شرح خريطة السلوك العرفاني4

شرح القاعدة الرابعة:                                                  بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه..    

            نستأنف بحول الله وقوته شرحنا لقواعد (خريطة السلوك العرفاني) لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،ونُناقش في هذه الحلقة القاعدة الرابعة التي تقول: [يقول إبن عربي في معرض كلامه عن التصوف وما يتطلّبه: (الإستقامة الشرعية الكاملة،عقيدةوعبادة،وعملاً ظاهراً وباطناً،مع أخذ الطريق عن شيخ حيّ مُربّ كامل مأذون في التربية والتّسليك) ويروي أهل الكشف حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يعرفني إلا من عرف من عرفني)،فاصْحَب وارثاً محمدياً يَعرف الحضرة المحمدية وتعرفُه] اهـ.                                          سنقوم بشرح هذه القاعدة المباركة من خلال حل مفاتيحها المفاهيمية، وسنحاول أن يكون الشرح موجزاً جامعاً لمتفرقات القاعدة، مستندين لأقوال وأنفاس العارفين المحققين،فقولهم فصل وحجة على سواهم ممن لم يخبر دروب الروح وميادين القلب ومُضمرات النفس.. وسنُركّز على المفاهيم التالية: [ الإستقامة،أخذ الطريق عن شيخ مأذون،التربية،الحضرة المحمدية].  

         نظرة أولية للقاعدة نستنتج منها أنها مكوّنة من شطرين : أحدهما (سبب وواسطة ومَدد) والآخر (نتيجة وثمرة وغاية).   ف(الإستقامة الشرعية الكاملة)من نتائج وثمرات صحبة (شيخ كامل مأذون)يعرف الحضرة المحمدية وتعرفه.. وكما يقول الشيخ محمد أبو المواهب الشاذلي: [ المُربّي: من إنكشفت له طريق النجاة فسَلَك عليها،ثمّ أُذن له بالتّسليك والدعاء إليها.المُربّي: خُلُقه واسع،وعلمه نافع.المربّي: مخصوص بحُسن البشارة وعلم الإشارة.المربّي: يُكشف له عن الغيوب،ويُحبّبه الرب إلى جميع القلوب]. ويقول الشيخ عُبيدة بن أنبوجة: [ المُربّي الأصلي: هو سيد الوجود صلى الله عليه وسلم،وواسطته الشيخ،وهما الوصلان للسعادة الأبدية].                                فلا يصلُح لتربية الخلق إلا من كانت صفاته من صفات الحق،ولا تكون التربية التامة إلا بالمناسبة التامة بين المٌربّي والمُربّى (الشيخ والمريد)،وقد حدّدها الشيخ الأربلي في ثلاثة أشياء: [ القَدَم (الإتباع الكامل)،ولسان الصدق،والقلب الصادق].الإستقامة أو (طريق الجادة) لا يُنكرها ظاهر ولا يستغني عنها باطن،يفتقر إليها المُبتدئ في بدايته،ولا يستغني عنها المُنتهي في نهايته.ومدارها،كما ذكر الشيخ أحمد زروق،على أربعة أمور: أولها: (تصحيح التوبة) بإقامة شروطها..                               ثانيها: (تحقيق التقوى) بإتباع الأوامر والإنكفاف عن الزّواجر.. ثالثها: (وجود الإستقامة) في جميع الأحوال بإتباع السنّة دون تأوّل ولا ترخّص ولا تشديد يُخرج عن الحق..ومدار ذلك على أربعة أمور: (ضبط الأوقات،والتحرّز من الآفات،والتحصّن من التقلّبات، والتأدّب مع الحالات).رابعها: (رفع الهمّة عن الخلائق،وإشخاص القلب للحقائق)..  

         وقد لخّص الشيخ أبو الحسن الشاذلي هذه الأمور في كلام جامع لأصول التوجّه إلى الحق،في قوله: [ ليكُن همّك ثلاثاً: (التوبة،والتقوى،والحذر)،وقوّها بثلاث: (الذكر،والإستغفار،والصّمت) عبودية لله.وحصّن هذه الستة بأربع: (الجبّ،والرّضى،والزهد،والتوكّل).وإذا فاتتك التقوى في الإستقامة، فلاتفوتنّك في التوبة والإنابة].ولما كانت (التربية) من أعمدة السلوك العرفاني،ومن الحقائق الكلية المتضمّنة لمعظم أسرار التدبير الوجودي والحكم الرباني، وقد عرّفها الشيخ أحمد الرفاعي بقوله: [التربية: هي تهذيب نفس الطالب ونقلها: من الطمع إلى الزهد،ومن البخل إلى السخاوة، ومن الإعتراض إلى التسليم،ومن التدبير إلى التفويض،ومن الجهل إلى المعرفة،ومن الكسل إلى العبادة،ومن الكبر إلى التواضع،ومن الحمق إلى الحسن،ومن العداوة إلى المصالحة،ومن إيذاء الناس إلى نفعهم،ومن الغفلة إلى الخوف].وكذلك عرّفها الشيخ عبد العزيز الدباغ بقوله: [ التربية: هي تصفية الذات وتطهيرها من رعوناتها حتى تُطيق حمل السرّ،وليس ذلك إلا بإزالة الظلام منها وقطع علائق الباطل عن وجهتها]..لما كان فعل التربية بهذه الأهمية والخطورة،فلا يضطلع بها ويكون جديراً بالتصدّي لها إلا من توفّرت فيه ثلاثة شروط وهي: [ أن يكون ذا بصيرة،وأن يكون خالياً من الأهواء،وأن لا يكون مُغتراً]،وهي شروط جمعت شتات الكمال وإحتوت كليات الذات(عقلاً ونفساً وأدباً)،ولا يكون أهلاً لها إلا من كانت له النيابة عن (عين الكمال) صلى الله عليه وسلم،وهو ما يسمى عند الصوفية (شيخ التربية المأذون) أو (العارف المحقّق)..  ومفهوم (الشيخ المأذون) يستتبع ذكر مفهوم (السلسلة الروحية) التي تعني ذلك الخيط الروحي الرابط بين المريد أو الشيخ وبين شيوخه إلى مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم..بحيث تكون (البُنوّة والأبُوة) شرعية لا غبار عليها..وما أكثر اللقطاء في الطريق (شيوخاً ومريدين)..                                           ف(السلوك) عند أهل الله،كما يقول الشيخ الأكبر،هو[ تهذيب الأخلاق والأعمال والمعارف،وذلك إشتغال بعمارة الظاهر والباطن.والعبد في ذلك مشغول بنفسه عن ربه،إلا أنه مُشتغل بتصفية باطنه ليستعدّ للوصول].ولا يصحّ السلوك (السّير الآفاقي)، بإجماع الصوفية،إلا بالدخول تحت تصرّف وَليّ كامل الذات والصفات(شيخ التربية المأذون المحقق)،ليُربّيه تربية تَليق بحاله.فالسلوك مرتبط بطريق الغيب،وهوغير محسوس،المبني على مخالفات النفوس.ولا يتأتى للمريد مخالفة نفسه من تلقاء نفسه لأن (فاقد الشيء لا يُعطيه)،فلا بُدّ له من شخص خَبر دروب النفس،وعَرف أمراضها وأدويتها،وسَلك منعرجاتها ودهاليزها.  ومفهوم (الحضرة) في عمومها عند العارفين،كما يقول الشيخ الأكبر،هي: [ كل حقيقة من الحقائق الإلهية أوالكونية،مع جميع مظاهرها في كل العوالم..].فعدد(الحضرات) في الكون لا ينحصر لأن الحقائق لا تنحصر.. 

          و(الحقيقة المحمدية)لها الإصطحاب مع الإسم الجامع (الله) الحاكم في حضرات الأسماء كلها،كما أنها سارية في كل ذرات الوجود والمُمدّة له والحاكمة عليه. و(الإصطحاب)خاص بمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وقد ألْبَسه الحق تعالى حُلَل الأسماء والصفات الإلهية،فظهر بصورة من إستخلفه،فكانت له الإحاطة والحل والعقد والتصرّف التامّ في المملكة الوجودية..وهذا ما يسمى ب(الوجهة الحقية) لسيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم. ومن خلال تجليات عصرنا،ف(الإصطحاب) هو: المُساواة التي وقعت بين (الصفة والموصوف / الأحمدية والمحمدية / الروح الكلية والجسم الكلي)..ولولا هذا الإصطحاب لكان توحيدنا (لا إله إلا الله) فقط،وخصوصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالإصطحاب،جعل توحيدنا(لا إله إلا الله محمد رسول الله) دون فاصل بين (الله) و(محمد)، وهوما عبّر عنه شيخنا مولاي عبد السلام رحمه الله ب(الإتصال الفرقي) ليبقى الرب ربّ والعبد عبد.. وهذا التحقيق لم يسبقه إليه أحد من العارفين الكمل المحققين، مما يدلّ على أن التجليات المعرفية في ترقّ دائم وأبدي لا نهاية له..واللاحق يأتي بما لم يخطُر ببال السابق..   

ف(الحضرة المحمدية)هي إصطحاب الأسماء الإلهية،الحاكمة في كل الوجود،مع مراتب الحقيقة المحمدية،ليكون اللطف في تجليات الحق ولتسري الرحمة في كل المخلوقات.. و(الحضرة المحمدية)هي المُمدّة لكل رقائق العالم الروحاني والجسماني،وهي عرش التجليات الرحمانية..وكما يقول الحافظ رجب البرسي:[الحضرة المحمدية: هي صفة الله وصفوته. صفته في عالم النور،وصفوته في عالم الظهور.فهي النور الأول والإسم البديع الفتاح..وهي نقطة النور وأول الظهور،وحقيقة الكائنات، ومبدأ الموجودات،وقطب الدائرات.فظاهرها صفة الله،وباطنها غيب الله.فهي ظاهر الإسم الأعظم،وصورة سائر العالم،وعليها مدار من كفر وأسلم..]وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى آله وصحبه

ذ رشيدموعشي
حصل المقال على : 1٬112 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية

    الاشتراك في النشرة البريدية

    احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

    اترك تعليقا

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد