قال تعالى : قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ( الاسراء 62) الاحتناك يطلق في اللغة ويراد به معنيان:
المعنى الأول: الإتيان على الشيء واستئصاله
ومنه قول العرب: احتنك الجرادُ الأرضَ إذا أتى على نبتِها فأكلَه.
ويقولون: احتنكتُ الرجل، أي أخذت ماله، فلم أبقِ له شيئاً.
وقولهم: أَحنكُ الشاتينِ، وأحنك البعيرين، آكلُهما، أي: أكثرهما أكلاً.
والحَنَكُ والأحناكُ: الجماعة من الناس ينتجعون بلداً يرعونه، يقال: ما ترك الأحناكُ في أرضنا شيئاً، يعنون الجماعات المارة.
فاحتناكُهم نبتَ الأرضِ استئصالهم لما ظهر منه وإتيانهم عليه. المعنى الثاني: أن تجعل للدابة حنكاً أي حبلاً تديره من تحت حنكها تقودها به.
قال ابن سيده الأندلسي (ت: 458هـ): (حَنَكَ الدابة يَحْنِكُها ويَحْنُكُها حَنْكا واحتَنَكَها، شد في حِنكها الأسفل حبلاً يقودها به،وحَنكَها يَحنِكُها ويَحْنُكُها، جعل الرسن في فيها . قال الأزهري (ت:370 هـ) : (أخبرني المنذري عن ثعلب عن ابن الأعرابي أنشده لزبان بن سيار الفزاري:
لئن كنت تُشْكَى بالجماحِ ابنَ جعفر= فإن لدينا ملجمين وحانكا
تُشْكَى أي: تُتَّهم. ومعنى البيت: إن كنت يا ابن جعفر ممن لصقت بهم تهمة الجماح والتطاول علينا؛ فإنا قادرون على إلجامك وتحنيكك حتى نروِّضَك، كما تروَّضُ الدابة. وقد ذكر هذين المعنيين يونسُ بن حبيب الضبي (ت:182هـ) وهو من النقلة الأثبات للغة العرب.
قال الأزهري (370هـ) : (قال محمد بن سلام: سألت يونس عن هذه الآية فقال:
يقال: كان في الأرض كلأ فاحتنكه الجراد، أي: أتى عليه.
ويقول أحدهم: لم أجد لجاماً فاحتنكت دابتي، أي: ألقيت في حنكها حبلاً وقدتها به).
فذكر المعنيين عن العرب، وتورع عن تفسير الآية بأي منهما وكان هذا دأب عدد من علماء اللغة يتحاشون الكلام في التفسير.
هذا من جهة أصل معنى اللفظة في لغة العرب
وأما من جهة الآثار المروية عن الصحابة والتابعين في تفسير هذه الآية فروي فيه عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد.
أثر ابن عباس: قال ابن جرير (ت:310هـ) : (حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ،عن ابن عباس، قوله(لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) يقول: لأستولينّ).
أثر مجاهد بن جبر المخزومي : قال ابن جرير (ت:310هـ) : (حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال : ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، في قول الله ( لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) قال: لأحتوينهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله).
قال عبد الرحمن بن الحسن الهمداني (ت:352هـ) : (نا إبراهيم، قال : نا آدم، قال: نا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله : لأحتنكن ذريته إلا قليلا يعني: لأحتوين).
قال ابن حجر: (وَرَوَى سَعِيد بْن مَنْصُور مِنْ طَرِيق اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : ( لَأَحْتَنِكَنَّ ) قَالَ : لَأَحْتَوِيَن).
فأما أثر مجاهد فهو متجه إلى المعنى الأول، قائم عليه.
وأما أثر ابن عباس فوقع التنازع بين العلماء في تفسيره
– فمن نظر إلى المعنى الأول وجده منسبكاً معه، فالاستيلاء فيه معنى الاستحواذ والاحتواء. وممن فسره بهذا المعنى النحاس،قال أبو جعفر النحاس (ت:338هـ) : (أكثر أهل اللغة على أن المعنى لأستولين عليهم ولأستأصلنهم من قولهم احتنك الجراد الزرع إذا ذهب به كله.
وقيل: هو من قولهم حنك الدابة يحنكها به إذا ربط حبلا في حنكها الأسفل وساقها حكى ذلك ابن السكيت، وحكى أيضا احتنك دابته مثل حنك فيكون المعنى: لأسوقنهم كيف شئت).
ومن نظر إلى المعنى الثاني وجده أيضاً منسبكاً معه، فالاستيلاء فيه معنى التملك والتمكن من الشيء.
ولذلك قال السمين الحلبي (ت: 756هـ) : (ومعنى لأحْتَنِكَنَّ لأَسْتَوْلِيَنَّ عليهم استيلاءَ مَنْ جَعَلَ في حَنَكِ الدابَّةِ حَبْلاً يقودُها به فلا تأبى ولا تُشْمِسُ عليه).
وهو عندي يشتمل على المعنيين ولذلك لم يزد عليه الفراء
قال الفراء(ت: 207هـ ) : (وقوله: لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً… يقول: لأستولينَّ عليهم إِلاَّ قَلِيلاً يعنى المعصومين).
فاحتنكهم الشيطان بأن احتواهم واجتالهم واستأصلهم وأتى عليهم كلهم إلا من عصمه الله تعالى
واحتنك أيضاً أتباعه كما يحتنك الرجل دابته،يقودهم إلى معصية الله.
فتفسير ابن عباس بديع جداً لانتظامه المعنيين
واختيار هذه اللفظة (لأحتنكن) التي اشتملت على هذين المعنيين، من روائع التعبير القرآني.مـــنـــقــول
ذة ام ايمن