. ثمّ ذكر: الصّادقية والجامِية والسّعِيدية والدّقاقية والحموية والحَيْدرية والرِّوْزبَهانية والمُرشِدية والكَبيرية والطّاوسية والمُؤمّلية والحَلاّجية،والجُنَيدية،قال: [وهي أعظم النّسب قدراً وأجلّها شأناً وأكثرها شُعَباً،تحوي جميع النسب الخمس والعشرين المتقدمة]. ثمّ: [البسْطامية والرِّضَوية والحُسينية والأدْهَمية والقصرية والقاسمية والشُّرَيحية والعبّاسية]. ثمّ ذكر الواسطة السابعة: نسبة إلى أبي الدّرداء الصحابي،ثم ذكر تفاصيل أخر واتّصالات عجيبة،وصرّح بأنه أخذ عن أربع وخمسين شيخاً من كبار مشايخ عصره،واستُخلف منهم في الإلباس والسّلوك. كما صرّح بأنه ما سبقه أحد إلى تأليف في هذا الفنّ بهذا الترتيب والنّمط..]. وهو تأليف نادر الوجود، أدخله للمغرب الشيخ أبو سالم العياشي.. _ كما ألّف أبو سالم العياشي نَظْماً تحت مسمّى “وسيلة الغَريق في أئمة الطّريق”،وهو في نحو أربعمائة بيت،ذكر فيه شيوخه في الطريقة،ونَظَم سَلاسلهم على طريق التوسّل.. _ وممّن ألّف في هذا الباب: الإمام المحدّث،قطب الدين بن محمد القسطلاني،له كتاب أسماه “ارتقاء الرّتبة باللّباس والصّحبة”.وللشيخ الزاهد المُسلك،أحمد جلال الدين بن محمد خير الدين الكَرَكي البُرهاني: “نور الحدَق في لباس الخرق”. وللشيخ أبي المحاسن جمال الدين الكوراني:”رَيحان القلوب في التوصّل إلى المحبوب”. وللعارف الخامي كتاب: “بَيعة الإطلاق”.وللغوث الهندي،صاحب “الجواهر الخمس”،كتاب: “الرجّات”.ولأبي مهدي الرّتجي كتاب:”لبس المُرَقّعة”. وللإمام العارف المسند الشّهير،صفي الدين أحمد بن محمد القَشاشي الأنصاري المدني (ت 1072هـ)،من أعظم رجال القرن الخامس عشر الذين خضعت لهم الرّقاب ودانت لهم النّواصي،كتاب سمّاه:”السَّمط المَجيد في سلاسل أهل التوحيد” افتتحه بذكر شأن البيعة والذّكر وتَلقينه،ثم سَلاسل أهل التوحيد المتّصلة بالإلباس والبيعة والتّلقين،وهو مقتبس من”شرح الجواهر الخمس”لشيخه العارف الشنّاوي. ولتلميذ القشاشي: محدّث القرن الثاني عشر ومسنده،أبي عليّ حسن بن علي العُجَمي المكّي (ت 1113هـ)،أحد أساطين علماء الحديث والرواية في عصره في العالم الإسلامي كلّه،رسالة في الطّرق الصوفية المستَعملة قَبله وفي عصره في العالم الإسلامي،مع ذكر مبادئها ومميّزاتها على كل طريق،وأذكارها،وأصلها وسلسلته هو إلى صاحبها. اشتملت على أربعين طريقة. وهي رسالة نفيسة جداً عَذبة،ذكر فيها الطريقة: [المحمدية والأوَيسيّة والقَلَندية والصدّيقية والكِبْرَوية والهَمَدانية والرُكْنية والنورية والخَلوَتية والمَولوية والجهرية والبُرهانية والأحمدية والسهرَوَرْدية والخَفيفية والشاذلية والوَفائية والزرّوقية والجزولية والخَواطرية والعَيْدَروسية والمشارعية والحاتمية والقادرية والعُرابية والمدينية والقُشَيرية والرفاعية والخَرّازية والجِشْتية والمَدارية والشطّارية والعِشْقيّة والنقشبندية والغَوثية والحلاّجية والجُنيدية والسُهَيلية]. وقد لخّص هذه الرسالة العَجيبة: أبو سالم العياشي في رحلته. كما لخّصها أخيراً: شيخ شيوخنا المغاربة،أبو عبد الله محمد بن المدني كنّون الفاسي،في كراسة وقفت عليها.. وألّف تلميذ للعُجيمي،هو العالم المسند،أبو الأنس محمد محيي الدين ابن الشيخ عبد الرحمن ابن أبي الحسن بن شرف الدين المَليجي،كتاباً نفيساً سمّاه “سرور القلب وقُرّة العيون في معرفة الآداب في الظهور والبطون”،وهو نادر الوجود،في المكتبة الكتانية منه نسخة فريدة في نحو سبع كراريس. تَرجم فيه أولاً لمشايخه، ثم ذكر أسانيد الطريقة:[العبّاسية والرفاعية والبَدوية والدّسوقية والشاذلية والسّهروردية والنقشبندية والجِشتيّة والوَفائية والدّمِرْداشية والقشيرية والمَدْينية والفِردوسية والخَلوتية والأوّيسية والهَمَدانية والطّيفورية والشّطّارية والبَكرية والعُمرية والخَضرية والهندوانية والشّناوية والأدهمية والعَزيزية].وذكر كل طريق في مقصد، فكمُلت في ثلاثين مقصداً،ثم خَتم بأسانيد المصافحة.. ولمسند مكة المكرمة ومحدّث عصره،الشيخ محمد بن أحمد عَقيلة المكّي،كتاب سمّاه “عقد الجواهر في سلاسل الأكابر”،قال في أوله: [هذه سلاسل مشايخي،من أهل الذوق والعرفان]،ذكر فيه عدّة طرق ممّا اتّصل به،وإجازات مشايخه الأكابر بها،فيبدأ ب: [الخَضِرية والأحمدية والسّطّوحية والشطّارية والقادرية وآل باعلوي والنقشبندية والعَيْدروسية القادرية اليَمنية والقادرية بأعلى سند يوجَد والقادرية أيضاً (سند آخر) والجِشتية والخلوتية والنقشبندية أيضاً (شعبة من الجنيدية) والمدْيَنية العلوية والسّهروردية والشاذلية والسّعدية والرفاعية والقادرية المُسلسلة بأولاد الشيخ.]. وهي في مقدار كرّاسين،وهي نادرة،موجود في المكتبة الكتانية منها نسخة. ولفَرد الدنيا في عصره،الوجيه عبد الرحمن العَيْدروس،أمير مصر، كتاب سمّاه “مرقّعة الصوفية” في ستين كراسة. ولتلميذه،خاتمة الحفاظ،فرد القرن الثالث عشر في مجموعه في العالم الإسلامي، أبي الفيض محمد مرتضى الزّبيدي المصري،كتاب سمّاه “عقد الجوهر الثمين في الذّكر وطرق الإلباس والتلقين”. بدأ فيه بذكر أسرار الذّكر وأقسامه،والتلقين له،وإعطاء البيعة،وإلباس الخرقة،مقرونة بسلاسل أهل التوحيد،ورفع أسانيدهم حسب سؤاله منه. قال: [ولقد ارتقى بسؤاله هذا مرتقًى صعباً تَخفق دونه العيون، وقرع باباً مغلقاً لا يُفتح إلا لمن أذن له من عالم الكون. ثمّ ليس كل كشف يُفشى ولا كلّ حقيقة تُعرض وتُجلى، بل صدور الأحرار قبور الأسرار..]. رتّب فيه الطّرق على حروف المعجم،فذكر (حسب الحروف): [الأحمدية والأويسية والإلياسية والأهْدلية والأدْهَمية والأحمدية (شعبة من الجِشتية) والأحمدية (شعبة من النقشبندية) والأشْرفية. والباجية والبَكرية والبَكّية والبَيانية والبُرهانية والبُخارية والباخَرْزية والبَزْغَشية والبسطامية والبجَلية والبَهائية والبيضاوية. والتّاجية. والجامية والجَبَرتية والجزولية والجِشتية والجنيدية والجهرية.والحراليّة والحُرَيثية والحكمية والحَلبية والحلاّجية والحموية والحَيْدرية.والخرّازية والخَضَرية والخُضيرية والخلوتية والخَواطيرية والخَلَوية. والدّردائية والدّمَرْدشائية والدّقاقية.والرفاعية والرّكنية والرّوْزَيْهانية والرّوْشنية. والزّركوبية والزّنفلية والزّيْلَعية.والساحلية والسّبتية والسّبعينية والسّعدية والسّلفية والسّعيدية والسّعودية والسّهرمينية والسّهروردية. والشاذلية والشطّارية والشُّرَيْحية والشُّعَيبية والشّشْتيرية والشّهابية والشّهبازية والشّهبرية والشّنبكية والشّنّاوية. والصّادقية والصّفوية والصّنهاجية. والطّاوسة وطريقة أبي خرز (يخلُف بن الأخرز) وطريقة ابن الزيات (أبي يعقوب يوسف بن يحيى المراكشي) وطريقة النّهاري (زين الدين الشريف عمر بن موسى النهاري) وطريقة ابن العَريف وطريقة ابن حرزهم وطريقة ابن برّجان وطريقة سيدي أبي يعقوب البادسي وطريقة المشارعية (محمد بن موسى بن علي بن عجيل الزوالي اليمين / شعبة من القادرية) وطريقة سيدي فتح الله العجَمي (شعبة من الجشتية) وطريقة الطّواشي (نور الدين علي بن عبد الله الطواشي / شعبة من القادرية) وطريقة ابن عرّاق (محمد بن عرّاق) وطريقة ابن عجيل (أحمد بن موسى بن عجيل الزوالي اليمين / شعبة من القادرية) وطريقة المحاسبي وطريقة أبي طالب (محمد بن علي بن عطية البصري) وطريقة عبد الرحيم القِنائي. والطريقة العبّاسية والعادلية (بدر الدين العادلي العبّاسي) والعُرابية (عمر بن محمد العرابي) والعِشقيّة (أبي زيد العشقي) والعلوانية (علوان الحموي) وعلوانية أخرى (منسوبة إلى صفيّ الدين أحمد بن علوان اليمني) والعمودية (أبي عيسى سعيد بن عيسى العمودي الصديقي / شعبة من المدينية) والعيْدروسية. والغازية (أبي القاسم بن أحمد الدّرعي) والغزالية والغماثية (أبي زكرياء يحيى الغماثي) والغَوثية (حميد الدين بن خطير الدين الحسيني / شعبة من الشطارية) والغَيثية (أبي الغيث سعيد بن سليمان اليمني / شعبة من القادرية). والفردوسية (نجيب الدين الفردوسي / شعبة من الباخرزية). والقادرية والقاسمية والقشيرية. والكردية (أبي الحسن علي بن عبد الله / شعبة من الخضرية) والكِبروية والكرمانية (شهاب الدين أبي سعيد بن محمود بن محمد الرماني / شعبة من الخضرية) والكَبيرية والكلشية (إبراهيم العجمي الحسيني الكلشي / شعبة من الخلوتية). والمجدولية (أبي عقال غلبون بن الحسن) والمحمدية والمدارية (بديع الدين،الملقب بشاه مدار) والمُرشدية والمشيشية (عبد السلام بن مشيش / شعبة من المديَنية) والمعمرية (معمّر الجيلي) والمؤملية والملامثية (طُرق كثيرة،منها طريقة حمدون القصار) والمولوية (جلال الدين الرومي) والمَهْدوية (أبي محمد عبد العزيز المهدوي). والنورية (نور الحق والدين عبد الرحمن الإسفراني / شعبة من الكبروية) والنقشبندية والنغماتية (نجم الدين أبي النعمان / شعبة من الجنيدية). والوفائية (أبي الحسن علي بن محمد وفا الأنصاري / شعبة من الشاذلية).والهروية (أبي سعيد عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي) والهزمِرِية (أبي عبد الله محمد الهزميري) والهَمدانية (عليّ الهمداني / شعبة من الكبروية). واليمَنية واليعقوبية.] وبها خَتم. أتمّ هذا المؤلف العجيب عام (1181هـ). وفي المكتبة الكتانية نسخة منه،وهي من الضنائن الموجودة في المكتبة الكتانية. وللحافظ أبي الفيض مرتضى، المذكور،مؤلف آخر في الباب سمّاه “العقد المُكلّل بالجوهر الثمين في طُرق الإلباس والذّكر والتلقين” لم أقف عليه. وله أيضاً كتاب آخر سمّاه”إتحاف الأصفياء بسلاسل الأولياء”.