شرح خريطة السلوك(2)
بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين.والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه.
نستأنف بحول الله وقوته شرح الخريطة العرفانية المباركة لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله تعالى،وسنتطرّق في هذه الحلقة للقاعدة الثانية وهي:
قاعدة2: [ لابد أن تكونَ نَفْسُ المرید مستعدة للتلقّي،إستعداداً فطریاً خاصاً،كيیستفید من التربية العرفانية.فھناك فرق واضح بین الصّدّیقین، أرباب درجة السابقین،وبین غیرھم،أصحاب درجة الیمین. فھذاالإستعداد لا یُغني عنه إجتھاد ولا كسب].
=== (الشرح) ===
سنتناول شرح هذه القاعدة المباركة من خلال شرح بعض مصطلحاتها ومفاهيمها،منطلقين في تناولها بما جاد به العارفون المحققون رضي الله عنهم،ومن هذه المصطلحات: (الإرادة والمريد،النفس،الإستعداد الفطري..)
_ (الإرادة): بدء طريق السالكين،وهي إسم لأول منزلة القاصدين إلى الله تعالى. وإنما سُميت هذه الصفة (إرادة): لأن الإرادة مقدمة كل أمر،فإذا لم يُرد العبد شيئاً لم يفعله.. و(المريد) على موجب الإشتقاق: من له إرادة..ولكن المريد في عرف هذه الطائفة: من لا إرادة له،فمن لم يتجرّد عن إرادته لا يكون مريداً.. قال المشايخ: (الإرادة: ترك ما عليه العادة)،وعادة الناس في الغالب_ الإقامة في أوطان الغفلة والركون إلى إتباع الشهوة والإخلاد إلى ما دَعت إليه المُنية (أي المُبتغى والمقصود).
والمريد مُنسلخ عن هذه الجملة،فصار خروجه أمارة ودلالة على صحة الإرادة..أما حقيقة (الإرادة) فهي (نهوض القلب في طلب الحق سبحانه)..
والمريد لا يفتُر آناء الليل وأطراف النهار،فهو في الظاهر بنَعت المجاهدات وفي الباطن بوصف المكابدات. فارق الفراش، ولازم الإنكماش،وتحمّل المصاعب ورَكب المتاعب،وعالج الأخلاق،ومارس المَشاقّ وعانق الأهوال،وفارق الأشكال..
قال الأستاذ أبو علي الدقاق: (الإرادة لوعة في الفؤاد،لدغة في القلب،غرام في الضمير،إنزعاج في الباطن،نيران تتأجّج في القلوب)..
_ (المريد): ذكر صاحب الموسوعة الصوفية عبد المنعم الحنفي أن معنى المريد هو: (من إنقطع إلى الله تعالى عن نظر وإستبصار،وتجرّد عن إرادته،لَمّا عَلم أنه ما يقع في الوجود إلا ما يُريده الله تعالى، فيمحو إرادته،فلا يُريد إلا ما يريده الحق). وجاء في قاموس المصطلحات الصوفي لأيمن حمدي أن (المريد هو الذي عرف جلال الربوبية وما لها من الحقوق في مرتبة الألوهية على كل مخلوق،وأنها مُستَوجِبة من جميع عبيده دوام الدّؤب بالخضوع والتذلّل إليه والعكوف على محبته وتعظيمه ودوام الإنحياز إليه وعكوف القلب عليه،مُعرضاً عن كل ما سواه حُباً وإرادة،فلا غرض له ولا إرادة في شيء سواه تعالى..). _ (النفس): يقول الشيخ حسين البغدادي: (النفس هي جوهر لطيف متعلق بالبدن،تعلق تدبير،من شأنها إدراك العلوم والمعارف،ومحل التغيير والتطهير،ومقرّ الأمر والنهي).
وهي حقيقة واحدة،ولكن تعدّدت باعتبار تعدّد صفاتها وتباين مقتضياتها..
والعلم ب(النفس) في طريق التصوف والعرفان يُشكّل معرفة (السّائر والمريد) لنفسه وما تنطوي عليه من خصائص وقابليات وأخلاقيات وصفات إيجابية وسلبية.
ويلزم من هذه المعرفة: العلم بأن في طريق السالك الصوفي مقامات تصحبُها أحوال ومواجيد تُعبّر عن حركة النفس في وجودها..
وللنفس في مَدارج السموّ الروحي سبعة معالم،وهي بالترتيب: (النفس الأمارة،والنفس اللوامة، والنفس المُلْهَمة،والنفس المطمئنة، والنفس الراضية،والنفس المَرْضية،والنفس الكاملة)..
ولكل نفس من هذه النفوس مقاماتها وعلومها وآدابها..
__ (الإستعداد الفطري): الإستعداد الفطري مفهوم عام يشمل القدرة على إستعمال المهارات والمعارف الشخصية..
ويمكن أن نُقارب هذا المفهوم فيما يتعلق بالسلوك الصوفي من خلال نص قيّم للإمام الغزالي أورده في كتابه (الإحياء)،يقول: (إذا حَصَلَ أصلُ الميل بالمعرفة،فإنما يَقْوى بالعمل بمقتضى الميل والمُواظبة. فإنّ المواظبة على مُقتضى صفات القلب تَجري مَجْرى الغذاء والقوت لتلك الصفات. فالمائل إلى طلب العلم أو طلب الرياسة مثلاً،لا يكون ميله في الإبتداء إلا ضعيفاً،فإنْ إتّبع مقتضى الميل وإشتغل بالعلم وتربية الرياسة والأعمال المطلوبة لذلك،تأكّد ميله ورَسخ.. وإنْ خالف مقتضى ميله،ضعف ميله وإنكسر،وربما زال..).
فالإستعداد أو القابلية أو المَيل للفعل والترك،راسخ في النفس البشرية، ويتمّ تفعيله من خلال التكرار والممارسة والتعوّد والمران،وهو ما يسمى عند الصوفية ب(المجاهدة والرياضة)..
__ ولا يعتمد المريد في سلوك هذه المقامات على نفسه ولا على عمله ولا على حوله وقوته،وإنما يعتمد على فضل ربّه وتوفيقه وهدايته وتسديده..
فالإعتماد على النفوس من علامة الشّقاء والبُؤس،والإعتماد على الأعمال من عدم التحقّق بالزوال،والإعتماد على الكرامة والأحوال من عدم صُحبة الرجال،والإعتماد على الله من تحقّق المعرفة بالله.
وعلامة الإعتماد على الله أنه لا ينقُص رجاؤه إذا وقع في العصيان،ولا يزيد رجاؤه إذا صَدَر منه إحسان..قدإستوى خوفُه ورجاؤه على الدّوام،لأن خوفه ناشئ عن شهود الجلال،ورجاؤه ناشئ عن شهود الجمال،وجلال الحق وجماله لا يتغيّران بزيادة ولا نُقصان،فكذا ما ينشأ عنهما،بخلاف المُعتمد على الأعمال..
قال العارف إبن مشيش: [من دَلّك على العمل فقد أتْعَبك،ومن دَلّك على الدنيا فقد غَشّك،ومن دَلّك على الله فقد نصَحَك].
والدّلالة على الله ،هي الدّلالة على نسيان النفس،فإذا نَسيت نفسك ذكرت ربّك.قال الله تعالى: (واذكُر ربّك إذا نَسيت) أي ما سواه..وسبب التّعب هو ذكر النفس والإعتناء بشؤونها وحظوظها،وأما من غاب عنها فلا يَلْقى إلا الرّاحة..ولكن لا تُدرَك الراحة إلا بعد التّعب،ولا يحصُل الظّفَر إلا بالطّلَب،قال صلى الله عليه وسلم(حُفّت الجنة بالمكاره)..
بالنسبة للصديقين أو الربانيين: فمن تأمّل النصوص الواردة فيهما عَلم أن في هذين المقامين دقائق في الإيمان والأخلاق والسلوك جعلت لأهلهما ذلك المقام الرفيع عند الله تعالى،فهم السابقون وهم المقرّبون،فلهم ميزة على أصحاب اليمين من الصالحين..ولقد درج على ألسنة الخاصة والعامة قولهم (حسنات الأبرار سيئات المقربين) مما يُفهم منه أن للسابقين من الكمالات ما ليس لغيرهم..
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد ،وعلى آله وصحبه.
ذ رشيد موعشي