(الكمالات الإلهية في الصفات المحمدية) / الشيخ عبد الكريم الجيلي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبي الله الرسول الامين.
وبعد
يعتبر كتاب (الكمالات الإلهية) خلاصة كتاب (الإنسان الكامل) للجيلي،وزاد عليه أن بيّن فيه النّسبة التي بين الإنسان وبين الله حتى صَحّت له (الخلافة) في الأرض..ويقصد الجيلي ب(الإنسان الكامل) سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على الخصوص،والإنسان على العموم..سيدنا محمد بالاصالة ،والاقطاب بالتبعية.
__ بعد الحمد والثناء، يقول الجيلي: (أما بعد: فلسان الكمال لم يزل مُنادياً في الأكوان بأفْصَح مَقال: هَلُمّوا إلى حقائقكم الإلهية من طريق الجمال والجلال..)..إن الله خلق هذه النشأة الإنسانية في أحسن تقويم،وجعلها قابلة لكل وصف عظيم،جامعة لكل كمال وجلال وجمال كريم،حاوية لمعاني الأسماء والصفات،ولولا ذلك لما صحّت لها الخلافة دون سائر المخلوقات..
ويُبيّن الجيلي (النّسبة) التي بها صحّت الخلافة،من خلال عدة أسئلة وجودية،يقول: (أيها الأخ الطالب حصول الكمال،الراغب في سلوك الطريق المحمدي إلى ذي الجلال،إنه ينبغي لك أن تعلم ما أنت عليه وما هي حقيقتك التي هي أنت؟ وما هو الذي إشتملت عليه خزانة وجودك؟ وما هو المطلوب منك في إيجادك؟ وما هو الذي جمعه باطنك أو تلبّس به ظاهرك؟ وما هي النّسبة التي بينك وبين الله حتى صحّت لمثلك الخلافة الكبرى والولاية العظمى؟ )..
__ قسّم الجيلي كتابه إلى: (مقدمة)،و(أربعة أبواب)،و(خاتمة).
== (مقدمة) ==
إعلم أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو (النّسبة التي بين العبد والرب). فآدم ومن دونه إنما إستحقّ الإتصاف بالصفات الإلهية لكونه نُسْخة من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..
ذكر الجيلي في المقدمة أربعة معارف لا بد من تحقيقها:
أولاً: صحّة كون النّسبة التي بين الله وبينك..
ثانياً: أن تعرف ما لله من صفات الكمال..
ثالثاً: أن تعرف إتّصاف سيدنا محمد بتلك الأسماء والصفات الإلهية حتى تَسْلُك فيها طريقه القويم وصراطه المستقيم..
رابعاً: معرفة نفسك..
== (الباب الأول): (معرفة أن سيدنا محمد هو النسبة بين الله وعبده)==
إبتدأ الجيلي ب(صفة الرحمة) لسيدنا محمد (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)،وهي المُشار إليها في قوله تعالى (ورحمتي وسعت كل شيء)،يعني أن سيدنا محمد هو (الواسع) لكل ما يطلق عليه إسم شيء من الأمور الحقية والخلقية..
والرحمة رحمتان: رحمة خاصة (وهي التي يُدرك الله بها عباده في أوقات مخصوصة)، ورحمة عامة (وهي حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..)..
ولما كان العالم كله على نسخة الحبيب،فقد (سبقت رحمة الله تعالى غضبه)..فحكم الرحمة في الوجود لازم،وحكم الغضب عارض..
وكما أن الصفات فرع عن الذات،كذلك العالم فرع عن الحبيب،فهو صلى الله عليه وسلم (واسطة بين الله وبين العالم)..فسيدنا محمد (مظهر الذات)،والأنبياء (مظاهر الأسماء والصفات)،وبقية العالم العلوي والسفلي (مظاهر أسماء الأفعال) ما خلا أولياء أمة سيدنا محمد فإنهم كالأنبياء مظاهر الأسماء والصفات..
لو لم يكن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم موجوداً لما كان شيء من الموجودات يعرف ربه،بل لم يكن العالم موجوداً..فقد أوْجَد تعالى النّسبة أولاً،ثم أوجدهم من تلك النسبة لكي يعرفوه بها..
== الباب الثاني: معرفة ما لله من الأسماء والصفات ==
ذكر الجيلي أولاً بأن لله (الأسماء الذاتية) التي إستأثر بالعلم بها دون خلقه..وله أسماء أطلع عليها بعض خواصه..وله أسماء تعرّف بها إلى سائر خلقه فعرفوه بها.وهذه الأسماء المُتعرّف بها إلى الخلق كثيرة لا تحصى،وتجمعها مائة وسبعة وثلاثون (137) إسماً،تَسمّى بها تعالى في كتابه الكريم.ويجمع هذه (137) إسماً أسماؤه الحسنى التي هي تسعة وتسعون (99) إسماً.ويجمع هذه الأسماء الحسنى إسمه (الرحمن).والذي هو تحت حيطة الاسم الرئيس”الله”
ثم ذكر أقسام الأسماء الإلهية وهي قسمين: (أسماء سلب) و(أسماء إيجاب)
(أسماء السّلب) كلها ذاتية..و(أسماء الإيجاب) أربعة أقسام: (الأسماء الذاتية)،وهي مطلقة ومقيدة..و(الأسماء النفسية)..و(الأسماء الصفاتية)،وهي أربعة أقسام: “الأسماء الكمالية” و”الأسماء الجلالية” و”الأسماء الجمالية” و”الأسماء الإضافية”..و(الأسماء الفعلية)،وهي قسمين: “جلالية” و”جمالية”..
(الذات) من حيث هي هي ليس لها،بأيدينا، إسم ولا صفة ولا نعت..والأسماء والصفات للتّعيين والتّمييز والفرق..ومن نظر من أهل الله إلى (الحضرة الذاتية)،إعتبر الأسماء كلها صفات،حتى إسمه تعالى (الله) وإسمه (الرحمن)..فالإسم إنما يكون لأجل العَلَمية،حتى لا يقع التنكير.وليس ل(حضرة الحضرات) تخصيص تنكير ولا تعريف،ولا ظهور ولا بطون،ولا نسبة ولا إضافة ولا تعيين،ولا غيب ولا شهادة..
الأسماء والصفات إنما هي ل”شؤون الحق تعالى في تجلياته”..(= أقدم الجيلي بذكر “التنزلات الذاتية” من حيث الوجود والحكم،لا من حيث الترتيب والعدد..).
التجلي العمائي/العدمي،لا يمكن شرحه.بخلاف (الأحدية)،وهي باطن (الوحدة).والوحدة باطن (الهوية).والهوية باطن (الإنّيّة).والإنية باطن (الواحدية).والواحدية باطن (الوحدانية).والوحدانية باطن (الفردية).والفردية باطن (الفردانية).والفردانية باطن (الألوهية).والألوهية باطن (الرحمانية).والرحمانية باطن (الربّية).والربية باطن (الملكية).والملكية باطن (أئمة الأسماء السبعة النفسية).وهذه الأسماء باطن (تجليات أسماء الجلال).وهذه التجليات الجلالية باطن (تجليات أسماء الجمال).وهذه التجليات الجمالية باطن (تجليات أسماء الأفعال)..
ثم ذكر حكم التجليات الإلهية على قلوب العباد: من حيث (المرتبة / التنزيه)،و(الظهور / التشبيه)..
ثم قام بشرح أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين،مع إشارات عرفانية تشرح التنزّلات الإلهية بالأسماء..
إسمه تعالى (هو) محتد باطنه صلى الله عليه وسلم،وإسمه تعالى (الله) محتد ظاهره صلى الله عليه وسلم..الألوهة مظهر إسم الهوية..فسيدنا محمد (جامع لسائر الكمالات) من غير مزاحمة،منفرداً بها..لهذا صحّت له (الوسيلة العظمى)..فالحقيقة المحمدية عبارة عن الهوية الإلهية بما هي عليه من الشؤون والأسماء والصفات.قال تعالى (قل هو الله أحد) يعني: قل يا محمد إن الفاعل هو الله،وفاعل (قل) هو محمد المأمور بالقول،فهو المظهر لحقيقة (الله أحد)..
__ في شرح إسمه (العليم)،يقول: إن المعلومات إنما تعيّنت في العلم على حسب ما إقتضته الشؤون الذاتية الأولية التي هي (أم الكتاب)،والعلم الإلهي هو مظهر تلك الشؤون..وقد سَهى الإمام محيي الدين بن العربي في هذه المسألة سهواً فظيعاً،فجعل علم الله مُستفاداً من الأشياء..
__ في شرح إسمه (الحسيب)،ذكر لطيفة بقوله: إن الصفة الواحدة إذا تجلّى بها الحق تعالى على أنها من مقتضيات (ذاته) كان لها حكم بخلاف ما لو تجلّى بها على أنها من مقتضيات الألوهية أو الربوبية أو مرتبة من المراتب..وقد أهْمَل هذه النكتة جميع علمائنا،فلم يذكره أحد منهم قبلي في كتاب على ما بلغه علمي..
(الوجود المطلق / الله) جامع لجميع المراتب والكمالات والمقتضيات والنّسب والحقائق والصور والمعاني والوجوه والإعتبارات والإضافات،والعوالم العلوية والسفلية،والنّسب القدمية والحدوثية،والنّعوت الحقية والخلقية،وما تترتّب عليه هذه الصفات من الذوات وهذه الأعراض من الجواهر،وما هو في وُسع العلم أن يُحيط به،وما ليس كذلك..
واعلم أنه لا يثبُت مثل هذا العلم إلا بالإيمان أو بالكشف والعيان،وإيّاك أن تُثبت إليّ شيئاً من التعطيل أو الإتحادأو الحلول أو المزج أو الإلحاد.فإني بريء من جميع لذك،وممّن يقول به،وأنت.فإن لم تفهم ما قلته مُوافقاً للكتاب والسنة،فارجع الأمر إلى الله..
__ في شرح إسمه (الرّقيب)،جعل (الشّهود) على ثلاثة أقسام:
قسم يسمى (شهود الذات للذات بالذات في الذات) من غير إعتبار الأسماء والصفات.
وقسم يسمى (شهود الذات لذاته في أسمائه وصفاته).
وقسم يسمى (شهود الذات لأسمائه وصفاته في ذاته).
القسم الأول مختصّ به،ليس لأسم الخليقة فيه مجال.
أما القسمان اللذان فيهما تفاوت الرجال: القسم الأول: بالأسماء والصفات عرفوا الذات (وهو “العارفون”)،والقسم الثاني: بالذات عرفوا الأسماء والصفات (وهو “المحققون”،وهم أهل الطائفة)..(العارفون) يشهدون الخلق مظهراً للحق،لأنه تعالى تجلّى فيهم بأسمائه وصفاته. و(المحققون) من وراء ذلك يشهدون الحق مظهراً للخلق..
__ في شرح إسمه (الواسع)،يقول: هذا الوُسع (أي: التجلّي بجميع المظاهر الوجودية) عند المحققين إنما هو عبارة عن قبول القلب للألوهية من حيثه لنفسه على أنه الله.وهذا المعنى لا يتّسع له شيء من المخلوقات سوى (قلب الإنسان الكامل)،لأنه (مظهر الذات)،وما سواه فمظاهر الأفعال والأسماء والصفات..
والإنسان الكامل لوتحقّق بما تحقّق به من الأسماء والصفات،فإنه لا يبلغ غاية (الكُنْه الذاتي) ولا يستوفيه بوجه من الوجوه..
__ في شرح إسمه (الحكيم)،يقول: هو الذي تجلّى في المظاهر بما تستحقّه قابلية كل مظهر من غير زيادة ولا نقصان،فأعطى كل ذي حق حقّه..
__ في شرح إسمه (الودود)،يقول: ف(المحبة) هي الواسطة بين الكثرية والظهور.ولأجل ذلك كان الحبيب صلى الله عليه وسلم المخلوق منها (واسطة بين الله وبين خلقه)،وتلك هي (الوسيلة الكبرى) التي لا تكون إلا لرجل واحد،وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..
__ في شرح إسمه (الشهيد)،يقول: صفة الشهادة عبارة عن الظهور الإلهي بجميع المظاهر،حقية كانت أو خلقية،مع قبول جميع النّسب والإضافات والأحوال والشؤون التي تلحق بأوصاف الخلق وأوصاف الحق.فالشهادة هي التّعيين والظهور..
__ في شرح إسمه (الولي)،يقول: وهذا الإسم يستحقه (الإنسان الكامل)،إذا كان الإنسان مُتولياً لله بذاته وصفاته لذاته وصفاته..فالله وليّ العالم،والإنسان الكامل وليّ الله..وصفة (الولاية) هي عبارة عن مرتبة (التصرّف الكمالي في الوجود)،من غير مانع ولا عجز ولا عن نيابة.وذلك هو (مقام القطب الأكبر الغوث الجامع)..
__ في شرح إسمه (الحميد)،يقول: هو عبارة عن التجلّي الإلهي بالكمالات كلها على الحيطة والشمول..و(الحمد) هو مقام النبي صلى الله عليه وسلم..والحمد هو المحمود،وهو حقيقة المصطفى المُعبّر عنه في إصطلاح القوم ب(الحقيقة المحمدية)..
__ في شرح إسمه (الأول)،يقول: فإن طائفة زعموا أن أوليّته بنسبة المخلوق،وليس كذلك.بل أوليته للإقتضاء الكمالي الذي هو له في نفسه.فلوإحتاج في شيء من صفات الكمال إلى غيره لم يكن كاملاً بالذات..وهذا معنى لا يفهمه إلا الأفراد الكمّل المقدسون عن الإنحصار بالقيود العقلية والحدود القياسية..
__ في شرح إسمه (ذو الجلال والإكرام)،يقول: الأنبياء والأولياء وغيرهم من الملائكة المقربين والكروبيين العلويين جميعاً (ما قدروا الله حق قدره) اللاّئق بذاته،ولكنهم قدّروه حقّ قدره اللاّئق بذواتهم.فما قدّروه حقّ قدره على الإطلاق..والعارفون من الكمّل المحققون مجتمعون في (مقام التوحيد)،عارفون له ب(الأحدية الخاصة) التي لا تنكشف إلا لأوليائه وأنبيائه،ولكنهم إنما يتفاوتون في معرفة قدره،وذلك أمر من وراء التوحيد،وهو عبارة عن حقيقة التعظيم الإلهي المتجلّي من منظر الجلال والإكرام..فمن تحقّق في هذا المقام كان هو (القطب والختم)..
__ في شرح إسمه (الغني)،يردّ الجيلي على الشيخ الأكبر في قوله (إن الغنى إنما هو للذات فقط،وأن الصفات لا يطلق علها أنها غنيّة)..والجيلي يقول: بل هو تعالى غنيّ بذاته وصفاته،غير محتاج إلى شيء سواه في كمال شيء من صفاته..
__ في شرح إسمه (الهادي)،ذكر الجيلي كلاماً نفيساً في مفهوم (الهداية) وأقسامها..
__ في شرح إسمه (البديع)،يقول: المكاشف يرى أن التغيير واقع في الذات (أي: ذوات العالم / الجواهر)،والناظر الكلامي يرى أن التغيير واقع في الصفات العارضة (أي: في الأعراض لا في الجواهر)..ولولا التغيير لدَام العالم،ولا دوام للعالم،بل العالم كالعرض على الوجود الحقيقي،والعرض لا يبقى زمانيين..
__ في شرح إسمه (الباقي)،يقول: إن الأوقات والآنات المتكاثرة الخارجة في الطور الخلقي هن هذا الإحصاء الإمكاني،إنما جميعها عند الله تعالى وقت واحد وآن واحد،لأنه تعالى لا تَمُرّ عليه الليالي والأيام.فالدهورالغير محصورة عنده كطرفة عين أو أقلّ من ذلك..وقد شاهدنا طرفاً من ذلك في هذا الوجود،في قبض الأوقات المبسوطة حتى أن الزمان الكثير يراه العارف كطرفة العين،وكذلك العكس في طرفة العين ويراها العارف زماناً طويلاً لا نهاية له..
__ في شرح إسمه (الرشيد)،يقول: (إيمان الكمّل) إيمان تعيّنهم الذي هو الله تعالى،وذلك حقيقة وجودهم بما هم عليه..و(إيمان العوام) إيمان بوجود الله على الإطلاق،وبما ذكره تعالى على لسان نبيه من الأمور الواجبة الإيمان بها..
== الباب الثالث: إتصاف سيدنا محمد بالأسماء والصفات ==
قال الله تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم)،والخُلُق هو (الوصف)،والأوصاف العظيمة هي أوصاف الله تعالى.وسُئلت عائشة عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خُلُقه القرآن)،إشارة إلى حقيقة التحقّق بالكمالات الإلهية،لأن القرآن إنما هو عبارة عن كمالات الله تعالى،ولأن القرآن كلام الله،والكلام صفة المتكلم وهو خُلُق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،يعني (صفته).فهو متصف بأوصاف الله تعالى جميعها،ظاهرهاوباطنها،وهو المُعطي لكل منها حقّها كما يُعطي الموصوف صفاته حقّها.وقدإنفرد صلى الله عليه وسلم بكمال ذلك دون كل موجود..فسيدنا محمد ذاتي،ومن دونه صفاتي..له الجمعية الكبرى،والمكانة العظمى،المعبر عنها في إصطلاح القوم ب(مرتبة الألوهة) …
وما من نبي إلا وقد ظهرت البشرية عليه،إلا سيدنا محمد فإن بشريته معدومة لا أثر لها..فهو يظهر في ناسوت الهيكل الإنساني مَمْحُواً عن أحكام الإنسانية البشرية..
وكمالات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يتقدّمه أحد في التحقق بذلك..(وقدّم الجيلي الدلائل على إنفراده صلى الله عليه وسلم بمجامع الكمالات الإلهية: من دلائل الكتاب والسنة،ودلائل عقلية مؤيدة بالكشف الصريح..)..
ثم ذكر الجيلي إتصاف سيدنا محمد بأسماء الله تعالى،منها ما هو صريح،ومنها ما هو كناية وإشارة..
(لواء الحمد) عنوان بيانه على الله،بما أثنى الله به على ذاته،وذلك حقيقة التحقّق ب(الصفات الكمالية)،إحاطة وشمولاً من كل وجه،وبكل إعتبارونسبة،ولا يكون ذلك إلا للذات وهي (الحقيقة المحمدية)،التي هي (حضرة الجمع والجود)..
لم يفتخر سيدنا محمد بجميع الكمالات التي حكاها لنفسه،لأنه كان يقول في كلها (ولا فخر).وإفتخر صلى الله عليه وسلم بالفقر،قال (الفقر فخري وبه أفتخر)،لأن (الفقر المحمدي) عبارة عن الأكملية الكبرى الجامعة بين (الألوهة والعبودة)..
__ (نكتة): كل وليّ يحضُر بين يدي رسول الله ولم يصرف كلمة الحضرة الكمالية إلى رسول الله فإنه لا يبلغ مرتبة الكمال..وكم بين الأخذ بقابلية النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأخذ بقابلية وليّ..لأن كل وليّ وإن علا شأنه فليس محتده من الكمالات الإلهية إلا الأسماء والصفات،ومحتد رسول الله هو الذات..
__ وفي إيراده للدلائل العقلية المؤيدة بالكشف الصريح،يقول: إعلم أن رسول الله كان أكمل الوجود،وأفضل العالم،وأشرف الخلق بالإجماع،لكونه مخلوقاً من نور الذات الأحدية،وما سواه فإنما هو مخلوق من أنوار الأسماء والصفات.فلأجل ذلك كان سيدنا محمد (أول مخلوق) خلقه الله تعالى: فكما أن الذات مقدمة على الصفات،فمظهرها أيضاً مقدّم على مظهر الصفات (= السّبق هنا في الحُكم لا في الزمان)..فسيدنا محمد في العالم بمنزلة (القلب الذي وسع الحق)..فله صلى الله عليه وسلم (الوُسع الذاتي للمعرفة الذاتية)..لهذا إستوعب سيدنا محمد (الكمالات الخلقية) خَلْقاً وخُلُقاً.وإستوعب (الكمالات الحقيّة) صورة ومعنى، ظاهراًوباطناً،توصّفاً وتحقّقاً،ذاتا وصفاتاً، جمالاً وجلالاً.
__ في كل صفة من صفاته (الخَلْقية والخُلُقية) أسرار جليلة ومعاني جميلة لا يمكن شرحها.ومجمل ذلك: أن هيئته الصورية الظاهرة الهيكلية (أمُّ لصور الكمالات الحسية الوجودية)،العلوية والسفلية.وهيكليته المعنوية الباطنة،التي هي عبارة عن أخلاقه،هي (أم لمعاني الكمالات المعنوية الوجودية)،العلوية والسفلية. فكل كمال تشهده بالمحسوسات فهو من فيض صورته الظاهرة،وكل كمال تعْقِلُه من المعنويات فهو من فيض معانيه الباطنة. فهو (معدن كمالات العالم)،باطنها وظاهرها..فهو (هيولى المعاني والصور الوجودية)..فالأمر الإلهي إنما أبرزه للكمال لا للنقصان،ولأجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم (بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق)،فهو (المُكمّل) للوجود بالمحمودات الضرورية والمحمودات الشرعية..
__ ومتى يعقل العبد هذه الصورة (أي الصورة الخَلْقية لسيدنا محمد) في قلبه كان دائم الملاحظة،وحصلت له السعادة الكبرى،وإنفتح بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم طريق الإستمداد من غير واسطة،حتى أنه إذا تصفّى وزكّى وتطهّر وتخلّص من خواطره النفسية والعقلية وما دونهما،فإنه يرتقي في ذلك إلى أن تُفاجئه الصورة المحمدية قادمة من عالم الأرواح،فتظهر له كما هي عليه ويُناجيها وتُكلّمه،فيأخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ منه الصحابة.ومتى كان هذا العبد من أهل التوحيد الخاص،فإنه يشهد بعد ذلك كمالاته المعنوية،وبها يتقوى للإتصاف بما يقدر له منها.ولا يزال كذلك حتى يشهده في الملكوت الأعلى،ثم يشهده في الأفق المبين،ثم يشهده في الأفق الأعلى.فإذا شهده في الأفق الأعلى إنطبع بالخاصية المحمدية في قابلية الوليّ كمالات محمدية من المقام المحمدي،فبها يكمُل في وجوده،ويتحقّق بصفات معبوده.
__ سيدنا محمد متحقّق ب(الألوهة) التي هي مركز إسم (الله)..فإن قيل: إن إسمه تعالى (الله) للتعلّق لا للتخلّق. قلنا: إن الإسم (الله) للتعلق لا (الألوهة)،التي هي مرتبة هذا الإسم..
__ (نكتة): لما كان سيدنا محمد حقيقة الحياة السارية في الموجودات،وكان كل من الأفراد الإنساني نسخة له،كان في كل إنسان حياة سارية في الموجودات،يعرفها المكاشف بها.وإذا أردت أن أوضّح لك طرفاً منها: فانظُر إلى موجود ما من الموجودات،فإنك تصوّره في عالم خيالك لسريان روحك في موجودية ذلك الموجود،فلو لم يكن لك ذلك السريان لما أمكنك تصوره في خيالك..وهذه النكتة لم يُنبّه أحد عليه سواي..
__ تحدّثنا عن إتّصافات النبي صلى الله عليه وسلم بالأسماء الإلهية من حيث المجاز..فلا نأمن من غلط أفهام الناظرين،فتحدّثنا عنها من طريق الظاهر دون الباطن..
__ الأصل في التحقّق بسائر الأسماء والصفات الإلهية إسمان: أحدهما (العلم)،والثاني (القدرة). فمدار (الأسماء الفعلية) على “القدرة”،ومدار (الأسماء الوصفية والذاتية) على “العلم”. فإذا ظهر أثرهما على العبد،فهو متّصف بما عداهما إلى تمام المئة أو إلى ما لا نهاية..
== (الباب الرابع): (معرفة ما في الإنسان من الأمور الكمالية والصفات الإلهية) ==
إبتدأ الجيلي الكلام عن (الأقسام الوجودية) وفصل القول فيها..ثم قال: و(الإنسان مظهر جميع ذلك كله)..فالإنسان عند المحققين هو (الوجود المطلق)،لأنه حاوٍ بحقيقته لجميع إقسام الوجود،أي أنه بكلّيته غير مقيّد بمرتبة من المراتب،لكنه يتقيّد لجزئيته بالمراتب.فإذن هو (المقيّد المطلق)..
ثم فصّل الجيلي القول فيما أجمله من كون (الإنسان مظهر الكل)..فبيّن:
أولاً: (مظهرية الإنسان للحق) ذاتاً وصفاتاً وأسماء وأفعالاً.
ثانياً: (مظهرية الإنسان للعالم) صورة ومعنى،علواًوسفلاً،ظاهراًوباطناً،فاعلية ومنفعلية.
لمّا توجّه الله تعالى لخَلْق العالم منه،خَلق روحاً كلياً سمّاه (حضرة الجمع والجود) لكونه جامعاً لحقائق الوجود،وسماه ب(القلم الأعلى) وب(العقل الأول)،وب(الحقيقة المحمدية) لكون “الحمد” مظهر حضرة الجمع والجود،وهو (الهيكل المحمدي).فهي وإن كانت لها مظاهر كثيرة فإنما تعيّنها بهذا الإسم،لكون سيدنا محمد (أكمل) مظاهرها. على أنه ما في الجنس الإنساني أحد إلا وهو مظهر هذه الحقيقة..فكان الإنسان (صورة حضرة الجمع والجود)،فرجعت إليه حقائق الموجودات بأسرها رجوع الفرع إلى الأصل..ومن ثمّ إستحقّ (الخلافة)..
إعلم أن الحقيقة الإنسانية هي مظهر من تجليات الألوهية (= أي من حيث قيومية الله تعالى له وللأكوان،أما الحقيقة الإنسانية من حيث نفسها فهي من العدم المقيّد / )..
كل فرد من أفراد النوع الإنساني عنده قابلية الكمال الإلهي،ولكن ما كل أحد، أحد مستعد لذلك..ف(الإستعداد) هو الذي يبلغك مرتبة الكمال..(= مثال: الصّقل والمقابلة للمرآة)..
__ للإنسان خصوصيات شريفة ليست للعالم الكبير..وكل ما في العالم في الإنسان ولا عكس.ومن ثمّ كان الإنسان أصلاً للعالم..العالم صورة،والإنسان روح تلك الصورة..(= ذكر مضاهاة الإنسان لكل شيء من الأشياء الموجودة في العالم الكبير،جملة وتفصيلاً،علواً وسفلاً..)..
__ وختم الجيلي كتابه ب(كيفية العمل الموصل إلى السعادة الكبرى)..
أول ذلك هو أن تعقد بقلبك وقالبك أنك مُسمّى ذلك الإسم الأعظم،ثمّ تشهد تلك الصفات الكمالية بكمالها،على سبيل المُلْك والمرتبة،لا على سبيل الحكم والمجاز. فإذا إستقام قلبك على هذا العقد،وإنتفى عنك الرّيب والخناس،وزال الشك والإلتباس،فإنك سوف تجد تلك الأوصاف فيك شهوداً وجودياً عيانياً.فإذا صحّ لك ذلك رجعت إلى تفصيل ذلك للأمر الإجمالي بفَتْق ما أرِيتوه من الأمر في المشهد الأول،فتأخُذ بالتعيّن بكل إسم وصِفة على حدّ ما هو عليه.فإذا تَمّ لك ذلك تنفتح عليك أبواب المناظر الإلهية، الغيبيةالشهودية،فيقع لك ضرورة الشهود بجميع ما كتب عقدك عليه،فتحصُل لك في هذا المقام لذّة عظيمة تُخرجك عن الحدّ البشري لوُجودك ما لَك من الكمالات وُجود تستغرق بلذاته جميع ذاتك،ثم تنتقل بعد ذلك إلى المشاهدة الحقيقية،وذلك هو المعبّر عنه ب(حق اليقين)..
وأنت برزخ بين بحرين: الأول هو الذي يقع عليه نظرك (بحر الألوهة)،والثاني هو الذي يقع عليه نظره منك (بحر الخلقية والعبودية).وهذا البحر هو الدرّ،يكون وراء ظهرك.والأول هو بين عينيك.فلا تزال كذلك مقدّس الذات،منزّه الصفات،ظاهراً بجميع التشبيهات،جامعاً للمعاني والتصوّرات،فاعلاً ما تريد من سائر الإرادات،عالماً بما هي عليه جميع الموجودات،عاملاً بما تقتضيه شؤونك في جميع الحالات.
انتهى تلخيص كتاب الكمالات الالهية في الصفات المحمدية وهو كتاب دقيق وفي العرفان الصوفي رقيق ليس في المتناول من اول وهلة ولا يتذوق من اول لحظة يجب قراءته وقراءته وبالتكرار يقع الاستقرار وكتب القوم تساعد السالك على السير وتتطلب الاستعداد والاجتهاد وتتطلب صحبة من سلك الطريق وكان اهل التحقيق .والله ولي التوفيق
واستغفر الله لي ولكم
اخوكم رشيد موعشي