قصيدة لأبي مدين بشرح ابن عطاء الله

قصيدة لأبي مدين الغوث بشرح ابن عطاء الله السكندري

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ العارف بالله القدرة المحقق تاج العارفين ، ولسان المتكلمين ، إمام وقته ، ووحيد عصره ، تاج الدين أبو الفضل أحمد ابن محمد بن عبدالكريم بن عطاءالله السكندري رضي الله عنه ونفعنا به ، آمين .

أما بعد ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يُحشَر المَرءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ فليَنظُر أحُدُكم مَن يُخَالِل ) . فإذا علمت أيها الأخ الشقيق ، فلا تخالل إلا من ينهضك حالهُ ، ويَدُلك على الله مقالهُ ، وذلك هو الفقير المتجرِّد عن السِّوى ، المقبل على المولى ، فليست اللذة إلا مخاللته ، ولا السعادة إلا خدمته ومصاحبته ، فلذلك قال الشيخ العارف المتمكن أبو مدين رضي الله تعالى عنه.

مالذه العيش إلا صحبة الفقرا == هم السلاطين و السادات والأمرا

أي ما لذة عَيشِ السالك في طريق مولاه إلا صحبة الفقراء ، والفقراء جمع فقير ، والفقير هو المتجرد عن العلائق ، المعرض عن العوائق لم يبق له قبلة و لا مقصد إلا الله تعالى ، وقد أعرض عن كل شيء سواه ، وتحقق بحقيقة لا إله إلا الله محمد رسول الله فمثل هذا مصاحبته تذيقك لذة الطريق ، وتريق في جميع فؤادك من شراب القوم أهنى رحيق ، ويعرفك الطريق ، ويقطع لك العقاب ويزيل عن قلبك التعويق ، وينهضك بهمَّتِهِ ويرفعك إلى أعلى الدرجات ، ومن كان كذلك فهو السلطان على الحقيقة ، والسيد على أهل الطريقة والأمير على أهل البصيرة .

فلا تخالف أيها السالك طريقه واجتهد أيها السالك المُجِدُّ في تحصيل هذا الرفيق ، وأصحبه وتأدب في مجالسه ، ويزيل عنك ببركة صحبته كل تعويق . كما قال رضي الله تعالى عنه :

فاصحبهم وتأدب في مجالسهم== وخل حظك مهما قدموك ورا

أي إصحب الفقراء ، وتأدب معهم في مجالستهم فإن الصحبة شبح ، والأدب روحها ، فإذا اجتمع لك بين الشبح والروح حُزتَ فائدة صحبته ، وإلا كانت صحبتك ميتة فأي فائدة ترجوها من الميت.

ومن أهم آداب الصحبة أن تخلف حظوظك وراءك ولا تكن همتك مصروفة إلا لإمتثال أوامرهم فعند ذلك يشكر مسعاك ، فإذا تخلقت بذلك فبادر واستغنم الحضور وأخلص في ذلك ترفع درجتك وتعلو همتك والقصور ، كما قال رضي الله عنه :

واستغنم الوقت واحضر دائما معهم== واعلم بأن الرضا يختص من حضرا

أي واستغنم وقت صحبة الفقراء واحضر دائما معهم بقلبك وقالبك تسري إليك زوائدهم ، وتغمرك فوائدهم ، وينصح ظاهرك بالتأدب بآدابهم ، ويشرق باطنك بالتحلي بأنوارهم ، فإن من جالس جانس ، فإن جلست مع المحزون حزنت ، وإن جلست مع المسرور سُرِرت ، وإن جلست مع الغافلين سَرَت إليك الغفلة ، فإنهم القوم لا يشقى جليسهم ، فكيف يشقى خادمهم ومحبهم وأنيسهم وما أحسن ما قيل :

لي سادة من عزهم أقدامهم فوق الجباه== إن لم أكن منهم فلي في حبهم عِزٌ وجاه

واعلم أن هذا الرضا ، وهذا المقام يخص من حضر معهم بالتأدب ، وخرج عن نفسه ، وتحلى بالذلة والإنكسار ، فاخرج عنك إذا حضرت بين أيديهم ، وانطرح وانكسِر إذا حللت بناديهم فعند ذلك تذوق لذة الحضور ، واستعن على ذلك بملازمة الصَّمت ، تشرق لك أنوار الفرح ، ويغمرك السرور كما قال رضي الله عنه :

ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل == لا علم عندي وكن بالجهل مستترا

الصَّمت عند أهل الطريقة من لازمه ارتفع بنيانه ، وتمَّ غِراسه ، وهو نوعان : صمت باللسان وصمت بالجَنان وكلاهما لا بدَّ منه في الطريق فمن صمت قلبه ونطق لسانه نطق بالحكمة ، ومن صمت لسانه وصمت قلبه تجلى له سره ، وكلمه ربه ، وهذا غاية الصمت وكلام الشيخ قابل لذلك فالزم الصمت أيها السالك إلا إن سُئلت فإن سُئلتَ فارجع إلى أصلِك ووصلك وقل لا علم عندي واستتر بالجهل تشرق لك أنوار العلم اللدني ، فإنك مهما اعترفت بجهلك ورجعت إلى أصلِك لاحت لك معرفة نفسك ، فإذا عرفتها عرفت ربك ، كما روي في الحديث { مَن عَرفَ نفسَهُ عَرفَ رَبَّهُ } وكل ذلك من فوائد الصمت ولزوم آدابه ، فاصمت وتأدب ولازم الباب تكن من أحبابه ، وما أحسن ما قيل :

لا أبرح الباب حتى تصلحوا عوجي==  وتقبلوني على عيبي ونقصاني

فإن رضيتم فيا عزي ويا شرفي==  وإن أبيتم فمن أرجو لعصياني

فانهض أيها الأخ إلى باب مولاك بهمَّة علية ، وتحقق بعبوديتك تشرق عليك أنواره السنية ، كما أشار إلى ذلك الشيخ رضي الله عنه بقوله :

ولا ترَ العيب إلا فيك معتقدا ==عيباً بدا بيناً لكنه استترا

أي تحقق بأوصافك من فقرك وضعفك وعجزك وذلتك ، فإذا تحققت بأوصافك وشَهِدتْ لنفسك عيوبا لكنها مستترة ، فعند ذلك تحظى بظهور أوصاف مولاك فيك ، كما قيل ( سُبحانَ مَن سَترَ سِرَّ العُبُودية ) ، وأفهم من هنا سر معنى قوله تعالى [ سُبْحَانَ الذِي أسْرَى بِعَبدِهِ ] ولم يَقل برسوله ولا بنبيِّهِ ، أشار إلى ذلك المعنى الرفيع الذي لا ينال إلا من العبودية لذلك قيل :

لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي

فانكسِر أيها الأخ وانطرح بالطريق ولا ترَ لك حالا ، ولا مقالا يزل عنك كل تعويق ، واستغفر من كل ما يخطر بقلبك في عبوديتك وقمْ على قدمِ الإعتراف وأنصِفْ من نفسك تبلغ أعلى درجات المنازل وتغنى بشريتك كما قال رضي الله عنه :

وحط رأسك وأستغفر بلا سبب== وقف على قدم الإنصاف معتذرا

أي تواضع وانكسر ، وحُطَّ أشرف ما عندك وهو رأسك في أخفض ما يكون وهي الأرض لتحوز مقام القرب ، كما ورد في الحديث{ أقرَبُ ما يَكونُ العَبدُ إلى اللهِ تعَالى وَهو سَاجد } ، لأن قرب العبد ، بتواضعه وانكساره وخروجه عن أوصاف بشريته ، وأشهد نفسك دائماً مُذنباً ، ولو لم يظهر عليك سبب الذنب ، فإن العبد لا يخلو من تقصير ، وقف على قدَمِ الإنصاف من ذنوبك خجلا من سيئاتك وعيوبك ، فإن من عامل المخلوق هذه المعاملة أحبَّهُ ولم يشهد له ذنباً وكانت مساويه عنده محاسن ، فكيف إذا عامل بهذه المعاملة بهذه المعاملة صاحبه الحقيقي الذي إذا تحققه ليس له صاحب سواه ، كما ورد في الحديث { اللهم أنتَ الصَّاحِبُ في السَّفر ، والخلِيفة فِي الأهلْ والمَال والولَد } .

فتأهب أيها الأخ لهذه المعاملة مع إخوانك الفقراء ، لتصير لك معراجاً تتوصل بها إلى معاملة ربِّ السماء ، وتكون مقبولا عند الخلق والخالق وتصفو لك المعاملة ، وتشرق عليك أنوار الحقائق قال رضي الله عنه :

إن بدا منك عيب فاعتذر وأقم =وجه اعتذارك عما فيك منك جرى

وقل عبيدكموا أولى بصفحكموا =فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا

هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم =فلا تخف دركا منهم ولا ضررا

أي لِيكن شأنك دائماً التواضع والإنكسار وطلب المعذرة والإستغفار ، سواء وقع منك ذنب أو لم يقع ، وإن بدا منك عيبٌ أو ذنب فاعترف واستغفر ، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وليس الشأن أن لا تذنب ، إنما الشأن أن لا تصِرَّ على الذنب كما ورد { أنِينُ المُذنِبينَ عِندَ الله خَيرٌ مِن زَجلُ المُسَبحِين عَجَباً وافتخَارا } , ولذلك قلتُ في الحِكَمْ ( ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول وقضى عليك بالذنب وكان سبباً للوصول ). ( رُبَّ معصِيةٍ أورثتْ ذلا وانكِسَاراً خير من طاعةِ أورثت عِزا واستكبَاراً ) . ومع اعترافك واستغفارك أقم وجه اعتذارك عما جرى منك فيكون ذلك مُمْحِياً للذنب وأدخل في القبول .

وذُلَّ وتواضَع وانكسِر وقل عبيدكم أولى بصفحِكُم لأن العبد ليس له إلا باب مولاه وما أحسن ما قيل : ألقيت في بابكم عناني= ولم أبال بما عناني

فزال قبضي وزاد بسطي= وانقلب الخوف بالأماني

فسامحوا عُبَيدُكم يا فقرا ، وخذوا بالرفق وعاملوني به ، فإني عبد فقير لا يصلحني إلا المعاملة بالرفق والفضل ، ولا اعتماد لي إلا على الفضل لا بحولي و لا بقوتي ، مذهبي العجز والسلام.

ثم قال رضي الله تعالى عنه إنهم أولى بهذا الشيء ، وهو شِيمتهم ولم يزالوا متفضلين ، وهذه معاملتهم مع أصحابهم وهي سجيتهم وكيف لا تكون سجيتهم وهم متخلقون بأخلاق مولاهم ، كما ورد { تخَلقوا بأخْلاقِ الله } . فلا تخف منهم ضررا أيها السالك المصاحب لهم وتمسَّك بأذيَالهم { فإنَّهُمُ القومُ لا يَشقَى جَلِيسَهُم } ، فإذا عرفت ذلك أيها السالك فتخلق بأخلاقهم الكريمة ، وجُد بالتغني عن الأخوان ، وغض الطرف عن عثرتهم تكن آخذ من أوصافهم أحسن هيئة . قال رضي الله عنه : وبالتغني على الأخوان جد أبدا == حسا ومعنى وغض الطرف إن عثرا

أي وتكرَّم على إخوانك ، وجُد عليهم أبدا ، أما في الحِسِّ فببَذل الأموال ، وأما في المَعنى فبصرف همَّة الأحوال ، ولا تبخل عليهم بشيء يمكنك إيصاله إليهم ، فإن السماحة لبُّ الطريق ، ومن تخلق بها فقد زال عن قلبه كل تعويق .

قال الشيخ عبد القادر رضي الله عنه إخواني ، ما وصَلتُ إلى الله تعالى بقيام ليل ، ولا صيام نهار ولا دراسة علم ، ولكن وصلت إلى الله بالكرم والتواضع وسلامة الصَّدر . فدَلَّ كلام الشيخ رضي الله عنه ، أن الكرم هو الأساس ، وأن التواضع يتم للسالك به الغراس ، فإذا أتمَّ له هذان سلم صدره من العلائق ، وزال عن طريقه كل عائق ، ولذلك ورد في الحديث { إنَّ في الجنة لغُرَفاً ، يُرى ظاهِرها مِن باطِنها ، وباطنُها من ظاهِرها ، أعدَّها الله تعالى لِمَنْ ألانَ الكَلام ، وأطعَمَ الطعام وتابَعَ القِيام وصَلى بالليل والناسُ نِيام } .

فتأمل هذا الحديث يا أخي حيث بدأ صلى الله عليه وسلم بإلانة الكلام وهو إشارة إلى التواضع ثم ثنى بإطعام الطعام ، وهو إشارة إلى الكرم ، ثم أتى بعد ذلك بالصَّلاة والصِّيام كما أشار إليه الشيخ عبد القادر ، فانهض أخي إلى هذه المآثر وبادر واجمع معها حُسْنَ مكارم الأخلاق وغُضَّ الطرف عن مساوئ الإخوان إن وقفت منهم على عثرة ولا تشهد إلا محاسنهم ، كما قال رضي الله عنه في حكمه الفتوحية ( رؤية محاسن العبيد والغيبة عن مساويهم ذلك شيء من كمال التوحيد ).

كما قيل : إذا ما رأيت الله في الكل فاعلا== رأيت جميع الكائنات ملاحا

فإذا تخلقت أيها الأخ بهذه الخصال الشريفة ، فقد تأهلتَ للإقبال على الشيخ فانهض إلى عتبة بابه ، وراقبه بهمَّة منيفة ، كما أشار إلى ذلك الشيخ رضي الله عنه بقوله :

وراقب الشيخ في أحواله فعسى== يرى عليك من استحسانه أثرا

أي إذا تخلقتَ بما تقدم من الآداب ووصلت بافتقارك وانكسارك إلى الشيخ ، وتمسكت بأثر تلك الأعتاب فراقب أحواله ، واجتهد في حصول مراضيه ، وانكسِر واخضع له في كل حين ، فإنه الترياق والشفاء ، وإن قلوب المشايخ ترياق الطريق ، ومن سَعِد بذلك تمَّ له المطلوب وتخلص من كل تعويق ، واجتهد أيها الأخ في مشاهدة هذا المعنى فعسى يرى عليك من استحسانه لحالك أثرا ، قال بعضهم : من أشد الحرمان أن تجتمع مع أولياء الله تعالى ولا تُرزق القبول منهم ، وما ذلك إلا لسوء الأدب منك ، وإلا فلا بُخل من جانبهم ولا نقص من جهتهم . كما قلتُ في الحكم : “ما الشأن وجود الطلب ، إنما الشأن أن تورث حُسن الأدب .”

زار بعض السلاطين ضريح أبي يزيد رضي الله عنه وقال هل هنا أحد ممن اجتمع بأبي يزيد ؟ فأشير إلى شيخ كبير في السِّن كان حاضراً هناك ، فقال له : هل سمعت شيئا من كلامه ؟ قال : نعم ، قال ( من زارني لا تحرقه النار ) ، فاستغرب السلطان ذلك الكلام . فقال كيف يقول أبو يزيد ذلك وأبو جهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو تحرقه النار . فقال ذلك الشيخ للسطان: أبو جهل لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما رأى يتيم أبي طالب ولو رآه صلى الله عليه وسلم لم تحرقه النار . ففهم السلطان كلامه وأعجبه هذا الجواب منه . أي إنه لم يره بالتعظيم والإكرام واعتقاد أنه رسول الله ، ولو رآه بهذا المعنى لم تحرقه النار، ولكنه رآه باحتقار واعتقاد أنه يتيم أبي طالب ، فلم تنفعه تلك الرؤية . وأنت يا أخي ، لو اجتمعت بقطبِ الوقت ولم تتأدب لم تنفعك تلك الرؤية ، بل كانت مضرَّتها عليك أكثر من منفعتها . فتأدب بين يدي الشيخ ، واجتهد أن تسلك أحسن المسالك ، وخذ ما عرفت بجد واجتهاد ، وانهض في خدمته ، واخلص في ذلك لتسود مع من ساد ، كما قال :

وقدِّمِ الجدِّ وانهض عند خدمته ==عساه يرضى وحاذر أن تكن ضجرا

ففي رضاه رضا الباري وطاعته== يرضى عليك فكن من تركه حذرا

أي انهض في خدمة الشيخ بالجد فعساك تحوز رضاه فتسُود مع من ساد ، واحذر أن تضجر ، ففي الضَّجر الفساد . ولازم أعتاب بابه في الصباح والمساء لتحوز منه الوداد . وما أحسن ما قيل :

إصبر على مضض الإدلاج في السحر== وللنذور على الطاعات بالبكر

وقل من جدَّ في أمر يؤمله ==ما استصحب الصبر إلا فاز بالظفر

فإن ظفرت أيها السالك برضاه رضي الله تعالى عنك ونلت فوق ما تمنيت .

فاستقم في رضاء شيخك وطاعته تظفر بطاعة مولاك ورضاه ، وتفوز بجزيل كرامته .

وعُضَّ بالنواجذ على خِدمة الشيخ إن ظفرت بالوصول إليه ، واعلم أن السعادة قد شملتك من جميع جهاتك ، إذا عرفك الله تعالى به ، وأطلعك تعالى عليه فإن الظفر به .

واعلم أن طريق القوم دارسة == وحال من يدعيها اليوم كما ترى .

لكن إذا ساعدتك العناية ظفرتَ وشمَمْتَ من نفحة طيبة ما يفوق المِسك الأذفر ، ولذلك قال رضي الله تعالى عنه :

واعلم بأن طريق القوم دارسة ==وحال من يدعيها اليوم كيف ترى

متى أراهم وأنى لي برؤيتهم ==أو تسمع الأذن مني عنهموا خبرا

من لي وأنى لمثلي أن يزاحمهم ==على موارد لم آلف بها كدرا

أحبم وأداريهم وأوثرهم ==   بمهجتي وخصوصا منهم نفرا

شرع الشيخ رضي الله تعالى عنه يشوق السالك إلى طريق أهله ، ويخبرهم أن طريقهم دارسة ، وحال من يدعيها اليوم كما ترى في الفترة حتى كادت الهمم تكون من الطلب آيسة ، وهكذا شأن طريق القوم لعزتها ، كأنها في عصر مفقودة ، ولا يظفر بها إلا الفرد بعد الفرد ، وهذه سنة معهودة ، وذلك أن الجوهر النفيس لا يزال عزيز الوجود ، يكاد لعزته يُحكَم بأنه ليس موجود ، والطريق أهلها مخفية في العالم خفاء ليلة القدر في شهر رمضان ، وخفاء ساعة الجمعة في يومها حتى يجتهد الطالب في طلبه بقدر الإمكان ، فإن من جدَّ وَجَدَ ، ومن قرع الباب ولجَّ وَلجَ .

قلتُ : بعد أن ذكر لا بد من الشيخ في الطريق على سبيل السؤال والجواب كيف تأمرنا بذلك وقد قيل إن وجود الشيخ كالكبريت الأحمر وكالعنقاء ، من ذا الذي بوجودها يظفر ، كيف تأمرني بتحصيلِ مَن هذا شأنُهُ ، فقال : لو صدقتَ في الطلب وكنتَ في طلبه كالطفل والظمآن لا يقرُّ لهم قرار ولا تسكن لوعتهم حتى يظفروا بمقصودهم ، فأشار الشيخ رضي الله عنه إلى أن الشيخ موجود ، وكيف لا يكون موجودا وعمارة العالم بأمثاله ، فإن العالَمَ شخصٌ والأولياء روحه ، فما دام العالَم موجوداً لا بدَّ من وجودهم ، لكن لشدَّة خفائهم وعدم ظهورهم حكِم بفقدانهم .

فاجتهد واصدق في الطلب تجدِ المطلوب ، واستعِن على ذلك الطلب بمَدَدِ علام الغيوب ، فإن الظفر لا يحصل إلا بمجرد فضله . وإذا أوصلك إلى الشيخ فقد أوصلك إليه كما قلت في الحكم ( سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه ) .

ثم إن الشيخ رضي الله عنه ، كما ذكر عزة الطريق ، وفقدان أهلها شرع يتأسف على الإجتماع بهم ويتمناه ، ويستبعد من نفسه حصول ذلك ، والتشرف بلقائه تواضعا منه وانكساراً وهضماً لنفسه واحتقاراً . وهذا شأن العارف لنفسه بنفسه ، الممتلىء من معرفة ربه ، المتحلي بواردات قدسه ، لأنه لا يرى لنفسه حالا ولا مقالا ، بل يرى نفسه أقل من كل شيء وهو هو النظر التام ، كما قيل :

إذا زاد علم المرء زاد تواضعا== وإن زاد جهل المرء زاد ترفعا

وفي الغصن عن حمل الثمار مناله== فإن يَعرُ من حمل الثمار تمنعا

فانظر إلى الشيخ أبي مدين ورفعته في الطريق مع أنه وصل من تربيته اثنا عشر ألف مريد ، وانظر إلى هذا التنزل منه والتدلي بأغصان شجرة معرفته إلى أرض الخضوع والإنكسار حتى أنه لم ير نفسه أهلا للإجتماع بأهل هذه الطريقة ، ويزيده هذا الإنخفاض من الإرتفاع ، لأن الشجرة لا يزيدها انخفاضها في عروقها إلا ارتفاعا في رأسها .

فتواضع في الطريق ، وخذ هذا الأصل العظيم من هذا العارف المتمكن يزل عنك كل تعويق .

ثم قال رضي الله عنه بعد ذلك < أحبهم إلى آخره > ، أي وإن لم أكن أنا منهم فإني أحبهم ، ومن أحب قوما فهو منهم ، كما ورد في الحديث { المَرءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ } . كما قيل :

أحب الصالحين ولست منهم== لعلي أن أنال بهم شفاعة

وأكره من بضاعته المعاصي ==وإن كنا سواء في البضاعة

وهذه خصال القوم وصفاتهم ، ولذلك ارتفعت رتبهم ، وجزلت عطيتهم كما وصفهم رضي الله عنه بقوله :

قوم كرام السجايا حيث ما جلسوا ==يبقى المكان على آثارهم عطرا

يهدي التصوف من أخلاقهم طرفا== حسن التألف منهم راقني نظرا

هم أهل ودي وأحبابي الذين هموا ==ممن يجر ذيول العز مفتخرا

لا زال شملي بهم في الله مجتمعا وذنبنا فيه مغفورا ومغتفرا

ثم الصلاة على المختار سيدنا ==محمد خير من أوفى ومن نذرا

أي قوم سجاياهم كريمة وهمتهم عظيمة ، حيثما جلسوا تبقى آثار نفحات عطرهم في المكان ظاهرة ، وأينما توجهوا سطع شمس معارفهم فتشرق القلوب ، وتصلح بهم الدنيا والآخرة ، يهدي التصوف للسالك المشتاق من أخلاقهم طرقا مجيدة تدل على الطريق ويسير في سلوكه سيرة حميدة ، فلذلك جمعوا أحسن تأليف ، حتى راق كل ناظر وجَدُّوا في أكمل معنى لطيف ، حتى اكتحلت بكحل إثمدهم أنوار البصائر .

وكذلك قال الشيخ رضي الله عنه بعد ذلك (هم أهل ودي وأحبابي ) إلى آخره ، فإن الشخص لا يحب إلا من جانسه ولا يَوَد إلا من كان بينه وبينه مؤانسة .

وفي هذا الكلام إشارة إلى أنه رضِي الله عنه من جملتهم وطينته من طينتهم ، وما تقدم منه في التواضع والإنكسار دليل على التحقيق في هذا المجد والفخار كما تقدمت الإشارة إلى ذلك ، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يسلك بنا أحسن المسالك ، ثم دعا وسأل أنه لا يزال شمله بهم في الله تعالى ، وذنبه مغفورا ، ونحن نسأله أيضا إتمام الصلاة والسلام على سيدنا محمد المختار خير من أوفى ومن نذر ، ومن أكرم الجار وعلى آله وصحبه السادة الأبرار والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، وهذا الرقم لمن تعطش ليله في معاني هذه الأبيات ، وإلا فنحن معترفون بالعجز والتقصير عن معانيها وإنما الأعمال بالنيات ، والله تبارك وتعالى أعلم .

منقول

حصل المقال على : 1٬435 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية

    الاشتراك في النشرة البريدية

    احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

    اترك تعليقا

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد