وقفات مع الجيلي
الجيلي بين الجمال المطلق والعارية الوجودية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الانبياء والمرسلين وعلى اله وصحبه
الجيلي قمة من قمم التصوف وعارف من الفحول الكبار كتب عدة كتب ،إلا أنه لم يجد العناية الكافية والاهتمام اللائق فظل ثراته في سراديب النسيان(أو تقريبا)على عكس مؤلفات الحاتمي التي ترجمت الى عدة لغات فلم نجد من يكتب “تنبيه الغبي الى تكفير الجيلي “مع أنه لم يسلم من حملة فقهاء عصره،يقول .
وكم كان صدري للنبال عريضة =وعرضي لسهم الطاعنين مواقع
فالفقيه إن لم يوفق في إحدى فتاويه يقال عنه أخطا، أما الصوفي إن زاغ في إحدى عباراته يقال تزندق وكفر.
الجيلي كشاعر صوفي ،لا يقل مكانة عن ابن الفارض له قصيدة النادرات العينية في البادرات الغيبية من 540 بيتا ولا أعرف قصيدة تفوقها الا تائية ابن الفارض المسماة[نظم السلوك]، والتي تتألف من 667 بيتا .فالجيلي عارف لايقل مكانة عن ابن عربي .فهو من أصحاب مراتب الوجود ومن أصحاب الحقائق ذو كشف رفيع وذوق و همة عالية يقول:
و مُذ كنت طفلا فالمعالي تطلبني=وتأنف نفسي كل ما هو واضع
ولي همة كانت وهي لم تزل=على أن لها فوق الطباق مواضع
ويتحدث الجيلي في شعره عن تفرده بين أهل زمانه وغربته بينهم ويشير بهذا إلى علو مقامه .
فمالي في الاحياء إن عشت صاحب = ومالي حقا إن أموت مشايع
هذه اذواق ومشاعر أصحاب مقام الختمية. وهذا الاحساس بالتوحد لم يكن عند الجيلي لوحده بل نجده عند عامة أقطاب التصوف من أمثال السهروردي و ابن عربي.
ويفرق الجيلي خاصة والصوفية عامة بين الجمال والحسن على اعتبار أن الجمال هو صفة الله تعالى ،والحسن هو صورة هذا الجمال، المتجلى في الكون. ولما كان الكون هو مجلى من مجالي الجمال الالهي فالكون عند الجيلي لا يوصف الا بالحسن فهو في جملته حسن مطلق ,وما القبح في الاشياء الا اعتبار ونسب. فالقبيح يوصف بذلك لعدم ملأمته للجمال المطلق ولا يوجد عند الجيلي قبح مطلق بل هناك (فعل قبيح) باعتبار النهي عنه(وشئ قبيح ) باعتبار جمال في غير موضعه (وكلمة قبيحة)باعتبار المقام الذي قيلت فيه…وهكذا يرتفع حكم القبح المطلق من الوجود و يبقى الحسن المطلق وذلك من حيث أن الوجود هو فيض الالهي :
فكل قبيح إن نسبت لحسنه == أتتك معاني الحسن فيه تسارع
لأن ما في الكون إلا اسماء الله وصفاته فما في الكون إلا الجمال ، ومن هذه النافدة قال الغزالي :” ليس بالامكان أبدع مما كان”. وحسب هذا المنطق فالجنة هي مظهر للجمال الالهي المطلق والنار مظهر للجلال الالهي المطلق.
أما في الدنيا فليس إلاجمال الجلال، وذلك سر قوله تعالى” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين “.”رحمتي سبقت غضبي”. ولا يوجد التجلي الجمالي المطلق،ولا التجلي الجلالي المطلق إذ لو كانا لفسد نظام الكون “لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض”وهذا من مهام النبوة المحمدية إدخال اللطف في التجليات الالهية والتخفيظ من حرارتها “وهناك تجليات ظاهرها جملالي محض وباطنها جمالي محض كقوله تعالى ” اقدفيه في اليم” ظاهرها جلالي وباطنها جمالي .وهناك تجليات ظاهرها جمالي وهي غير ذلك “قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو مااستعجلتم به ريح فيها عذاب اليم “.وهذا للوسع الإلهي.
ويتطرق الجيلي الى العارية الوجودية في المخلوقات ، فيقول إنها نسبة الوجود الخلقي إليها مع كون الوجود الحقي أصل لها في الحقيقة، فقد أعطى الحق تعالى للاشياء وجودا من ذاته لتظهر بذلك أسرار الالوهية في الكون.
فالوجود الحقيقي لا ينسب الا لله تعالى وحده .أما ما عداه فموجود بهذه الصفة الاضافية وظاهر بتلك العارية.
ومن كبار الصوفية الذين أشاروا إلى هذه العارية الوجودية و إلى هذا الحسن الكوني المطلق سلطان العاشقين عمر ابن الفارض(توفى سنة 632 هــ) يقول
وصرح بإطلاق الجمال ولاتقل =بتقييده بزخرف زينة
فكل مليح حسنه من جماله =مـعـار له بل حسن كل مليحة
و ابن عربي و إن لم يستعمل كلمة العارية الوجودية فإنه أشار أن قيام الاشياء الموجودات إنما هو بنوع من الاضافة إلى موجدها . و أن صفة الوجود لا تضاف الى المخلوقات إلاعلى سبيل النسبة و الاضافة الى وجود المولى عز وجل.
في الباب الثاني والأربعين ومائتين في الجمال يقول : اعلم أن الجمال الإلهي الذي تسمى الله به جميلاً ووصف نفسه سبحانه بلسان رسوله أنه يحب الجمال في جميع الأشياء وما ثم الإجمال ،فإن الله ما خلق العالم إلا على صورته وهو جميل فالعالم كله جميل.ورفيقنا عبد الكريم الجيلي ميز بين الاحمدية والمحمدية يقول رضي الله عنه في هذه الابيات :
ذات لها في نفسها وجهان =للسفل وجه والعلا للثاني
ولكل وجه في العبارة والادا = ذات وأوصاف وفعل وبيان
معناه أن الذات المحمدية لها وجه للأ على وهي الوجهة الحقية ووجه للاسفل وهي الوجهة الخلقية, والوجهتان مختلفتان في العبارة والفعل والأوصاف.
إن قلت واحدة صدقت وإن تقل ==إثنان حق إنه إثنان
مع أنه لم يسميها الأحمدية فهو يشير إليها (إن تقل إثنان حق إنه إثنان) .والجيلى صعد بمراتب الوجود إلى 40 مرتبة .وقد شم رضي الله عنه رائحة التصرف لهذه الحقيقة المحمدية في الدوائر الكونية ،وهوما عبر عنه “بالفعل” في البيت:
ولكل وجه في العبارة و الأدا==ذات وأوصاف وفعل وبيان
مراتب الوجود أربعون كما أوضحها الجيلي ،عشرون منها تكفلت بها الأحمدية والعشرون الباقية تكفلت بها المحمدية
ويضيف :
ولئن ترى الذاتين قلت لكونه ==عبدا وربا إنه اثنان
فهي المسمى أحمد من كون ذا ==ومحمد لحقيقة الأكوان
رأى رضي الله عنه حقيقتان منفصلتان إحداهما متصفة بالعبودية والأخرى بالربوبية وهو قوله ” عبدا وربا إنه إثنان” وهذا غاية التحقيق بالنظر الى تجليات زمانه .وفد جعل الأحدية مرتبة من مراتب الوجود على غرار ابن عربي الذي لم يعتبرها مرتبة وجودية .وابن عربي يرى أن الأحدية صفة ،والجيلي رأى أنها اسم .والجيلي هو الوحيد الذي تجرأ ونعت ابن عربي بالسهو ( الانسان الكامل)
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد
حصل المقال على : 1٬427 مشاهدة