وماأرسلناك إلارحمة للعالمين

بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه. 

ننقل لكم هذا التداول العرفاني الرقيق لمجموعة من اصحابناحول قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)هذه الآية الكريمة تُعنون عن القدرالعظيم للنبوة المحمدية لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،وعن أقدميته .  

              روى سيدنا علي كرم الله وجهه قال : اَمَا اِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ سَتَكُونُ فِتَنٌ قُلْتُ وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا قَالَ كِتَابُ اللَّهِ كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَاُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُمَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ هُوَالْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ الحديث.فالقرآن الكريم   كلام الله ،مطلق لاينتهي غرائبه ولاتستنفذ مقتضيات،والنبوة المحمدية محتدها الاحدية وفازت بالإصطحاب بالإسم الجامع (الله) وبالفيضة القرآنية..فكانت كذلك هي متصفة بالاطلاقية “ولون الماء لون انائه”وحكم التقييد متعلق بنا نحن البشر.

ورد بالاية الكريمة حذف كلمة(أرسلنك)و(للعلمين)(أرسلنك)جاءت محذوفة لعدة أمور،منها: أن ارساله  صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين يتماشى وما يُناسب كل عصر وزمان..فلكل عصر تجلياته وما يريد الحق تعلى اظهاره فما ظهرمن هذه الرحمة فهو نعمة وفضل من الله على اهل ذلك الزمان وما بطن منها فهو رحمة بهم وينتظر ابانه. 

 

 وحذفت كذلك لكي تتصل (نون)الجمع ب(كاف) الخطاب، دون حرف اخر وهو المعنون عنه بالإصطحاب ،النون راجعة على مرتبة الألوهية حيث الأسماء الإلهية والفيضة القرءانية،والكاف بطبيعة الحال خطاب للنبوة. فالألف يجلب المدّ،والمدّ يوحي باطنيا بالبُعد،فحذفه رسماً دلالة على القُرب والإتصال الفرقي،وأثبته نُطقاً دلالة على التشريع،فالرب رب والعبد عبد

.              (للعلمين):جاءت محذوفة لإختلاف مقاماتهم وأصنافهم،فكان الحذف رحمة بهم حتى تعُمّ هذه الرحمة الصغير قبل الكبير.فهو صلى الله عليه وسلم ،به تحقّق لهم الإيجاد،وبه ومنه الأمداد،ولكي يكون اللطف والرحمة في التجليات الإلهية..وهو سرّ الحديث (الله المُعطي،وإنما أنا قاسم) ومن قَسم لك فقد أعطاك..والعطاء جامع وشامل،حساً ومعنى، ظاهراًوباطناً..قال تعالى (وما كان الله ليُعذّبهم وأنت فيهم)فهو فينا بحقيقته وبرحمته وغياب النبوة يفتح المجال للجلال المحض (فإما نذهبن بك فإنا منهم مُنتقمون)..

وما تعلمون ليس في القرءان الكريم لا وقف واجب ،فأينما وقفت فابحث عن المعنى..فإذا وقفنا على قوله تعالى (وما أرسلناك): أي ارسلناك ولم نرسل معك غيرك فأنت اول المخلوقين وأول العابدين “اول ما خلق الله نورنبيك ياجابر”

كما أن هناك وقفاً يشُدّنا إليه بقوة الدلالة والمعنى،وهو(وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين قل)فالحق تعالى أرسل نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة لكل مخلوق،وهي أعظم نعمة إمتنّ الله بها على العالمين،فجاء الوقف عند (قُل) لتكون تلك النعمة العظمى أهلاً لتبليغ مقدار عظمتها بين الخلائق. وأقدار الخلائق ومقاماتهم تتمايز بحسب معرفة كل واحد منهم بمراتب صفة تلك العظمة من خلال تعريف الموصوف بها،أي أن مراتب تلك (الصفة / النعمة / الرحمة) ليس بمقدور أحد من العالمين معرفتها إلا بواسطة الموصوف بها صلى الله عليه وسلم..  

ولا ننس أن جُمل فعل (قُل) هو10 *13،أي جُمل الصفة أحدمضروبة في عشرة أي الكمال،والمعنى: أنه لم يُحدّث ويُبلّغ ويُخبر عن الألوهية إلا من كان بارقاً من الصفة الاحدية صلى الله عليه وسلم..ف(قُل) هي (مَناط الرسالة)..وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالتحدّث بها،فهي أعظم نعمة (وأما بنعمة ربك فحَدّث).. وقد وردت كلمة قل 334مرة في القرءان الكريم 334 مرة وهو عدد بسط وكسر اسم احمد .

 لم جاء الفعل (أرسلناك) بصيغة الماضي؟ارسال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،كان قبل ظهور الجسم الشريف.قال تعالى”وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ” فتعدّدت مراتب النبوة بتعدد التجليات الإلهية..فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الظاهر في مظاهر الوجود،بحقيقته لا بصورته، سريان حقيقته في كل شيء لأن تجلّي الأحمدية في الأشياء كان قبل وجود الأشياء،فما ظهرت أعيان الوجود إلا بها.. وقد بيّن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هذا اللطف الحائل بين الخلق والجلال في حديث الشفاعة،فقال: (ثُمّ يَفتح الله عليّ من مَحامده وحُسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبل) الحديث،فبيّن أن الله يُظهر نعوتاً أحمدية خاصة بتلطيف ذلك التجلّي،فينقلب مقتضى جلال ذلك الموقف جمالاً..

وقال تعالى(أرسلناك) بالجمع،ولم يقل (وما أرسلتك)..والضميرراجع على بساط الاصطحاب وعلى الفيضة القرءانية كما ان من معاني أرسل (أطلق)..اشارة الى اطلاقية النبوة و(الواو) في أول الآية: (أن الأرض لله يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين (و) ماأرسلناك إلا رحمة للعالمين).فإرسال الرحمة عُطف على (إرث الأرض)،والأرض من حيث المعنى الباطني الاشارتي هي(النبوة).فميراث النبوة لاولياء الامة المحمدية يُخرِج النعوت الاحمدية التي تَجلب الرحمات..فالواو هنا تَربط المعنى اللاحق بما سبقه،وليس عطفاً لغويا وكفى ،بل ربطاً للمعاني الباطنة..فمن دلالات قوله تعالى: (وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين)،أنها تُفيد جملة من الإشارات على علو قدر النبوة المحمدية وأقدميتها وسرمديتها،نلخصها كالتالي:

_ أقدمية النبوة : فمن كان رحمة للعالمين يَلزم منه أن يكون حاضراً موجوداً قبل وجود العالمين،وإلا فلا جدوى من الإرسال..                  _  سرمدية النبوة : لأن حياة العالمين ممتدّ في الزمن الطويل،وهذا يستلزم كون حياة المُرسَل صلى الله عليه وسلم أوسع حياة ودائرة من المُرسَل إليهم.. وإذا تناولنا الآية من الناحية الإعرابية،توصلنا إلى ما إستنتجناه من رقائق وحقائق حول النبوة المحمدية التي لها الإطلاق والشمول: 

     _ (الواو): للعطف،وهوإستفتاح بصفة ضمن معاني الرحمة،وكأن الآية تستهلّ سياقها بعطف النبوة،عطف كان قبل القبل..                          _ (ما): للنفي،فما تحقّق عَطف على العالمين إلا بوجود الرحمة المُرسلة إليهم صلى الله عليه وسلم..                                                  _ (أرسلناك): فعل ماض..والأزمنة عند الحق تعالى سيان،والعالمين هم من يتأطّرون بالزمن والمكان وينحصرون فيها [القبلية والبعدية،في البسائط الأولى،عند أهل الله للترتيب الإعتباري التنازلي،لا للترتيب الزماني،إذ لا مكان ولا زمان في تلك البسائط ]..فالزمان الماضي الذي يُشير إليه فعل الإرسال يُفيد أن صفة (الرسول) قديمة له صلى الله عليه وسلم،والصفة الإرسالية سَبقت من أُرسلت إليهم.. 

               و(الكاف):هي كاف الخطاب الذي يقتضي الحُضور الفعلي للنبوة المحمدية في حال توجيه الخطاب،في الأزمنة الساحقة،قبل القبل..ففي تلك البسائط الأولية اوحي إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بدون واسطة جبريل عليه السلام قال تعالى :(رسول من الله) (وإنك لتُلقّى القرآن من لدن حكيم عليم).. 

 _ (إلا): أداة حصر عند اللغويين،وإلا فلا ينصرف على من هو (عين الإطلاق)،فالنبوة شأن متصفة بالإطلاق..                                    _ (رحمة): إختلف فيها أهل اللغة،فقالوا: (منصوبة على الحال)،وقالوا أيضاً (منصوبة على المفعول لأجله)،وكلاهما صحيح.         

                فإن قلت: (على الحال) فقد أثبت أن الرحمة لاحقة مُصاحبة لكل جزئية من جزئيات الوجود،أي: هي (حال دائم مُستمر في الوجود)..  وإن قلت: (على المفعول لأجله) فمعناه أن (الرحمة هي المنتهى)،وإنما خلقهم ليرحمهم..

 _ (للعالمين): قال الحق في وصف حبيبه (إلا رحمة للعالمين)،ولم يقل (إلا رحمة بالعالمين)،ف(اللام) حرف جرّ جالب،يُشير لمقدار عظمة الوَهب الإلهي الذي شَمل الحق تعالى به الخلق بوجود النبوة في الكون باعتبارها (عين الرحمة)..فالنبوة طرف فاعل في التجليات الإلهية لوجود الإصطحاب بالأسماء الإلهية..وهوإصطحاب أشار إليه إتصال (الميم) من (محمد) بإسم الجلالة (اللهم)..وبهذا المعنى فإن الآية الكريمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) جامعة للصفة والموصوف بها: الصفة لكونه (رسولاً أحمداً)،والموصوف بها لكونه (نبياً محمداً) صلى الله عليه وسلم. ولهذا إشارة في قوله صلى الله عليه وسلم (إن لله مائة رحمة،أنزل منها رحمة واحدة لأهل الأرض،بها يتراحمون وبها يُرزقون،وترك تسعة وتسعين للمؤمنين في الآخرة)..  فلما كان الغنى المطلق للحق تعالى عن العالمين،أوكل التصرف للخليفة الكلي(إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)،فهو صلى الله عليه وسلم من جنسهم..وبهذه المجانسة عمّت الرحمة جميع المخلوقات،فهو صلى الله عليه وسلم الرحمة التي وسعت كل شيء(ورحمتي وسعت كل شيء)، والشيء أنكر النكرات.فالوجود بنور النبوة ظهر،وإلى رحمته إفتقر، وبمدَدهرإستمرّ..  

  ونختم هذا الموضوع بنقل كلام أحد العارفين،وهو الأمير عبد القادر الجزائري،يصُبّ في ما تداولناه من معاني وحقائق للآية الكريمة،يقول الأمير في كتابه (المواقف):                                                      [ اعلم أنه ليس المراد من إرساله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، هو إرسال من حيث ظهور جسمه الشريف الطبيعي فقط،فإنه من هذه الحيثية غيرعام الرحمة لجميع العالمين،فإن العالم هو ما سوى الحق تعالى. بل المُراد إرساله من حيث (حقيقته) التي هي (حقيقة الحقائق)،ومن حيث (روحه)التي هي (روح الأرواح).فإن حقيقته هي (الرحمة) التي وَسعت كل شيء،وعَمّت هذه الرحمة حتى أسماء الحق تعالى،من حيث ظهور آثارها ومقتضياتها،بوجود هذه الرحمة. وهذه الرحمة هي (أول شيء فَتَق ظلمة العدم)،وأول صادر عن الحق تعالى بلا واسطة،وهي (الوجود المُفاض) على أعيان الممكنات..]..

 ومن الإشارات الخفية في كلام الأمير: أن (الرحمة) المذكورة في قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)،ليست تابعة ل(دائرة الرحمانية) التي منها بَدأ الظهور،لأنها سابقة في الخلقية (رحمتي سبقت غضبي)، وهذا مايؤكّد أن المقصود من الوجود هو الرحمة وليس (العدل)..  وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه.

مداولة عرفانية عبرالوتساب تم جمعها وضبطها من طرف الفقير الى عفو ربه رشيد موعشي

حصل المقال على : 773 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية

    الاشتراك في النشرة البريدية

    احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

    اترك تعليقا

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد