من نفحات الشيخ ابن عجيبة

نُعوت الخَمْرة في حال الكَنْزِيّة
كانت الخمرة الأزلية قبل أن تَتجلّى في الأواني: لَطيفة المباني،نورانية شعشعانية، نورانية بلا جسمانية،أوّلية بلا بداية،آخرية بلا نهاية،ليس لها حصر ولا غاية،لا يُمكن لأجل لطافتها أن تُدركها الأبصار،ولا تُحيط بها العلوم والأفكار.ليس لها في حال الكنزية “شكل ولا رسم ولا جوهر ولا جسم”،وإنما هي هناك “معاني صافية لا حِسّ فيها”،و”ربوبية مَحْضَة لا عبودية فيها”،لأن العبودية من وظائف الأشكال والرسوم، وليس هناك إلا أسرار الحي القيوم،وإنما ظهرت الأشكال والرسوم في الخمرة بعد تَجَلّيها ووضعها في الكيسان ليشرب منها أهل العرفان.فلما ظهرت الخمرة في الأشكال والرسوم كَسَاها رِداء الكبرياء والعزّ الحي القيوم، وهي أوصاف البشرية وأحكام العبودية،فهي في حال الكنزية غنيّة عن الرّداء..نعم “العلم بظهور العبودية قديم”،وكذلك المعاني التي هي مادّة الأشكال والرسوم.وظهور “نُعوت العبودية حادثة”،وهي تَلْوين للخمرة وإحتجاب لها بعد ظهورها ليَبْقى السرّ مَصُوناً،وليَتَحقّق فيها إسمه الظاهر والباطن.فلا حدوث عندنا في ذَوَات التجليّات التي هي مظاهر الخمرة، وإنما الحُدوث في تَلْوينها وتَشْكيلهابعد ظهورها،وليس ذلك التّلْوين شيئاً زائداً عليها.فلمّا كانت قبل التجلّي لا شيء معها كذلك هي بعد التجلّي لا شيء معها،إذ تلوينها وتشكيلها لا يُخرجها عن أصلها من الوحدة.وهذه الخمرة أيضاً في حال الكنزية كانت مُتّصفة بجميع صفاتها الأزلية،مُتّسمة بأسمائها القُدسيّة،ثم ظهرت بعد تجلّيها أسماؤها وصفاتها في مظاهر الأشياء. وشواهد هذه النّعوت من طريق النّقل قوله صلى الله عليه وسلم : “كان الله ولا شيء معه” أي ليس معه في الأزل شيء ولا رسم ولا حسّ ولا جنس،زاد بعض العارفين: “وهو الآن على ما عليه كان” أي لأن ما ظهر من الأواني هو من غير المعاني،فما ظهر في عالم الشهادة هو عين الغيب من غير زيادة،و”تَلْوين الخمرة وتَحْسيسها لا يُخْرجها عن أصلها”..وفي حديث الترمذي عن أبي رُزين العقيلي: قلنا: “يا رسول الله (أيْنَ كان ربّنا) قبل أن يَخْلُق خَلْقَه؟” قال صلى الله عليه وسلم : “كان في (عَماء) ليس فوقه هواء ولا تَحْته هواء” أي كان في خَفَاءْ ولَطافة لم يَحْصِره هواء من فوقه ولا من تحته،إذ لا فوق ولا تحت بل هو أوسع من كل فوق وتحت،قال تعالى (فأينما تُوَلّوا فَثَمّ وجه الله إن الله واسع عليم). وقيل لسيدنا عليّ : يا إبن عمّ رسول الله أيْنَ كان ربّنا وهَلْ له مكان؟ فتغيّر وسَكَتَ ساعة ثُمّ قال: “قوْلُكم: (أيْنَ الله؟) سؤال عن مكان،وكان الله ولا مكان،ثمّ خَلَق الزّمان والمكان،وهو الآن كما كان،دون زمان ولا مكان”…
نُعُوت الخَمْرة بعد التجلّي
ولما أرادت الخمرة أن تُظْهر مَحاسنها وتُبْرز أنوارها وأسرارها، أظهرت قبضة من نورها حسية معنوية ،فمن جهة حِسّها محدودة محصورة،ومن جهة معناها غير محدودة ولا محصورة بل هي مُتّصلة ببَحْر المعاني الذي لا نهاية له.فمثالها كثَلْجة في بحر لا ساحل له ،فالثلجة من جهة جُمودها محصورة،ومن جهة مائها الباطني مُتّصلة بالبحر الذي هي فيه.فنسبة القبضة من جهة حسّها لبحر المعاني الباقي على لطافته كنقطة في بحر أو كخرذلة في الهواء.والحاصل أن القبضة التي ظهرت في بحر المعاني هي عَيْن البحر الذي ظهرت منه،وأسرار الربوبية مجموعة فيها ثمّ أُخْتُصرت في الآدمي ..و”إحاطة بحر المعاني بالعرش وإستواؤه عليه هو معنى الإستواء ” الذي وقع في القرآن عند المحقّقين، والى ذلك أشار إبن عطاء بقوله:”يا من إستوى برحمانيته على عرشه فصار العرش غيباً كما صارت العوالم غيباً في عرشه،مَحَقْتَ الآثار بالآثار ومَحَوْت الأغيار بمُحيط أفلاك الأنوار”. فالقبضة التي ظهرت من بحر الجبروت هي (صورة العرش) وما إحتوى عليه من العوالم،وقد إسْتَوت عليه أسرار المعاني التي لا نهاية لها وأحاطت به من كل جانب حتى صار العرش غيباً أي شيئاً تافهاً لا نسبة له في جانب تلك الأسرار، كما صارت العوالم التي في جَوْف العرش غيباً في وجود العرش،إذ نِسْبَتُها معه كحَلَقة في فلاة.فالرحمانية وَصْف للذات،والصّفة لا تُفارق الموصوف، فكَنّى بالرحمانية عن أسرار الذات وهي المعاني الخارجة عن القبضة التي لا نهاية لها وهي التي أحاطت بالعرش من كل جانب حتى صار غيباً فيها.. ولذلك تَجِد قَلْب العارف يَتّسع بإعتبار الفكرة حتى يَصير العرش والكرسي في زاوية من قلبه..وسبب إتّساعه لهذا الأمر العظيم أن الفكرة إذا جالت في العظمة الفوقية التي لا نهاية لها وفي العظمة التحتية والأولية والآخرية التي لا نهاية لكل واحدة منها،وأوْسَعَت النّظرة فيه ذلك،بَقِيَ العرش مُعَلقاً في العظمة كخردلة في الهواء فصار في زاوية من زوايا القلب الذي جالت فكرته في تلك العظمة. وهذه القبضة تُسمّى قَبْضة مُحَمديّة،لأن الله تعالى لما أراد أن يَتَجَلّى ليُعْرَف أظهر قبضة من نوره فقال لها: “كوني محمداً”،فتطوّرت على صورة محمدصلى الله عليه وسلم كما في بعض الأحاديث.ومن هذه القبضة تَفَرّعت الأكوان كلها،فهي بَذْرَة الوجود: “منها إنْشَقّت الأسرار وإنْفَلقت الأنوار”: أسرار الذات وأنوار الصفات. ويُسمى أيضاً: آدم الأكبر،لأنها تفرّعت منها الأشباح والأرواح. فظاهر هذه القبضة حِسُّها مُحَمّدي وباطنها معنى قُدْسي،ظاهرها شريعة وباطنها حقيقة، ظاهرها مُلْك وباطنها مَلَكوت،وما أحاط بها من بحر المعاني جَبَروت، فإذا رُدّت الفروع الى أصلها صار الجميع جبروتاً كما هو في الحقيقة. فالمعاني التي هي عالم الملكوت لا يُمْكن إظهارها إلا في مظاهر الحسّي الذي هو عالم المُلك.فما ظهرت أنوار الملكوت وبَهْجته وحُسْنه إلا في عالم الملك.فالمُلْك ريّاض للملكوت،فيه ظهر جماله وحُسْن طَلْعته.فما تَبَهّج الملكوت وظهرت محاسنُه إلا بزَهْر جمال مولانا محمد الذي ظهر في عالم الملك. وكما تجلّى الحقّ جلّ جلاله في هذه القبضة بإسمه الظاهر تجلّى فيها أيضاً بإسمه الباطن،فأظهر فيها أوصاف العبودية بعد أن تجلّى فيها بأسرار الربوبية،فإجتمع فيها الضّدّان: ربوبية وعبودية، فالمَظْهر للربوبية والقالب للعبودية..فمن وَقَف مع ظاهر القوالب حُجِبَ عن أسرار الربوبية وكان جاهلاً بالله،ومن نَفَذَ الى شُهُودْ بواطن الأشياء وَجَدها نورانية ملكوتية وكان عارفاً بالله،ولذلك قال إبن عطاء الله في الحِكَم: ” الكون كُلّه ظُلمة وإنما أناره ظهور الحق فيه،فمن رأى الكون ولم يَشْهد الحق فيه أو قبله أو بعده أو معه فقد أعوزه وجود الأنوار وحُجِبَتْ عنه شُمُوس المعارف بسُحُب الآثار” وقال أيضاً: “سبحان من سَتَر سِرّ الخصوصية بظهور وصف البشرية،وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية”. فتحصّل أن الحق جل جلاله تَجلّى بين الضدّين،بين حسّ ومعنى)،بين عبودية وربوبية،بين قدرة وحكمة.فالقدرة عبارة عن أسرار المعاني القائمة بالأواني،والحكمة عبارة عمّا ظهر في الأواني من تَشْكيل وتَقْييد وتَخْصيص وما يَلْزَمُها من أوصاف البشرية وأحكام العبودية.. والناس بإعتبار شُهُود هذين الضدين على ثلاثة أقسام: قسم لم يشهدوا إلا عالم الحكمة،وقفوا مع ظواهر الأشباح ولم يَرْتقوا الى عالم الأرواح،وهُم أهل الدليل والبرهان من عوام أهل اليمين.وقسم لم يشهدوا إلا عالم القدرة وهو عالم المعاني الذي هو عالم الملكوت،نَفَذوا من شهود عالم الأشباح الى عالم الأرواح،فغابَتْ عنهم الأشكال والرسوم في شهود أنوار الحيّ القيوم،فلو كُلّفوا أن يشهدوا غيره لم يستطيعوا،وهم أهل الفناء في الذات من المجذوبين المُغْرقين في الأنوار المَطْموس عنهم الآثار.وقسم أكمل منهم وهم الذين يشهدون القدرة في محلّها والحكمة في محلّها مع إتّحاد مظهرهما،فيُعْطون القدرة حقّها من الشهود والحكمة حقّها من الأدب والتعظيم، فلم يَحْجُبْهم شهود القدرة عن الحكمة،ولا شهود الحكمة عن القدرة،فهم مَجْموعون في فَرْقِهم،مفروقون في جمعهم،كلما شربوا إزدادوا صَحْواً وكلما غابوا إزدادوا حُضوراً، وهم أهل البقاء قد إتّسعت دائرة معرفتهم،فتارة تَصْعَد أرواحهم الى مَحَلّ الحُرية فيَغْرقون في أنوار العظمة الربوبية فتغيب عنهم الرسوم والأشكال التي هي مَحَلّ العبودية،وتارة تَتَنزّل أرواحهم الى محلّ العبودية فتَتفنّن في علوم عالم الحكمة وتتلذّذ بحلاوة المُناجاة والتعلّق مع الحبيب في الخلوة.فهي تَتَنعّم في جنّتين عن يمين وشمال، فيقال لها ولأربابها كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة وهي جنّة الجمع ورب غفور لنقائص جنة الفرق،والله أعلم…/
الخَمْرة الأزليّة
لهذه الخمرة الأزلية كأس هي قَمَر التوحيد الخاص،فمن كان مُشركاً بثنوية السّوى أو برُؤية الأشياء مع المَوْلى فلا يَشْرب من خَمْر الهَوى.. وهذه الخمرة هي شمس العرفان، فإذا أشْرَقت في أفُق سماء الجَنان غَطّت وجود الأكوان..يُديرها على الشّاربين هِلال السعادة في طالع سَعْد الإرادة..هذه الخمرة هي إخْتِمار القلوب بأنوار المَحْبوب فيَحْتَجب عن الأغيار برؤية الواحد القهار.وقد كانت هذه الخمرة في الصّدر الأول ظاهرة أنوارها باديّة أسرارها على أربابها فيتداولونها بينهم ويتكلّمون عليها بألطاف العبارات وأنوار الإشارات..قال الجنيد: “عِلْمُنا هذا الذي نتكلّم فيه قد طُوي بساطه منذ عشرين سنة،وإنما نتكلّم في حواشيه” وكان أيضاً يقول: “كنت أجالس قوماً سنين يتحاورون في علوم لا أفهمها ولا أدري ما هي،وما بُلِيت بالإنكار قطّ،كنت أتقبّلها وأُحبّها من غير أن أعرفها”وكان أيضاً يقول: “كنّا نتحاور مع إخواننا قديماً في علوم كثيرة ما نعرفها في وقتنا هذا ولا سألني أحد عنها،وهذا باب كأنه أُغْلق ورُدِع”، وقال أبو طالب المكي: “قال بعض علمائنا: أنا أعرف للمتقدّمين سبعين علماً كانوا يتجاورونها ويتعارفونها في هذا العلم،ولم يَبْق منها اليوم علم واحد،وأعرف في زماننا هذا علوماً كثيرة من الأباطيل والغرور والدّعاوى ظهرت وسُمّيت علموماً”.. إذا ذُكِرت هذه الخمرة ذكراً حقيقياً بالعلم والحال في قبيلة أو مَدْشر أو بلد،أصبح أهْل تلك القبيلة سكارى وَالِهِين من ذكر الحبيب،غالب عنهم الجَذْب الى الحضرة الأزلية، لكن بشرط أن يكون ذاكرها غالباً عليه السّكر والجَذْب مع طرف من الصّحو وأن يذكُرها مع أهلها)..وقد شهدتُ هذا المعنى حين خرجنا الى قبيلة أنْجَرة والفَحْص في العام الأول من مُلاقاة الشيخ حين كان السكر غالباً علينا،فكنّا إذا بِتْنا في منزل يُصْبح أهله جُلّهم يَلْهَجون بذكر الله،وقد رأيت الصبيان والرعاة والجرائين يتبعونا وهُمْ يَبْكون فما كُنّا نَرُدّهم إلا بجهد جهيد،وقد رأيت في فحص طنجة أصحاب المخزن وأرباب الدولة علّقوا التسابيح وتابوا وتركوا ما كانوا عليه.. وأواني هذه الخمرة هي بواطن العارفين، وخَتْمُها هي ظواهر بشريتهم.فكل من قصدهم بالتعظيم والأدب،ونظر إليهم بالخضوع والإنكسار والذلّة،جازماً بوجود خصوصيتهم: سَكَر لمُجرّد رؤيتهم قبل أن يأخذ عنهم ويَصْحبهم.وقد شهدنا هذا السرّ من أنفسنا ومن أشياخنا،فكثير من المُريدين حَصَل لهم الجَذْب والسّكر قبل أن يَتَلقّوا الوِرْد بل لمُجرّد الرؤية.وقد رأيت بعض النصارى بثَغْر سبتة،حين قدمنا عليها،لمّا عقدنا حلقة الذكر إنْجَذبوا وتَبعونا الى منتهى الحد الذي بيننا وبينهم،وبقوا مَبْهوتين واقفين خَلْفنا،لِمَا أشْرَق عليهم من نور الخمرة … واعلم أنك لا تَفْهم هذه الخمرة ذَوْقاً وعلماً إلا إذا صَحِبت أهْلها وهُم العارفون بذلك أهل الجَذْب والسّلوك.وأما إن لم تَصْحبهم فلا تطمع في فَهْمها ولو طالعت ألف مجلد وصحبت ألف عالم أو عابد.وبالله التوفيق / (الشيخ احمد بن عجيبة قدس الله سره)

حصل المقال على : 754 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد