بسم الله الرحمن الرحيم
أول واقعة في السيرة النبوية وَضعت كُتاب هذه السيرة والمؤرخين أمام مسألة ما إذا كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ ويكتُب أو لا،هي قصة غار حراء..
لدينا ثلاث روايات لهذه القصة (رواية إبن إسحاق والطبري والبخاري)،فيها إختلاف في صيغة جواب مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا جبريل: ففي رواية كل من إبن إسحاق والطبري ورد [ (ما أقرأ؟)،(ماذا أقرأ؟) ]،والصيغة في رواية البخاري (ما أنا بقارئ).. الصيغة الأولى (إستفهام يُفيد ضمنياً أن النبي يعرف القراءة)،فهو يطلُب ماذا يقرأ؟ أما الصيغة الثانية فهي تنفي عنه معرفة القراءة (ما أنا بقارئ).. يمكن أن يقال إن المقصود ب(القراءة)هنا ليس القراءة التي تعني (التهجّي في كتاب) أو في ورق أو غره،بل المقصود هو مجرّد (التلفّظ بالأصوات) التي تُفيد معنى في اللغة،أي (إستظهار ما تَمّ حفظه وتلاوته)..
فليس من شرط (النبي / النبوة) أن لا يعرف القراءة والكتابة،ثمّ إنه لا يَليق بنا أن نتصوّر أن من كمالات الإنسان الذي يختاره الله تعالى للنبوة أن يكون (لا يعرف القراءة والكتابة).. هناك قرينة أخرى تدُل على أن معنى (القراءة)،في ردّ مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل بقوله (ماذا أقرأ؟) ،ينضرف إلى القراءة بمعنى (القراءة في كتاب).هذه القرينة هو وُرود لفظ (كتاب) في العبارة التي قال فيها سيدنا محمد: (فجاءني جبريل، وأنانائم،بنمط من ديباج فيه كتاب)،وقوله (وهَببت من نومي فكأنما كُتبت [الآيات التي قرأها عليه جبريل] في قلبي كتاباً)..فهي تُشير إلى أن الأمر يتعلّق بشخص يعرف الكتابة والقراءة،ويقرأ في كتاب..
وللفصل في المسألة،لا بد من الرجوع إلى المعنى (اللغوي) والمعنى (الإصطلاحي) لكلمة (أمّي):
_ (المعنى اللغوي): تُمدّنا المعاجم العربية بما تعتبره المعنى الأوّلي الأصل للفظ (أمّي)،فنقرأ فيها: [ (الأمي) الذي على خِلْقَة (الأمّة) لم يتعلّم الكتاب،فهو على جِبِلّة أمه،أي لا يكتُب. فكأنه نُسب إلى ما يولد عليه..وبهذاالإعتبار: قيل للعرف (الأميّون)،لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة..] (لسان العرب).
هذا المعنى اللغوي ليس نقلاً عن العرب،بل هو إجتهاد من علماء اللغة في إيجاد أصل لكلمة (أمي) في لغة العرب،وهو (أصل) لا يستقيم مع الحديث المذكور والآيات القرآنية،لأنه يقوم على نسبة (الأمي) إلى (الأم) كما وضعته،وعلى (عُجمة اللسان والعَيّ والجفاء / لسان العرب)،وهي صفات لا تَليق بمقام النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولا بمقام قومه وأمته.. كان اللغوي (الزجاج) قد إقترح أن يكون لفظ (الأمي) نسبة إلى (الأم)،ثم أوّله تأويلاً فقال: [ سُميّ بذلك أنه يكون على الحال التي تلده عليه أمه: (لا يقرأ ولا يكتب)]،وقد أخذ عنه آخرون هذا (التأويل)،وتبنّاه صاحب (لسان العرب) مما أعطى له مصداقية،فصار (الأمي) هو (من لا يعرف القراءة والكتابة). والزجّاج توفي سنة (310هـ)،فليس هو من جامعي اللغة،فعصر جمع اللغة كان قد إنتهى وجاء بعده عصر (الكلام) في اللغة والعقائد..والزجاج مُتكلّم فيهما،والمتكلم (مؤوّل) وصاحب مذهب،فهو عندما يشرح معاني ألفاظ القرآن،كلفظ (النبي الأمي)،يفعل ذلك ليس كاللغوي وحسب بل كمتكلم أيضاً..ويبدو أنه لم يَسبق لأحد من اللغويين أن فسّر لفظ (الأمي) بما فسّره به الزجاج،دليل ذلك أن صاحب (لسان العرب) قد نسبه إليه وحده..وإذاً فتأويل لفظ (الأمي) بعدم القراءة والكتابة حدث في عصر لا يُعدّ علماؤه مرجعاً في اللغة..وقد حصل ذلك في عصر إنشغل فيه المتكلمون والبلاغيون بمسألة (إعجاز القرآن).. وهكذا صار تأويل الزجاج لكلمة (أمي) في خدمة المذهب الكلامي البلاغي..فسلّم الناس بهذه الفكرة دون فحص ولا نقد،وهكذا صار من الصعب قبول المسّ بها لأن (الأفكار المُتلقّاة) تَصوغ عالم المُتلقّي لها،وذلك إلى درجة أن هذا الأخير يقوم بصورة آلية بردّ فعل سلبي رافض أمام كل نقد يمُسّها وكأنه يخاف أن ينهار عالمه ذلك..
يقول (الفرّاء) الذي توفي سنة (207هـ): [ (الأميون): هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب]،وكان الفراء أحقّ أن يُتبع بدلاً من الزجاج،ذلك لأن الفراء سبق الزجاج بقرن من الزمن،وألّف عدّة كتب من بينها كتاب (معاني القرآن) الذي قال فيه اللغوي المشهور أبو العباس ثعلب: [ لم يعمل أحد قبله،ولا أحسب أن أحداً يزيد عليه]..
والواقع أن لفظ (أمي) لفظ معرّب،لا أصل له في اللغة العربية،وهذا ما يتضح من خلال معناه الإصطلاحي.
_ (المعنى الإصطلاحي): يرى كثير من اللغويين والمتكلمين والمفسرين أن لفظ (الأميين) يعني (الذين ليس لهم كتاب ديني سماوي)،فهم إذاً في مقابل (أهل الكتاب)،وبالتحديد اليهود أصحاب التوراة والنصارى أصحاب الإنجيل.وقد ذكر الراغب الأصبهاني نقلاً عن الفرّا قوله: [(الأميون): هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب]،وفي هذا المعنى يقول الشهرستاني: [و(أهل الكتاب) كانوا ينصرون دين الأسباط ويذهبون مذهب بني إسرائيل،و(الأميون) كانوا ينصرون دين القبائل ويذهبون مذهب بني إسماعيل].
ويرى كثير من الباحثين: أن (اليهود) كانوا يطلقون لفظ (الأمم) على غيرهم من الشعوب،أي على (الوثنيين) من عبدة الأصنام وغيرهم،وأن (الأمي) بهذا الإعتبار منسوب إلى (الأمم). فكما كان (الرومان) يطلقون على غيرهم من الأمم إسم (باربار) بمعنى (المتوحشون)،وكما كان (العرب) يطلقون على غيرهم من الشعوب لفظ (العجم) بكون كلامهم (بالنسبة إلى العربي) فيه عُجمة لا يُفهم،فكذلك كان اليهود يطلقون على غيرهم من الشعوب لفظ (الأميون) أي المنسوبون إلى (الأمم) الأخرى التي ليس لديها (كتاب مُنزل). بهذا المعنى الإصطلاحي يجب فهم العبارات التي وردت فيها كلمة (أمي) و(اميين) في آيات القرآن الحكيم،وهي بحسب ترتيب النزول: قوله تعالى: (والذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل) [الأعراف/157].
وقوله تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ وإن هم إلا يظنون) [البقرة/78]. وقوله تعالى: (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين آسلمتم فإن أسلموا فقد إهتدوا) [آل عمران/20].
وقوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) [آل عمران/75].
وقوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) [الجمعة/2].
التقابل في كثير من هذه الآيات، هو بين طرف هو (الأمي) والأميين) من جهة،وبين طرف آخر هم (أهل الكتاب / اليهود والنصارى). الطرف الأول ليس لديه (كتاب)، والطرف الثاني لديه كتاب (التوراة والإنجيل)..فالأميون إذاً هم الذين (ليس لديهم كتاب سماوي)..
ولعل أول ما تجب الإشارة إليه في هذا الشأن أن (الكتابة) كانت مُنتشرة في مكة زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقبله.تشهد لذلك تلك اللائحة الطويلة من أسماء الصحابة الذين كتبوا لسيدنا محمد،وفي مقدمتهم ساداتنا (أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ)،أضف إلى ذلك أن بعض الروايات تُشير إلى أنهم كانوا يقرؤون (التوراة) أيضاً..وفي قصة إسلام سيدنا عمر بن الخطاب أنه ذهب إلى بيت أخته غاضباً عندما قيل له إنها أسلمت،فدخل عليها في بيتها فوجدها مع ختنه وإبن عمه،وعندهما خباب بن الأرتّ (معه صحيفة فيها سورة طه يُقرؤهما إياها)..
ليس هذا وحسب،بل تؤكد مصادرنا أن (قُصيّ بن كلاب) الجد الأعلى للنبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف القراءة والكتابة، وأن جده المباشر (عبد المطلب) كان يقرأ ويكتُب.. وفي قصة نذر عبد المطلب بنحر أحد أولاده (إن وُلد له عشرة أولاد): (قال عبد المطلب: ليأخذ كل واحد منكم قدحاً ثمّ يكتب فيه إسمه،ثم إئتوني،ففعلوا)،وهذا يعني ان عبد المطلب وأولاده العشرة،بما فيهم والد مولانا رسول الله،كانوا يعرفون القراءة والكتابة..
وفي قصة صلح الحديبية ،علّق القرطبي في تفسيره: [قال علماؤنا: وظاهر هذا أنه صلى الله عليه وسلم مَحا تلك الكلمة التي هي (رسول الله) بيده وكَتب مكانها (إبن عبد الله)] وأضاف القرطبي: [ذكر النقاش عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى (كَتب)..]. وفي صحيح البخاري،أن سيدنا محمد قال: [ (الدجال) ممسوح العين،مكتوب بين عينيه (كافر) ــ ثم تهجّاها (ك ف ر) ــ يقرؤه كل مسلم]..
وأورد البخاري عن إبن عباس قال: [ إشتدّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه (في مرض وفاته) فقال: إئتوني أكتُب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي،فتنازعوا..]..وهناك الكثير من الأحاديث والأخبار في المسألة..وخصوم سيدنا محمد،من قريش،لم يتّهموه بكونه (كتب القرآن)،بل إتهموه لكونه كان (يتلقّى) ما ورد فيه،وخاصة القصص،من أشخاص من أهل الكتاب (النصارى) كانوا في مكة..ولم يذكر أحد من الرواة أن خصوم الدعوة المحمدية من قريش قد نسبوا إليه (كتابة القرآن)،ليس لأنهم كانوا يعرفون أنه (لا يقرأ ولا يكتب)،بل لأن المعرفة بالكتابة والقراءة عندهم،وعند جميع الأمم،ليست شرطاً في الإتيان بالكلام البليغ،وقد كان شعراء العرب وخطباؤهم يقولون الشعر ويخطبون إرتجالاً من دون إعداد،لا قولاً ولا كتابة..وفي هذا يقول الجاحظ عن العرب: [ وكل شيء عند العرب فإنما هو (بديهة وإرتجال) وكأنه (إلهام)،وليس هناك مُعاناة ولا مُكابدة ولا إجالة فكر ولا إستعانة..]،وهذه ممن خصائص (الخطاب الإبداعي).. ولا بد أن نستحضر في أذهاننا أن ما حمل علماء المسلمين على نفي المعرفة بالقراءة والكتابة عن النبي صلى الله عليه وسلم،هو تأكيد (الطابع المعجز للقرآن)،فذاك دليل على أنه وحي من الله تعالى.. وناخذ بعين الإعتبار أنه ليس من شرط النبوة عدم المعرفة بالكتابة والقراءة،فالنبوة قائمة على الوحي وليس على قراءة الكتب.. من كتاب (مدخل إلى القرآن الكريم) لمحمد عابد الجابري،
رشيد موعشي بتصرف