بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى مولاتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين،وعلى سيدتنا خديجة الكبرى أم المؤمنين،وعلى آله وصحبه أجمعين. نواصل شرح القواعد المباركة من خريطة السلوك العرفاني لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله، وقاعدتنا اليوم تقول: [ محمد رسول الله مَخلوق أزليّ،لأنه نور الله. وأبديّ لإستمراريةرحمته،دنيا وآخرة ].
__ إسم “محمد”،لغة،هو الذي يُحمَد حَمداً بعد حمد.. فهو إسم مُطابق لذاته صلى الله عليه وسلم،لأن معناه أن ذاته محمودة على ألسنة الخلائق من حيث أوصافه وأخلاقه وأحواله وعلومه وحِكَمه وأحكامه.. فهو محمود في الأرض والسماء،وهو خير من حُمد وأفضل من حَمد. كيف لا ولواء الحمد بيده،وهو صاحب المقام المحمود..
يقول الشيخ محمد الكتاني: [.. “محمد” عبارة عن كَثْرة حَمْد الغير له،فقامَ به وَصف،فإستحقّ أن يُشتقّ له منه إسم،فقيل: “محمد”.. فحُمدَ من قِبَل الحق،قبل أن يَحمد هو الحق..]..
يقول الشيخ الأكبر محي الدين: [سُمي “محمداً”صلى الله عليه وسلم بحروف الإتصال والإنفصال،فوَصله به وفَصله عن العالَم،فجمع له بين الحالين في إسمه].
يقول الشيخ أبو المواهب الشاذلي: [.. إذا عددت حروف إسمه صلى الله عليه وسلم “محمد” كلها،ظاهرها وباطنها،حصل لك من العدد ثلاثمائة وأربعة عشر،على عدد الرسل الجامعين للنبوة..].
ويقل الشيخ محمد مهدي الروّاس في كتابه (رفرف العناية): [إسمه الشريف “محمد” صلى الله عليه وسلم: الميم الشريف الأول: هو مادة الأمر ومُدّة الرحمة ومَدار الأصل،وقد جمع الله تعالى إشارات هذه الرموز بقوله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). فكأن عقد هذا الميم المبارك ميزاب الرحمة الإلهية المُفاضة على العوالم الكونية،ومحراب الإلتجاء لكل ذرة خَلقية،ومَرجع المُناجاة لكل طريقة طَلبيّة،ومذهب كل سالك إلى الساحة القُدّوسية..] وعدّد الشيخ الرواس فضائل وإمدادات وحقائق كل حرف من حروف الإسم الشريف..
ويقول الشيخ عبد الله خورد: [أفضل الأسماء الكونية “محمد” صلى الله عليه وسلم.. وأفضل التراكيب،بعد تركيب (لا إله إلا الله)، تركيب (محمد رسول الله)،فإنه يشتمل على جميع الإعتقادات والأعمال والصفات والكمالات،التي لا بد للمؤمن الكامل منها،من الأنبياء والأولياء..]..
ويقول الإمام إبن القيم الجوزية: [“محمد” هو المحمود حَمداً بعد حمد،فهو دالّ على كثرة الحامدين له،وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد فيه..]
__ قال الله تعالى: (محمد رسول الله).لم يقترن إسم رسول بكلمة التوحيد غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. فالإسم الشريف “محمد” هو أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم وأخصّها.. وهو المُختصّ بالتوحيد: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)،ولم يُضف أي إسم عَلم باسم الجلالة غيره، لذلك فالإسم الشريف خال من حروف العلّة وهي (و،أ،ي).. وأحيلكم على موضوع قيّم بعنوان (كلام يقطر عَسله: الإسم الشريف محمد) لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،بمدونة المعهد الفاطمي المحمدي،فقد جمع فيه أستاذنا كليات خصائص الإسم الشريف..
__ مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم له وجهتان: وجهة حَقيّة ووجهة خَلقية. الوجهة الخلقية هي التي أشارت إليها الآية الكريمة: (قل إنما أنا بشر مثلكم)،وقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد).. وهذه الوجهة،كباقي الخَلق،تابعة للأسماء الإلهية، ويسري عليها مقتضى الإسم (المُميت).. والوجهة الحَقيّة هي نور النبوة،وهو أول ما خلق الحق تعالى: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر)،(كنت نبياً وآدم مُنجدل في طينته).. فهو صلى الله عليه وسلم الخليفة الكلي،ولا بد للخليفة أن يظهر بصورة من استخلفه فيما استخلفه.. فظهر صلى الله عليه وسلم مُتحلياً ومُتحقّقاً ومُتخلقاً بجميع الأسماء والصفات الإلهية التي يطلبها العالَم الذي وَلاّه الحق تعالى عليه. فظهر صلى الله عليه وسلم بأوصاف الربوبية: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله).. وهذه الوجهة الحقية ليست تابعة للأسماء الإلهية،بل هي طَرف فاعل في التجليات لتعُمّ الرحمة كل الكائنات (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).. فباطنه صلى الله عليه وسلم (حقّاني لاهوتي)،وظاهره (آدمي)..والقاعدة المباركة التي نحن بصدد شرحها،تتحدث عن الوجهة الحقية لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يُبيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير.قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من إتّبع رضوانه سُبُل السلام ويُخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه): تكرّر لفظ (المَجيء) مرّتين: أسْنَد المَجيء الأول إلى الرسالة (رسولنا)،ثمّ إلى النبوة(قد جاءكم من الله نور)،وهي إشارة إلى حقيقة واحدة (محمد) بدليل عَود الضمير مفرداً (يهدي به الله) ولم يقل “يهدي بهما”..
النقطة النورانية المحمدية من مقتضى الصفة الأحدية،وإلتحفت بميازيب الذات العليّة،فصحّت لها الخلافة الكُلية والنيابة القولية والفعلية.. فمن أسماء الحقيقة المحمدية،إسم “الذات”،لأن الأسماء والصفات تَرجع إليها في ظهور مقتضياتها،وهو ما أشار إليه الأمير الجزائري بقوله: [فهو صلى الله عليه وسلم بكل شيء عليم،بيده مفاتح الخزائن الإلهية.. فلا يظهر الإسم الإلهي إلا بعد الاصطحاب مع نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..]..
إصطحاب مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسم الجامع (الله) وبالفيضة القرآنية،خَوّل له تقلّد منصّات المُلك،وصار كل شيء به مَنوط. فصارت التجليات الإلهية تتطلّب وَساطة نبوته المحمدية لظهور مقتضياتها وسَريان اللطف فيها.. فليس هناك شيء قد خَلا من سيدنا محمد،فهو الظاهر فيهم بحقيقته لا بصورته.. قال تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً منه) (ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق) (وهو الحق من ربهم)،أي “محمد هو الحق”،ولذا سمّاه العارفون (الحق المخلوق به وحقيقة الحقائق)..
__ قال الله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين). النور هو نور النبوة،والكتاب المبين هو القرآن.. نور النبوة من مَحتدّ الصفة الأحدية،فهو أول الأنوار (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر).. أما الأنوار الأخرى (الكتب السماوية،الملائكة،الأنبياء والرسل والأولياء..) فقد ظهرت من نوره صلى الله عليه وسلم الذي يُعتبر بداية الخلق وفاتحته..
أبرز الله تعالى من نوره (برزخاً عظيماً جامعاً)،وأفاض عليه جميع كمالاته،وحَلاّه بأسمائه وصفاته،فكان حجاباً بين المخلوقات وربّها وحاجزاً مُلطّفاً لحرارة التجليات الإلهية. فمعاملات الخلق كلها في حقيقة الأمر مع هذا الوسيط البرزخي،ومن خاصية البرزخ أن لا ينزل شيء إلا عليه ولا يصعد شيء إلا بواسطته،بل له على كل ذرة من ذرات الوجود نعمة الإستمداد من برزخيته،فليس في الوجود من له خاصية الحلّ والرّبط والنقض والإبرام إلا مولانا رسول الله..فمَدَد الكون وإستمراريته ومُراقبته مَوكولة إلى مخلوق مثله،لغنى الحق تعالى عن عبادة من يعبُده وعن معرفة من يعرفه،بل غناه تعالى حتى عن أسمائه وصفاته..
لهذا وصفت القاعدة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأزليّ والأبديّ،إشارة إلى الخلافة الكلية والوساطة العظمى للحقيقة المحمدية.. فالأزل هو ما يُصطلح عليه في مشربنا ب”قبل القبل”،والنور المحمدي هو الهَيولى التي خلق الله منها العالَم بأسره،وهي من محتد الصفة الأحدية التي تعتبر حضرة سحق ومحق،لا تعرف أحداً ولا يعرفها أحد.. والأحدية يصفها أكثر العارفين بالعدم، أي انعدام الأسماء الإلهية في بساطها،لأنها في حُكم البطون،وبالتالي إنعدام التجلي والمقتضيات..وعندما انتقلت الأسماء الإلهية من حالة البطون إلى حالة الظهور،برزت المقتضيات وظهر الوجود للوجود،وبَقيت حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كنزاً مُطلسماً.. يقول الأمير الجزائري في (الموقف 162): [.. ومن أسماء الحقيقة المحمدية (أمر الله)،وهو أول صادر بلا واسطة،فهو قديم. وهو عبارة عن التوجّه والإرادة الكُليّة،وهو كلمته الكلية،وهو الحقيقة المحمدية المُسمّاة بالروح الكلّي..ولا تعرف المخلوقات من هذا الأمر سوى وجوده لاغير،فلا يعرف ما هو عليه إلا الله تعالى.. من رآه رأى الحق، ومن عرفه عرف الحق. وهو الحجاب الأعظم الذي لا يرتفع عن وجه الحق،لا دنيا ولا آخرة. وهو الإزار وهو الرّداء..ومن هنا قال بعض الأكابر: “الوجود الحق تعالى ظَهَر في الحقيقة المحمدية بذاته،وظهر في سائر المخلوقات بصفاته”،يُريد أن الحقيقة المحمدية ظهرت بالتجلّي الذاتي، موصوفة بجميع صفات الحق تعالى ونِسَبه الإلهية والكونية،وفَوّض إليها تدبير كل شيء يوجد بعدها. فهي المُتَصرّفة في معلوماته تعالى حسب إرادته ومَشيئته تعالى،فتَستمدّ من العلم وتُمدّ الخَلق. فما صَدَر عن الله تعالى بغير واسطة،إلا هذه الحقيقة. وكل ما عَداها،حتى العقل الأول،إنما كان بواسطتها. وإن كان الحق تعالى له الخَلق والأمر،فهي الظاهرة في الأشياء وهي السارية في الوجود..]..
يقول الجرجاني: [الأزل: إسمترار الوجود في مقدرة غير متناهية في جانب الماضي،كما أن الأبد إستمرار الوجود في أزمنة مقدّرة غير متناهية في جانب المستقبل].
ويقول الشيخ عبد الغني النابلسي: [الأزل: هو الحضرة الدائمة المحيطة بالأزمنة كلها،إحاطة واحدة،فلا ماضي للأزلية ولا حال ولا إستقبال].
ويقول الشيخ الجيلي: [الأزل: لا يوصف بالوجود وبالعدم. فكونه لا يوصف بالوجود،لأنه أمر حُكمي لا عيني وُجودي. وكونه لا يتّصف بالعدم،لكونه قبل النّسبة والحُكم والعدم المحض. فلا يَقبل نسبة ولا حُكماً، ولهذاإنسحب حُكمه. فأزل الحق أبدُه،وأبده أزله]..
__ الرحمة صفة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والصفة عين الموصوف بها،فهوالرحمة الربانية الشاملة التي أبرزها الله من نوره، وأفاض عليه من كمالاته،فكان حاجزاً بين المخلوقات وحرارة التجليات الإلهية.فلولاه لما إستطاع الوجود الصمود ولإضمحلّ من حينه،لإنعدام المُجانسة والمناسبة مع الله تعالى. ولهذا فإن مقتضى الإسم الإلهي لا يَصل إلى الكون مباشرة،بل لا بد من الإصطحاب مع النبوة لكي يكون اللطف في التجليات الإلهية..فهو الرحمة المُهداة التي أخرجت الوجود من العدم،وصار يُسبّح بحمد الله ويُصلّي لله: (لولاه لم تُخرج الدنيا من عدم)، (لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط)،فهو صلى الله عليه وسلم الواسطة في كل شيء، فالخزائن لله،والتصرّف لخليفته..
قال تعالى: (هذا بصائر للناس وهُدى ورحمة لقوم يوقنون) (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (قُل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم): فالآيات تُشير إلى أن سيدنا محمد هو عين الرحمة التي رُحم بها الوجود،له على كل ذرّة من ذرات الوجود نعمة الإستمداد من الحق تعالى. فلا دخول إلا من بابه،ولا شهود إلا فيه،ولا تَجلّ إلا منه.. وهذه الرحمة هي (الوجود المُفاض على الأشياء)..
يقول الشيخ عبد الكريم الجيلي: [ اعلم أن الرحمة رحمتان: رحمة عامة ورحمة خاصة. فالرحمة الخاصة هي التي يُدرك الله بها عباده في أوقات مخصوصة. والرحمة العامة هي حقيقة سيدنا محمد،وبها رَحم الله حقائق الأشياء كلها،فظهر كل شيء في مرتبته في الوجود..]..
وهذه الرحمة بطُنت حقيقتها عن إدراك المخلوقات (ما عرفني حقيقة إلا ربي)،وهي ليست تابعة لدائرة الرحمانية أو لإسمه تعالى الرحمان،بل هي أول ما خلق الله تعالى،لهاالسّبقيّة الخَلقيّة (رحمتي سبقت غضبي)..
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد نبي الله،وعلى الزهراء بضعة رسول الله
ّ رشيد موعشي.