شرح القاعدة 11

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه.  

 نُواصل شرح القواعد المباركة من خريطة السلوك العرفاني لأستاذنا الحبيب سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،وقاعدة هذا الدرس تقول: [ حقيقة العبودية تقتضي طاعة المعبود ومحبّته،والخَلْق لا يَصلون إلى كمال محبّته وعبادته لضُعفهم الذّاتي،فأرسَل الله إليهم بَشراً من جنسهم: له وجهة حَقيّة تنظُر إلى الألوهية،وأخرى بَشرية،فكان واسطة بين حضرتين يتعذّر تواصُلهما،فبَلّغ الطرف الخَلْقي أنباء الطرف الحَقّي ].

           سنتناول هذه القاعدة من خلال مفاهيمها المحورية: [العبودية،الوجهة الحَقيّة،الوجهة الخَلقيّة ]. وما تتميّز به هذه القاعدة المباركة هوأنها تضمّنت إحدى المسائل الدقيقة والرقيقة في المعرفة الصوفية العرفانية،وهي الوجهة الحقيّة لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،والتي كثُر حولها الحديث وإختلط على أهل الدار، فبالأحرى الغرباء..فإنتظرنا إلى عصر الشيخ محمد الكتاني رضي الله عنه لنحظى ببعض التحقيقات حولها،وبعده جاء دور العارف المحقّق والختم وحيد عصره مولاي عبد السلام الجبلي قدس الله سره ليُطلعنا على تحقيقات غيرمسبوقة ولم تخطُرعلى ذوي الألباب،فكان بحق ختم زمانه بما أفاد به العارفين من تحقيقات حول الحقيقة المحمدية..وحمل هذه التحقيقات العرفانية والنفحات الربانية، وأضاف إليها بما إنبسط عليه من خزائن الجود أستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله.

  حقيقة العبادة:   يقول الإمام القشيري: [ العبادة: هي مُوافقة الأمر،وإستفراغ الطاقة في مُطالبات تحقيق الغيب.ويدخُل فيه التوحيد بالقلب،والتّجريد بالسرّ، والتّفريد بالقصد،والخضوع بالنفس، والإستسلام للحُكم]. لا يُمكننا فهم (حقيقة العبادة) إذا لم نربطها ب (النور المحمدي / الحقيقة المحمدية)..لهذا سنقوم في شرحنا بهذا الربط الذي عَزّ فيه التحقيق،إذاإستثنينا تحقيقات الشيخ الكتاني ومولاي عبد السلام الجبلي وأستاذنا حفظه الله،إلا ما نجده عند الشيخ الأكبر وعبد الكريم الجيلي ومن على مشربهم..وكان علينا أن ننتظر زمننا المعاصر مع مولاي عبد السلام الجبلي قدّس الله سره وأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،لنحظى بالتحقيق العرفاني للمسائل الدقيقة التي أشكلت وإستغلقت على من قبلهم من العارفين والذي تسبّب في الخلط بين (الذات الإلهية) و(الحقيقة المحمدية) فكان ما كان من سوء الفهم وكَيْل التّهم (وعند ربكم تختصمون)..

 لما كانت المخلوقات من الممكنات،وتستمدّ وجودها وقدرتها من الحق تعالى،فهي مفطورة على الفقر والنقص الذاتيين.. لهذا لم يكن في طاقتها وتركيبها القيام ب(العبادة الحقيقية). .فناب عنها في تحقيق هذه العبادة الخالصة والكاملة (النور المحمدي) الذي بَزَغ من (الصفة الأحدية)،ومعه (الفيضة القرآنية)..لقد قام سيدنا محمد بكل العبادات في البسائط الأولية الأزلية كما قال تعالى “قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين”،فكانت حقيقته العبودية الخالصة،فهو أول من تعبّد أصالة،وغيره بالتبعية..

       جاء في (صلاة المتردّي): [ العبد الحقاني،المُنفرد بلَيس كمِثله شيء ]،فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (عبد حقّاني) كما ذكر القرآن الكريم:”وآمنوا بما نُزّل على محمد وهو الحقّ” “وشَهدوا أن الرسول حقّ”..فهو عبد حقّاني لاهوتي،تَلثّم ببَراقع العَبديّة وتَستّر بالبشريّة.. فكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو المُبلّغ للشريعة الإلهية”هذا ذكر من معي وذكر من قبلي”، بمقتضى (الميثاق) المأخوذ في البسائط الأزلية “وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتُكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتومنُن به ولتنصرنه قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين” 

        كلام الحق عز وجل (صفة) وسيدنا محمد هو (الموصوف بها)..(القرآن الكريم) صفة سيدنا محمد،فلولا سَريان حقيقته في الحروف لما إستطعن  حمل معاني القرآن..وكل سور القرءان تبدأ ب(الباء) إشارة على أن (بداية الظهور) حقيقته ﴿فأنا أول العابدين﴾،فالباء لها من الأعداد (2)كسراً،فهي تشير إلى (أول العابدين).أمابسطاً وكسراً فهي إشارة إلى (الصفة الأحدية) للحق تعالى (أحد =13)،وإلى (أول مرتبة من مراتب الوجود)..وهو ما أشار إليه الشيخ الكتاني ب[الأحَديّ الثاني]..وقد ورد في الأثر أن:[جميع أسرار الكتب السماوية في القرءآن،وجميع مافي القرءآن في الفاتحة،وجميع مافي الفاتحة في البسملة،وجميع مافي باءالبسملةفي النقطة التي تحتها].. 

 ويقول الشيخ الأكبر في (نقش الفصوص): [ وجعله الله تعالى (العين المقصودة من العالم)، كالنفس الناطقة من الشخص الإنساني.ولهذا تُخرّب الدنيا بزواله،وتنتقل العمارة إلى الآخرة من أجله.فهو الأول بالقصد،والآخر بالإيجاد،والظاهربالصورة،والباطن بالسورةأي المنـزلة. فهو (رب للعالم،وعبد بالنسبة لله) ]،فكان صلى الله عليه وسلم هو (مُربّي العالمين، ومُعرّفهم بربّهم)،وبهذه النّسبة التي بين حقيقته والعالَم فهو (عين الرحمة الإلهية).. ورد في كتاب (التنبيهات في علو مرتبة الحقيقة المحمدية لابن عربي ):[ ف(الحقيقة المحمدية) هي التي تُرَبّ صور العالم كلها بالرب الظاهر فيها الذي هو رب الأرباب. فبظاهرها ترب ظاهر العالم،وبباطنها ترب باطن العالم،لأنه (صاحب الإسم الأعظم)، وله (الربوبية المطلقة) وهي له من جهة مرتبته صلى الله عليه وسلم لامن جهة بشريته،فإنه من تلك الحقيقة(عبد مَرْبوب) محتاج إلى ربه سبحانه وتعالى ]..   

يقول الشيخ محمد بن عبد الكريم السمان: [ الحمد لله الذي جعل محبته (صلى الله عليه وسلم) مَبْنى أساس الإيمان،وباب المعرفة وسرّ الإمكان. من نوره الشريف تصوّرت جميع الصور،ومن فيضه العلي إستمدّ البشر والشجر. فهو (الأب الأصلي والختم الحقّي الداعي إلى الحق بالحق). به ظهرت الموجودات وتفرّعت الممكنات،إذ هو صاحب رياسة (لولاك) ،وقاب قوسَيْ الوجود،وعروة الاستمساك. فبالصدق في محبته يحصل للعبد سُؤْله، وبالإضمحلال في نوره الباهر يَتمّ وُصوله..].  

     الحق عزوجل ظهر لنا ب(الإسماء الإلهية)،أما من حيث(ذاته)فهو غني عن العالمين،لهذا كانت معرفة الله هي [معرفة (الحقيقة المحمدية)،ومعرفة (الأسماء والصفات الإلهية) ،ومعرفة (القرآن)]،وقد حصل إصطحاب النور المحمدي بالأسماء الإلهية،وإصطحبت المحمدية بالأحمدية،فأحاطت نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن،فظهر الخليفة بصورة من إستخلفه (من رآني فقد رأى الحق) (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)..فمن عرف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد عرف الحق،فهو (البرزخ الفاصل بين الحق والخلق) وهو (سدرة مُنتهى الجميع)..ولولا هذه (النيابة) لما إستطاع أحد أن يؤمن (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله ووالده وولده والناس أجمعين)..فكان هو المُجيب أصالة عن بني آدم في عالم الذرّ عندما قال لهم الحق تعالى (ألست بركم) فكان هو القائل (بَلى).. 

   الوجهة الحقية: (الوجهة الحقيّة) لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي أشار إليها الحق عز وجل بقوله: (لقد جاءكم من الله نور وكتاب مبين). (النور) هو(حقيقة سيدنا محمد) صلى الله عليه وسلم،التي أشار إليها بقوله: (أوّل ما خلق الله نورنبيّك يا جابر) وقوله: (كُنت نبياً وآدم مُنجدل في طينته)..والكتاب المُبين هو القرآن الكريم..  

  لما كانت (الذات الإلهية) لها الغِنى المطلق،حتى عن الأسماء الإلهية،ولا علاقة لها بالمخلوقات،كان لا بُدّ من (وَسيط برزخي / واسطة بين الحقّ والخَلق) يُمدّ المخلوقات،تكون له (وِجهة إلى الخالق / الوجهة الحَقيّة / بساط الحقيّة) و(وجهة إلى المخلوقات / الوجهة الخلقيّة)،ف(يَستمدّ من الحقّ ويُمِدّ الخلق).. هذا (الوَسيط) هو (حقيقة سيدنا محمد / الوجهة الحَقيّة) صلى الله عليه وسلم،إسْتَخلفه الحق تعالى على الخَليقة،لأنهم لا طاقة لهم على التلقّي المباشر من الجَناب الإلهي الأقْدَس دون حائل ومُلطّف للتجليات الإلهية..فأنابَهُ الحق تعالى مَنابه “إن الذين يُبايعونك إنما يُبايعون الله” (من رآني فقد رأى الحق)،وألْبَسه حُلَل الخلافة،وأخذ له الميثاق في البسائط الأزلية (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتُكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتومنُن به ولتنصرنه قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).. 

  يقول الإمام الجيلي: [ أن مولانا رسول الله نِسْبة بين الله تعالى وبين الكون بأكمله،ولولم يكن موجوداً ما كان شئ من الموجودات يَعْرف رَبّه،بل لم يَكُن العالم موجوداً،لأن الله تعالى ما أوْجَد العالم إلا لمعرفته،فأوجد النّسبة أولاً،ثم أوْجَدهم من تلك النّسبة ليَعْرفوه بها.].. وحديثنا عن الحق تعالى لا علاقة له ب(الذات)،وإنما مُتعلّق العلم ب(مرتبة الألوهية)،فهي التي لها علاقة بالمخلوقات من خلال تجليات الأسماء الإلهية..وعندما يتكلم العارفون عن (الذات الإلهية) فهم يقصدون (الأحدية، ومرتبة الألوهية، والفيضة القرآنية ،والحقيقة المحمدية،)..ففي مرتبة الألوهية خرجت (الأسماء والصفات الإلهية) من أزليتها (أي تقدّم البطون للأسماء الإلهية في الصفة الأحدية)،وطلبت أن تُعرف وأن تظهر في الموجودات جمالاً وجلالاً وقدرة ورزقاً..فلا خروج للمخلوقات عن مرتبة الألوهية،ولا تعطيل لتأثير الأسماء الإلهية في الدوائر الكونية..فما تَمّ إلا الأسماء الإلهية (مُصطَحبة مع الحقيقة المحمدية)ومُقتضياتها،هي مدد الكون وغذاؤه..  

      (النور المحمدي) بَزَغ من الصفة الأحدية [ (الأحدية) رئيسة (الأسماء والصفات الإلهية)،الكل تحت حيطتها وهيمنتها ]،فالأحدية مَحْتدّه،ومحتدّ (الفيضة القرآنية)..وألْبَسه الحق أرديّة الربوبية (من رآني فقد رأى الحق)..فحازت النبوة المحمدية على الكمال بتحلّيها بأرديّة كمال الأسماء الإلهية،فإستحقّت الخلافة الكونية (إن الذين يُبايعونك إنما يُبايعون الله) (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)..فحيثُما كانت الأسماء الإلهية كانت مُصطَحبة مع مرتبة من مراتب النبوة المحمدية (فأينما تُولّوا فثَمّ وجه الله) أي ظهور مرتبة الألوهية في الأشياء.. فالكون كلّه مُنْطَبع في مرآة الحقيقة المحمدية،وهو ما عبّرعنه الشيخ الأكبر بقوله (هو الظاهر في المظاهر)..ففي كلّ التجليات الإلهية هناك مرتبة من مراتب الحقيقة المحمدية، وتدرّج هذه المراتب في الدوائر الكونية هوالذي أعطى للدوائر وجوداً في ذاتها، فمراتب الوجود ظهرت به ومنه ،والكل يستمدّ من برزخية حقيقته المحمدية،فلكل دائرة كونية إسم مُدبّر لها،والإسم لا يُظهر مُقتضاه إلا بعد الإصطحاب مع النبوة المحمدية ليَكون اللّطف في الكون الإلهي (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)،فعَمّت الرحمة مُقتضيات الأسماء الإلهية،فهو طرف فاعل في كل التجليات الأسمائية،فلا دُخول إلا من بابه ولا شهود إلا فيه (الله المُعطي،وإنما أنا قاسم)،فظهر الخليفة بصورة من إستخلفه،ولا يقوم مقام الحق إلا الحقّ..

  قال الشيخ إبن مشيش في صلاته (حجابُك الأعظم القائم بين يديك): فهو صلى الله عليه وسلم حجاب الله الأعظم الجامع للعوالم المُلكية والملكوتية،للظاهروالباطن،للحس والمعنى. له الأولية والآخرية،والخلافة الكلية،والنيابة القولية والفعلية..ف(العالم العُلوي مظهر باطنه الأقدس) و(العالم السّفلي مظهر ظاهره الأنفس)..ومن قال من العلماء بالله أنه رأى الحق (رأيت ربّي) فقد لُبّس عليه،وكما قال الشيخ الكتاني: [ كوفح بنَعْت من الروح الكلية في بساط القُرب الذاتي].. فالرؤية لا تقع إلا على الحقيقة المحمدية..فهو (مظهر للحق) ونائب عن الحق في الظهور،والمُشاهد لا مطمع له في الحضرة الأحدية،وإنما الشهود في مراتب حضرة الواحدية التي فيها (عالم الكثرة والتعدّد)،وفي هذه الحضرة الواحدية الكل مرتوق في حقيقة النبوة المحمدية،وخروج المخلوقات يكون بتجلّي الإسم (الخالق) مَصحوباً بمرتبة من مراتب النبوة ليكون (اللطف في الكون الإلهي)..  

   فكان الحديث المشهور: (ما يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أُحِبّه،فإذاأحْبَبته كُنْتُ سمعه الذي يسمع به ولسانه الذي ينطق به وبصره الذي يبصر به) ــ في مشرب أستاذنا وشيخنا حفظه الله ــ أن من تحقّق بهذا القُرب أصبح محلّ إستقرار الصّفة (أي النبوة تتجلّى فيه) فينطق على لسانها..فالحقائق الإلهية رأت صورتها في حقيقته صلى الله عليه وسلم،لأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو(البرزخ الجامع الفاصل بين حقائق الألوهية والمخلوقات).. 

هذه (الحقيقة المحمدية) هي المعروفة عند العارفين ب (الإنسان الكامل)..يقول الشيخ البيطار: [ (الإنسان الكامل) صلى الله عليه وسلم هو: الذات الجامعة لمرتبة الألوهية، وشؤونها وأحكامها وأسمائها وصفاتها الحقية،ومراتب تنـزلاتها الخَلْقية،وأحوال تلك التنزلات وأحكامها الصورية الكلية والجزئية.وهو أم الكتاب لعروش المعاني الذاتية،فكذلك هو نسخة جامعة لمظاهر حقائقها الصورية]. ومعنى قول البيطار: أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (لَبِسَ أرديّة مرتبة الألوهية، وتَحلّى بالأسماء والصفات الإلهية)،قال صلى الله عليه وسلم: (إني لست كهيئتكم) (كلكم من آدم،وآدم من تراب) ولم يقل (كلنا من آدم)..وأن تنزّلات (مرتبة الألوهية) جاءت مُتحليّة بالنّعوت الشيئيّة (الضحك،الهرولة، الإستهزاء، المكر..)..وقوله (هو أم الكتاب) إشارة إلى (الإصطحاب مع الفيضة القرآنية)وهو ما أشارت إليه أمنا عائشة عندما سُئلت عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقالت (كان خُلقه القرآن)،وفي حديث آخر (كان قرآناً يمشي)،طُلْسِمَ في القرآن عموماً وفي البسملة خصوصاً..  هذه الخصائص في مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي أشار إليها الشيخ محمد الكتاني في (صلاة المُتردّي) بقوله (المُتردّي بأردية الكبرياء) ،وهذه الأرديّة تُشير إلى (الباطن والصفة)،إذ لو كانت ظاهرة لعُبد من دون الله..فتحقّقه بإسم (الهوية) جعله مجهولاً عند كل العوالم (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّي) أي الروح الكلية وغيره له روح جزئية،”وتراهم ينظرون إليك وهم لا يُبصرون” أي لا يُبصرون حقيقته الباطنية،“وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون” فهو صلى الله عليه وسلم (آية الله الكُبرى) التي حام حولها العارفون ولم يُدركوا كُنْهَها فبالأحرى غيرهم.. 

 (النور المحمدي) له وجهتين لعملة واحدة أو هو نقطتين من عين واحدة: الحقيقة المحمدية (النبوة)،والحقيقة الأحمدية (الرسالة)..النبوة هي (الخليفة على الكون)،والقرآن هو (دستور الكون) الذي يَسير عليه الخليفة . مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو (الأول) بنبوته،و(الآخر) برسالته، و(الظاهر) بصورته،و(الباطن) بحقيقته .   

 قال الله تعالى (الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان) أي علّم القرآن لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خلق سيدنا آدم عليه السلام..وقال الحق عز وجل (إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى مَعاد) فالفرض الأول كان في عالم البُطون بلا واسطة (منه إليه) [وهذا أيضاً ما يُشير إليه إصطحاب (النبوة) مع الإسم الجامع (الله)،وهو قولنا [ اللهم ]،فالميم تُشير إلى الميم المُدغمة من إسم (محممد)،وإتصالها بإسم الجلالة يقتضي أن (القرآن نزل دفعة واحدة،منه إليه،بدون واسطة) ]،والثانية في عالم الظهور بواسطة جبريل عليه السلام..ولهذا كما قال تعالى (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) فقد قام مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع العبادات قبل القبل (في البسائط الأولية)،قبل عالم الظهور،وقبل أن تُسند إليه مهمّة النبوة..فقدلَبست النبوة حُلَل الفيضة القرآنية وحُلَل الأسماء الإلهية في البسائط الأولية.. ولهذا كانت شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي الأصل،وشرائع باقي الأنبياء والمرسلين فرع.. 

  يقول تعالى “شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه”: فالوحي لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،و(الوصية) لغيره من الأنبياء والمرسلين (أوصيّاء)..فلم يتحقّق بالنبوة والرسالة إلا الموصوف بهما حقيقة،وغيره (نُوّابه وأوصيّاؤه)،من فيض نبوته إستمدّوا ومن سراج رسالته إقتبسوا..فشرائعهم فرع عن شريعته بحُكم الميثاق المأخوذ في عالم الشأنية الذي يقتضي وجود حقيقته المحمدية (تُمدّ بَرازيخ الوحي الأولية).. 

           قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (كنت نبياً وآدم منجدل في طينته)،والنبوة من (النّبأ) أي الإخبار،فكان (مُخبراً عن الله) قبل ظهور الجسم الشريف المولود من أم وأب. وقدإقتضى هذا وُجود (نُوّاب) له صلى الله عليه وسلم،مُبلّغين شرائعه الأحمدية (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي)،بمقتضى (الميثاق) المأخوذ في البسائط الأزلية (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتُكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتومنُن به ولتنصرنه قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين)،وقد جاءهم بإسمه (الباطن)..فتقدّم صلى الله عليه وسلم بحقيقته في الوجود،وتأخّر بهيكله الشريف في الشهود.تقدّم على كل الحقائق،وإستمدّ منه كل الخلائق. فلم يَفُزبالإصطحاب بالأسماء الإلهية والفيضة القرآنية سوى نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وبالإصطحاب علا شأن النبوة،فلا يُذكر الله إلا ذُكرت معه،فأصبحت النبوة طرفاً في التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)،فجمعت الأمة المحمدية بين الشريعة (لا إله إلا الله) والحقيقة (محمد رسول الله)..فلا يَخفى شيء عن النبوة،فهي تعرف جميع المقتضيات، وحاضرة في جميع التجليات،وواسطة في كل العطاءات..  

              يقول الشيخ الكتاني رضي الله عنه،مُبيّناً الفرق بين الأحمدية والمحمدية،في كتاب (الطلاسم): [ في قوله تعالى (ق): فإنه أقْسَم بقوة ظاهره، وأما باطنه فأشار لقوته ب (والقرءان المجيد). فلا شك أن (أحمديته) حاوية لجل الكمالات الإلهية،إذ هي الكتاب المبين (أي الرسالة)..قال تعالى (وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم) من عند حكيم عليم (لا وساطة لأحد)،إنما (كانت أحمديته تَتْلو على محمديته بدون وساطة). وإنما لشدة تَمْكينه في (مقام العبودة) كان يظهر ذلك في السفير (أي جبريل) مع غناه عنه،وإنما كان يأتي رسولاً مُسخراً بين (أحمديته ومحمديته)..]..فالأحمدية هي الرسالة، والمحمدية هي النبوة.. ويقول في موضع آخر: [ وكذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: (رأيت ربي في صورة شاب أمرد) وهو بَحْثيّة صرافة أحْمَديته،فإنه رآها به هو،فهو ذاك الشاب الذي رآه،إذ هو بحثاًصرفاً،فما ثمّ إلا هو، أي (رأى نفسه بنفسه)..]. (لقد رأى من آيات ربه الكبرى): في المعراج رَأى بجسمه الشريف المولود من أم وأب، أحمديته، أي القرءان مُجَسّماً في صورة شاب.. 

وقد أُمرنا ب(الصلاة على مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأن الكون كله مُفتقر إليها،إذ لولاها لإضمحلّ من هيبة الله. يقول الله عز وجل “إن الله وملائكته يُصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً”،والصلاة عليه هي (ذكره والثناء عليه) بالنّعوت القديمة المذكورة في القرآن. فصلاة الله هي تلك الشّعلة التي تربط الكون بخالقه،إذ الكل مَنوط بهذا النبيّ الكريم الذي جعله الله واسطة بينه وبين كونه فهو صلى الله عليه وسلم (نفس الوجود،وروحالوجود،وسر الوجود) الذي لولاه لإنْهَدّ الوجود وما إستطاع الصمود أمام تدفّقات التجليات الإلهية. فبصلاة الله عليه تَعُمّ الرّحَمات،ويكون اللطف في الكون الإلهي،ويصبح الوجود صالحا للوجود. .خصوصاً إذا كانت الصلاة نعتيّة راقية تتغزّل في الحقيقة المحمدية بالأحمدية،فهي تَدفع بالإختراعات والإبتكارات العلمية إلى التطور،وتَسير بالتكنولوجية إلى التقدّم،وبالأذواق والنفحات العرفانية إلى السموّ،وبمقامات أهل الله إلى العُلوّ.. لذلك كانت الصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أفضل العبادات.. ففي   كل البسائط الكونية لا يمكن رؤية سرّ الربوبية إلا به وفيه ومنه صلى الله عليه وسلم.. نكتفي بهذا القدر خوف الإطالة،وكل ما ذكرناه هنا هو غيض من فيض مما جاد به أستاذنا حفظه الله،وما كان لنا أن نتعرف على هذه المباحث الدقيقة والرقيقة لولا تحقيقاته وتحقيقات شيخه مولاي عبد السلام قدس الله سرّه،فجزاهم الله عنا خير الجزاء. 

 وجهة خلقيّة: الوجهة الخَلقيّة هي التي أشار إليها الحق تعالى بقوله: “قُل إنما أنا بشر“”يأكل الطعام ويمشي في الأسواق”.. فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من مُقتضيين:النبوة من مُقتضى الصفة الأحدية ..والهيكل الشريف ،المولود من أم وأب،من مُقتضى الأسماء الإلهية..  

     في زمن الصحابة ظهرت النبوة المحمدية في صورة آدمية في هيئة الهيكل المحمدي الشريف، فكان الحكم لبشريته صلى الله عليه وسلم أكثر من نورانيته،لكي(لا يُعْبَد من دون الله)،ولم يظهر من نورانيته إلا القليل كما ورد في كتب السيرة أنه صلى الله عليه وسلم كان:[ (يَرى من خَلْف كما من أمام)،و(يَرى بالضّوء كما في الظلام)،(ليس له ظل) لأنه نور،و(يرى بنوره).. ]. فكان الصحابة مَحْجوبين بجسمانيته عن نورانيته “قل إنما أنا بشر مثلكم”،”يأكل الطعام ويمشي في الاسواق”. ظهر بصفات العبودية أكثر من صفات الربوبية، لكي لايُفْتَنوا به ولا يُؤَلّهوه،ولكي يَنْشغلوا بالقرآن والسنة النبوية، وتبليغهالنا،لا به صلى الله عليه وسلم.

       أما عندما إنتقال المولود من أم وأب إلى الرفيق الأعلى، فلم يَبْق للبشرية أثر،بل لاتُرى النبوة المحمدية إلا بصفات الربوبية، فرُؤيتها لاتُطاق للأنوار التي تَشِعّ منها،ويَراها الرّائي بها لابنفسه،إذهي التي تُقَوّيه حتى يَراها،فهي ليست من عالم الأشباح ولا من عالم الأرواح،هي مُرْتَديّة بالأسماء الإلهية وبالخلافة الكونية.  

 فزمن الصحابة (زمن الشريعة)،وزمن العارفين (زمن الحقيقة). فظهرت لهم بصفات الربوبية  (من رآني فقد رآى الحق)،ومنهم من ظنّ أنه بين يَدي الحق يُخاطبه،وليس إلا الوِجْهة الحَقيّة لمولانا محمد نبي الله صلى الله عليه وسلم،لهذا كان كلام بعضهم قريباً من الحلول أو الإتحاد. 

           وكما قال العارف المحقق سيدي محمد الكتاني فإن الحق تعالى قد سَقى هذا الهيكل الشريف (الروح الجزئية) من الكمالات الإلهية ما صيّره أنموذج لجميع المزايا والفواضل..فلون الماء لون إنائه،والأواني تابعة للمعاني..فلما كان الهيكل الشريف (الأواني) تابع للباطن اللاّهوتي (المعاني)،ف(الظاهر لاهوتي) أيضاً..لهذا قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (إني لست كهيئتكم،إني أبيت عند ربّي يُطعمُني ويَسقين) (تَنام عنياي ولا ينام قلبي)،وكان من صفاته [ (لم يكن له ظلّ) (يرى من خَلف كما يرى من أمام) (ليس له كثافة بشرية) ]،ولكي لا يُعبد من دون الله كان يتظاهر بمقتضيات البشرية “قل إنما أنا بشر مثلكم

  وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى آله وصحبه.

                   ذ رشيد موعشي

حصل المقال على : 1٬026 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية

    الاشتراك في النشرة البريدية

    احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

    اترك تعليقا

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد