شرح القاعدة الثامنة

بسم الله الرحمن الرحيم  الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الانبياء والمرسلين،وعلى مولاتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ،وعلى سيدتنا خديجة الكبرى ام المومنين ،وعلى اله وصحبه اجمعين.    

 نواصل الشرح للقواعد المباركة من (خريطة السلوك العرفاني) لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،وقاعدة اليوم تقول: [ الذكر بالأسماء المفردة ضروري للسالك للترقّي،وبأعداد (رَتْقيّةعرفانية) تُدْخِل أسرار النبوة في خبايها،وبالزّجر المناسب والإذن المُصاحب].

                      سنُناقش هذه القاعدة ونشرحها من خلال تناول أربع مصطلحات تحمل تحتها مسائل عرفانية رقيقة،ومُتضمّنة لوسائل تربوية مُرقيّة وجليلة.. وهذه المصطلحات هي: [ (الأسماء المفردة)،(الذكر بالعدد)،(الزّجر)،(الإذن) ].وهذه المصطلحات تجتمع في مُسمى (الذكر)،والذكر في ماهيته هو: [ التخلّص من الغفلة والنّسيان بدوام حضور القلب مع الحق]..و(الذكر) مع (الإستعداد) هو الدّاعي إلى (الفتح)، ولكن بما يُناسب الذاكر..  

والذكر ب(أسماء الله الحسنى): أدوية لأمراض القلوب وعِلَل السالكين إلى حضرة علاّم الغيوب..ولا يُستعمل دواء إلا في الأمراض التي يكون ذلك الإسم نافعاً فيها..فلك لإسم من أسماء الله الحسنى خاصية وتعلّق في دفع نوع من الأمراض القلبية [وقد ذكر الشيخ إبن عطاء الله السكندري في كتابه الفريد (مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح): تعلّق كل إسم بدفع مرض مخصوص من أمراض القلب والنفس..]..  

                         1_ (الأسماء المفردة): يقول الله تعالى: (ولله الإسماء الحسنى فادعوه بها) والدعاء ذكر،والذكردعاء،وكلاهما يشمل ترديد إسمه تعالى مُفرداً مجرداً..  

   يقول الله تعالى: (قل أدعوا الله أو أدعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) أي أذكُره باسمه(الله) أو إسمه (الرحمن) أوغيرهما من أسمائه الحسنى،وكلها أسماء مُفردة مجرّدة، وحكم واحد منها يجري عليها جميعاً..   (الأسماء الإلهية)هي موادّ الكائنات وأصول الممكنات..ولولا سلطان أحكامها وتصاريف آثارها ما ظهر لوجود الكون إسم ولا لكَوْن الوجود رَسْم..  و(الذكر بالإسم المفرد) هو: الذكر بأحد أسماء الله الحسنى مُفرداً،نحو (الله) أو (أحد) أو (يا حي ياقيوم)..والإسم الجامع العام الأشهر لربنا عز وجل هو (الله)،وإليه تعود جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا..

        وعندما يذكر العارفون مسألة (الذكر بالإسم المفرد) فهم يقصدون بالخصوص الذكر بالإسم الجامع (الله)،وهو وعاء أسرار جميع الأسماء والصفات،والذاكر به ذاكر بها جميعاً لأنها ترجع إليه وكلها صفات له،ولكل ذاكر به نصيب منه على قدر إجتهاده وإخلاصه..         إسم (الله):هو إسم عَلَم ذاتي لمرتبة الألوهية الجامعة لحقائق الأسماء كلها،فهوالإسم الكامل المُحيط الجامع لجميع الأسماء ــ المُتقابلة وغير المتقابلة ــ فما ثَمّ من يقبل الأضداد في وصفه إلا (الله). فكل موجود ليس له من (الله) إلا نسبة خاصة،أي إسم إلهي،وهذاالإسم هو في الحقيقة (ربّه).فالأسماء الإلهية هي أرباب لمظاهرها ومَجاليها،أما (الله) فهو ربّ جميع الموجودات..   قال الإمام الجنيد: [ ذاكر هذا الإسم (الله) ذاهب عن نفسه،مُتّصل بربّه،قائم بأداء حقّه،ناظر إليه بقلبه،قد أحرقت أنوار الشهود صفات بشريته].  وقال العلامة الخادمي: [ واعلم أن إسم الجلالة (الله) هو الإسم الأعظم عند أبي حنيفة والكسائي والشعبي وإسماعيل بن إسحاق وأبي حفص وسائر جمهور العلماء،وهوإعتقاد جماهير مشايخ الصوفية ومحققي العارفين،فإنه لا ذكر عندهم لصاحب مقام فوق مقام الذكر باسم (الله) مجرّداً.قال الله لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم (قل الله ثم ذرهم)]. ويقول الشيخ أبو العباس المُرسي: [ ليكُن ذكرُك (الله،الله) فإن هذا الإسم سلطان الأسماء،وله بساط وثمرة: فبساطه (العلم)،وثمرته (النور).وليس النور مقصوداً لذاته،بل لما يقع به من الكشف والعيان.فينبغي الإكثار من ذكره وإختياره على سائر الأذكار،لتضمّنه ما في (لا إله إلا الله) من (العقائد والعلوم والآداب والحقائق)..] وعند العارفين أن (الحقيقة المحمدية) ــ أو (الوجهة الحقية) لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ قد تحلّت وتخلّقت بجميع الأسماء والصفات الإلهية،وظهرت ب(أوصاف الربوبية)،لهذا قال صلى الله عليه وسلم: (من رآني فقد رآى الحق)،وقال الله تعالى (إن الذين يُبايعونك إنما يُبايعون الله).. وكما هو معلوم أن الوجود لا تخرج ذرة منه عن تجليات الإسماءالإلهية..وعند العارفين أن (الحقيقة المحمدية) سارية في كل الوجود.. وملازمة الحقيقة المحمدية للاسماء الالهية ولكل تجل هو ما يسمّى ب(الإصطحاب)،ولولا هذا الإصطحاب لإنهدّ الوجود ولم تقُم له قائمة، لأنه لا يستطيع الصمود أمام التجليات الإلهية مباشرة دون حائل (وهي الوساطة والبرزخية المحمدية)..  فالذكر بالإسم المفرد الجامع (الله)،يحتاج إلى الإذن المحقّق من شيخ عارف يعرف الحضرة المحمدية وتعرفه، وبدون هذا الإذن يكون العطب أقرب إلى الذاكر من الظّفر..ومن وفّقه الله تعالى لمعرفة من يعرف مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،فليُبشر بثمرات الإسم الجامع (أسراراً ومعرفة وتزكية)،حسب إستعداده وإجتهاده..

2_ (الذكر بالعدد):  

 يقول الشيخ الأكبر:[ (العدد): هو سرّ من أسرار الله في الوجود،ظهر في الحضرة الإلهية بالقوة]. الذكر بالعدد له مستند في أقوال وأفعال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،فجُلّ العبادات جاءت بعدد معين..فالذكر بالعدد في شريعتنا الغرّاء هو (تعبّدي) في الأساس، ويحمل في طيّاته (أسراراً) حازها العارفون بالله والوارثون المحمديون قدّس الله أسرارهم.. فالعارف المأذون من الحضرة المحمدية،يأخذ هذه الأعداد من مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،من هنا كان لها بُعدُها التعبّدي التّحقيقي لمن سلك طريق أهل الله،وهي بذلك لا تُلزم أحداً إلا من كان مُعتقداً بالنّسب الشريف لهذه الأذكار العددية.. فللذكربالأعداد أسرار لا يعلمها إلا الله عز وجل،ومن إصطفاهم لتربية عباده من العارفين الكمل والوارثين المحققين. .كما أن هذه الأسرار منها ما يُستفاد بالتجربة والخبرة الروحية.. و(إندراج أسرار النبوة) يُحيلنا إلى معرفة الشيخ المُربي المتحقّق بالحضرة المحمدية،ويتلقّى المعارف عن مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،يقظةومناماً..كما أنها تُشير إلى السند الصحيح للسلسلة الروحانية المباركة،إلى مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم..

 3_ (الزجر):    (الزجر) هو القسم الذي يَبدأ به الذاكر للأسماء المفردة وينتهى به،ويذكُره على رؤوس المراتب.. و(الزجر) ضروري في الذكر بالأسماء المفردة،فهو يعمل كمُوجّه للذكر ومُلطّف لجلال الأسماء الحسنى.. وبالزجر يتمّ ربط روحانية العالم العُلوي بروحانية العالم السفلي،ومن خلال هذا الربط يتمّ التصريف وتحصُل الإستجابة..لأن لكل اسم من الاسماء الالهية ملائكة موكلة به ،فالزجر يبين الاتجاه الذي تقصده من وراء الاسم.فربما كان قصدك بالذكر الترقي ،او قصدك صرف الاعداء،أو جلب الرزق….. 

                        4_  (الإذن) ركن أساسي في طريق التصوف والسلوك..وله أبعاد تربوية جليلة..وهو في جوهره (إعتقادوإستمداد).. كما هو معلوم أن للذكر تجليات نورية قد تضرّ الذاكر الذي ليس له القوة والإستعدادلتحمّلها،و(الإذن) يقوم بوظيفة التّلطيف لهذه التجليات..كما أن النور قد تتقاطعه ظلمات العوارض والشياطين،فيكون (الإذن) حافظاً ومخلّصاً من هذه القواطع.. الذكر،بشكل عام،وبدون إذن،له ثمراته وجزاؤه،ولكنه يخلو من بركات السلسلة الروحية المباركة المرتبطة بحلقات العارفين، إلى مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. من هنا كان مفهوم (الإذن) مرتبطاً بمفاهيم أخرى ك:(التلقين) و(السلسلة الروحية) و(محبة الشيخ).. فالأصل في (الإذن) هو تلقين الشيخ للمريد ذكراً معيناً عن طريق المشافهة..وعن طريق المشافهة يحصُل سريان أنوار الذكر من الشيخ إلى المريد.. وهذا (التلقين) يمر عبر (سلسلة روحية) مباركة،إلى أن تنتهي إلى مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم..ومن هنا كان للذكر المأذون (أسرار وثمرات).. ومن أساسيات (الإذن) هو ربط المريد بشيخه (محبة وتعظيماً وإكراماً..).. ويُلخّص مفهوم (الإذن الإلهي) عند الشيخ الأكبر المعنى الأصيل والحقيقي ــ من خلال (مشرب) أستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله ــ لمفهوم (الإذن) عند العارفين المحققين،يقول الشيخ الأكبر: [ (الإذن الإلهي) هو: التمكين الإلهي الذي يحفظ على المحلّ المرتبة أو الصفة الفاعلة،أو تمكين المؤثّر من التأثير في مرتبته.فالعلّة لا تستقلّ بالفعل بل يُمكّنها الله من الفعل،وهذا التمكين يُعبّر عنه ب(الإذن الإلهي)]..   

 فالتصوف في هذا المشرب المبارك هو: (معرفة مولانا رسول الله بالقرآن،ومعرفة القرآن بولانا رسول الله).. ودائرة إسم الجلالة (الله) خاص بمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،لم يطأهاغيره..و(الإصطحاب) هو نهاية الخلق،وما فوقه خاص بالله تعالى.. فنحن عندما نتحدّث عن (الإذن) فيما يخص مرتبة (المشيخة)،فإننا ننتهي بهذا الإذن إلى مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،فهو صاحب الإذن الحقيقي،والمشايخ نُوّابه وخُلفاؤه..ويبقى على (المريد / التلميذ) أن يميّز بين (الشيخ المحقق) المأذون من الحضرة المحمدية،وبين (الشيخ المُدّعي) المأذون من نفسه ومصالحه.. وصلى الله على سيدنا محمد نبي الله ،وعلى الزهراء بَضعة رسول الله ،وعلى اله وصحبه

الفقير الى عفو ربه رشيد موعشي

https://fatimimohamadi.com/%d9%82%d9%88%d8%a7%d8%b9%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b5%d9%88%d9%81/.

حصل المقال على : 1٬273 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد