خلع النعلين وإقتباس النور من موضع القدمين
تأليف: أبو القاسم أحمد بن قسّيّ ( ت546هـ 1151م) / دراسة وتحقيق: د.محمد الأمراني).تلخيص :ذرشيد موعشي.
مقدمة/ تحقيق الكتاب == قام محقق الكتاب بتقديم دراسة مستفيضة حول ابن قسي وفكره وحياته. ومما جاء فيه: _ نجد قبل ابن عربي خمسة أعلام كان لهم الصيت البعيد والأثر القوي في ترسيخ التصوف الإسلامي الأندلسي وإغنائه وتطويره،وهم:
1_ إسماعيل بن عبد الله الرُّعَيني (مات في مطلع القرن الخامس الهجري): وقد كان له أثر كبير في تطوير المدرسة المسرية وإضفاء طابع سياسي عليها.
2_ أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي،المعروف ب”ابن العريف” (ت 536): يُعدّ من أكابر صوفية الأندلس،وهو معلمة أساسية في التصوف الإسلامي عامة والأندلسي خاصة..ويبدو أثره واضحاً لدى ابن عربي الحاتمي الذي يذكر ابن العريف بكل إجلال وتقدير في معرض مؤلفاته..كما يمتد أثره في الطريقة الشاذلية،وبصورة أوضح لدى “ابن عباد الرندي” (ت 791).
3_ عبد السلام بن أبي عبد الرحمن بن أبي الرجال،المعروف ب”أبي الحكم بن برجان” (ت 537): عُمدة التصوف الأندلسي في القرن السادس الهجري،وشيخ من شيوخه الكبار..اضطهد من طرف الفقهاء والسلطان المرابطي “علي بن يوسف بن تاشفين”..وقد تميّز تفكير ابن برجان بميل إلى الباطن و”علم أسرار الحروف”..وكان ابن برجان يلقب ب”غزالي المغرب”.
4_ أبو القاسم أحمد بن الحسين،المعروف ب”ابن قسي” (ت 546): أعلن ثورته ضد المرابطين سنة (539)،وتزعّم ثورة المريدين، فكان نقطة تحول أساسية في التصوف الأندلسي.
5_ أبو مدين شعيب الأنصاري (ت594): شيخ عظيم وإمام كبير،أطلق عليه لقب(الغوث) لتعظيمه ومكانته..تمكن أبو مدين من لَمّ تعاليم كبار الصوفية الذين أخذ عنهم،سواء في المغرب كالشيخ “أبي الحسن علي بن حرزهم” (ت 560) الذي تلقى عنه علوم الإمام الغزالي،أو في المشرق كالشيخ “عبد القادر الجيلاني” (ت569)،أو في الأندلس حيث ترعرعت وتطورت نظريات “ابن مسرّة” الصوفية في كل من إشبيلية وقرطبة وألمرية والغرب على يد “ابن العريف” و”ابن برجان” و”ابن قسي”..وقد تأثر أبو مدين بالمدرسة الصوفية الأندلسية، وخاصة في منهجية الزهد وطريقة التقشّف،بعدما لَطّف من الجانب الباطني الإشراقي فيها.ومن تعاليمه نشأت في القرن السابع الهجري (الطريقة الشاذلية). .ويُعد أبا مدين شيخاً لإبن عربي الحاتمي،حيث قصده هذا الأخير للأخذ عنه في مدينة بجاية. وكتب ابن عربي تزخر بالإقتباسات من أقوال وكتب ابن مسرة وابن العريف وابن برجان وابن قسي وأبي مدين،كما أنه يذكرهم بالإجلال والإكبار. هؤلاء الشيوخ الخمسة يمكن اعتبارهم”أعمدة التصوف الإشراقي الأندلسي”،فقد رفعوا بناءه شامخاً،ممهّدين لإرتقاء الشيخ الأكبر محيي الدين مفخرة التصوف الأندلسي خاصة والإسلامي عامة،بعدما مهّد لهم السبيل الرائد الأول للتصوف الإشراقي الأندلسي “ابن مسرّة”..
_ إن أهمية “ابن قسي” في التاريخ السياسي والصوفي الأندلسيين تكمُن في تمكّنه من إضفاء صبغة سياسية ثورية على الحركة الصوفية الأندلسية في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)،مُحققاً بذلك،ولو لبضع سنين،ما عجز عن تحقيقه كبار صوفية الأندلس أمثال: ابن مسرّة والرعيني ،وابن برجان وغيرهم..
_ تحول ابن قسي نحو التصوف والثورة لم يكن نزوة ذاتية عابرة أو إدّعاء مزعوماً،وإنما كان تعبيراً عن وعي حاد بأزمة نفسانية مجتمعية ثقافية،رسختها تدهور الأوضاع الإجتماعية الإقتصادية السياسية بالمغرب والأندلس منذ عهد الأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين (ت537هـ/1443م)،وابنه تاشفين (ت539هـ/1145م)،إلى حين إستقرار الأمر لعبد المؤمن بن علي سنة (546هـ)..
_ لقد كان هدف ابن قسي من بناء “رابطة” هو تأسيس مركز يكون نواة لجمع أنصاره ومريديه،من أجل هدف سياسي ذي مضمون مجتمعي مؤطر بإيديولوجية صوفية.
_ يمكن تصنيف مُريدي الأندلس ــ في الفترة التي نتحدث عنها ــ إنطلاقاً من مواقفهم السياسية إلى ثلاثة إتجاهات رئيسية: الأول: إتجاه منطقته شرق الأندلس،ومركزه مدينة ألمرية،وزعيمه “ابن العريف”. الثاني: إتجاه منطقته إشبيلية،وزعيمه “ابن برجان”. الثالث: إتجاه منطقته غرب الأندلس،ومركزه شلب ومرتله،وزعيمه “ابن قسي”. بخصوص العلاقة بين ابن العريف وابن برجان،فقد كان شائعاً إلى عهد قريب أن ابن العريف هو شيخ مريدي الأندلس،وبالتالي شيخ ابن برجان. إلا أن كتاب (مفتاح السعادة وتحقيق طريق السعادة) يورد رسائل لإبن العر يف وَجّهها لإبن برجان،يدعوه فيها ب”الشيخ الفاضل الإمام” و”الإمام أبي الحكم شيخي وكبيري”. .ونفس الأمر يُقال عن علاقة إبن العريف بإبن قسي،فالشائع المُتداول ــ بدون دليل ــ أن إبن قسي كان من أتباع إبن العريف وأنه تتلمذ عليه،إلا أن الوقوف على الرسائل الموجهة من لدن ابن العريف لإبن قسي تنفي ذلك الإدعاء نفياً قاطعاً.. وأما عن علاقة ابن برجان بإبن قسي فتلك حلقة مفقودة على ما نعلم،إذ لا نتوفر على أي مصدر أو وثيقة تُثبت أو تنفي بدليل،وإن كنا لا نستبعد هاته العلاقة بل نُرجحها.. فإذا كان موقف ابن العريف السياسي يتّسم بالمُهادنة والمسالمة إزاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وموقف ابن برجان يتّسم بشيء من التحدي السياسي دون تبني الثورة،مُشكلاً بذلك موقفاً وسطاً بين المسالمة والثورة المسلحة فإن موقف ابن قسي السياسي إزاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتّسم بتبنّي الثورة والدعوة لرفع السلاح.. وهكذا بعد موت ابن العريف وابن برجان والميروقي،أعلن ابن قسي ثورته الفعلية وسُمي أنصاره ب”المريدين”..وبمقتل ابن قسي إنتهت “ثورة المريدين”، وفشل ابن قسي في تحقيق مشروعه السياسي لأن الشروط التاريخية والظروف المجتمعية ــ وبعبارة أخرى: مُحدّدات المجال التداولي لحركية ابن قسي ــ كلها كانت مُعاكسة لطموحه السياسي..
_ لقد عرف التصوف الأندلسي بداية تحوّله الفعلي من طور الزهد والمجاهدة إلى الطور الفلسفي الإشراقي على يد “ابن مسرّة”. غير أن تعرّض ابن مسرة للنقد على يد الفقهاء،ثمّ تعرّض الحركة المسرية للمتابعة والإضطهاد،فأحرقت كتب ابن مسرة حوالي (370هـ).. عمل كل هذا على إضعاف هاته الحركة.. حتى إذا كان مطلع القرن السادس الهجري،وخلال النصف الأول منه،بدأت الحركة الصوفية الأندلسية تشهد تحولات عميقة تستثمر من خلالها ما كان كامناً في ذاكرتها،وتعمل وفق مجال تداولها الخاص على رعايته وتوجيهه وجهة ذات طابع إشراقي متميّز في أساليبه ومصطلحاته ومعانيه،معتمدة على أبي حامد الغزالي وإخوان الصفا،وذلك على يد كل من ابن برجان وابن العريف وإبنقسي،الذين مهّدوا السبيل مع غيرهم إلى إرتقاء ابن عربي الحاتمي الذي بلغ التصوف على يديه مرحلة النضج والكمال. فكان ابن قسي يُمثّل،إلى جانب ابن العريف وابن برجان،حلقة وسطى في تاريخ التصوف الأندلسي. إذ ساهموا في إنعاش البذور الإشراقية الكامنة فيه والتي بَذرها ابن مسرّة،وعملوا على رعايتها وتطويرها،مُغلّبين الجانب الفلسفي ـ الإشراقي على الجانب الزهدي في التصوف الأندلسي،ومُمهّدين السبيل لإرتقاء ابن عربي الحاتمي الذي بلغ التصوف الأندلسي الإشراقي على يديه مراتب النّضج والكمال. من هنا فإن كتاب(خلع النعلين) يُساعدنا على رسم صورة الفكر الصوفي الأندلسي في النصف الأول من القرن السادس الهجري،إذ يمكننا أن نلمس فيه ملامح إشراقية ذات مرجعيات أنبادوقليسية منحولة ــ ذات الإرتباط الوثيق بالغنوصية والأفلاطونية المُحدثة والفيضيّة الهُرمسية الحرانية ــ،وتوجهات شيعية ــ إسماعيلية،ومبادئ إعتزالية،وملامح غزالية،مزجها ابن قسي بآيات ومفاهيم قرآنية وأحاديث نبوية،ثمّ تَمثّل الجميع وصاغه وفق تصوٍّه الخاص ومنطلقه الذاتي ومعطيات محيطه الثقافي السياسي. فالمُتصفّح لكتاب(خلع النعلين)لا يجد فيه مذهباً صوفياً أو فلسفة إشراقية مُكتملة، بقدر ما يجد فيه بذوراً فلسفية أو ملامح إشراقية،أو على حد تعبير أبي العلاء عفيفي: [لا يرى الناظر في كتاب خلع النعلين مذهباً فلسفياً منسقاً كاملاً ولا شبه مذهب،ولكنه لا شك يرى إتجاهات يصح أن توصف بأنها فلسفية أو أصولاً لإتجاهات كان لها شأنها فيما بعد في التصوف الفلسفي عند ابن عربي ومدرسته]..
_ إن أهمية المفكر أو المبدع وإنتاجه تتحدّد بناء على قدرته في إستيعاب تراث واقعه الحضاري المعاش وتَمثّله له تمثيلاً ذاتياً إبداعياً،وفي نوعية تفاعله مع مجاله المجتمعي وقدرته على توجيه سَيْر الأحداث به،ثم مدى الأثر الذي يتركه في المفكرين بعده. فمكانة ابن قسي وأهمية كتابه (خلع النعلين) يظهران بوضوح عندما نُريد التنظير لفكر ابن عربي الحاتمي والتأريخ لتصوفه وإستقصاء مصادره ومرجعياته.. ينصّ لوي ماسينيون على أن ابن قسي وابن برجان وإبن العريف ومسفر السبتي مرجعيات فكرية ابن عربي هيّأته للإتجاه نحو اللاّهوت الصوفي الإسلامي ذي الطابع القرمطي (الإسماعيلي). ويذهب أسين بلاثيوس إلى أن ابن عربي مرتبط بالمدرسة المسرية بواسطة ابن قسي وابن العريف وابن برجان وأبي مدين. ويمكننا من خلال الجدول التالي بيان مدى توظيف إبن عربي لكتاب (خلع النعلين) كمرجعية فكرية من بين مرجعياته المتعددة،وذلك من خلال المقابلة بين الخط العام لأهمّ الأفكار المتماثلة بينهما: [ _ في وحدة الأسماء الإلهية _ في أن أعظم الرؤية رؤية محمدية في صورة محمدية في أن الحقيقة المحمدية أولية روحانية،وأنها منبع الوجود والمعرفة في أن لكل نبي إسماً إلهياً غالباً عليه،وأن سيدنا محمد في أفُق الإسم العظيم الجامع لجميع الأسماء _ التمييز بين الرحمة المطلقة (رحمة الإمتنان) التي منها منح نعمة الوجود،والرحمة المقيّدة (رحمة الوجوب) لقوله تعالى (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) _ في التمييز عند الوجود الإلهي بين حضرة الذات الإلهية المطلقة (الأحدية / الأيْمَن) وبين تجلياتها الأسمائية (الفردانية / الأيْسَر / الواحدية) _ في القول بالجمع أو النكاح أو الضمّ كمبدأ إيجاد وأصل في الإلهيات والروحانيات والفكريات واللغويات والطبيعيات _ في أن كل الموجودات هي كلمات إلهية _ في أن الإيجاد هو نقل الموجودات من حال المعلوم أو الوجود الماهوي المعنوي الثبوتي الكامن في العلم الإلهي منذ الأزل، إلى الوجود الفعلي المحقق العياني الظاهري بفعل التجلي،سواء في عالم الملكوت أو عالم المُلك _ في أن الحضرة الأقدسية / الحق مرآة أسرار الأكوان.. ]. _ حاول ابن قسي من خلال كتابه (خلع النعلين) تبليغ تجربته الصوفية بلغة طبيعية أدبية غنيّة بالطواعية والإستعارية مَكّنته ــ إستناداً على مرجعياته الفكرية وإستعداداته البلاغية ــ من تفجير داخل المعجميات السائدة في النص الديني (خلع النعلين،الواديالمقدس،قصةيوسف،الإسم الإلهي الرحيم،الإسم الإلهي الحيّ،الكرسي،العرش،النعيم، الجحيم،الشجرة،الكلمة،القلم،اللوحالمحفوظ، النور، المعراج،روح القدس..) نقلات نوعية داخلية أكثر من نَحته معجميات جديدة. وهذا ما جعل في إعتبارنا نص (خلع النعلين) يمتاز بكونه نصاً صوفياً متعدّد الدلالات، يرتكز أساساً على المستوى الإيمائي للّفظ أو المفهوم،دون مستواه الإحالي، وبالتالي خَوّل لأسلوب ابن قسي في هذا الكتاب الخاصيتين الآتيتين: أولاً: إستلهاماته الغنيّة للنص الديني (الصحف الخبرية)،وقراءاته الإشارية الذوقية (اللمع الأفقية) في ضوء مرجعياته الفكرية المتنوعة.. ثانياً: التّكثيف الرمزي الذي من شأنه ضغط الأفكار بالجمع بين معاني متعددة ومراتب كثيرة ومستويات مختلفة وقيم متنوعة غنية.. يقول ابن قسي في كتابه (خلع النعلين): [وإنه لما علا نصاب هذه النّسبة في نفسه،وتنزّل روح السرّ إلى بساط أنسه،كانت هذه الأسماء (أي المسميات المذكورة في كتابه) مثلاً مضروباً من ذلك النور الروحاني والوجود السرياني،ونحن نُكنّي ونُسمي ونُشير ونومِئ].. _ كلما ذكر “المذهب الفلسفي” إلا وإقترن بنزعة توحيد مجالات المعرفة والربط بينها،فكان لذلك ذا طبيعة عقلية تجريدية. إذ العقل المجرد بطبيعته الرياضية لا يفهم إلا إذا وحّد،والإنتهاء إلى وحدة يمُرّ عبر عمليتين رياضيتين هما: التحليل والتركيب،يكون منتهاهما التصور. ولهذا كان المذهب الفلسفي العقلاني يقوم أساساً على التصور. وإذا كان فلاسفة الإسلام،كإبن رشد مثلاً،يعتبرونالبرهان المنطقي الصوري قمّة المعقولية البشرية،فيحاولونتأسيس الإلهيات الإسلامية على البرهان المنطقي والإستدلال النظري.فإن الصوفية بحكم تأسيسهم الحقيقة الدينية في الفطرة البشرية وتأكيدهم على المعاناة،يُرجحون العمل على النظر،فيسلكون مسالك أغنى وأوسع من مسالك البرهان الصوري،إنهامسالك الذوق أو الكشف من حيث شموليته لجميع الإستعدادات الإنسانية. لقد إنتقد الصوفية،من منطلق تجربتهم،العقل الصوري المجرد (العقل العقلاني)، لأنه لا يُساير ما يشعر به الإنسان وهو يَجد الوجود ويحيا المواقف بما تحمله من قلق وتوترات وتناقضات وإهتزازات،هي في عُرف العقل العقلاني ــ إن صحّ التعبير ــ أو منطق البرهان: لا عقلانية،ولكنها في عرف منطق الوجدان هو حق اليقين. إذ في منطق الوجدان (الذوق / الكشف) ليس هناك حدوداً ثابتة وفواصل ساكنة بين ما نُسميه بالعقل واللاّعقل،بل هما فاعليتان بشريتان مُتفاعلتان متداخلتان متكاملتان في كل ممارسة وخطاب. فكان بذلك “منطق الوجدان” منطقاً حركياً جدلياً..وإذا كان العقل المجرد أو منطق البرهان في إحدى آلياته يستند على التحليل وإبراز الحواجز،وصياغة القوالب والتصورات الشكلية،فإن الذوق أو الكشف أو منطق الوجدان يتخطّى الحواجز ويرفض التصورات الشكلية. ولهذا فإن تحول الصوفية من الإهتمام بالتصورات الكلية المجردة إلى مُعايشة الصفات والأحوال الفردية والمعاناة الوجدانية،هو تحول من سكونية المذهب العقلاني المجرد وإنغلاقه وثبوتيته إلى اللاّمذهبية وحيوية الإنفتاح على الوجود. ولذا كنا نجد أفكار الصوفية تأبى في أغلب الأحوال الصياغة المذهبية والتنظير العقلاني الفلسفي المجرد.. وابن قسي كشيخ من شيوخ الصوفية يستلهم في كتابه مواجده وأذواقه وأفكاره من خلال تأويلات إشارية رمزية لكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوة،مؤكداً على أن البحث في الحقيقة (علم المكاشفة) لا يتمّ إلا بالحدس أو بالذّوق،أو حسب تعبيره بالفتح.وهذا التأويل الإشاري ــ كدرجة من درجات فهم النص الديني ومستوى من مستويات قراءته ــ تنسُب لنفسها الوعي التام والمعرفة اليقينية بالإلهيات والحضور الكامل المندمج في التجربة الدينية ــ الوحي / النص الديني ــ إذ يسلُك به ابن قسي مسالك الكشف والذوق،قصد [سماع الحق والكلام الصدق من حيث الحق]،يُظهر الحقائق للعارف [مثل لمع البرق من المقعد الصدق]، ويوجب على ممارسه إقتداء بالأمر الإلهي لموسى عليه السلام (فاخلع نعليك) ــ مجاهدة نفسه وخلع ثوبي دنياه وهَواه (الجسم النفس)،بالإنخلاع عن العقل المقيّد بالظواهر الحسية الظنيّة والإدراكات الوهمية،والمحروم من الواردات الغيبية والإعطاءات الربانية المنبعثة عن صفاء القلب وطهارة الباطن (الوادي المقدس) التي تُنحّى عندها أساليب الإستدلال البرهاني وطُرقه ومبادئه وقواعده،فترفع [وساوس الكيف والأين] وتُخلع حُجب [الغان والرين].. _ لقد تناول ابن قسي العلاقة بين الله والعالم،بين الواحد والكثير،منمنظور دائري،مُخالفاً بذلك التصورين: “الخطّي التراتبي” الذي عُرف لدى الفلاسفة مثل الفارابي في “نظرية الفيض”،حيث الموجودات لديه لم تصدُر عن الله دفعة واحدة وإنما فاضت عنه وفق تسلسل هرمي وترتيب رياضي.و”الإنفصالي” بين الله والعالم الذي عُرف لدى المتكلمين،والقائم أساساً على خلق الله للعالم من العدم.. يقول ابن قسي: [كل باطن حقيقة لكل ظاهر،وكل أعلى حقيقة لكل أدنى،هذا فيما تضايفت فيه الأنواع وتقابلت الأطباع وتجانست العوالم وتشاكلت الطباع].. فالعلاقة بين الله والعالم لدى ابن قسي هي “علاقة تجلّي”،إذ عالم الغيب والشهادة هما تجليات للأسماء والصفات والأفعال الإلهية. وقلّما يستعمل ابن قسي كلمات: الخلق أو الفيض أو الإبداع أو الإيجاد أو الإبراء،وإن وردت عَرَضاً فهو يستعملها بمعنى “التجلّي”. وقد تنبّه ابن خلدون لرأي ابن قسي في علاقة الله بالعالم،فصنّفه ضمن “أصحاب التجلّي والمظاهر والأسماء والحضرات”،إلى جانب كل من ابن برجان وأحمد بن علي البوني وابن الفارض وابن عربي الحاتمي وابن سودكين. إن مفهوم “التجلي” كإجراء لفهم العلاقة بين الله والعالم في ضوء مبدأ الدورة الكونية الكبرى،يقتضي الحديث على ثلاثة مستويات متضايفة: 1 (الذات الإلهية) 2_ (الأسماء الإلهية) 3_ (المظاهر الوجودية).. ينصّ ابن قسي على التمييز الجوهري بين الذات الإلهية في مقابل الأسماء الإلهية والمظاهر الكونية.. فحضرة الذات الإلهية المطلقة يُسميها “الأحدية” و”الأيْمَن”، في مقابل حضرة الأسماء الإلهية التي يُسميها “الفردانية” و”الأيْسَر”.. وهذا التقابل لدى ابن قسي هو محاولة معرفية وجودية لتجاوز إشكالية العلاقة المنطقية والوجودية بين الوحدة والكثرة،بين الله والعالم.. وفي نفس الوقت هو محاولة إبستمولوجيةلنقد المعرفة البشرية وبيان حدودها عن طريق بيان ما يمكن معرفته عن الوجود الإلهي المُتجلّي للوعي الإنساني وما لا يمكن أبداً معرفته عنه لبطونه وسرّه وحجابيّته.. وإذا كان لا سبيل لمقاربة “الحضرة الأحدية”،فإن “حضرة الأسماء الإلهية” يمكن معرفتها بفضل “المجاهدة” الموصلة والمُصاحبة للكشف الملكوتي أو الفتح. على أن معرفتنا بها تقتصر على آثارها لا على بواطنها،إذ الأسماء الإلهية باطنة بُطون الذات الإلهية، وإمكانية معرفتنا لآثارها تجعل العلاقة بين الله والعالم،بين الوحدة والكثرة،ممكنة.. وابن قسي ينظُر للأسماء الإلهية،من حيث وجودها ودلالتها،على أنها ذات وضع وجودي ـ معرفي مزدوج: فهي وحدة واحدة لأن مدلولها “الذات الأحدية”،وهي كثرة متعددة لتجليها وتعلّقها بالمظاهر الوجودية.. فمنطق التضايُف،أو ما يسميه ابن قسي “سرّ التوالُج وحكمة التداخل”،هو الأساس المعرفي ـ الوجودي للأسماء الإلهية،وينبني على هذا أن المعرفة الإنسانية لا تنطلق من العالم إلى الله كما هو لدى المتكلمين،ولا من الله إلى العالم كما هو لدى الفلاسفة (الفارابي مثلاً)،وإنما تنطلق من الأسماء الإلهية باعتبارها صلة وصل بين حضرة الذات الأحدية. فالأسماء الإلهية حجاب على الذات الأحدية من جهة،ومن جهة أخرى هي الماسكة للوجود والقائمة عليه والمُتجليّة فيه.. _ مراتب الوجود: ويتصور ابن قسي الموجودات حلقات دائرية متداخلة مرتبة ترتيباً تنازلياً بعضها عن بعض.. ويُقسم الموجودات،عدا الذات الأحدية (الله) [ليس عنه فصل ظاهري]،إلى ستّ مراتب متضايفة،ووفق التصور الدائري ومبدأ التوالج فإن كل مرتبة تعتبر باطن للتي تليها: 1 فلك الحياة والعرش المحيط: الموجود الأول،إستوى عليه الإسم الإلهي “الحيّ”،وهو حجاب للذات الأحدية ومُهيمن على جميع الموجودات وسار فيها.. 2_ فلك الرحمة والعرش الكريم: هو الموجود الثاني،إستوى عليه الإسم الإلهي “الرحمن”. وبمقتضى مبدأ تضايُف الظاهر والباطن،فإن هذا الموجود الثاني هو ظاهر الموجود الأول،وهو [الحامل للوجود،ومنه بدأ الفصل وإليه يعود]. فهو التمظهُر الفعلي الأول لقوة الحياة الكامنة الباطنة،فكان بذلك فلك الرحمة [الموجود الأول الظاهر،والمفصول الواسع الذي وسع الكل قراره،فقام بالوجود قيام آدم بالبنين في خلقه وحواء بالجنين في بطنها]. وقد خلق الله من ظاهر هذا الفلك “روح القدس” أو “الحقيقة المحمدية”. وهذا الفلك هو [عالم المقام الرضواني والمستوى الرحماني،وإليه ينتهي الإحساس البشري والإدراك النبوي]. 3_ فلك الكرسي العزيز والعرش العظيم: هو الموجود الثالث،إستوى عليه الإسم الإلهي “العزيز”،خلق الله من ظاهره القلم الأعلى واللوح المحفوظ،وإليه [تنتهي ملاحظة العارفين ومكاشفة النبيئين والمرسلين.. سوى إمام العالمين وسيد الأولين والآخرين،فإنه لاحَظ ما فوق ذلك من عليين وشاهَد حضرة القُرب القريب والمكان المكين صلى الله عليه وسلم..]. وهو [مفتاح الحُكم وقَوام الفلك ووضع القدمين،ومفتاح ذات الكيف والأين،جعله الله للوجود نوراً إفاضياً وروحاً قوامياً].. 4_ (فلك العرش المجيد): هو الوجود الرابع،إستوى عليه الإسم الإلهي “المجيد”، خلق الله من ظاهره [جبريل الروح الأمين،وهو العالم المُلكي والسرّ الروحاني، عنه تتنزّل أسرار الغيوب والنبأ. وهو عالم السماوات العُلى والملأ الأعلى،وهو الخصم المُقرّب المُرتضى. وإليه ينتهي الكشف الملكوتي بخواص الموقنين ونجوم النبيئين]. 5_ (فلك السماء): خلق الله من ظاهره [آدم عليه السلام،وهو العالم الإنساني والسرّ الرباني،إليه سجد الملكي الروحاني وسخّر العلوي النوراني،وكذلك السفلي الحيواني وغير الحيواني].. 6_ (فلك الأرض): خلق الله من ظاهره [الجماد والحيوانات والحشرات،وهو عالم التسخير والإذلال،وجنسالإبتذال،وهو في أسفل درجات التمييز وأسفل مقامات التفريق].. فالتصور الدائري ومنطق التضايُف ثابتان أساسيان من ثوابت فكر ابن قسي،بهما حاول مقاربة إشكالية الذات الإلهية والأسماء الإلهية والمظاهر الوجودية،وفي ضوئهما بَنى تصوره للفيض الوجودي ومراتب الموجودات. يقول ابن قسي: [واعلم أن كل حجاب من هذه الحُجب وكل فلك من هذه الأفلاك، إنما هو ظاهر وباطن. فالباطن حياة الظاهر وقوامُه ونوره ومداده، والظاهر قرار الباطن ومقامه ومآله ومعاده. ومن نور ذلك الباطن العليّ والسرّ القدسي وَجب التفصيل الروحاني والتنزيل النوراني،ومن هذا الظاهر البهيّ والنور السَنيّ ظهر التصوير الجسماني والتشكيل الإنساني وغير الإنساني]. فتضايُف الموجودات ظاهراً وباطناً هو سنة إيجاد الوجود،ف[فلك الحياة لم يكن عنه فصل،وإنما كان عنه فلك الرحمة على سنة وجود ظاهر عن وجود باطن].. ونظرية ابن قسي في الفيض الوجودي ومراتب الموجودات،تستحضر بكل قوة “نظرية الحُجُب الإشراقية”. ذلك أن ابن قسي بقدر ما ينظر لهاته الأفلاك والمظاهر الوجودية على أنها تجليات الأسماء الإلهية،بقدر ما يعتبرها حُجباً، ف[الإحاطيات الأوليات والتفضيلات الإراديات،حُجب مفصولات عن نور السُبحات وسرّ الأسماء المكنونات].. _ (الحقيقة المحمدية):فكرة “الحقيقة المحمدية” كمنبع للوجود والمعرفة،بقدر ما هي غريبة عن الكلام الإسلامي بصفة عامة،بقدر ما نجد لها مشابهات وتماثلات وصِلات بالتصوّرات الميتافيزيقية والنفسية للغنوصية والأفلاطونية المُحدثة. ونجد بُذورها الأولى في الفكر الإسلامي لدى الشيعة على الخصوص، فقد راج لدى هؤلاء منذ عهد مبكر (فترة الإمام جعفر الصادق) القول ب”أزلية النور المحمدي”.ثمّ ما لبثت هاته الفكرة أن راجت بشكل أو بآخر لدى الإتجاهات الإسلامية الأخرى من سُنيّين وصوفيين،وقد حاول الجميع تأصيل دعواهم بالإستناد على بعض الأحاديث،منها: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين)،(أنا أول الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثة)،(يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره)..وإذ طوّرت الشيعة كلامها في “النور المحمدي” وأعطته أبعاداً وجودية وميتافيزيقية ومعرفية وسياسية،فإتّخذت الإسماعيلية الفكرة أساساً لنظريتها في “الإمام المعصوم”.. فإن الصوفية إذ أخذوا الفكرة الشيعية حول أزلية النور المحمدي،فقد وظّفوها لبناء تصورهم عن “الولاية” و”الوليّ” و”القطب” كوارث للنبوة. وظهر هذا القول لدى كثير من الصوفية أمثال: التستري والحلاج والسلمي والغزالي وابن قسي وعبد السلام بن مشيش وابن الفارض وابن عربي وجلال الدين الرومي والجيلي.. فصار ما كان يُسميه الشيعة النور المحمدي،يُسميه الصوفية الحقيقة المحمدية أو الروح المحمدي.. وإذا إتّفق جُلّ الباحثين في الفكر الإسلامي على أن ابن عربي الحاتمي هو الذي قفز بفكرة الحقيقة المحمدية قفزة نوعية داخل التصوف الإسلامي بشقّيه المشرقي والمغربي ـ الأندلسي،إذ تمكّن من تفصيلها تفصيلاً فلسفياً إشراقياً مُحكماً. فإن مما لا شك فيه أنه على صعيدالتصوف الأندلسي إلى غاية منتصف القرن السادس الهجري ــ وفق المصادر والوثائق المتوفرة ــ فإن ابن قسي هو أكثر صوفية الأندلس إهتماماً بالحقيقة المحمدية وإصراراً عليها.. فلا نتردّد في القول: بأن كتاب خلع النعلين كان أحد المرجعيات الفكرية التي وظّفها ابن عربي في صياغته لنظرية الحقيقة المحمدية.. يقدم ابن قسي الحقيقة المحمدية كأصل ميتافيزيقي ومبدأ وجودي معرفي.. ويُسميها “روح القدس” أو”الروحانية الأولى” أو”الحجاب الأقدس” إلخ،وهي في نظره [النور الحي الذي يقوم بكل شيء]. فهو يرى “النور المحمدي” أصلاً ميتافيزيقياً ومنبعاً وجودياً ومبدأ للتكوين وتدبير الكون،تستمد منه جميع الأنوار والموجودات في عالمي الأمر والخلق،فهو النور الإلهي الذي تظهر به جميع الأسماء لكمال مرآته.. فيُسميها “الروحانية الأولى” أو “الروحانية المطلقة”،منها تظهر الحقائق وإليها ترتقي.. وقد قرن ابن قسي الحقيقة المحمدي بفلك الرحمة والعرش الكريم،الذي هو المفصول الأول.. فكان النور المحمدي حجاباً لكل ما هو أدنى. وحيث أن حجاب الله نور،فإنالحقيقة المحمدية عين النور الإلهي، وبالتالي عين حجابه،ولهذا سماها ابن قسي “الحجاب الأقدس” لأن الله تعالى لا يحتجب بشيء سواه.. عرض موجز لمحتوى كتاب خلع النعلين _ الكتاب جواب على سؤال أحد مريدي ابن قسي حول أسرار علم المكاشفة (الحكمة الإشراقية) المُستوحاة من الوحي الإلهي لأنبيائه،قصد تغذية الأرواح وتقوية القلوب وإذكاء الذوق والإلهام وترسيخ الإيمان. وإن مقالاً من هذا القبيل يستلزم الوقوف بمقام أعزّ حيث ليس [إلا النور الحق والكلم الصدق والسرّ الذي قام به الأمر والخلق]. _ وابن قسي إذ يقرّر أن من كان في هذا المقام،فعليه أن يستلهم موقف موسى عليه السلام إذ آنَس ناراً فذهب ليقتبس نوراً،فنودي (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى). فقد آثر ابن قسي تسمية كتابه (خلع النعلين) تيمّناً بمقام موسى وهو في الحضرة الإلهية،وإستلهاماً لأحواله عليه السلام. _ إن الأمر الإلهي الموجه لموسى (فاخلع نعليك) لهو،في نظر ابن قسي،دلالة على أن من كان في هذا المقام وجب عليه تجاوز المألوف وكسر قوالب الحياة المبتذلة،وتحطيم بداهات وتصورات المعرفة الحسية والعقلية المعتادة. وأن يكون حاله حال موسى،خلع عنه النعلين ورفع وساوس الكيف والأين. ولم يزل يخلع ويخلع حتى خلع حجاب الغانوالرين،وتدرّع قميص وقار الهين واللّين. فإنخلع كل وجود في حقه عن بردة ظهره،وشقّ عن كمامة نوره.. فمن طمح لأسرار المكاشفة وإشتاق لمشاهدة الحضرة الإلهية،ففي نموذج موسى أبلغ مثال [فمن تشوّق لسماع الحق والكلام الصدق،من حيث الحق يظهر له مثل لمع البرق من المقعد الصدق،فليخلع نَعلي دنياه وليُقدّم صدقات بين يدي نجواه..]. _ وإذا كانت الآية الموسوية وما تضمنته من عِبَر ألْهَمت ابن قسي في تسمية كتابه،فإنالآية اليوسفية يتخذها رمزاً لما أودعه في كتابه من علوم إلهية.. فوجب على أهل الكتاب أن لا يكونوا كإخوة يوسف يتنكّرون للحكمة فيُلقونها “في الجُبّ” ويكونوا “من الناكثين” أو يكونوا “من السيارة تشرونها بالثمن البخس وتكونوا فيها من الزاهدين”. _ وحكمة علم المكاشفة (الحكمة الإشراقية) ليست من قبيل ترتيب المقدمات وإستنتاجالنتائج،بل هي نور يقذف في القلب،وكشف وإلهام. ولذا فإن ابن قسي يعتبر أن ما أودعه في كتابه مقتبس من مشكاة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم [ولما كانت ملكوتية الإلقاء أميّة الإخبار والإملاء،وفَتح لي عن مغالق الأبواب وبطائن الأسباب،فرأيت حدائق الرحمة علماً حقاً وكشفاً صدقاً،من غير حجاب..].. _ ويؤكد ابن قسي أن هذا النوع من المعرفة الإلهامية الذوقية هو من الحقائق [المضنون بها على غير أهلها]،والتي لا ينبغي أن يطلع عليها إلا من حذقته العلوم وتمسّك بالشرع.. _ وابن قسي،كغيره من كبار الصوفية،يقرّر أن ما يكتبه ليس نتيجة جهد نظري مُستخرج بالمقاييس وتقديم المقدمات وإنتاج النتائج،وإنما هو وَليد كُشوفات إلهامية ونفحات ربانية تتجاوز كل ما يقضي به منطق العقل.. وفي ضوء هذا يجعل ابن قسي كتابه أربع صُحف هي: 1_ (الملكوتيات). 2 _ (الفردوسيات). 3_ (المحمديات): وتتضمّن من بين ما تتضمن قسمين: أ_ صلصلة الجرس ب_ بساط الأنس وسكينة النفس. وقد جعلها ابن قسي في صدر كتابه تبرّكاً بالنبي صلى الله عليه وسلم. 4_ (الرحمانيات). وابن قسي إذ يُقسّم كتابه إلى أربع صُحُف فماذاك إلا لأنه،كمعظم أعلام الصوفية، يقول بعلم أسرار الحروف،ويعتبر رقم أربعة رقماً تاماً [فما دخلت الأربعة قط إلا في أمر تمامي].. أ_ (صلصلة الجرس): يتعرض ابن قسي في صلصلة الجرس لمعضلات الوحي ومشكلاته،بأبعادها الوجودية واللغوية والكونية ،مشيراًإلى أن النبي في الوحي يتعرّض للضّيق الشديد،ومردّ ذلك مُكابدة الرسول تفصيل مُجمل ما أوحي إليه.. ويعالج ابن قسي هذه المشكلات ضمن مفهوم “البرزخ”،هذا المفهوم الذي سيُوظّفه في معظم صحف كتابه توظيفاً إجرائياً لحل المشكلات التي سيتعرّض لها في كتابه.. ب_ بساط الأنس وسكينة النفس: يُصدّر هذا القسم بالآية (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم) الآية،ويصحبها بحديث نبوي في هذا المقام،وفي ضوئهما يستلهم محاور كلامه حول قضايا هذا القسم.. وقد تعرّض ابن قسي في هذا القسم للنور المحمدي أو الحقيقة المحمدية.. ج_ الملكوتيات: هي أول الصُحُف،يصدرهاابن قسي بالآية القرآنية (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) الآية. ويستوحي منها ومن منزلة إبراهيم عليه السلام فحوى الملكوتيات..وفي (الملكوتيات) تعرّض ابن قسي لنظريته حول “مراتب الوجود”.. وما يمكن إستخراجه من أقسام هذه الصحيفة هو: 1_ تصور ابن قسي الإشراقي لعوالم الأنوار ومراتب وجودها،ومستويات حُجبها. وهي مسألة شغلت حيّزاً مهماً في فكر الصوفية كالغزالي وابن عربي والسهروردي الإشراقي.. 2_ علاقة الظاهر بالباطن،ودورهما في المعرفة والوجود.. د_ الفردوسيات : وهي الصحيفة الثانية،ويُنبّهنا ابن قسي في بدايتها على أن ما فيها [قد إنتظم أكثرها في الرحمانيات،ولذا لم نُمعن الكلام فيها..].. بسط في هذه الصحيفة الكلام حول: الجنة ونعيمها.. والأسماء الإلهية وأحكامها في خَلق المُلك والملكوت.. هـ_ المحمديات : وهي الصحيفة الثالثة،وقد سبق أن إفتتح كتابه ــ بعد الخطبة ــ بقسمين منها: (صلصلة الجرس،وبساط الأنس وسكينة النفس). ويعتبر ابن قسي هذه الصحيفة بمثابة “فصّ الخاتم ونقش الطابع”. ويُطالعنا ابن قسي في بدايتها برأيه في “وحدة الوجود”،مُبيّناً كيف أن هاته الوحدة الوجودية سِمَتها التناقض والتضادّ.. ويختم هذه الصحيفة بعودته لبسط الكلام في “الحقيقة المحمدية” أو “النور المحمدي”،ودوره في الكون والوجود الإنساني، وأهميته في الإمامة الآدمية،وتفضيل آدم وسجود الملائكة له. كما يُبرز دور الأسماء الإلهية وأحكامها في كل ذلك،فحيث [كان آدم في حجابيته الربانية وذاته الرحمانية،التي هي الظهارة الأحمدية بالحضرة الأزلية والعزّة الأحدية الصمدية.. وأما الآدمية في ذاتها فالمحمدية حياتها ووجه مرآتها..]. و_ الرحمانيات : وهي الصحيفة الرابعة والأخيرة،مُستلهماً الآية القرآنية (ثم استوى على العرش الرحمن)،ومحاولاً تأويلها تأويلاً إشارياً،باسطاً كلامه في أمور مختلفة ترجع كلها إلى إسم (الرحمن).. ويمكننا تصنيف الكلام في هاته الصحيفة إلى صنفين: الأول في “المكاشفات”، والثاني في “المجاهدات والعبادات”..
كتاب: خلع النعلين أما بعد: [.. فإنه سأل سائلكم أن أبعث له من “الصحف الخَبرية واللّمع الأفقية” ما يمتع بالجنى الإيماني ويفتح باباً إلى الحِمى السرياني.. فكان من ذلك ما يصل إليكم تحت هذا السّتر الملكوتي والختم الرحموتي،وهي العذراء الرزّان من الفتيات الخيّرات الحسان،لم يطمثها إنس قبلهم ولا جان. نزلت من ملكوت الأنوار إلى حجب الأسرار إلى فرش بيوت الأحرار.. فإذا سار بأهله إختياراً،آنَس من جانب الطور ناراً،فهناكفليخلع النعلين وليلتمس النور من موضع القدمين،وليعلم أنه بالواد المقدس والمقام الأعزّ الأنفس،فليس إلا النور الحق والكلم الصدق والسرّ الذي قام به الأمر والخلق.. ويا أهل الكتاب: إن موسى بن عمران عليه السلام،لما نودي أن إخلع نعليك إنك بالواد المقدس،وسمع كلام الأعزّ الأقدس،خلع عنه النعلين ورفع وسواس الكيف والأين،ولم يزل يخلع ويخلع حتى خلع حجاب الغانوالرّين،وتدرّع قميص وقار الهين واللين. فإنخلع كل وجود في حقه عن بردة ظهره،وشقّ عن كمامة نوره، فرأى أرضاً بساطاً وكلأ أنماطاً.. ثم لم يزل تلك هيأته يُرقيه للمقعد الصدق.. فهذه سنة التدلّي والترقّي،وهيأة التّداني والتلقّي. ولما كانت ملكوتية الإلقاء أميّة الإخبار والإملاء،وفتح لي عن مغالق الأبواب وبطائن الأسباب،فرأيت حدائق الرحمة علماً حقاً وكشفاً صدقاً،من غير حجاب.. وأنتم،أيدكم الله بقُربه وأمدّكم برحمته،فكلما إستدعيتموها فتح باب ورفع ستر وكشف حجاب. ولزمت الحق لكم في إسعاف مراعيكم وقضاء حوائجكم، كذلك فلتلتزموا أنفسكم الوفاء بما تقدّم. وإبتداء العهد فهو عليكم من أن تكون عندكم بأمانة الله عن عين تغمزها ونفس تلمزها،وأن تصونوا مكانها عن صاحب دنيا يكتسبها،أو حامل بدعة وتابع هوى يحملها،أو تارك سنة أو مفارق إجماع أمة ينظر فيها. بل لا تمنحوها إلا لمن قدّر العلم قدره،وأعطى النظر حقه،وروى الفقه بجميع حدوده القاطعة وسُننه الظاهرة والباطنة قسطاً،وكان على نور من ربه وبيّنة من أمره.. ففرق بين ما هو من العلم الذي يحمله ورامَه بتوبة تُورثه خشوعاً وخشية،وبين إفادة دنيوية تورثه عمى وقسوة.. فالعلم والفقه إنما هو ما أريد به الله تعالى في كل حال وكل وجه،شاهده الخشوع والخشية،وأمره الحنان والرحمة، وسمتُه السّكون والهَيبة والسماح والرحمة،وبيّنته الإنبساط للخلق والرّفق بالأمة.. وإنه لما كان فتحاً خبرياً وكشفاً نظرياً،وكانت من مواهب الأسرار وروائح دار الأنوار،وكانتإنبعاث حياة وإخضرار نبات وإنفتاح كمام نور جنات،لم أقصد بها قصد المؤلفين ولا طريقة تصنيف المصنفين،وإنما هو ذكر الفتح كما جاء وعرض مكان البرق حيث أضاء. ولما إقترنت فكانت رقاً منشوراً وإنتظمت فكانت كتاباً مسطوراً،وكانعبراني النشأة في جنسه،روحاني النسبة في أصله، سمّيته: (كتاب خلع النعلين وإقتباس النور من موضع القدمين)،وجعلت ذلك علماً منصوباً ومَثلاً مضروباً،ليُفهَم إيماؤه ويُلقن إيحاؤه،وليعلم الفَطن أن البيوت لا تؤتى إلا من أبوابها وأن الموضوعات لا تُبلغ إلا بأسبابها. فمن كان ذا عينين فيتبيّن المراد من خلع النعلين،فليس إلا أن ينْخلع من نَعلي دنياه ويتجرّد من ثوبي شهوته وهواه،وأن يتعرّض تعرّض الفقير المُحق لنفحات مولاه،فعسى الله أن يأخذ بيده أو يأتيه بالفتح أو أمر من عنده،بعزّته وكرمه..].. _ الترجمة الأولى للقسم الأول من الصحيفة الثالثة: صلصلة الجرس الرقائق أرواح في الدقائق..فلو رُفع عنك الحجاب الجسماني عن بساط الروحانية لكلّمك من ذاتك بعدد وَلد آدم من الخلق.. وإليه الإشارة بقوله تعالى: (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال). فلو كشف غطاء الحكمة عن أبصار المُمترين وعيون المُميّز من القوم العَمين، لرأوا رقائق الدقائق الباطنة كأنها خُشب مسندة وعمد مُمدّدة،لا يستطيعون السجود وهم سالمون.. ومن وَطئ بساط “الحقائق” إستوى،ومن ركب بُراقها بلغ إلى سدرة المنتهى.. وهو ما قالوا: [إن لكل حق حقيقة،ولكل عين معنى. فالحق ذاتك،والحقيقة ما تؤول إليه حياتك].. واعلم أن الأرض والسماء حق وحقيقة،والجو وَصْل بينهما. وأن الخلق والأمر، كل واحد منهما،حقوحقيقة،والبرزخ الجوي وصل بينهما. وأن باطن هذا الوصل هو البرزخ بين الدارين والأقرب من الحقيقتين. فإذا الدنيا حق والبرزخ حقيقة،ثمّ الدار الآخرة حقيقة والبرزخ حق. كذلك هذه الدار الدنيوية حق والبرزخية حقيقتها. ثمّ الحقيقة البرزخية حق والأخروية حقيقتها. فعلى هذا يكون كل باطن حقيقة لكل ظاهر،وكل أعلى حقيقة لكل أدنى. هذا ما تضايفت فيه الأنواع وتقابلت الأطباع وتجانست العوالم وتشاكلت الطباع. فافقه هذا النص من مفاتيح الأغلاق ومعادن الأعلاق.. / يعتبر ابن قسي منطق التضايُف هو الأساس المعرفي لكل الحقائق الإلهية والمعاني العقلية،والظواهر والأسرار الكونية. وينعتُه تارة ب”سرّالتوالُج وحكمة التداخُل”.. _ الترجمة الثانية للقسم الأول من الصحيفة الثالثة: (بساط الأنس وسكينة النفس) _ قال الله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شَهدنا). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله تعالى آدم مسح على ظهره فاستخرج منه ذريته كأمثال الذرّ،فأخذ عليهم العهد والميثاق،ثم ردّهم في صُلب آدم) الحديث. فهذا من هذا.. وقال صلى الله عليه وسلم: (خلق الله الخلق وقضى القضية،وأخذ ميثاق النبيئين) الحديث.. فهما عهدين في وقتين،وميثاقين على خلقين. فخلق الروحانية الأولى،ثمّ خلق النفسانية الأخرى (أي: الروح الكلية والروح الجزئية)،ولكل عهد وميثاق،وسنة في عقد ووفاق. فالروحانية النبوية وغير النبوية،بعد الإقرار بالعبودية والإعتراف بواجب الربوبية، أن تَفي للتبعية وتستوفي شرائط التبليغ في المناشئ النقلية يوم إتحاد الثقليّة والنفسانية الإنسانية وغير الإنسانية. وبعد الإعتراف بالعبدانية والإقرار بواجب الربانية،أن تفي الروحانية وتستوفي شرائط الإتباع والإستماع الأنبائية.. واعلم أن هذا الكلام مطلق في عموم النبيئين،عام في جميع المرسلين،من آدم إلى عيسى عليهما السلام. إذ في عيسى تَمّت “الحكمة النبوية”وإنقضت الدورة الفلكية، ورجعت العودة الذرية إلى الآدمية،قال الله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم). وأما سيد المرسلين وإمام النبيئين صلى الله عليه وسلم،فليس له خاصة في هذا التعديل ولا عارضة ذكر في هذا التنزيل. فإنه كما جاء،ونِعْمَ ما جاء،فما كان عقد الدائرة وسر الحياة والباصرة،فكان بَدْء الآخرة ومقدمة الأكوان الزاهرة،ولا تُقاس دار بدار ولا مقدار بمقدار.. [لقد أفرد ابن قسي للأنبياء والرسل دائرتين فلكيتين: دائرة تبدأ بآدم وتنتهي بعيسى.. ودائرة كبرى شاملة هي دائرة الحقيقة المحمدية.. ومن هنا يرى ابن قسي أنه لا مقارنة بين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والرسل. وحديث التعديل (لا تُفضّلوا بين الأنبياء)،إن خصّ جميع الأنبياء،فهو لا يخصّ النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..]. وكما أن نبوته صلى الله عليه وسلم ترجُح بالنبوات وكتابه يوزَن بالكتب المُنزّلات كذلك أمّته تزن الأمم وتُعادل الفرق والملَل. وما من كرامة إختصّ بها نبي ولا وَلاية سَبقت لوليّ،إلا جمعت في نبوته وظهرت فيما بعد في القُربى من ذريته والغُرباء (الأولياء) من أمّته،علم ذلك من علمه وجهله من جهله.. [ “الغُربة” من معالم الولاية ومكوناتها،ولذا كنّى ابن قسي “الأولياء” ب”الغُرباء”،ويقول عن الغريب أنه قريب،و”القريب صَفيّ بالنور النبوي والروح القدسي”. كما ينعت الغرباء بأنهم “المُنفردون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله،أقلّتهم الغربة بين الخلق وحَجبتهم العزلة بين ظهراني الناس..”..].. _ إن الله لما جمع الأزمان في الزمان المحمدي،وجعل النبيئين ثلاثاً ضمن نبوته والكرامات،حَصر كرامته لصُحبته والصحابيات والولايات الكائنة في الأمم لأمّته.. فقيل الخمسمائة أول فجره،وتنفّس صُبحه،ورأس المائة سنة مطلع شمسه وإنبساط ضوئه..ويكون مسيرة عَرضه سبعون عاماً،وفي فتحه تكون كُلية الأكوان ، زيادة الأزمان وإسفار العذراء البتول فاطمة الزهراء،عن مَحاسنها الحسان. ثمّ يبقى الباب مفتوحاً لم ينغلق حتى تطلع الشمس من نحوه بالكلمة الصدق والقول الفصل.. _ واعلم أن جبابرة الأزمان وفراعنة القرآن،إنما أرصدهم الله محنة لغرباء الوقت وأفراد الحين.. الصحيفة الثالثة المحمديات _ الروح المحمدي سرّ في المُستودعات ونور النيّرات والمطلعات،وما بيّنت منها ههنا فعيون تدُلّ على معانٍ وفنون تُنبئ عن قطاف باد وخون دان. والله يجعلنا ممّن فتق بمعرفته ستره وشرح لتقديره قدره.. _ الروح القائم بحقيقة الأرواح الجارية بمداد الحياة في الألواح،إنما هو الروح المحمدي والنور الأقدم الصمدي،والموجود الأول معه تعالى على السرير القدسي،أقامه عز وجهه بخاتم إسمه المكنون وإندفاق من سرّه المصون المخزون . لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أول الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثة).. _ واعلم أنه متى جاء ذكر “روح القدس”،حيث ما جاء من كتب الله المنزلة وصحفه المكرمة،إنما المراد به هذه الأوليّة المحمدية والحقيقة العلوية الأحمدية. وبالحكمة الربانية تدور الدوائر،وتلتقي خلقة وتلتقي طرفا حلقة الدنيا والآخرة، فيعود كل حق إلى حقيقته ويرجع كل أول إلى حال أوليته،فيُقعده معه تعالى على السريرالأقدس يوم الدُنو لفصل القضاء كما كان معه بإسمه المكنون لفصل الأشياء..ولن تفترق (لا إله إلا الله محمد رسول الله) في بدء وتتميم،وهو العزيز الحكيم. __ كما أن روح القدس الحقيقة المحمدية،والنون لوحها. كذلك القلم الأعلى حقيقة الأدمية،واللوح المحفوظ لوحها. لذلك قالوا: [لا شيء أعلم من القلم ولا أحفظ من اللوح]،وبه قالت الراسخية من حيث أنه مُستمد من تلك الحقيقة النبوية والسريانية المكنونة. وإلى هذه الحقيقة الأدمية الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم)،و(أول ما خلق الله العقل) من طريق آخر،فهذا الطريق الثاني ضرب مثل من الجسمانية الأدمية،كما أن قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا أول الأنبياء خلقاً)ضرب مثل من الروحانية الأولية،ولكل وجه من الأولية.ولا تتعارض الأحاديث للراسخين،وإن تعارضت في أفهام القاصرين وأوهام الحائرين.. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد نبي الله وعلى الزهراء بضعة رسول الله… لخصه الفقير الى عفو به رشيد موعشي.