بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين.وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم. بعد إذن أستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،نستأنف شرح قواعد (خريطة السلوك العرفاني)،وسنتناول في هذه الحلقة القاعدة السادسة التي تقول: [ بدون صحبة شيخ عارف لا تَصل إلى المعارف،وبدون مجاهدة لا تَصل إلى مشاهدة،ولاوصول لمن ليس معه محصول. وكل من إدّعى المعرفة،ولَم يتخرّج على يديه عارفون،فما هو بعارف، فالعبرة بالنتائج].
لدينا ثلاثة محاور أساسية تُعالجها القاعدة،وهي: [(صحبة الشيخ العارف توصل إلى المعارف)،(المجاهدة تورث المشاهدة)، (العبرة بالنتائج) ].ونلاحظ أن القاعدة جاءت بصيغة (النّفي)، تأكيداً على كثرة الدّعوى في (المشيخة والتربية والتّسليك)،وقلّة التّحقيق على أصوله وشروطه عند العارفين من العلماء بالله.. ومحاور القاعدة المباركة متداخلة،بحيث لا يستغني أحدها عن الآخر، والبعض منها ينتُج عن البعض الآخرأو سبب له.لذلك سنتناولها بالشرح الموجز مجتمعة،مستأنسين بمبحث(جامع وشيّق) للشيخ عبد القادرعيسى حول (الصحبة) وعلاقتها بالشيخ الكامل وثمراتها،في كتابه(حقائق عن التصوف)..
ومع أن القاعدة تتناول فقط (صحبة الشيخ الكامل المحقق)،فلا بأس من التذكير بالمعنى العام للصحبة عند أهل الله،وذلك من باب (الشيء بالشيء يُذكر)،وكذلك تعميماً للفائدة..
في البداية للتوضيح: هناك مغالطة،من وجهة نظري،حول مسألة أساسية تمّ تعميمها بشكل نمطي،وهي: (إرتباط الصوفية بالعزلة،وهروبهم من الإختلاط)، فأخذ الحكم بشكل عام وتسطيحي للمغزى المعنوي منها،وأنها مطلقة بدون شرط. والعكس هو الصحيح: فالإختلاط والصحبة (أصلي)،والعزلة والإنزواء (عَرَضي) فرضتهما الضرورة التربوية.. وحقيقة الأمر أن العارفين يُقرّون بأن: [الإختلاط بالناس خير من العزلة،بشرط السلامة من الفتن]،وتحذيرهم إنما كان من (الخلطة مع الغافلين الجاهلين)..و(الإجتماع)عند القوم،كما يقول إبن عجيبة،هو أعظم الأركان وأهمها،حتى قال بعضهم: [التصوف مبني على ثلاثة أركان: (الإجتماع والإستماع والإتباع).فكل من إنفرد عن إخوانه،وإشتغل بنفسه،لا يَجيء منه شيء]..فطريق أهل الله: (معايشة وتعلّم)،ولايتأتى ذلك إلا بمجالسة الصالحين والإختلاط بهم..وقد قال المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم: (المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)،لأن هناك مقامات لا تُدرك في العزلة،ولا بد لها من الإختلاط..لهذا دائماً يكون (الختم) بين الناس وليس منعزلاً في كهف أو مغارة..
للصحبة أثرعميق في شخصية المرء وأخلاقه وسلوكه.. والصاحب يكتسب صفات صاحبه بالتأثير الروحي والإقتداء العملي..فالصاحب ساحب..وقد إكتسب الصحابة الشرف من صحبة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،كما إكتسب التابعون الشرف من صحبة الصحابة..وهكذا كما قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق،لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) فلا ينقطع أثرهم على مر الزمان،ولا يخلو منهم قطر..
فصحبة المرشدين الوارثين المحمديين ترياق مجرب، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم،ومرافقتهم هي العلاج العملي الفعال لإصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق ورسوخ الإيمان،لأن هذه الأمورلا تُنال بقراءة الكتب،إنما هي خصال عملية وجدانية تُقتبس بالإقتداء وتُنال بالإستقاء القلبي والتأثير الروحي.
فالإنسان لايخلو من العلل القلبية والنفسية الخفية،التي لا يُدركها بنفسه ك(الرياء والغرور والحسد والنفاق والعجب والكبر والبخل)..وكما أن المرء لا يرى عيوب وجهه إلا بمرآة صافية تكشف له عن حقيقة حاله،فكذلك لا بد للمؤمن من أخ مؤمن مخلص ناصح صادق،أحسن منه حالاً وأقوم خُلقاً وأقوى إيماناً، يُصاحبه ويُلازمه،فيُريه عيوبه النفسية ويكشف له عن خفايا أمراضه القلبية،إما بمقاله أو بحاله،ولهذا قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (المؤمن مرآة المؤمن).. والمرايا أنواع وأشكال..وليس هناك أصفى وأصدق من مرآة (الشيخ العارف والوارث المحمدي الكامل)،الذي تزداد بصحبته إيماناً وتقوى وأخلاقاً،وتُشفى بملازمته من أمراضك القلبية وعيوبك النفسية،فشخصيته هي صورة عن شخصية المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم..
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطبب قلوب الصحابة ويُزكي نفوسهم بحاله ومقاله..والقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة قد جمعا أنواع الأدوية لمختلف العلل النفسية والقلبية،فلا بد معهما من طبيب يصف لكل داء دواءه ولكل علة علاجها..فكما أن هناك فرقاً بين علم الصحة وحالة الصحة،كذلك هناك فرق بين علم التزكية وحالة التزكية..من هنا تأتي ضرورة تزكية النفس والتخلص من عللها على يد مُرشد كامل مأذون من الحضرة المحمدية،قد وَرث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والتقوى وأهلية التزكية والتوجيه.. والآيات والأحاديث وأقوال العلماء والعارفين في فضيلة الصحبة كثيرة ومتنوعة.. بالنسبة لآيات الذكر الحكيم نذكر قوله تعالى: (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً)..وقوله تعالى(يا ايها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)
أما أحاديث المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم فكثيرة، نستحضر منها بالخصوص حديث حنظلة الذي يُظهر بوضوح كيف كانت مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم تُشعّ في القلوب أنوار اليقين،وتزكي في النفوس جذوة الإيمان،وترتفع بالأرواح إلى مستوى ملائكي أقدس،وتطهر القلوب من أدران المادة،وتسمو بالإيمان إلى مستوى المراقبة والمشاهدة..
أما أقوال العلماء والعارفين فلا حصر لها،نذكر منها قول الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره لسورة الفاتحة: [ قال بعضهم: أنه لما قال (إهدنا الصراط المستقيم) لم يقتصر عليه بل قال (صراط الذين أنعمت عليهم)،وهذا يدل على أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات الهداية والمكاشفة إلا إذا إقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل،ويُجنبه عن مواقع الأغاليط والأضاليل،وذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق،وعقولهم غير وافية بإدراك الحق وتمييز الصواب عن الغلط،فلا بد من كامل يقتدي به الناقص ،حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور الكامل،فحينئذ يصل إلى مدارج السعادات ومعارج الكمالات]..
ويقول الشيخ إبن عطاء الله السكندري: [ وينبغي لمن عزم على الإسترشاد وسلوك طريق الرشاد،أن يبحث عن شيخ من أهل التحقيق،سالك للطريق،تارك لهواه،راسخ القدم في خدمة مولاه.فإذا وجده فليمتثل ما أمر ولينته عما نهى عنه وزجر]..
ولذا يوصي العارفون بالله تعالى كل من أراد سلوك طريق الحق الموصل إلى معرفة الله ورضاه ب(الصحبة)،وروحها (الإعتقاد والتصديق) بهؤلاء المرشدين الدّالين على الله تعالى،الموصلين إلى حضرته القدسية.
والأساس في (صحبة الشيخ العارف)هو(الصحبة المعنوية القلبية)،وهي كما يقول الشيخ عبد الغني النابلسي: [ المبايعة والمعاهدة والإقتداء للوارثين المحمديين الباقية إلى يوم القيامة،لحصول (الهداية)،والتي هي إمتداد لحال أصحاب الرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم].
ويقول الشيخ إسماعيل حقي البروسوي في تفسير قوله تعالى (وكونوا مع الصادقين):[الكينونة نوعين:(صورية):وهي بملازمة أهل الصدق ومجالستهم، و(معنوية): وهي باتخاذ الأسرار وتحصيل المناسبة المعنوية.فلا بد من الإرتباط بواحد من الصادقين].
وأبرزمثال على ضرورة صحبة الشيخ الكامل والمرشد العارف،نستخلصه من نماذج من العلماء الراسخين في علم الظاهر،عندما أرادوا السلوك والتربية، إلتجأوا إلى المشايخ الراسخين في علم الباطن،ومن هذه الشخصيات: الإمام الغزالي صحب (يوسف النساج)،والشيخ عبد الوهاب الشعراني صحب (علي الخواص)،والشيخ إبن عجيبة صحب (محمد البوزيدي).. والمفارقة في هذه النماذج أن التلاميذ كانوا جبالاً في العلم الظاهر،والمشايخ كانوا من (العارفين الأميين).. وقد قال الإمام الشعراني: [ولو أن طريق القوم يوصَل إليها بالفهم من غير شيخ يَسير بالطالب فيها،لَما إحتاج مثل حجة الإسلام الإمام الغزالي والشيخ عز الدين بن عبد السلام أخذ أدبهما عن شيخ،مع أنهما كانا يقولان قبل دخولهما طريق القوم: كل من قال (أن ثَمّ طريقاً للعلم غير ما بأيدينا فقد إفترى على الله عز وجل)،فلما دخلا طريق القوم كانا يقولان:(قد ضيّعنا عمرنا،في البطالة والحجاب) وأثبتا طريق القوم ومدحاها]،وقال أيضاً: [وكفى شرفاً لأهل الطريق قول السيد موسى عليه السلام للخضر(هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً)،وإعتراف الإمام أحمد بن حنبل لأبي حمزة البغدادي بالفضل عليه،وإعتراف أحمد بن سريج لأبي القاسم الجنيد.وطلب الإمام الغزالي له شيخاً يدله على الطريق مع كونه حجة الإسلام،وكذلك طلب الشيخ عز الدين بن عبد السلام له شيخاً مع أنه لُقّب بسلطان العلماء،وكان يقول: ما عرفت الإسلام الكامل إلا بعد إجتماعي على الشيخ أبي الحسن الشاذلي.فإذا كان هذان الشيخان قد إحتاجا إلى الشيخ مع سعة علمهما بالشريعة،فغيرهما من أمثالنا من باب أولى]..
وقال الشيخ أبو علي الثقفي:[لو أن رجلاً جمع العلوم كلها وصحب طوائف الناس، لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة من شيخ إمام أو مؤدّب أو ناصح.ومن لم يأخذ أدبه من آمر له وناه،يُريه عيوب أعماله ورعونات نفسه،لا يجوز الإقتداء به في تصحيح المعاملات].
وقال الشيخ علي بن وفا:[ إلزم الأستاذ فإنه يُظهر سرّ الربوبية، فربما أوحى إليك ربك في حجاب قلب شيخك من طريق الإلهام،فإن قلبه مظهر سرّ الربوبية.فعلى المريد أن يقف عند أمر أستاذه ولا يتعدّاه،ولا يلتفت عنه يميناً ولا شمالاً،إذ ليس للمريد من يتوجه بقلبه إليه غير الأستاذ،وليس من مرتبته صحة التوجّه إلى الحق تعالى لجهله به،إلا أن يكون مضطراً]..
يقول الشيخ محمد الهاشمي: [ فاسلُك يا أخي على يد شيخ حيّ عارف بالله،صادق ناصح،له(علم صحيح،وذوق صريح، وهمّةعالية،وحالة مرضية)..فصحبة الشيخ والإقتداء به واجب،والأصل فيه قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).ومن شرطه أيضاً: أن يكون له (الإذن) في تربية الخلق من مرشد كامل ذي بصيرة نافذة.ولا يُقال: أين من هذا وصفُه؟ لأنا نقول كما قال إبن عطاء الله: (لا يعوزك وجود الدّالين،وإنما يعوزك وجود الصدق في طلبهم)،جِدْ صدقاً تَجد مُرشداً..].
وقد ربط الإمام الرازي سبب( إختفاء الكمّل من الواصلين)بقلّة الصدق في الطالبين ،يقول:[سبب إختفاءالكُمّل من الواصلين قلّة صدق الطالبين،فإن غالب المريدين صار طلبهم للطريق مخلوطاً بالحظوظ النفسانية والأهواء المُضلة عن سواء السبيل،لا سيما وقد ظهر أقوام كثير إدّعوا معرفة الطريق وليسوا بأهل لذلك، فقاس الناس الصادقين على غير الصادقين،وراج أمر الكذابين عند الأمراء والأكابر،وتعطّل أمر العارفين،وصار جُلاّس الكاذبين يرجُح على جُلاس الصادقين،وصرت تقول لغالب الناس (فلان من أولياء الله عز وجل) فلا يصدّقك ويقول لك (كل هؤلاء مُصابون مُراءون)..].
وقد عمّت البلوى جُلّ الطرق الصوفية،وأصبحت كل طريقة تنسب (القطبية والختمية والولاية الكبرى) لشيخها،وأن الأهلية في (المشيخة الكبرى) والتربية المُثلى تنحصر في شيخها دون غيره..كل هذا عندما نُخضعه لميزان الشريعة والحقيقة نجده مجرّد إدّعاء وتعصّب وجهل..وهذه البلوى ليست حديثة العهد، بقدر ما هي مرتبطة بالبشرية وغلوّها فيمن تتبع وتخضع له،مع أن الأصل الذي بُني عليه التصوف هو(تهذيب النفس) والحدّ من غلوّها ونعرتها الجاهلية،وهذا ما يؤكّد قول الإمام الرازي السابق (بأن غالب المريدين صار طلبهم للطريق مخلوطاً بالحظوظ النفسانية والأهواء المُضلة عن سواء السبيل)،كما أن غالبية المشايخ الذين رضوا بما يُنسب إليهم،وليس فيهم، بأنهم مجرد مُدّعين أو شيوخ تبرّك في أغلب الأحوال وأحسنها..وقد قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني،وهو من أهل القرن العاشر الهجري: [كثرت دعوى (القطبية) في هذا الزمان،وصار كل من سوّلت له نفسه شيئاً يعتقد صحته،لقلة ظهور الأشياخ في العصر،فكل جماعة شيخ يدّعون أن شيخهم هو القطب،وربما سمعهم وسَكَت على ذلك،ومعلوم أن القطب لا يكون إلا واحداً في كل زمان،ولا يصح أن يكون في الزمان قطبان أبداً،إلا أن يريد القائل أنه قطب أصحابه فقط،فلا مانع،فنحن نسلم لكل من إدّعى لعلمنا أن من شأن القطب الخفاء دون الظهور،ونرد علم حقائق الأمور إلى الله تبارك وتعالى]، ومقصود الشيخ الشعراني من (القطبية) المُدّعاة هو(الختمية)..
وكما قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: [ الكلام لا يدُلّ على وجود المقام،لكن لكل شيء علامة ودليل]..والمُدّعي عند أهل الله يُسمّى (سارقاً) لأنه يسرق كلام القوم وينسبه لنفسه أو يدّعيه حالاً ومقاماً،وليس له في ذلك إلا التطفّل عليهم دون ذوق ولا وجدان. فإذا أراد الله به خيراً ألقى في قلبه (الصدق والتصديق)،وذلّ وإنكسر لأهل التحقيق،فوقف ببابهم منكسراً،وإلى ما عندهم من المعارف والأنوار مفتقراً،لأنهم باب الله الأعظم..
فشروط (المقامات العالية)عزيزة الوجود،ولا يُدركها إلا الكمّل من الوارثين المحمديين،وقد أجملها أستاذنا سيدي محمد بن المبارك بقوله: [ من شروط المشيخة والمقامات العالية (القطبانية والغوثية والختمية): المعرفة بالنبوة المحمدية والتحدّث بها..وأن تكون عنده صلاة نعتية راقية تتغزّل في الحقيقة المحمدية بالأحمدية..وأن تكون سلسلته الصوفية معروفة عند الجميع.. وكذلك التحقّق بإلتزامه بالكتاب والسنة، ظاهر اًوباطناً..وأن يكون عارفاً بعلَل النفوس وأمراضها،وله أدويته وترياقاته الخاصة.. وأن يكون مأذوناً له من طرف مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم..].
وأين هؤلاء المشايخ المزعومين من هذه الشروط الجليلة،وقد تعرّفت على الكثير منهم فوجدتهم لم يُدركوا حتى (مقام الإسلام) بشروطه المعروفة عند العارفين وهي (التقوى والإستقامة)على التمام،فكيف بهم مع (مقام الإيمان) وشرطه (الطمأنينة والإيقان)،فبالأحرى (مقام الإحسان)،وهو دائرة التصوف، وشرطه (الشهود والعيان)..ف(لا وصول لمن ليس معه محصول)وإذا كان الشيخ فاقداً للمعارف والأنوار والتزكية،فكيف سيُربّي المريد ويُمدّه ويوصله إلى حضرة القدّوس..ففاقد الشيء لا يُعطيه..
بالنسبة لمحور(المجاهدة تورث المشاهدة): فقد ترك لنا الشيخ أحمد بن عجيبة مبحثاً قيّماً في كتابه (الفتوحات الإلهية)،تحت عنوان(عوائق السّير والسلوك)،وقد حصر هذه العوائق في أربعة:(البدن،النفس،الشيطان،الناس).. وخلُص إلى أن من نهض بمجاهدة هذه العوائق قد يُكرمه الله بظهور(الكرامات وخرق العادات)،إما حسية أو معنوية،فيظهر عليه بحسب كل مقام خارق يَليق به على قدر حاله..فمن جهة (مجاهدة البدن) تظهر(الكرامات الحسية)..ومن جهة (مجاهدة النفس) تظهر (الكرامات المعنوية) من: فهم العلوم،وإتّساع الفهوم،وتحقيق اليقين..ومن (مجاهدة الشيطان) تظهر (الكرامات الحقيقية) ب(الكفاية والهداية والحفظ)..
ف(العلوم والإدراكات والإقتدارعلى خرق العادات): كامنة خفيّة في النفوس، كإستتار الحُبّ والثمار في الغصون،فإذا نزل المطر وأرعد الرّعد،أخرجت أوراقها وأزهارها وثمارها..و(رُعود) المريد: (مجاهدة الجوارح الظاهرة في خدمة الشريعة)،ككثرة الذكر والصلاة والصيام،وأوكدها (الذكر والصمت والعزلة).. اهـ
أما محور(العبرة بالنتائج): فيعتبر محك الدّعوى ومضمار الإمتحان،فالشجرة بثمارها وليس بشكلها..والنتائج منه (الكمّي) ومنها (النوعي):
ف(النّوعي) منها: وهو المرتبط بالتزكية،تلخّصه العبارة الرقيقة التي ذكرها الشيخ إبن عطاء الله السكندري في (حكمه) العرفانية: [وليس شيخك من سمعت منه،وإنما شيخك من أخذت عنه.وليس شيخك من واجهتك عباراته،وإنما شيخك الذي سَرَت فيك إشاراته.وليس شيخك من دعاك إلى الباب،إنما شيخك من رفع بينك وبينه الحجاب.وليس شيخك من واجهك مقاله،إنما شيخك الذي نهض بك حاله.شيخك الذي أخرجك من سجن الهَوى،ودخل بك على المولى.شيخك هو الذي ما زال يجلو مرآة قلبك حتى تجلّت فيه أنوار ربك،نهض بك إلى الله فنهضت إليه،وسار بك حتى وصلت إليه،ولا زال مُحاذياً لك حتى ألْقاك بين يديه،فزَجّ بك في نور الحضرة،وقال: (ها أنت وربّك)..]..
و(الكمّي) منها: وهو المرتبط بعدد العارفين المتخرّجين على (الشيخ العارف الكامل)،فجُلّ العارفين المحققين تخرّج عنهم عارفون،إبتداء من ظهورهم وإلى قيام الساعة..ويتفاوت العارفون في عدد تلاميذهم والعارفين المتخرجين عنهم، لذلك شبه بعض العارفين (الولادة الروحية) ب(الولادة البيولوجية)،فقد قال الله تعالى: (لله مُلك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً)،لذلك تحدّث بعض العارفون عن (العارف العقيم) وهو الذي لا يتخرّج عنه عارفون،وهوإستثناء في عالم العرفان،ولا يُقاس عليه..
وإذا ذكرنا الإمام (محمد بن سليمان الجزولي) صاحب (دلائل الخيرات)،فقد زاد عدد تلاميذته عن عشرين ألف تلميذا،ومن خلاله،وتلميذه(عبد العزيز التباع) وتلميذ هذا الأخيرهو(عبد الله الغزواني)،فقد إنتشر التصوف في ربوع البلاد الإسلامية قاطبة.. والأمثلة على ذلك كثيرة ومنتشرة في مناقب العارفين والطرق الصوفية.. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى اله وصحبه.
الفقير الى عفو ربه رشيد موعشي