وله كتاب في أسانيد شيخه العارف ،مسند عصره،السيد عبد الرحمان بن مصطفى العيدروس،كتبه في أسانيده الطّريقية ،سمّاه “النّفحة القدّوسية بواسطة البضعة العَيدروسية”،في عشرة كراريس،عام (1171هـ)،اشتملت على إسناد مائة وسبعين طريقة. كما ألّف الحافظ مرتضى الزّبيدي رسالة لطيفة سمّاها “رفع حجاب النّقاب عن اتّصال السيد البدوي بقطب الأقطاب” يعني: الشّاذلي. وهي رسالة نفيسة ألّفها عام (1189هـ) في مجلس واحد،وهي نادرة جدّاً.. وللشيخ أبي الفتوح بن حسن الجفري الحضرمي اليمني،رسالة اشتملت على ستّة وعشرين طريقة صوفية،ذكرها له مسند اليمن ومُفتيه: السيد عبد الرحمن بن سليمان الأهْدل في “النّفَس اليماني” نَقلاً عن الوجيه العيدروس في إجازته لوالده السيد سليمان. ولفخر الجزائر في القرن الماضي على إفريقية ومُسندها: الشيخ أبي عبد الله محمد بن علي السنوسي الجَغبوبي،صاحب الطريقة السنوسية: “السّلسبيل المَعين في السّلاسل الأربعين”،لخّص فيه رسالة العُجَيمي في الطّرق الأربعين، ووَصل سلاسله بها من طريقه،وزاد عليها،وهي في نحو الستّ كراريس،رأيتها بزاوية بقيرات السنوسية.. وللشيخ السنوسي كتاب آخر سمّاه “المنهل الروي الرائق في أسانيد العلوم وأصول الطرائق” في جزء وسط،لخّص فيه رسالة العُجَيمي وزاد عليها بما يُناسب،وألحق الفروع بالأصول،وربط السّلاسل منه إلى العُجيمي.وهو كتاب نفيس جدّاً،لم يذكر فيه الطّرق التي ظهرت في زمانه على عهد شيوخه،وإن كان أخذ عن بعضهم.. وهو حُلو السيّاق،عذب المذاق. وللشيخ أبي عبد الله محمد بن العبّاس بن الحسن بن ياسين الجزولي السّوسي الفاسي،كتاب سمّاه “المواهب القدسية في أسانيد بعض المشايخ الصوفية”،وذكر فيه بعض أسانيد وأذكار الطّرق الصوفية،ك: [القادرية والخلوتية والنقشبندية والوزّانية والنّاصرية والبقّالية والحبيبية والصّادقية والمنصورية والتّازية والغزالية والسمانية والجزولية]،وأسانيد كتب القوم.وهو فهرس جامع حُلو،كتبه مؤلفه أوائل القرن الماضي،وفي المكتبة الكتانية منه نسخة فريدة. وللشيخ كمال الدين الحريري (ت 1299هـ) كتاب “تبيان الحقائق في بيان سلاسل الطرائق”.. وربما يكون أوسع ما ألّف في أسانيد الطّرق، قال: [وهو يشتمل على بيان أسانيد مائة وخمسين طريقة،مع بيان أصول تلك الطّرق وتراجم رجالها]. ولمُملي هذه الشجرة،محمد عبد الحيّ الكتاني: “أعذب الموارد في الطّرق التي أجيز بالتسليك عليها الشيخ الوالد”،جمعت فيه بعض الطّرق التي تلقّاها الوالد من مشيخته شرقاً وغرباً،وبالخصوص عن والده،وكان والده أخذ عن نحو الأربعين شيخاً ممّن لقيه من أهل المغرب ومصر والحجاز والشام والهند. وبعده ألّف شيخنا محدّث الحجاز ومُسنده،أبو اليُسر فالح بن محمد الظاهري المهنّوي المدني،سمّاه “شِيَم البارق من دِيَم المهارق”،وهو في مجلد،جعل خاتمته في الطّرق الصوفية، وأسهب وأطال بذكر قواعدها ومميّزات كل طريق وأسانيده. فبدأ ب: [المحمدية والصدّيقية والخضرية والقادرية والشاذلية] وذكر فروعها. قال: [وهم لا يُحصرون كَثرة،ك: الحنفية (أصحاب شمس الدين الحنفي) والزرّوقية والبكرية والوفائية والجزولية]. ثم ذكرها واحدة واحدة،وذكر: [العروبية والخلْوتية والنقشبندية والسّهروردية]. وأمره والده بأخذ بعض الطّرق بالحجاز،التي لم يكن أخذها هو،ك: [الطريقة الباعلوية والعيدروسية] وغيرها،عام (1286هـ). ولمُملي هذه العجالة (أي: محمد عبد الحيّ الكتاني) مجموعة نفيسة في الطّرق الصوفية المستعملة في زماننا بالمشرق والمغرب،أصولاً وفروعاً، اعتنيت بذكر سلاسلها من أصحابها إلى فوق،وأسانيدها منّي،إلى إمام كل طريق، مع ذكر أورادها ومميّزاتها،وما لي من إجازات بها عمّن لقيتُه من شيوخها بالمشارق والمغارب،تخرُج لو بُيّضت في مجلّدين ضخمين قبل،وذكرت فيه كثيراً من الطّرق التي لم تُدوّن في كثير من كتب الفهارس والأثبات،يسّر الله إخراجه. هذه الطّرق التي سَمّيت،كل طريق إلا وقد أفردَ بتصنيف أو تصانيف،بل وبعض الطّرق لو جُمع ما دُوّن فيها لفاقَت المؤلفات المائة والمجلدات العشرين وأكثر. وذلك كالطريقة القادرية والشّاذلية وفروعها،وهي كثيرة،والخلوتية والتيجانية والكتّانية،بحيث لو جمعت المجلدات التي ألّفت في هذه الطّرق والرسائل الصادرة عن أصحابها والمدافعين عنها،لأوفَت على مئات المجلدات بقلم أصحابها ومُريديها، مطبوع منها الكثير. تاريخ الطّرق والزّوايا في الشمال الإفريقي _ أوّل من علمته تكلّم على الطّرق والزوايا من مؤرّخي الشمال الإفريقي،فحصّل وجمع ودوّن: هو الفقيه القاضي،المؤرخ النسّابة المُسند،أبو العباس أحمد ابن أبي الخطيب المعروف ب”ابن قنفذ”،المشهور بكتابه “الوفيات”. ألّف كتاباً عظيماً في ترجمة الشيخ أبي مدين الأنصاري المرسي،نزيل بجاية ودفين تلمسان،واستوعب الكلام في مشيخته ورفاقه وتلاميذه وتلاميذ تلاميذه. وفي هذا الكتاب تحدّث هذا الجزائري الفذّ عن المغرب ورجاله بما لا نجده في كتب المغاربة،لإقامته بالمغرب مدّة مديدة (18 سنة) ووَلي القضاء به. قال: [قد سألت عن جملة الطّوائف بالمغرب الأقصى،في الأرض التي تُنبت الصالحين كما تنبت الكلأ،فوجدتها متعدّدة باعتبار تعدّد الأشياخ،وأقرب ما نرجع إليه: “الشُّعَيْبيّون”: وهم طائفة أبي شعيب آزمّور،من أشياخ أبي يعزى. و”الماجَرِيّون”: وهم طائفة أبي محمد صالح. ومنهم: “الدكّاليون”. والطائفة الرابعة: “الحُجاج”،أي لا يَدخل في جَمعهم إلا من حجّ بيت الله الحرام،وقد دخلت دار شيخهم وتمتّعت بلقائه واغتنمت فضيلة دعائه.. ورأيت عند هذا الشيخ غرائب وعجائب. والطائفة الخامسة: “الحاحِيّون”،ومنهم جملة من جبل درَن،وهي طائفة الشيخ الحاجّ الشهير أبي زكياء يحيى بن أبي عمرو عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى الحاحي. والطائفة السادسة: “الغَماتيّون”،وهم طائفة الشيخ الوليّ أبي زيد عبد الرحمن الهِزْمِيري،ولهم أخُوّة مُحدَثة بطائفة أبي زكياء وسائر الطبقات،ثمّ أخوّة بطائفة الشيخ أبي محمد صالح. وكان أبو زيد أعجوبة زمانه،يتحدّث دائماً على ما في ضمائر الناس.. وقد حضرت (يعني: ابن قنفذ) مع جملة من هذه الطّوائف مواطن عدّة،منها: زمن اجتماع فقراء المغرب الأقصى على ساحل البحر المحيط،جوف إقليم دكّالة.. وكان الاجتماع في شهر ربيع الأول المبارك الأسعد الأنور سنة (769هـ)، وحضر من لا يُحصى عدده من الفضلاء،ولَقيت هناك من أخيارهم وعلمائهم وصُلحائهم ما شَرَدت عَيني بسبب كثرتهم.. ورأيت في ذلك الجمع العظيم والمشهد الجسيم،غرائب وعجائب لا يُرى مثلها أبداً،لتغيّر الأحوال بعد ذلك. فهذه عُمدة الطّوائف في المغرب الأقصى،وثَمّ تلامذة مُلحقة وخواصّ محقّقة،رأيت منهم أعداداً..]. ثمّ صارَ يُعدّد من رأى بفاس وغيرها بما لا يوجد في غيره، وصار مرجع المؤرخين والباحثين من عصره إلى الآن. _ وبعده قال الشيخ العارف أبو الحسن علي بن محمد صالح الأندلسي،دفين فاس،من رجال القرن العاشر: [ليس في الوجود أعلى من طريقتين: طريقة سيدي عبد القادر الجيلي،وطريقة سيدي أبي الحسن الشّاذلي]،وقال أيضاً،عندما تكلّم على العلم اللّدُني: [أو نحو هذا ممّا اندثر من أوّل الكلام،وأظهره الله في الوجود على طريقتين: طريقة سيدي عبد القادر الجيلي،وطريقة سيدي أبي الحسن الشاذلي.وأظهر دوامَه الآن على طريقة أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي، وإمداده من الطريقة الشاذلية.]. قُلت: الطريقة الشاذلية ترجع إلى القادرية من غير ما وجه واعتبار،وقد ظهرت الطريقة الشاذلية في المغرب الأقصى،بل والمغارب الثلاثة،ظهوراً كبيراً،بحيث تفرّع عنها وعلى قِيادييها زوايا عديدة وطُرق شهيرة،اشتهرت على أسماء مجدّديها الذين راجت باسمهم وألقاب بيوتاتهم،فعرفهم الناس وسُمّيت الطريقة بأسمائهم أو أسماء بلدانهم،وإلا فهي شاذلية نسبة واقتداءً. ثمّ تفرّعت الطريقة الشاذلية في المغارب الثلاثة،بل والمشرق،إلى فرعين ساميين وشيخين كبيرين: الإمام أبو عبد الله محمد بن سليمان الجزولي السملالي الحسني،الموجود قبره بمراكش. _ وعارف وعالم عصره: أبو العباس أحمد بن أحمد زَرّوق البُرنسي الفاسي،دفين مَسراتة. وغالب الطّرق في المائة العاشرة والحادية عشرة تَرجع لهما،إلا من شذّ عنهما من مجذوب أو صاحب حال ممّن لا يُعرف له شيخ / كما قال المحقّق البحاثة أبو عيسى المهدي بن أحمد بن علي الفاسي بلداً ولقباً،في طالعة كتاب “تحفة أهل الصدّيقية بأسانيد الطائفة الجزولية والزروقية”،وهو تأليف نفيس،يوجد فيه من سلاسل رجالات المغرب وعناوينهم مالاَ يوجد في غيره،في جزء صغير. وقد اختصره في كراسين: العالم النسّابة الصوفي الشريف أبو حامد العربي القادري، سمّاه “الطّرفة في اختصار التّحفة”. كما ألّف الشيخ الفاسي المذكور: “مُمتع الأسماع بذكر الجزولي والتبّاع وما لهما من الأتباع”،في جزء طُبع بفاس قديماً عام (1305هـ). وقد نظَم رجال “الممتع”: الأديب العارف أبو العباس أحمد بن عبد القادر التّسْتاوتي المُبارَكي،دفين مكناس، شرح هذا النّظم في جزء،وهو موجود في المكتبة الكتانية. _ وألّف بعده: الفقيه الصوفي أبو عبد الله محمد بن علي المنالي الزبّادي الفاسي (ت 1209هـ) كتاب “سلوك الطريق الوارية في الشيخ والمريد والزّاوية”.. وقد خالَط وصاحَب الكثير من علماء زمانه وفقرائه سنين عديدة،ورأى ما كانوا عليه من الأحوال والأعمال والأقوال،الشبيه بما بَذلوا فيه أنفسهم لله من معرفة الطريق الدّالة على الله،ورأى تغيّر الحال بعدهم. وصارت كثرة الطّوائف،من العامّة،لم تتّخذ شيخاً يُروّضهم ويُؤدّبهم.وجُلّ الفقراء ليس مقصودهم من الشيخ الإرادة والرياضة،وإنما قصدُهم: ظهور الكرامات والكشف عمّا يَختلج بأذهانهم القاصرة. وأراد أن يَصف الطّريق على وجهها في هذا الكتاب،وبوّبه على ثمانية أبواب: [الأول: في ذكر الصّحبة واتباع السّنة. الثاني: في معرفة الشيخ وأحواله. الثالث: في صفة المريد وآدابه. الرابع: في الزاوية وسببها،وآداب الاجتماع فيها. الخامس: في الحَضْرة وشروطها. السادس: فيمن أدركناه من العلماء وتبرّكنا به. السابع: في ذكر من صَحبناه من أهل الخير وتتّبعنا له الأثر،من فقراء الطّوائف الإحدى عشر. الثمان: فيمن اجتمعنا به من أهل السّلوك والجَذْب من غير الطّوائف المذكورة.]. وفي الباب السابع ذكر من عَرَفه من أهل الخير وتتّبع أثره من الطّوائف،أحد عشر: [الأولى: أصحاب الشيخ سيدي محمد بن عيسى السّفياني المُختاري (ت 1041هـ)،نزيل مكناس.. الثانية: أصحاب الشيخ عليّ بن عبد الرحمن الدّرعي (ت 1191هـ)،دفين جبل تادلة.. الثالثة: التهامية الوزّانية. الرابعة: طائفة أصحاب سيدي محمد ابن الفقيه (ت 1136هـ)،صاحب الزاوية بحَوْمة العيون من فاس. الخامسة: طائفة الشيخ أبي القاسم عسْرية (ت 1077هـ)،دفين روضة قُرب مكناس،المعروفة بالقاسميين. السادسة: أصحاب الشيخ محمد بن سالم الحنفي المصري (ت 1182هـ)،شيخ الطريقة الخلوَتية ومُروّجها في العالم الإسلامي. السابعة: أصحاب الشيخ السفياني أبي عليّ الحسن بن ابراهيم الفاسي (ت 1096هـ). الثامنة: الصادقيّة،أصحاب الشيخ أبي العباس أحمد بن عبد الصادق الفيلالي الرُّتْبي (ت 1066هـ). التاسعة: أصحاب الشيخ أبي الحسن علي بن حَمْدوش (ت 1135هـ)،دفين جبل وَرهون. العاشرة: الغازِيّة،أصحاب الشيخ أبي محمد سيدي أبي القاسم بن أحمد الدّرعي الفلالي (ت 901هـ)،الملقّب بالغازي. الحادية عشر: النّاصرية،أصحاب الشيخ أبي العباس أحمد ابن الشيخ أبي عبد الله محمد بن ناصر الدّرعي (ت 1085هـ).].. وهو كتاب مفيد في تراجم كثير من المؤرّخين من سائر الطّوائف،وعليه اعتمد كثيراً صاحب “سلوة الأنفاس”،ويُحيل عليه كثيراً،فزادَ الطّرق التي ظهرت في قرب عصره وانتشرت زواياها بالمغرب.. _ الزّوايا العظيمة المشهورة في المغرب الأقصى أذكُرالزّوايا العظيمة المشهورة في المغرب الأقصى والأدنى وصحرائهما،من القرن السادس إلى الآن،التي انتشر ذكرها وكبُر صيتها وذاع نفعها وتخرّج منها العلماء،وألّفت فيها التآليف،وصَدر من أصحابها التّصنيف والتّرصيف. فأما في المغرب،زيادة على ما سبق شَرحاً لِما في كلام ابن قنفذ:
1_ زاوية الشُّعَيْبيين : بعد الشيخ العارف الكبير أبي شُعيب،الملقّب السّاريّة، لطول قِيامه في صلاته لا يتحرّك..
2_ زاوية تزَرْوَلت/ تقع وسط قبيلة بني عروس: إمامها العظيم الذّائع الصّيت، الجوّال الرحّال،العارف بالله أبو العباس أحمد بن موسى الجزولي ثمّ السّملالي (ت 971هـ). أخذ عن الشيخ أبي فارس عبد العزيز التبّاع،والشيخ أبي العباس أحمد بن يوسف الرّاشدي المَلياني. الأول عن الجزولي،والثاني عن زرّوق.. وشُدّ له الرّحال في حياته،حتى قصده ملك المغرب زائراً بموكبه الملَكي. وكان عُدّته وعُمدته هذه الزاوية من الزوايا الذي ظهر نجمُها في الأفُق.. ثمّ ظهر نجمها ثانياً بحفيد ولَد الشيخ أبي العباس أحمد بن موسى: أبو الحسن،ويُقال: أبو حَسّون علي بن محمد بن محمد ابن الشيخ أحمد بن موسى،فإنه كان رئيس زاوية جدّه بتَزَرْوالت،فبنى المشاهد وشيّد المعابد والمدارس،وأيّد العلم وجلب له صدوره،كالشيخ اليوسي.. وقد تَمّ الأمر لأبي حسّون في قُطر سوس،ونفذ فيه أمره،ثمّ حَكم دَرْعة،ثمّ سجلماسة،ثمّ تراجع أمره إلى أن مات عام (1070هـ)، وكان موصوفاً بالعفّة ولين الجانب،مُتوقّفاً في الدماء. ولما مات خَلفه ولده أبو عبد الله محمد بن حسّون،ثمّ انقضى المُلك،ورجعت الزاوية لحالها،فبَقيت دارَ السيادة وإطعام الطعام والجاه الواسع..
3_ زاوية سيدي سعيد بن عبد المنعم المنّاني الدّوادي الحاحي بِ”دَرْن” : هو شيخ السنّة وإمام الأئمة،أبو عثمان سعيد بن عبد المنعم (ت 953هـ). قال عنه التّمنارتي في “الفوائد الجمّة”: [أحيى بعطره في عصره من السنّة رُسوماً دارِسة وأظهرت منه أعلاماً طامسة،وأزاحَ المَناكِر وعطّل البُهتان،وانتعش به أمر الإسلام وعقائد الإيمان].وقال فيه الشيخ الكامل أبو العباس أحمد بن موسى السّملالي: [ما وَلدت النساء قبله مثله،ولا تَلد النساء بعده مثله،وإنّي لأتمنّى أن أكون بجواره فأخدُمه بكل جوارحي حتى بأجفاني]. وقال ابن عسْكر في “الدّوحة”: [لقد رأيت لأصحاب سيدي أبي عثمان سعيد قوّة عظيمة وشدّة في المعاملة،ويأتون في ذلك بأبلغ ما يكون من التعمّد والتّشديد في إتقان العقيدة والطهارة والصلاة،بحيث لا يرتكبون من العبادات إلا ما أجمع عليه، وكل ما فيه خلاف لا يسلكون سبيله]. ولما مات خلف ولده: أبو محمد عبد الله بن سعيد (ت 1012هـ)،كانت له جولة لقي فيها أعلاماً،وانتسب إلى محيي السنّة بجبال الهبط: أبي محمد عبد الله الهَبْطي (ت 963هـ). وجرى على طريقة أبيه،بل كان بعض الناس يُفضّله على أبيه،وانتعش به الإسلام أيّما انتعاش،خصوصاً في ضعفه.. ومن بركته: أنه لا يأتيه أحد،وإن مَلَكت العُجمة لسانه أو أخذ الهرم أسنانه، ويَنقلب عنه إلا وقد حفظ ما كتب عليه عقيدة وفرضاً وسنّة،وإن كان لا يعرف شيئاً..
4_ الزاوية الدّلائيّة : هذه الزاوية (وتُدعى أيضاً بالبَكرية) من الزّوايا العظيمة في المغرب،وهي زاوية نشرت العلم وأخرجت الكثير من العلماء والأدباء والعبّاد والأمراء والمؤلفين،وموقعها بجهة أيت اسحاق بالأطلس الأوسط.. شيخ الزاوية الأول: العارف الكبير سيدي أبو بكر،ولد عام (943هـ)،وهو أوّل من سكن الدّلاء واتّخذ بها زاويته.. وله العَقب المبارك،خدَم العلم أولاده وأحفاده وأحفاد أحفاده،الخدمة الواسعة التي لا تُطاوَل ولا تُجارى، بحيث أخرج من نَسله أكثر من أربعين عالماً،كلّهم درّسوا وألّفوا وخطبوا وأسندوا ورحلوا،حتى إن منهم من شرح “التّسهيل” في أربع مجلدات، وشرح “مختصر غبن الحاجب” و”الشّفا” و”المُطوّل” و”الأصول” و”سيرة الكلاعي”.وأعظمهم صيتاً وأكبرهم درجة وأوسعهم شُهرة: شيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدّلائي،قرأ بفاس وأخذ عن القصّار وغيره،وبمصر عن العارف زين العابدين أبي المكارم البكري. وتتلمذ في الطريق للشيخ أبي عُبيد الشرْقي. ووصل في العلم ورفعة الشأن إلى درجة قُصوى،حتى ادُعِيَ فيه الاجتهاد.واجتمع عنده من الكتب خزائن لا تنحصر لم يتّفق مثلها إلا للحكَم المستنصر،بعضها أوقف وهي: نحو عشرة آلاف مجلّد، وبعضها يوجد اليوم في زاوية تِنْغْمِلْت،وبعضها في مكتبة أَبْزُو،وبعد تخريب الزاوية بنحو مائة وخمسين سنة،انتُدب ثلاثة من علماء فاس لجمع أخبار الدّلائيين أولهم: أبو الرّبيع الحوّات (ت 1160هـ)،له “البدور الضّاوية في تاريخ الزاوية الدّلائية” في مجلّد ضخم..
5_ الزاوية النّاصرية بتامكَروت : من وادي دَرْعة،أول من أظهر أمرها: العارف الكبير،العالِم،شيخ السنّة ومُميت البدعة،أبو عبد الله محمد بن محمد بن ناصر الدّرعي (ت 1085هـ) الأغلاني. وُلد سنة (1011هـ)، وأخذ العلم والطريقة عن أهلها ببلاده والمُجاورين،وحجّ مِراراً،وأخذ في مصر وغيرها،وأُخِذَ عنه في جميع البلاد التي مَرّ بها.. وتَخرّج به رجال،من أكبرهم: عالم المغرب أبو عليّ اليوسي،والرحّالة أبو سالم العياشي، والقاضي أبو محمد عبد المالك التَّجَمّوعْتي، والعارف أبو العباس أحمد بن عبد القادر التّاسَتاوْتي.. وبُنيَت باسمه زوايا في جميع أقطار المغرب،ومُدح بالقصائد الطنّانة.. وطريقته النّاصرية تُعرف بطريقة العلماء،لكون أكثر علماء المغرب،بل وملوكه، كانوا عليها. وكان يتخيّر لبناته في الأزواج،ولا يُصاهره إلا أهل العلم والدّين،ولم يكن يشترط قرابة ولا شرف نسَب،وإنما كان يشترط العلم والدّين.. وتوفي وما ترك ديناراً ولا درهماً ولا داراً ولا عقاراً،بل تَصدّق بجميع ذلك قبل موته.. ورجال هذه الطريقة أفردوا بعدّة مصنّفات،لو جُمعت كانت تزيد على عشر مجلّدات،بعضها في المكتبة الكتانية،أوسعها كتاب “طلعة المُشتري” لصاحب “الاستقصا” أبي العباس أحمد بن خالد النّاصري.. ووِرْد الطريقة الدّرقاوية الشاذلية: ناصري،فإن الشيخ أبا حامد العربي بن أحمد الدرقاوي أخذه عن شيخه أبي الحسن علي الجمل العمراني الفاسي عن أبيه عن الشيخ أحمد بن ناصر الدّرعي..
6_ (زاوية أهل وزّان):شيخها الأول: العارف الكبير،الزّاهد المُربّي السّنّي،أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الحسني الإدريسي اليَمْلَحي (ت 1089هـ). كان من الدّاعين إلى الله بمالِه وقالِه. ومَبنى طريقه على العمل بالعلم،وتعمير الأوقات بالذّكر والعبادة،وتحكيم السنّة والعمل بها. واشتهر أمر هذه الزاوية،وكثُر أتباعها في مشارق الأرض ومغاربها. وبعد موت إمامها الأول،وانتصاب أولاده وحفدته بها،صارت في بعض الجهات تُعرف: مرّة ب”الطَّيِّبِيّة”،نسبة إلى حفيده مولاي الطيّب (ت 1181هـ)، ومرّة ب”التّهاميّة”،نسبة إلى حفيده الأول مولاي التّهامي (ت 1127هـ). وألّفت فيها وفي أفراد رجالها الدّواوين العدّة: ك”التّحفة الطاهرية” [“تحفة الإخوان في بعض مناقب شرفاء وزّان” لحمدون بن محمد الطاهري الجوطي]،وهي مطبوعة بفاس. و”التّحفة القادرية” [للشريف سيدي عبد السلام بن الخياط القادري الحسني الفاسي (ت 1228هـ)]،وهو كتاب مهمّ واسع الإفادة،في مجلّدين ضخمين لم تُطبع،وما أحقّها بالطبع،لأنها دائرة معارف واسعة فيما يتعلّق بالطريقة الشّاذلية والقادرية،ورجال سلسلتهما،مع فوائد حديثية وإسنادية،حيث إن مؤلّف “التحفة” كان من تلاميذ حافظ المغرب مولاي إدريس العراقي الحسيني الفاسي (ت 1183هـ). وحجّ آخر رجال هذا البيت الشريف الأسمى: سيدي الحاج عبد السلام بن العربي الوزّاني،فحجّ في رُفقته قاضي وزّان العلامة ابن حسّون،وكان من تلامذة والده سيدي الحاج العربي،فدوّن في ذلك رحلته في جزء فيها فوائد،وكانت حجّتهما عام (1269هـ). ودخل هذا الشريف مرّة لمراكش،فخلَت البلاد،وخرج الكلّ للِقائه، فأطلّ السلطان أبو الربيع من صومعة دار المخزن،ورأى خُلوّ البلاد والغُبار المتصاعد من جهة مجيئه،فقال: “هذا هو السلطان،لا سليمان بن محمد”..
7_ (الزاوية الفاسية بفاس): أصل هذه الزاوية هو: العارف الكبير أبو المَحاسن يوسف بن محمد الفاسي(ت 1013هـ)،كان من أهل العلم والعمل والجدّ والاجتهاد في الدّين،والاشتغال بالتربيّة. وبَثّ أولادُه من العلم في هذه البلاد ــ تدريساً وتأليفاً ــ ما فاقوا به غيرهم،ومُشاركتهم واسعة واطّلاعهم باهظ.. وطريقته شاذلية. ومن أعلام حَفدته: الشيخ أبو السّعود عبد القادر بن علي بن يوسف الفاسي (ت 1091هـ)،انتهت إليه رئاسة العلم بفاس والمغرب الأقصى،وتعدّت شُهرته حُدود إفريقية إلى مصر والحجاز والشام.. يَتعيّش من نَسْخ كُتب الحديث.. وألّف أولاده وأحفاده،وأعمامه وأبناء عمّه،دائرة معارف كُبرى في ما يرجع للحديث والتصوف ورجاله،خصوصاً: “مرآة المَحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن” لأبي حامد محمد العربي الفاسي،و”ابتهاج القلوب بأخبار الشيخ أبي المحاسن وسيخه المجذوب” لأبي زيد عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي،و”تحفة الوارد الصّادر،شرح عقيدة الشيخ عبد القادر” لأبي القاسم بن أحمد بن محمد بن عبد القادر الفاسي،و”مفتاح الشفا”لأبي زيد عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي، و “المِنَح البادية في الأسانيد العالية” لأبي عبد الله محمد الصغير الفاسي، و”تحفة أهل الصّدّيقية بأسانيد الطائفة الجزولية والزروقية” لمحمد المهدي الفاسي، و “السيرة النبوية” لمحمد المهدي الفاسي..
8_ الزاوية الدّرقاويّة: بمجوط من بني زَرْوال: هذه الزاوية مؤسسها: العارف السّالك المُسلّك، العابد المتقشّف،أحد من لأحيى الله الطريقة الشاذلية الجُنيديّة بعد خَفائها، الأستاذ أبو حامد العربي بن أحمد الدّرقاوي (ت 1239هـ). أخذ الطريقة الشّاذلية النّاصرية عن شيخه أبي الحسن عليّ الجمل،وبه تَربّى وتَهذّب،وإليه ينتسب. فتجرّد وبَنى طريقته على التجريد الظاهري والباطني،وعظُم صيته،ودخل الناس في دعوته في الحواضر والمُدن زَرافات وجماعات بعد جماعات،حتى انتشرت طريقته في القطر الجزائري والتّونسي وطرابلس الغرب.. حتى ذكر محمد المهدي بن محمد ابن القاضي،في كتابه “النور القويّ في ذكر شيخنا عبد الواحد الدباغ وشيخه العربي الدرقاوي” أن المُتَرجم: [تَخرّج على يديه ما يزيد على التّسعين شيخاً،كلّهم عارفون بالله]،وذكر عنه أنه: تركهم بالآلاف،كالشيخ محمد ظافر الطرابلسي المدني (ت 1268هـ)،فإن هذا الرجل هو الذي نَشر طريقته في الشرق،وولَده [محمد بن محمد حسن ابن حمزة (ت 1321هـ)] كان له شأن في دار الخلافة العثمانية وفي الجزائر. وقلّ بلد في الشام ومصر وتونس والجزائر،بل والهند والحجاز،إلا له فيها زاوية أو زوايا. وطُبع في هذه الجهات كلها من كتب الطريقة الدّرقاوية،وشروح أورادها الشّاذلية،ما لا يعرفه المغاربة ولا وَقفوا عليه. نَشر ذلك أصحاب الشيخ محمد بن مسعود الفاسي (ت 1287هـ)،الذين اشتهروا في باد الشام ومصر شُهرة فائقة. وفي فهرس [إمداد ذَوي الاستعداد إلى معالم الرواية والإسناد] مُحدّث فاس الكوهن (ت 1253هـ) ترجمة واسعة للكلام على الطريقة الدّرقاوية..
9_ الزاوية التيجانية بفاس : بنى هذه الزاوية: الشيخ الذائع الصّيت،العظيم الشأن،الواسع العرفان،أبو العباس أحمد بن محمد بن سالم التّيجاني، المولود بعين ماضي بصحراء الجزائر،والمتوفى بفاس سنة (1230هـ)، بعد أن طاف في مصر والحجاز وصحراء المغرب،مُلاقياً لشيوخ عصره وصوفية زمانه. فانتشر صيته في فاس،وعمّت زواياه المغرب والجزائر وتونس. ودخل في طريقه جماعة من علماء شنجيط وسوس،قاموا بتشييد طريقته بالتأليف نَظماً ونثراً،وتبعهم المغاربة بعد.. خدمت الطريقة التيجانية الإسلام في السودان كثيراً،مرّة بحسن الدّعوة، ومرّة بالسّيف.وحصل اشتباك ونُفور،بل وقتال مرّة هناك بين التيجانية والقادرية،ومرّة بالأقلام،ثمّ بين الوثنيّين والتيجانيين. وقاموا بدعوة واسعة في السودان لنشر الإسلام، ممّا كتب فيه حتى الإفرنج من الأمركان وغيرهم..
10_ الزاوية الحمزاوية بالجبل العياشي من الأطلس الأوسط: قُرب قبيلة آيت إسحاق ضواحي خنيفرة: منسوبة إلى الشيخ حمزة [حمزة بن عبد الله أعياش (ت 1130هـ)] ابن الشيخ أبي سالم العياشي،صاحب “الرحلة العياشية”. وإنما عُرفت الزاوية باسم ولده،لأنه طال عمره،وقامت بها أسواق في حياته،وإلا فالزاوية أسّسها جدّه الشيخ محمد بن أبي بكر. ثمّ اشتهرت في أيام أبي سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر،وكان أبو سالم هذا من مفاخر المغرب على المشرق،لأنه امتاز بالكتابة الواسعة على صحراء الجزائروطرابلس وبرقة ومصر والحجاز وفلسطين، بما لم يأت به غيره،قوة اطّلاع وتحرير في الكتابة والاستيعاب،بحيث فاقت رحلته من الوجهة العلمية أكثر الرّحلات وأكبرها. وقد عظُم جاه هذه الزاوية،وامتُحن أهلها فصَبروا ورُحّلوا لفاس،فرحلوا حتى أبْقَوا مقبرة كبيرة لموتاهم الذين ماتوا بفاس،ولهذه الزاوية مكتبة نفيسة فيها عجائب وغرائب من نوادر المخطوطات،مما جمع من طول غيبة أبي سالم في الشرق والغرب. وقد ألّف أحد أحفاد أبي سالم [وهو: أبو سالم عبد الله بن عمر بن عبد الكريم بن محمد بن أبي سالم العياشي] في تراجم رجال الزاوية كتاباً سمّاه “الانتعاش في رجال زاوية آيت عَيّاش”. كما ألّف رجال هذا البيت العدد العديد،فكتبوا على “الصحيح” و”الموطأ”،وألّفوا في السِيَر والفقه والأدب والتوقيت والنحو والرواية. ولِيَ كتابة خاصّة (ما كتبه عنها في “رحلته الدرنية”) حول هذه الزاوية ومكتبتها كما لخّصت عنهم كتاب “الانتعاش”. دخلت هذه الزاوية مراراً.
11_ الزاوية الشّرقاوية بأبي الجعد من تادلا : زاوية عظيمة الأركان،ثابتة الدّعائم،قِوامها: الشيخ الأكبر،أبو عُبيد محمد الشّرقي العُمَري،دفين جُعَيدان. وبعد مدفنه صارت الزاوية مدينة مأهولة بالسكّان،كثيرة المساجد والمآذن والزوايا والضرائح والمدارس،لها قاض وعدول. وكان الشيخ أبو عبيد فائض النّور،كثير الهُيام،واسع المعرفة. وخلّف من أولاده وأولاد أولاده من مَلؤوا فراغاً في تاريخ المغرب،علماً وعملاً وصلاحاً،تفرّقوا في البلاد،وفي كل جهة لهم صولة وجولة. ومن أكبر رجالهم: الشيخ أبو المواهب محمد المُعطَى (ت 1180هـ) بن الصّالح بن محمد المعطى بن عبد الخالق بن عبد القادر ابن الشيخ أبي عبيد. أتى في كتابه “الذّخيرة” بما لم يأت به أحد من الأولين والآخرين،وهو في نيّف وسبعين مجلّداً.. وطار خبر هذا الكتاب في زمن مؤلفه كل مَطار،وصارت به الرّكبان إلى أقاصي البلدان،وقرّظه أهل المشرق والمغرب،حتى إن تقاريظ الأعلام عليه في مجلّد أو مجلّدات. وفي المكتبة الكتانية منه نحو الخمسين مجلداً. وأفرد رجال هذا البيت بعدّة مجلّدات،كلها في المكتبة الكتانية،منها: “المَرقي في مناقب الشيخ الشرقي” لعبد الخالق بن محمد الشرقاوي، ومنها: “اليتيمة الوسطى في مناقب الشيخ المُعْطى” في مجلد كبير لكاتبه أبي عبد الله محمد بن عبد الكريم العَيدوني، ومنها: “مناقب الشيخ محمد صالح بن المعطى” لأبي عليّ المعداني،ومنها: “الفتح الوهبي في مناقب الشيخ سيدي العربي بن المعطى” في مجلد لحفيده الفقيه أبي حامد الحاج العربي بن بنداود بن العربي بن المعطى. ومنها: “الرّحلة الزبادية إلى زيارة رجال بجّعد”..
12_ (زاوية تِمِكِّشْت): هي زاوية عظيمة بأقصى سوس الأقصى،أسّسها ولي الله العالم الرباني،أبو العباس أحمد بن محمد التّمِكّشْتي السّوسي (ت 1274هـ)، ناصرية الطريقة. هذه الزاوية ظهر أمرها وانتشر في القرن المُنصرم،وتَخرّج بها أفراد قاموا بنشر الدين والعلم في ذلك الصّقع الواسع. أسّسوا من المدارس العلمية ما انتفع به الناس في سوس وحوز مراكش.. وفيها مكتبة نفيسة لكنها ضاعت،ولم يبق من الزاوية إلا الأسوار والضّرائح،وانقضى منها العلم إلا حبّات ل تُسمن ولا تُغني..
13_ (زاوية سيدي محمد العربي بمدَغْرَة): مؤسّس شُهرة هذه الزاوية: العارف السالك،المُسلّك المُربّي،الشريف أبو عبد الله محمد العربي ابن قاضي تافيلالت سيدي محمد الهاشمي العلوي المدغري (ت 1309هـ). كان درقاوي الطريقة، سالكاً مسلك التجريد والجمال،انتشر صيته وكثُر أتباعه،وانتشرت زواياه في جميع جهات المغرب. وتخرّج به أعلام جماعة انتسبوا له،كانوا مثالاً للزهد والبُعد عن السّفاسف،والدّلالة على الله على طريق التجريد: كالفقيه الصوفي سيدي محمد بن أحمد العلوي الصّفريوي (ت 1380هـ)،ووليّ الله سيدي الطيب الهواري صاحب قبيلة شقيرن، والعالم الصوفي المؤلف مولاي أحمد السّبعي،والفقيه العُجَيمي،ووليّ الله سيدي محمد العلاهمي،والمرشد الصوفي سيدي محمد ابن عْبُود المكناسي،وغيرهم.. لاقى من مَلك عصره عُنفاً وتهديداً،ولكن ستره الله بالموت الذي لا بد منه لكل مخلوق.
14_ زاوية الشيخ ماء العينين : هذا الرجل (ت 1328هـ) من أعظم رجال هذا القرن علماً وعملاً،وشُهرة ذائعة عمّت المشرق والمغرب، وعمارة أوقات ببَثّ العلم وإقامة شعائر الدّين عمارة منقطعة النظير،إلى كَثرة أتباع وأشياع يفوقون الحصر. وتخرّج به من العلماء والصالحين، سالكين ومجذوبين،الكثير الطيّب في كل جهة وباب. طريقته قادرية،وَرثها عن آبائه: والده العارف الكبير الشيخ محمد فاضل (ت 1286هـ)،وجدّه الشيخ مامين القَلْقَمي. ويرفعون سلسلتهم أباً عن جدّ إلى الشيخ زرّوق والحافظ السيوطي. كان كثير التأليف والتّصنيف،اشتغل بعلوم وكتب عويصة الحلّ،بالنسبة إلى وَسطه غير مطروقة ولا مستعملة في علوم كبرى،فنَظمها وشَرحها،وذلك ك: “المُزهر” للسيوطي،و”الموافقات” للشاطبي،و”بداية المجتهد” لإبن رشد الحفيد،وغير ذلك.. وكان يؤلّف ويُعطي لبناته يُخْرجن بحطّهن. وهو أوّل من أظهر تآخي الطّرق الصوفية،وأعلن أنه يلقّن أورادها جميعاً،كالقادرية والشّاذلية،والنّاصرية التي هي فرع منها،والتيجانية،وحتى الكتانية.. وله كتاب ضخم سمّاه “نعت البدايات ووصف النهايات” غاية في بابه،وله كتاب آخر سمّاه “مُبصر المتشوف إلى مقامات التصوف” طُبع بفاس في مجلد ضخم.. ولعله طُبع له أزيد من عشرين مجلداً،ونحو المائة مؤلّف بين كبير وصغير،دون الدواوين الشعرية في المواقف الدينية. كاتبته عام عشرين إلى شنقيط،ثمّ لقيته بفاس عام 1320 وعام 1324،وأجازني بخط يده. ثمّ زُرت قبره في تِزْنيت، وكان له بنا عطف وعناية. ولما كانت محنتنا التي كانت في الله ولله عام 1327، تحرّك وحده من بين مشايخ المغرب والمشرق للسفر في نَشلنا من مخالب الموت
تتطرق فيما تبقى الشيخ عبد الحي الكتاني للزوايا بالقطر الجزائري الشقيق لم ادرجه تفاديا للاطالة على القارئ. من اراده ب د ف فليراسل المدونة
ذ رشيد موعشي