ملخص كتاب:الكمالات الإلهية في الصفات المحمدية

الكمالات الإلهية في الصفات المحمدية

المؤلف: الإمام عبد الكريم الجيلي (767_832هـ).                                             مقدمة التحقيق: يمكن القول،بداية،أن موضوع هذا الكتاب هو: شرح مفهوم الحقيقة المحمدية بشتّى مشاربها،كمصطلح صوفي يشكّل أحد دعامات الفكر الصوفي من حيث المنهج السلوكي،إذ يُشيرون في مجمل هذا المصطلح إلى أنه حقيقة الحقائق وحضرة الحضرات،ويُوضّحونه بأنه النور المحمدي السّاري في كل الخلائق.. فكل صفة محمدية يُقابلها كمال إلهي،أو قُل: إن كل كمال إلهي يُقابله صفة محمدية.. والكمال الإلهي ليس المقصود به طبعاً الذات الإلهية ولا الكمال الذاتي،فلا أحد يستطيع أن يُعرّف الذات من حيث هي هي بشيء،وإنما الكمال هنا كمال الأسماء والصفات التي هي تجليات الذات،وكلّ عمل المتصوفة وأرباب العلوم وأصحاب الحقائق على هذا،يقول ابن عربي في كتاب المعرفة: عَزّ أن يُعرف له كُنه،بدا نوراً فاستتر عن الأبصار بنوره،وظهر فاحتجب عن البصائر بظهوره اهـ. وكمال الصفة الإلهية على إطلاقها لا تنبغي أيضاً لأحد من الخلق إلا للإنسان الكامل على وجه التعلّق لا التخلّق.. يؤكّد الجيلي على فكرة أولية في هذا الكتاب هي: أوليّة النور المحمدي، وهي فكرة قال بها الحلاج قبله،وهذه الفكرة اعتمد فيها كغيره من الصوفية على حديث جابر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر اهـ.. ونستطيع أن نؤكّد أن الجيلي اعتمد اعتماداً تاماً على ما قاله القاضي عياض في الأبواب التالية: الباب الثالث بفصوله من القسم الأول من كتاب الشفا،وخاصة فصل تفضيله في الجنة بالوسيلة،وفصل في أسمائه صلى الله عليه وسلم،ثم فصل في تشريف الله له بما سمّاه به من أسمائه الحسنى ووصفه به من صفاته العلا.. إلا أنك لا تستطيع أن تُنكر وجه التباين بين الفكرين والتصورين والرأيين عند القاضي عياض والجيلي.. يقول الجيلي: العالَم مظهر تجليات الصفات،والنبي صلى الله عليه وسلم مظهر تجليات الذات،وكما أن الصفات فرع عن الذات كذلك العالم فرع عن الحبيب اهـ،ويقول: باستيعاب النبي صلى الله عليه وسلم للكمالات الإلهية صورة ومعنى،وَصفاً وتحقّقاً،ظاهراً وباطناً. ويؤكّد ذلك قوله: إن رسول الله كان حقيقة ذاتية،ترجع إليها الكمالات الإلهية رجوع الصفة إلى موصوفها. ولهذا عبّر الجيلي عن الحقيقة المحمدية بأنها حضرة الجمع والوجود،وعبّر عنها بالذات. ودليله على ذلك: أن الكمّل ــ الأنبياء والأولياء ــ قبلوا من الكمالات الوجودية بقدر قوابلهم،وقبول سيدنا م حمد صلى الله عليه وسلم بقدر الله،وقدر الله لا نهاية له..

 نص الكتاب: الحمد لله الذي جعل محمداً في السر مظهر الكمال،وحلاّه من أوصافه بكل ما تعرّف به إلينا من الجمال والجلال، وخصّه بالوسيلة في مقام أو أدنى،ثمّ دَلاّه بعد ما أدناه ليظهر في العالم بأسمائه الحسنى،ومكّنه من القُرب المقدّس في المكانة العليا،وأحلّه من الجوار المؤنس في المستوى الأزهى،وجعله في العالم أُنموذج حضرة الحضرات، ومرآة ظهور حقائق الأسماء والصفات،فأنزل عليه آياته الكريمة ظهراً وبطناً،وعرّفه بحقائق الأشياء صورة ومعنىً. فله الحمد سبحانه أن جعله النسخة العظمى لمطلق العدم والوجود،وفتح على يديه أبواب خزائن الكرم والجود.. أما بعد: فلسان الكمال لم يزل مُنادياً في الأكوان بأفصح مقال: هلُمّوا إلى حقائقكم الإلهية من طريق الجمال والجلال. فالسعيد من سمع الدعاء،وعلى قُرب أجاب النداء،فسلك صراط الصفات والأسماء. والشقيّ من سلك طريق الحجاب،وعلى بُعد من السّبل المتفرقة الكونية أجاب.. اعلم أيها الأخ الطالب حصول الكمال،الراغب في سلوك الطريق المحمدي إلى ذي الجلال،أنه ينبغي لك أن تعلم ما أنت عليه وما هي حقيقتك التي هي أنت؟ وما هو الذي اشتملت عليه خزانة وجودك؟ وما هو المطلوب منك في إيجادك؟ وما هو الذي جمعه باطنك أو تلبّس به ظاهرك؟ وما هي النسبة التي بينك وبين الله حتى صحّت لمثلك الخلافة الكبرى والولاية العظمى؟. وكنت قد وضعت قبل هذا التاريخ كُتُباً متقنة لمعرفة ما هو الإنسان عليه؟ وما هي حقيقته؟ وما اشتمل عليه ظاهره وباطنه؟ وكيف يتسلّق إلى وصول معرفته بنفسه ليعرف ربه؟. فمنها ما سميته بكتاب: الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل،ومنها ما سميته: قُطب العجائب وفلك الغرائب،ومنه ما سميته: المملكة الربانية المودعة في النشأة الإنسانية. على أنّي بنيتُ هذه الثلاثة كُتب،دون سائر ما أمليته،بُنياناً عجيباً في فتح أبواب خزائن ما أودع الله تعالى في الإنسان،وأتقنتها إتقاناً غريباً،مُنقحاً بالعقل والنقل،مؤيّداً بالكتاب والسنة. لكنه لم يُقدّر لنا أن نذكر فيها النّسبة التي هي بين العبد وربّه،ولم يُقْضَ لنا أن نبيّن فيها علّة استحقاقه الخلافة الكبرى دون غيره من أجناس الموجودات وأنواع المخلوقات. وكنت أستهول القُدوم على هذا الأمر،وأستعظم كشف القناع عن وجه هذا السرّ،حتى كان أول ربيع الأول من سنة ثلاث وثمانمائة من تاريخ الهجرة النبوية،وأنا يومئذ بمدينة غزّة المحروسة،إذ برزت الإشارة الإلهية لي بوضع هذا الكتاب المسمّى في نص الخطاب بكتاب: الكمالات الإلهية في الصفات المحمدية،وشرعت مُستملياً من الكتاب في الكتابة، وبالله أُملي وهو الموفق للإصابة.. مقدمة: اعلم أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو النّسبة التي هي بين العبد والربّ،فآدم ومن دونه إنما استحقّ الاتصاف بالصفات الإلهية لكونه نسخة من سيدنا محمد،فينبغي لك أيها الأخ أن تعرف أولاً: صحّة كون النسبة التي بين الله وبينك. ثمّ ينبغي لك ثانياً: أن تعرف ما لله من صفات الكمال وما يستحقّه في قُدسه الكبير المتعال،ثمّ ينبغي لك ثالثاً: أن تعرف اتّصاف سيدنا محمد بتلك الأسماء والصفات الإلهية حتى تسلُك فيها طريقه القويم وصراطه المستقيم،وإنك لمحتاج أيها الأخ في سلوك طريقه إلى معرفة نفسك. ولأجل ذلك فتحت هذا الكتاب على أربعة أبواب: الباب الأول: في معرفة أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو النسبة بين الله وعبده. الباب الثاني: في معرفة ما لله من الأسماء والصفات. الباب الثالث: في معرفة اتصاف سيدنا محمد بالصفات الإلهية. الباب الرابع: في معرفة ما في الإنسان من الأمور الكمالية،وبيان كيفية الاتصال إلى ذلك..
الباب الأول: في معرفة أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو النّسبة التي بين الله وعبده: قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)،هذه الرحمة هي التي عمّت الموجودات جميعها،وإليها الإشارة في قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء) يعني: أن سيدنا محمداً هو الواسع لكل ما يطلق عليه اسم الشيء من الأمور الحقيّة والأمور الخَلقيّة.. والرحمة رحمتان: فرحمة خاصة،ورحمة عامة. فالرحمة الخاصة: هي التي يُدرك الله بها عباده في أوقات مخصوصة. والرحمة العامة: هي حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،وبها رحم الله تعالى حقائق الأشياء كلها،فظهر كل شيء في مرتبته من الوجود،وبها استعدّت قوابل الموجودات لقبول الفيض والجود. فلذلك أول ما خلق الله روح سيدنا محمد، كما ورد في حديث جابر: أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر اهـ،ليرحم به الموجودات الكونية فيخلُقها على نسخته،ويستخرجها من نشأته.. ولذلك سبقت رحمة الله تعالى غضبه، لأن العالم كله على نسخة الحبيب،والحبيب مرحوم.. ولذلك المعنى تَسمّى الله بالرحمن الرحيم،ولم يتسمّ بالغضبان ولا بالغضوب.. فعمّت الرحمة جميع الموجودات بسببه صلى الله عليه وسلم.. قال الله تعالى في الحديث القدسي: كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق اهـ، وكانت الموجودات في ذلك التجلّي الأزلي موجودة في علمه أعياناً ثابتة،قد علم من قوابلها أنها لا تستطيع معرفة عدم النسبة بين الحدث والقدم. والمحبّة مقتضية لظهوره عليهم حتى يعرفوه،فخلق من تلك المحبة حبيباً اختصّه لتجليات ذاته،وخلق العالم من ذلك الحبيب لتُصبح النسبة بينه وبين خلقه فيعرفوه بتلك النسبة. فالعالم مظهر تجليات الصفات،والحبيب صلى الله عليه وسلم مظهر تجليات الذات. وكما أن الصفات فرع عن الذات،كذلك العالم فرع عن الحبيب،فهو صلى الله عليه وسلم واسطة بين الله وبين العالم.. قال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتُكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتومنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين). وتنكير الرسول هنا للتعظيم باتفاق المفسرين،لا لكونه غير معروف.. (لتؤمنن به) دليل على أنهم لم يُدركوا الكمالات المحمدية بالكشف حتى تكون لهم مشهودة،وسبب ذلك أن الفرع لا سبيل له إلى أن يحيط بالأصل. فأخذ الله عليهم الميثاق أن يؤمنوا بكمالاته إيماناً بالغيب،ليكون ذلك سبباً لهم إلى المفاوز الذاتية، فيحصلوا بذلك في المراتب الأكملية ويلحقوا به،لعلمه أنهم لا يدركون ذلك إلا بواسطة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وسرّ هذا الأمر أنه مظهر الذات،والأنبياء مظاهر الأسماء والصفات،وبقية العالم العلوي والسفلي مظاهر أسماء الأفعال،ما خَلا أولياء أمّة سيدنا محمد فإنهم كالأنبياء مظاهر الأسماء والصفات،لقوله صلى الله عليه وسلم: علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل اهـ.. فلو لم يكن صلى الله عليه وسلم لما كان شيء من الموجودات يعرف ربه،بل لم يكن العالم موجوداً لأن الله ما أوجد العالم إلا لمعرفته، فأوجد النسبة أولاً،ثم أوجدهم من تلك النسبة لكي يعرفوه بها.. ولما كان صلى الله عليه وسلم علّة لوجودالعالم وسبباً لرحمتهم،وواسطة بين الله وبينهم، كان له مقام الوسيلة في الآخرة،لأن الخلق توسّلوا به إلى معرفة الله تعالى،وتوسلوا به في الوجود لأنهم خُلقوا منه،وتوسلوا به في كل خير ظاهر وباطن،فهو صاحب الوسيلة..
الباب الثاني: في معرفة ما لله من الأسماء والصفات،وما ينبغي أن يُنسب إليه وما ينبغي أن يُنزّه عنه ممّا لا يليق به سبحانه: اعلم أن الله تعالى له أسماء ذاتية لا سبيل للكون إلى معرفتها،فهي مُستأثرة عنده في غيبه،لم يدّخرها سبحانه بُخلاً بها على عباده،وإنما لكون قوابلهم لا يمكنها معرفة ذلك.. وبعض الأسماء مستأثرة عن بعض خلقه مُباحة للبعض، فهي من خصوصيات خواصه تعالى، فهذه الأسماء إنما استأثر بعض الخواص بها لعلوّ المحتدّ وحصول الاستعداد وطهارة المحلّ.. وله أسماء تعرّف بها إلى سائر خلقه فعرفوه بها،وهذه الأسماء المتعرّف بها إلى خلقه كثيرة لا تُحصى،وتجمعها مائة وسبعة وثلاثون اسماً تَسمّى بها سبحانه في كتابه الكريم،ويجمع هذه المائة والسبعة والثلاثين اسماً أسماؤه الحسنى التي هي تسعة وتسعون اسماً،ويجمع هذه الأسماء الحسنى اسمه الرحمن،ويجمع ما تضمنه اسمه الرحمن مع الاسم الذي هو تمام المائة اسمه الله. واعلم أن سائر الأسماء الإلهية تنقسم إلى قسمين: أسماء سَلب وأسماء إيجاب. فأسماء السلب كلها ذاتية،وأما أسماء الإيجاب فتنقسم إلى أربعة أقسام: القسم الأول: هي الأسماء الذاتية،منها أسماء ذاتية على الإطلاق،ومنها أسماء ذاتية على التقييد،فهي من وجه اسم ذات ومن وجه اسم صفة. فالأسماء المطلقة الذاتية هي: الله والأحد والحق،والمُضمر سبعة: هو وأنا وكاف الخطاب وتاء المتكلم وتاء المخاطب ونون المتكلم وياء الإضافة. فهذه عشرة هي الأسماء الذاتية. وأما الأسماء الذاتية المقيّدة،أعني التي تقيّد معنى الوصفية من وجه على أنها أسماء ذاتية،فهي سبعة: الرحمن والواحد والفرد والوِتر والصمد والقدوس والنور.                                  والقسم الثاني: هي الأسماء النفسية،وهي سبعة: الحيّ والعليم والمريد والقادر والسميع والبصير والمتكلم. والقسم الثالث: هي الأسماء الصفاتية،وهي على أربعة أقسام: فقسم هي الأسماء الكمالية،وهي أربعة عشر اسماً: الرحمن ــ من وجه لأجل المرتبة الرحمانية ــ والملك والربّ والمهيمن والحكيم والحكم والوليّ والقيّوم والوالي والمتعال والمقسط والجامع والغني والكامل. وقسم هي الأسماء الجلالية،وهي ثمانية عشر اسماً: الكبير والعزيز والعظيم والجليل والقهار والماجد والجبار والمتكبر والواسع والقوي والمتين وذو الجلال والمحيط والديّان والمجيد والشديد ورفيع الدرجات وذو العرش. وقسم هي الأسماء الجمالية، وهي ستة عشر اسماً: الرحيم والمؤمن واللطيف والخبير والحسيب والجميل والحليم والكريم والحميد والدائم والباقي والواجد والرؤوف وذو الطول والذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. وقسم هي الأسماء الإضافية،وهي ستة أسماء: الأول والآخر والظاهر والباطن والقريب والبعيد. والقسم الرابع: هي الأسماء الفعلية،وهي على قسمين: قسم يتعلّق بالجلال وقسم يتعلّق بالجمال، وهذان القسمان هما المشار إليهما بقدمي الرحمن المتدليّتين على الكرسي. فالقسم الذي يتعلّق بالجلال من صفات الأفعال هو سبعة عشر اسماً: القابض والخافض والمُذلّ والرقيب والشهيد والمعيد والمميت والمنتقم والمانع والضارّ والوارث وذو البطش وشديد العقاب والمضلّ والمُغني والمعدم والقاهر. والقسم الذي يتعلق بالجمال من صفات الأفعال هو أربعة وأربعون اسماً: البارئ والمصور والخالق والرزاق والغفار والوهاب والفتاح والباسط والرافع والمعزّ والمغني والحفيظ والمقيت والباعث والوكيل والمدبر والمحيي والموجد والمُبقي والنصير والرؤوف والمُصوّر والبَرّ وواسع المغفرة والتوّاب والعفوّ والمُنعم والشّكور والمعطي والجوّاد والنافع والهادي والمُحسن والمغيث وحسن التجاوز والبديع والرشيد والمجمل والمجيب والكفيل والحنّان والشافي والمُعافي والمُوسع. فهذه مائة وسبعة وثلاثون اسماً، تكرّر فيها الرحمن. والاسم الله هو الجامع الذي لا يختصّ بمرتبة دون أخرى،بل هو سارٍ في جميع المراتب وظاهر في جميع المظاهر ومُتصرّف في سائر الأفعال وبارز في سائر الشؤون،وهو اسم يتعلّق بحضرة الحضرات مرتبة المراتب وجامع لسائر الصفات ومُتسمّ لسائر أسماء الذات،وهو اسم الله الأعظم.. الذات الإلهية: اعلم أن الذات من حيث هي هي ليس لها بأيدينا اسم ولا صفة ولا نعت،لأنها حضرة الجمع والوحدة،وجمع الحضرات وفرقها،فليس لها ممّا تعرّف الله به إلينا اسم معيّن ولا صفة معيّنة. لأن الأسماء والصفات للتعيين والتمييز والفرق،وليس هناك وجهة فتتميّز عن أخرى ولا صفة فيتعيّن ثبوتها على معنى دون غيرها،ولا ثَمّ إلا وجود مطلق محض جامع للاسمية والوصفية والذاتية. ولهذا ذهب طائفة من أهل الله أن كلها أسماء صفات،حتى اسمه الله واسمه الرحمن،نظراً إلى هذه الحضرة الذاتية التي لا يقع عليها اسم ممّا تعرّف به إلينا ولا نعت ولا وصف ولا صفة بوجه من الوجوه،لأن الصفة إنما تكون لأجل التعرّف بمعنى من معاني الكمالات الإلهية،والاسم إنما يكون لأجل العَلَمية حتى لا يقع التنكير،وليس لحضرة الحضرات تخصيص تنكير ولا تعريف ولا ظهور ولا بطون ولا نسبة ولا إضافة ولا تعيين ولا غيب ولا شهادة. ولأجل ذلك قيل فيها: حقيقة الحقائق،لأنها لا تتقيّد باسم العدم ولا باسم الوجود. وغيرها مجازاً بحضرة الحضرات،لأنها لا تتعيّن ولا تنحصر بحضرة دون أخرى.. وعدم وقوع الأسماء على الحضرة الذاتية هو عين الاستتار،فالحضرة الذاتية كُنهها اسمها واسمها عينها وعينها علمها بها،ولأجل ذلك استحال أن يكون للمخلوق فيها نصيب بوجه من الوجوه،فلا سبيل لمخلوق إلى معرفة ذات الله تعالى. فإن كنت غيره فليس لك منه قدم،وإن كنت عينه فإنها مراتب،وهنا كلّت العبارات وضاعت الإشارات وانقطعت السبُل وحُسرت الإدراكات،وغرقت سفائن الصفات في هذا البحر الذي ليس له ساحل اسم ولا فيه منهج رسم فلا يعلم ما هو إلا هو.. الشؤون الإلهيةوالتنزّلات: اعلم أن الأسماء والصفات إنما هي لشؤون الحق تعالى في تجلياته،فكل تجلّ لا بد أن تكون له صفة،وكل صفة لا بد أن يكون لها اسم،فتعدّدت الأسماء لتعدّد الصفات،وتعددت الصفات لتعدد التجليات،وتعددت التجليات لتعدد التنزّلات، وتعددت التنزلات لتعدد الشؤون،وتعددت الشؤون لتعدد مقتضيات الكمال،وتعددت مقتضيات الكمال لتعدد المراتب،وتعددت المراتب لتعدد المظاهر،وتعددت المظاهر لتعدد الأسماء. فدار الأمر وانبهر،وصار أولاً ما كان آخراً.. واعلم أن أول التنزلات الذاتية من حيث الوجود والحكم،لا من حيث الترتيب والعدد،فهو التنزل المسمّى بالتجلّي العمائي،وإليه أشار بعض المحققين بالتجلّي العدمي،الذي لا يتعلق به علم ولا يُطلق عليه اسم الوجود،وهذا التجلّي هو باطن الأحديّة. والأحدية هي اسم للتنزل الثاني،وهو تجلّ وجودي ليس للأسماء وللصفات فيها ظهور. وكان هذا التجلي ثانياً لأنه وجودي،والتجلي الأول عدم،والعدم هو السابق والوجود هو اللاحق. وإنما سمّي التجلي العمائي عدمياً لكون الاسم المختصّ بهذا التجلي معدوماً،فلا يوجد في التعريفات الإلهية لها اسم. بخلاف الأحدية وهي باطن الوحدة،والوحدة باطن الوحدانية،والوحدانية باطن الفردية،والفردية باطن الفردانية،والفردانية باطن الألوهية،والألوهية باطن الرحمانية،والرحمانية باطن الربيّة،والربيّة باطن الملكية،والملكية باطن أئمة الأسماء السبعة النفسية،والأسماء النفسية باطن تجليات أسماء الجلال،وتجليات أسماء الجلال باطن تجليات أسماء الجمال،وتجليات أسماء الجمال باطن تجليات أسماء الأفعال،وكلّ تجلّ من هذه التجليات أنزَل ممّا قبله.. واعلم أن التجليات الإلهية على قلوب العباد لها من حيث المرتبة حُكم ومن حيث الظهور حُكم. فحُكمها من حيث المرتبة: عدم الجهة وعدم الممازجة وعدم الحلول وعدم الاتحاد،وعدم الانفصال والاتصال،وعدم التشبيه والصورة،وعدم التغيير. وحكمها من حيث الظهور: ما وقع التعريف حالة التجلي،فلا يستحيل ظهورها بالجهة والممازجة والحلول والاتحاد والانفصال والاتصال والتشبيه والصورة والتغيير،لأن الله تعالى يظهر فيما يشاء كما يشاء،فلا يُقيّده حُكم ولا يحصره حدّ ولا رسم.. فقد ظهر الحق تعالى لإبراهيم،وفي النار لموسى،وفي صورة المعتقدات لأهل المحشر،وقد نسب إليه اليد والقدم والوجه والعين والسمع والبصر والضحك والكلام.. فإيّاك أن تعتقد تنزيهاً بلا تشبيه أو تشبيهاً بلا تنزيه،بل كن مُنزّهاً إن ظهر فيما تعرف به من التشبيه،ولا تسلب عنه ما نسب إلى نفسه من التشبيه إن عرفته بالتنزيه،وأين المشبّه أو المنزّه من معرفة كمالاته التي لا نهاية لها.. شرح أسماء الله تعالى: ونقتصر فيه على الأسماء الحسنى التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم..هو: اسمه تعالى هو عبارة عن تجلّي الهوية التي هي غيب مجموع الكمالات الذاتية المعبّر عن مظاهرها بالألوهة،فالهو عبارة عن باطن معاني الكمالات الإلهية،واسمه الله عبارة عن ظاهرها.. الله: هذا الاسم الذاتي الجامع لسائر الأسماء والصفات،إنما هو للتعلّق لا للتخلّق،وسببه أن التخلق إنما يكون بأسماء الصفات،وهذا الاسم اسم للذات،ولكنه غير مقيّد بالإشارة إلى الذات فقط،فله ثلاثة أطوار: فطوراً يُطلق هذا الاسم على صرافة الذات،وطوراً يطلق على المرتبة من حيث تجلي الذات في الألوهية،وطوراً يطلق على اسم مخصوص من أسماء الله لوجود قرينة ما من القرائن،كقول التائب مثلاً: يا ألله،إنما أراد به: يا تواب.. واعلم أن هذا الاسم من حيث إطلاقه على المرتبة يكون اسم صفة كمالية،وصفة هذا الاسم بهذا الاعتبار هي الألوهة،وهي عبارة عن شمول مراتب الوجود أعلاها وأسفلها بإعطاء الحقائق الحقية والحقائق الخلقية حقّها من سائر الوجود والإطلاق،وهذا يعني أن الرحمن اسم صفة فالرحمة محتدّه،وعباد الله هم الكمّل وعباد الرحمن دونهم.. فهذا الاسم للأسماء كالذات للصفات،ولأجل هذا كانت الأسماء التسعة والتسعون الواردة في الحديث بعد هذا،وهذا الاسم معها بتمام المئة،فافهم.. واعلم أن هذا الاسم هو محتدّ ظاهر رسوله نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،والدليل عليه قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده) فأضاف روح سيدنا محمد إلى الهاء التي هي الهوية. فيُعلم من ذلك أن اسمه هو محتد باطنه صلى الله عليه وسلم،واسمه الله محتد ظاهره،لما تقرّر أن اسم الألوهة مظهر اسم الهوية. ولأجل هذا المعنى قال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله)،وقال: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)،وقال: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)،ولم يقل في شيء منها اسم آخر،بل جعل هذا الاسم عين سيدنا محمد في سائر ما أخبر به من حقيقة هذا التوحيد المحمدي،فجعل ظاهر سيدنا محمد نائباً مَناب اسمه الله تعالى،لأن المُتعيّن لحقائق الأسماء قبله هو البحر المحيط المعبّر عنه بالهوية،وإلى هذا البحر مرجع جميع الأسماء والصفات،وإلى هذا المعنى الإشارة في قوله تعالى له صلى الله عليه وسلم: (وأن إلى ربك المنتهى)،فنهاية التعرّفات إلى خلقه مرجعها التجلّي الإحاطي الجامع المُسمّى: الهوية،ولا نهاية للهوية.. فعُلم من هذه العبارات كونه صلى الله عليه وسلم جامعاً لسائر الكمالات من غير مزاحمة،منفرداً بها،وإلى هذا أشار بقوله: بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق اهـ،لإحاطته بالكمالات المتفرقة وجمعيته لها دون غيره،وعن ذلك عبّر بقوله: أوتيت جوامع الكلم،وعلمت علم الأولين والآخرين اهـ،ولهذا صحّت له الوسيلة العظمى التي لا تكون إلا لرجل واحد.. الرحمن: هو عَلم على الوجود المطلق الذي لا تنحصر موجوديته بشيء من الموجودات دون غيره،فهو عبارة عن زيّ الوجود الساري في الموجودات بحُكم الواحدية الظاهرة في الكثرات،من غير تقييد لمرتبة أو حمية أو نسبة أو اعتبار.. واعلم أن هذا الاسم من أسماء المرتبة،وهو في مدلوله يختص بالأسماء الكمالية والمظاهر الأعلوية،وهذا الفرق بين اسمه الرحمن واسمه الله: لأن اسمه الله يظهر لكلتا مرتبتي الوجود،من العلو والسفل،والحقية والخلقية،واسمه الرحمن إنما يظهر بالمرتبة الكمالية الحقية ليس إلا، ويجتمعان في وقوعهما على الذات إطلاقاً من حيث أن هذا الاسم عبارة عن ذي الوجود الساري فلا يتقيّد،واسمه الله عبارة عن الذات المطلقة من غير تقييد بصفة دون أخرى. فاجتمعا في الإطلاق،وافترقا في كون وقوع الاسم الله على الذات،ووقوع الاسم الرحمن على وجود الذات.. قال الله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) الآية،وهؤلاء هم الأبرار الذين: (يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً)،فجعل منهل عباد الرحمن ممزوجاً من شراب يشربه عباد الله صرفاً،فكان المزج للرحمانية والصرافة للألوهة.. واعلم أن الرحمن اسم صفة،بل كل الأسماء أسماء صفات له تعالى،فمنها ما هو صفة للذات،ومنها ما هو صفة للألوهة،ومنها ما هو صفة للأفعال. فاسمه الله له صفة الألوهة،واسمه الرحمن له صفة الرحمانية.. فعمّت رحمته الرحمانية جميع الوجود الحقّي والخلقي من جهة المرتبة الرحمانية،فبها ظهرت الأسماء والصفات،وبها ظهرت المخلوقات. وقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) يعني عرش الربوبية الذي هو حقائق الأسماء والصفات،والاستواء هو إعطاء تلك الحقائق مقتضياتها من الظهور والبطون والتقديم والتأخير،وسائر ما هو لها من الكمالات،لأن الاستواء هو العدل،والعدل هو إعطاء كل ذي حقّ حقّه.. الرحيم: هذا الاسم اسم صفة،وصفة هذا الاسم هي الرحمة المحض. والفرق بين اسم الرحمة الصادرة عن اسمه الرحمن وبين الرحمة الصادرة عن اسمه الرحيم: أن رحمة اسمه الرحمن لا تمتنع أن يشوبها كدر نقمة،ورحمة اسمه الرحيم لا يُمازجها كدر بوجه من الوجوه. والرحمة الصادرة عن اسمه الرحمن مثل وجود النعيم الدنياوي،فإنه لا بد أن تشوبها أكدار الفناء أو تمازجها في الوقت أكدار التعب في تحصيل ذلك النعيم. والرحمة الصادرة عن اسمه الرحيم هي مثل نعيم الجنة،فلا تشوب تلك النعم نقمة أبداً،وإلى هذه الرحمة المحض أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: إن لله مائة رحمة ادّخر لكم منها تسعة وتسعين رحمة إلى يوم القيامة وبثّ في الوجود رحمة واحدة فيها تتواصلون وبها تتراحمون اهـ،فالتسعة والتسعون هي رحمة اسمه الرحيم الذي لا يشوبه كدر،والواحدة هي رحمة اسمه الرحمن.. اعلم أن الرحمة السابقة للغضب،المشار إليها بقوله: سبقت رحمتي غضبي اهـ،إنما هي من حيث اسمه الرحيم لا من حيث اسمه الرحمن،لأن الاسم الرحمن جامع للأضداد،فالنقمة أيضاً تصدُر من محل اسمه الرحمن نظراً إلى موجِب يقتضي تلك الصفات الكمالية،فلا يظهر سبق الرحمة الغضب إلا في التجلّي الرحيمي لا في غيره. فعمّت الرحمة جميع الوجود أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً،بخلاف الغضب فإنه صفة للعدل،والعدل من صفات الفعل.. المَلك: هو الذي له الوجود بأسره،يتحكّم فيه بالقهر والغلبة بنهيه وأمره من غير احتياج إلى مُعين ولا اضطرار إلى رعيّة. وصفة هذا الاسم الملكيّة،وهي عبارة عن تجليات الحق بالأسماء الفعلية كلها في مظهر واحد،كما أن الربيّة عبارة عن تجليات الحق بالاسمية والفعلية معاً في تجلّ واحد،كما أن الرحمانية عبارة عن تجليات الحق بالأسماء الوصفية والفعلية والنفسية جملة في مشهد واحد،كما ان الألوهية عبارة عن تجليات الحق بالأسماء الذاتية والنفسية والوصفية والفعلية في مجلى واحد.. القدّوس: هو الذي تنزّه عن سائر صفات النقص تنزيهاً ذاتياً لا تنزيهاً صفاتياً،والفرق بين التنزيه الذاتي والتنزيه الصفاتي: أن التنزيه الذاتي هو سلبُك الشيء عمّن ليس ذلك الشيء من صفاته بوجه من الوجوه،كما تسلب الخشبية عن اللؤلؤة.. والتنزيه الصفاتي هو سلبك الشيء عمن لا تقتضيه صفاته،كما تسلب الجور والظلم عن المالك إذا تصرّف فيما يملكه.. وصفة هذا الاسم هي القدوسيّة، وهي عبارة عن التجلي الأقدسي الأول المنزّه عن حُكم المظاهر الخلقية. والفرق بين التجلي الأقدس والتجلي القدسي: أن التجلي القدسي عبارة عن ظهوره في المظاهر الخلقيّة بحكم التنزيه عن نقائصها،والتجلي الأقدس عبارة عن ظهوره لنفسه من غير مظاهر خلقية. فالأقدسية تجلّيه الغيبي،والقدسية تجلّيه الشهودي العيني. وحضرة القدس عبارة عن محلّ ظهوره في أيّ تجلّ كان الظهور،وذلك المحل هو علمه بنفسه،فحضرة القدس هو علمه بنفسه لأنه يظهر في علمه له.. السلام: هو الذي سلم حضرات حقائق الوجود من لحوقها بالعدم،ومنع المراتب من اختلاط بعضها ببعض. وصفة هذا الاسم هي السلامة،وهي عبارة عن تجليه تعالى في سائر أسمائه وصفاته التي سلم بها حقائق الوجود من مهالك العدم.. فهو السلام الذي يسلم الأشياء ممّا يُهلكها ويُتلفها.. المؤمن: هو الذي أعطى الموجودات أماناً من كل مالا تقتضيه حقائق ذواتها،فلا يلحق بكل فرد من أفراد الموجودات إلا ما تقتضيه حقيقته.. وهذا القسط والعدل هو عين الجود والفضل،لأنه به أعطى الموجودات مراتبها،ولو لم يكن كذلك لعدمت المراتب وبذلك حصل الكمال. لأنه لو لم يُعط الأشقياء شقاوة تقتضيها ذواتهم لكانت مرتبة الشقاوة معدومة من الوجود،وكان الوجود حينئذ ناقصاً مرتبة من المراتب.. ولهذا الاسم اعتبار آخر وهو: أن يكون المؤمن مشتق من الإيمان الذي هو صفة العبد الذي آمن بالله تعالى، فيكون المعنى: أنه سبحانه عين العبد الذي قد آمن به أنه عينه،وإليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: المؤمن مرآة المؤمن اهـ،وقوله: أنا من الله والمؤمنون منّي اهـ،يعني: والمؤمنون بالله أنه عينهم. منّي: يعني: حقيقتي هو الله،وأنا حقيقة من آمن أن الله حقيقته،دون غيرهم من سائر الموجودات وإن كان الكل منه،لأن المؤمنين ظهرت عليهم آثار السعادة دون غيرهم.. وصفة هذا الاسم هي الأمان،وهو عبارة عن تجليه تعالى بتجلي أكسب الحقائق الوجودية علماً وشعوراً بعدم المانع من حصول كمالاتها التي تقتضيه مراتبها من حيث هي هي،وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: كل ميسّر لما خُلق له اهـ.. المُهيمن: هو المطّلع على الحقائق والمقتضيات والمراتب والأحوال والأولية والآخرية،اطلاعاً إحاطياً سريانياً تفصيلياً من كل الوجوه على كل حال في كل آن. وصفة هذا الاسم الهيمنة،وهو عبارة عن تجلي اطّلاعي فيه يظهر تصريفه على ما اطّلع عليه تصريفاً بحكم الغلبة والقهر.. العزيز: هو الذي جلّت مكانته فلا يُذلّ،وبَعُد عن الأفهام فلا يُدرَك،واستغنى بذاته فلا يحتاج إلى غيره. وصفة هذا الاسم العزّة،وهي عبارة عن تجلّ إلهي فيه تظهر الكمالات الإلهية بمقتضى الكبرياء والمجد،من كل وجهوبكل اعتبار وعلى كل نسبة وفي كل شأن.. وهذا التجلي هو الذي منع الكون عن التطلّع إلى شيء من الصفات الإلهية،وهو في حق المخلوق أعظم حجاب بينه وبين الله تعالى،وبسبب حجاب العزّة صارت القلوب مجبولة على الذلّة.. الجبّار: هو الذي قهر بكبريائه فخضعت له الموجودات طوعاً وكرهاً.. وصفة هذا الاسم هي الجبروتية،وهي عبارة عن تجلي إلهي تظهر فيه العظمة الإلهية بضرب من القهر.. المتكبّر: هو الذي تعالى بالمجد والعظمة،وتعزّز في مكانته بالألوهية،فتكبّر عن أن يشاركه غيره في شيء من أوصافه.. وصفة هذا الاسم هي الكبرياء،وهي عبارة عن تجلي إلهي للكُنه الذاتي بما هي الذات عليه من عدم النهاية.. الخالق: هو الذي يُبرز صور الأعيان الحكمية الثابتة في علمه إلى عالم العين،فتكون مشهودة بالحس والتعيين بعد أن كانت موجودة بالحكم والتخمين. وصفة هذا الاسم الخالقية،وهي عبارة عن تجلّ إلهي يُعيّن ما سوى الله فيه بالوجود التام،بعد أن كان محكوماً عليه بالعدم العام.. البارئ: هو الذي أوجد ما لم يسبقه إلى إيجاده أحد.. وصفته هي البِراءَة،وهي عبارة عن تجلّ إلهي اختراعي يُظهر الله فيه الأشياء على حسب مُراده.. المُصوّر: هو الذي اختار لما يوجده هيئة معيّنة في علمه.. وصفته التصوير،وهو عبارة عن تجلّي إلهي يكون فيه إيجاد هيئة الأشياء على حسب ما تقتضيه ذواتها من حيث علمه بها.. الغفّار: هو الذي ستَر قُبح الإثم بحُسن الثواب،فذهب اسم الشر وجاء اسم الخير. والفرق بين العفوّ وبين الغفّار: أن العفو يصفَح عن الذنب فلا يعاقب عليه،والغفّار يصفح عن الذنب ثمّ يبدّله بالحسنة.. وصفة هذا الاسم هي الغَفر،وهو عبارة عن تجل إلهي بمطلق الجمال والحُسن،فينستر كل قُبح في الوجود. وفي هذا التجلّي يظهر بُطون الحق تعالى في الأشياء من غير حلول،وينكشف حجاب الواحدية عن وجوه الكثرة،ومن فيض هذا التجلي تصير الأبدال أبدالاً.. القهّار: هو الذي غلب نور وجوده القديم ظلمة وجود المحدثات،فتلاشت الكثرة تحت سلطان واحديته. وصفته هي القهر،وهو عبارة عن تجل واحدي لا يبقى لكونٍ معه أثراً.. قال تعالى: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) فالقهر للواحدية،ولأجلها لم يبق لشيء أثر. بخلاف باقي التجليات فإن منها ما يستلهم وجود الكون،كتجلي الخلاقية والرزاقية والرحمانية وأمثالها. وإلى اسمه الواحد أشار الجنيد بالقديم في قوله: المحدَث إذا قورِن بالقديم لم يبق له أثر اهـ.. الوهّاب: هو الذي وَهب الأشياء قوابل التقبّل بها من فيضه الأقدس ما تقتضيه انتشاءات تلك القوابل،ولأجل هذا قرن اسمه الوهاب باسمه الرزاق،لأن الأشياء لا تقبل أرزاقها إلا بالقوابل،فوهب لها القوابل أولاً من حيث اسمه الوهاب،ثم رزقها ما اقتضته القوابل آخراً فتمّ لها الوجود. وصفة هذا الاسم الوَهْب،وهو عبارة عن تجل جودي على مقتضى إيجادي بتصريف إيرادي على نسق علمي هو ثاني التجليات الفيضية،والأول هو الكرم الذي به يتعيّن تفصيل الإجمال الوجودي في أم الكتاب.. الرزّاق: هو الذي يعطي الأشياء ما اقتضته قوابلها،أرواحاً وأجساماً ومعاني.. وصفته الإرزاق،وهو عبارة عن تجل فيضي على قدر حُكمي.. واعلم أن الحقائق الحكمية لم تدخل تحت حيطة كُنْ لأنها لا وجود لها،ولا يدخل تحت حيطة كن إلا ما له وجود فحسب،فافهم.. الفَتّاح: هو الذي فتح ظلمة الكون بنوره،فمنح الأكوان وجوداً بوجوده تعالى فيها من غير حلول.. منح الأشياء مالا تستحقه بالأصالة ففتح عليها من خزائن جوده بذلك الوجود.. وصفة هذا الاسم هو الفتح،وهو عبارة عن تجلّي جودي إيجادي بهِ يتعيّن تفصيلاً ما انبهم من إجمال الوجود مَنحه وجوداً.. العليم: هو الذي يعرف ماهية الأشياء كما هي عليه جملة وتفصيلاً.. وصفته العِلم،وهو عبارة عن تجلي إلهي إدراكي فيهِ أوجد الله أعيان الحقائق على حسب ما اقتضاه ذلك التجلي بعلمه تعالى بالأشياء على حسب ما اقتضاه شأنه القديم،خلاف الإمام محيي الدين بن العربي فإنه قال: إن الحق إنما أعطته المعلومات العلم بها اهـ،ونحن نقول: إن المعلومات إنما تعيّنت في العلم على حسب ما اقتضته الشؤون الذاتية الأولية التي هي أم الكتاب،والعلم القديم الإلهي هو مظهر تلك الشؤون،فافهم.. ولقد سَهى الإمام المذكور في هذه المسألة سهواً فظيعاً فجعل علم الله مُستفاداً من الأشياء،ولو كان كما ذكر لم يصح له الكمال المطلق لاحتياجه في علمه إلى معلوماته،وتعالى الله عن ذلك.. القابض: هو الذي قبض إليه الكثرة الوجودية فاتّحدت عنده في المجلى المسمّى بالوحدانية.. وصفة هذا الاسم القبض،وهو عبارة عن ظهور التجلي الواحدي،فلا يبقى للأشياء ظهور لحكم قبض الواحدية لها،ومن هذا التجلي كل قبض في الوجود.. الباسط: هو الذي بسط نوره على مقتضى الأسماء والصفات فظهر آثارها،وهو الوجود الكوني. وصفته البسط،وهو عبارة عن تجلٍ رحماني به انتشر في الوجود ما كان مُنطوياً في العلم الإلهي،وكل بسط في الوجود من هذا التجلي الرحماني.. الخافض: هو الذي خفض،أي أنزَل،مرتبة الوجود الخلقي عن مرتبة الوجود الحقّي،على أن المُتجلّى في المرتبتين واحد. وصفته الخفض،وهو عبارة عن تجلي رباني فيه تظهر عزّة الربوبية فيلحق الخفض بالمربوب،وكل خفض في الوجود من هذا التجلي الرباني.. الرافع: هو الذي رفع مرتبة الربوبية عن مرتبة المعبودية،على أن المتّصف بالصفتين واحد،وإلى هذا المعنى أشار أبو سعيد الخراز بقوله: عرفت الله بجمعه بين الضدّين اهـ. وصفة هذا الاسم الرّفع،وهو عبارة عن تجلي كمالي يظهر فيه الحق سبحانه بما يستحقه من الكمالات التي لا تتناهى فيتعيّن استحقاقه بالرفع دون خلقه،وكل رفع لكون إنما هو من هذا التجلي،سواء كان رفع مكان كما حصل لإدريس وغيره أو رفع مكانة كما حصل لعيسى،أو كان رفع مكان ومكانة كما حصل لنبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. المُعزّ: هو الذي يظهر في المظهر الكوني فتذهب الذلّة المخلوقية لعزّة المتجلّي في ذلك المظهر،لأنه سبحانه إذا ظهر في مخلوق ارتفع عن ذلك المظهر حُكم الخلقية فجاء العزّ وذهب الذلّ.. وصفته العزّة،وهي عبارة عن تجلّي ذاتي في مظهر المكانة الإلهية.. المُذلّ: هو الذي يبطُن وجوده في الموجودات فيلتحق بها الذلّة لظهورها وبطونها.. وصفته الإذلال،وهو عبارة عن تجل إلهي من حيث البطون والاستتار في الموجودات فتذلّ لرجوعها إلى أنفسها.. وكل ذلّ في العالم إنما هو من هذا التجلي البطوني،فذلّ الخلق إنما هو لأجل بطون الحق واستتاره فيه،فلو ظهر أدنى ظهور في مظهر لارتفع حُكم الذلّ عن ذلك المظهر.. السميع: هو الذي يُدرك حقائق الأشياء من حيث منطوقيتها،فما ثمّ شيء من الموجودات إلا وهو ناطق بنُطق ما.. وصفته السمع،وهو عبارة عن تجلي علم الحق في الأشياء من حيث مسموعيتها،وسماعه للأشياء بسمع قديم إلهي.. البصير: هو الذي يُدرك الأشياء من حيث مرتبتها.. وصفته البصر،وهو عبارة عن تجلي علم الحق تعالى من حيث مرتبة معلوماته له،فبصره سبحانه مُدرك لما أحاط به علمه.. فالسمع يتعلّق بمنطوقية الأشياء،والبصر بمرتبتها.. الحَكَم: هو الذي فصَل بين الموجودات بإعطاء كل ذي حق حقّه من الجوهرية والعرضية واللازميّة والقبلية والبعدية والقُربيّة والعلوية والسفلية والأولية والآخرية والظهورية والبطونية والكمالية والنقصية والكبرية والصغرية،والقلّة والكثرة من حيث الهيئة،والكيفية والكمية والماهية،إلى غير ذلك من أحوال الكائنات.. وصفته الحُكم،وهو عبارة عن مقتضيات صفاته في الوجود لأنه سبحانه حكم عن الوجود بما تقتضيه صفاته،فليس للموجودات محيص عما تقتضيه صفاته من كل وجه وبكل اعتبار وعلى كل حال.. العدل: هو الحق الذي قامت به السماوات والأرض وما بينهما وما وراءهما،فهو محتدّ الموجودات وأصل المُعيّنات وهيولى الكائنات.. وصفته العدل،وهو عبارة عن نفي الظلم وعدم الميْل مع جهة على أخرى،لأنه تعالى لم يقض على الموجودات بما قضى عليها به إلا لما هو الأمر عليه ممّا تقتضيه صفاته التي هي أصل حقائق هذه الموجودات،فما قضى على ذلك الموجود إلا ما اقتضته حقيقته،ولا اقتضت حقيقته إلا ما اقتضته تلك الصفة التي تلك الحقيقة مظهرها،فلأجل ذلك اختلفت أحوال الموجودات وائتلفت على حسب الصفات التي هي مظهرها.. فما ظلمها في منعه لها ما لا تقتضيه حقائقها،بل رحمها لأنه خلقها من صفاته وجعلها مظهراً لها،وهذا هو سرّ سبق الرحمة الغضب.. اللطيف: هو الذي امتنع إدراكه بالأبصار،وتنزّه عن المكان فلا يتحيّز في الجهات والأقطار، وتعالى عن الحدّ فلا تعرفه العقول بالفهوم والأفكار،وهو مع ذلك أقرب إلى الأشياء من ذواتها وأظهر عليها من صفاتها غاية الإظهار.. وصفته اللطف،وهو عبارة عن سريان الرحمة بأنواع الإعانة والنعمة من غير انقطاع ولا امتناع.. الخبير: هو الذي يعرف الأشياء من حيثُها فيعلمها بها على ما هي عليه،وهذا هو الفرق بين اسمه العليم واسمه الخبير: فالعليم هو الذي أحاط علمه بالأشياء على ما هي عليه من حيثُه لا من حيثها،والخبير هو الذي أدرك علمه الأشياء من حيثها على ما هي عليه فعلمها بما اقتضتها ذواتها من غير جهل سابق بها.. وصفة هذا الاسم الخِبْرَة،وهي عبارة عن المعرفة التفصيلية الإحاطية الشمولية باعتبار عدم احتجاب المعلوم عن العالِم به.. الحليم: هو الذي لا يملّ عن الصفح مع كثرة إجرام المجرمين،ولا يُغيّره عن حُسن التجاوز قُبح مُداومة الإساءة مع العاصين.. وهذا الاسم من الأسماء المحيطة،والاسم المحيط عبارة عن كل اسم له سدنة يشملها حُكمه كاسمه الحيّ،فإن العليم والسميع والبصير والمريد والقادر والمتكلم سدنة له. وكاسمه العليم،فإن المريد والقادر من سدنته. وكاسمه المريد،فإن اسمه القادر والمتكلم من سدنته. وكاسمه القادر،فإن سائر أسماء الصفات الفعلية هم سدنته. فاسمه الحليم: اسم محيط وسدنته هم: الغافر والغفار والغفور والعفوّ والستّار وحُسن التجاوز،وما أشبه هذه الأسماء فإنها سدنة لاسمه الحليم. وصفة هذا الاسم الحِلْم،وهو عبارة عن تجل إلهي بما اقتضته أسماء الرحمة في العصاة لا بما اقتضته فيهم أسماء النقمة،فتقدّم الفضل هنا على العدل لسبق الرحمة الغضب.. العظيم: هو الذي عَلت مكانة نعت ذاته،وجاوزت حد النهاية في الجلال والكبرياء صفاته.. وصفته العظمة، وهي عبارة عن تجل إلهي بشمول الكمالات الإلهية تجلياً لا يُطيقه غيره للمقتضى الذاتي،فإن هذا التجلّي مما اقتضته الذات لذاتها.. الغفور: هو الذي لا يؤاخِذ على ذنب كائناً ما كان الذنب،والفرق بينه وبين اسمه الغافر: أن الغافر يختصّ بالمغفرة،والغفور يعمّ بها. فقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) هذا من حديث تجلي اسمه الغفار،فإنه تخصيص للمغفرة بما دون الشرك. فمفهوم أهل الظاهر من نص الآية: أنه لا يغفر الشرك على الإطلاق. ومفهوم أهل الحقائق منها: أنها لا يغفر الشرك في تجلي اسمه الغافر على التقييد،ويغفره في تجلي اسمه الغفور،وقد صرح بذلك في قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم)،فعُلم أن مغفرة الذنب على الإطلاق هو لتجلي اسمه الغفور،ولا ذنب أعظم من الشرك،فينبغي أن يكون داخلاً تحت هذا العموم.. وثَمّ نكتة: وذلك أنّا وجدنا لاسمه الغفار صفة وهو الغَفْر،ووجدنا لاسمه الغفار صفة وهو الغفران،ووجدنا لاسمه الغفور صفة وهي المغفرة،فهذه ثلاث صفات لثلاثة أسماء. ولم نجد لاسميه: القاهر والقهار،سوى صفة واحدة وهي القهْر،وسرّ ذلك كله هو قوله تعالى: سبقت رحمتي غضبي اهـ،فكانت أسماء الرحمة متعددة وصفاتها كثيرة،وأسماء النقمة بالنسبة إليها قليلة وصفاتها أقلّ.. واسمه الغفور صفته المغفرة،وهي عبارة عن تجل إلهي يظهر فيه الجمال المطلق من غير تقييد،فينكشف عند ذلك أنه تعالى هو الفاعل لأفعال العباد،وأن أفعالهم كلها كانت مليحة لأنها أفعاله،وأن لا نؤاخذه عليهم في ذلك لأنه الفاعل.. الشكور: هو الذي يُثني،عن عباده،على نفسه بما هو أهله ليكون ذلك أداءً،لعلمه تعالى أن الحقيقة الخلقية لا تفي نحو الحقيقة الحقيّة للعجز اللاّزم في ذوات المخلوقات،ومن ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك اهـ،يعني: عنّي بما تُقابل به نعمك التي أنعمت بها عليّ من عظيم ذاتك وكريم صفاتك. هذا تفسير اسمه الشكور على الحقيقة. وأما تفسيره على المجاز: فالشكور هو الذي يُثني على عباده بأعمالهم حتى تكون جميع أعمالهم حُسناً تنبيهاً بذلك على كونهم مؤدّين بذلك حق العبودية لأنهم فاعلون ما أراده منهم على كل حال سواء كان ذلك مُسعداً لهم بموافقته لأمره أو مُستيقناً مخالفته للأمر،وهذه نهاية العبودية لأن العبد إذا لم يُخرجه عن مراد سيده في وقت من الأوقات فقد أدّى ما عليه من حق العبودية لأن ذلك هو المطلوب منه،ومن ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: كل ميسّر لما خُلق له اهـ.. وصفة هذا الاسم الشّكر،وهو عبارة عن تجل إلهي يُثني فيه على نفسه بما يُقابل إحسانه على عباده،وهذا هو الفرق بين الشكر والحمد: لأن الحمد عبارة عن تجلي إلهي فيه يثني على نفسه بما هو أهله من صفاته التي هي له فيدخل فيه ما يقابل إحسانه على عباده وما وراء ذلك،ومن ثمّ قالت العلماء: إن الشكر ثناء يكون في مقابلة النعمة،والحمد ثناء مطلق يعمّ ما هو في مقابلة النعمة وما ليس هو في مقابلتها. فالحمد أعمّ من الشكر،ولأجل ذلك كان مخصوصاً بالله في أم الكتاب.. العليّ: هو الذي لا يشاركه في علو المكانة غيره،وعلو المكانة عبارة عن المعاني الكمالية التي اقتضتها الصفات الإلهية لذات واجب الوجود من حيث المرتبة،لأن الربوبية من حيث هي هي لها علو المرتبة في الحكم على العبودية من حيث هي هي لا من حيث التعيين والظهور فيها،لأن سبحانه هو الظاهر فيما سماه عبداً،كما أنه الظاهر فيما سماه ربّاً. فعلو المكانة من هذين المرتبتين مُلحقة بالربوبية من حيث هي هي لا من حيث الظاهر فيها،وسفل المكانة مُلحقة بالعبودية من حيث هي هي لا من حيث الظاهر فيها،لأن الظاهر في المرتبتين واحد. فالعلو والسفل من أحكام المراتب لا من ذاتياته، فتأمّل تفهم إن شاء الله تعالى.. وصفة هذا الاسم العلوّ،وذلك نوعان: الأول: علو الذات،وهو العلو المكاني،فمكانه الذاتي سبحانه هو علمه،ومكانه الصفاتي هو الوجود.. والثاني: علو المكانة،وهو ما تنفرد به المرتبة الحقية دون المرتبة الخلقية. وإلى ذلك أشرت في تفسير هذا الاسم بقولي: العلي هو الذي لم يشاركه في علو المكانة غيره،وتقييد عدم الشركة بعلو المكانة لا بعلو المكان،لأن المخلوق أيضاً له في العلم الإلهي مكان لعلمه تعالى به،ويُقال في الوجود أنه مخلوق أيضاً فحصل للمخلوق علو المكان على الإطلاق دون علو المكانة.. الكبير: هو الذي عظُمت ذاته،وأحاطت بجميع مراتب الوجود صفاته،فهو نهاية كل ظاهر ومظهر،ووراء كل باطن ومنظر،لا يُدرك كُنه ذاته ولا يُحاط بشيء من صفاته. وصفته الكبرياء،وهو عبارة عن تجلي إلهي بشمول ما لا نهاية له من الكمالات التي ليس في قابلية الوجود إحاطة بشيء منها على التعيين لا عيناً ولا علماً،من العظمة واللطف والتعالي والتداني والقرب والبُعد والتنزيه والتشبيه والبطون والظهور والجمال والجلال والرحمة والقهر والأولية والآخرية،إلى غير ذلك من النسب والإضافات والشؤون والاعتبارات والمعاني والأحكام والتعينات والأزلية والأبدية والسرمدية وعدم النهاية والتحقق بالأوصاف التي هي مردود غايات الغاية.. الحفيظ: هو الذي حفظ مراتب الوجود من الانعدام بظهوره فيها،فتجلّى بحقائق المراتب الوجودية أعلاها وأسفلها، كاملها وناقصها،محمودها ومذمومها،حقيها وخلقيها،فمنع تلك المراتب من التلاشي والانعدام لإيجادها بوجوده فيها. فإن المراتب من حيث هي مراتب لا وجود لها إلا بوجود أربابها وحلولها فيها،فإذا عدمت أرباب المراتب فقدت المراتب.. وصفته الحفظ،وهو عبارة عن الكلاءة الإلهية لآثار الأسماء والصفات بحيث أن لا يمنع بعضها بعضاً من إظهار الأثر،فإن لله تعالى أسماء متضادة فلو لم يمنع بعضها من بعض لطمس أنوار بعضها بعضاً،ولانعدمت الأسماء المتضادة بأسرها. فالحفيظ هو الذي يكلأ كل اسم وصفة من أن يؤثر فيها ضده من الأسماء الإلهية على الإطلاق،فلا تنعدم النقمة لوجود الرحمة،ولا تنعدم الرحمة لوجود النقمة، وكذلك جميع الأسماء والصفات المتضادة.. المُغيث: هو الذي يجود على الموجودات بإعطاء ما تقتضيه قوابلها. وصفته الإغاثة،وهي عبارة عن سرعة إجابة سؤال كل مضطر بإيصاله إلى المضطر إليه على ما تستحقه قابليته،وكل مضطر إلى أمره لا بد من وصول ذلك الأمر إليه على الحقيقة،لا يكون إلا هكذا. وما يتصوره الجاهل في الغريق أنه مضطر إلى النجاة،وقد هلك،فليس الأمر كذلك. لأنه إنما يضطر إلى النجاة من اقتضت قابلية هيكله البقاء في هذا العالم،والهالك إنما اقتضت قابليته الفناء من هذه الدار فلم يكن مضطراً على الحقيقة،إذ لو كان كذلك لم يهلك،وتلك الضرورة المتوهّمة إنما هي باعتبار العادة لا من حيث ما هو الأمر عليه في الحقيقة.. الحسيب: هو الذي تحدّى بالمجد المطلق الشامل لإفراد معاني الثناء. وصفته الحَسْب،وهو عبارة عن تجل إلهي بظهور المجد الباذخ والكمال الشامخ،على أنه من مقتضيات الذات الإلهية لذاتها لا لاعتبار ألوهية أو ربوبية،بل مجد ذاتي لما هو عليه في نفسه. فإن الصفة الواحدة إذا تجلّى بها الحق تعالى على أنها من مقتضيات ذاته كان لها حُكم بخلاف ما لو تجلّى بها على أنها من مقتضيات ألوهية أو ربوبية أو مرتبة من المراتب،وهذا الأمر وجدناه لله تعالى في تجلياته،وقد أهمل هذه النكتة جميع علمائنا فلم يذكره أحد منهم قبلي في كتاب على ما بلغه علمي.. الجليل: هو الذي عزّت مكانته علواً ومجداً،فلم تُدرك لها غاية ولم تُعرف لها نهاية،ولا نسبة بشيء من الموجودات إليه بالكلية،فعزّ وعلا جلالاً أن يُنسب إلى المجد المحض المطلق شيء سواه. وصفته الجلال،وهو عبارة عن حقيقة المجد الصرف المطلق الذي لا يختص بنسبة ولا اعتبار،بل من كل الوجوه وبكل الاعتبارات ولكل النسب. غير أن القهر من لوازم هذه الصفة،فلا بد من ظهور القهر ضمناً في التجليات الجلالية،ولأجل ذلك قال بعض مشايخ العراق: إن جهنم من التجليات الجلالية والجنة من التجليات الجمالية اهـ،ثم على هذا القياس جعل كل شيء ممّا يُلائم الطبع من آثار الجمال وكل ما لا يلائمه من آثار الجلال.. الكريم: هو الذي تكرّم على صفاته بتمييز حقائق بعضها من بعض،ثمّ تكرّم على حقائقها بظهور مقتضياتها علواً وسفلاً،حقاً وخلقاً،ثمّ تكرّم على مقتضياتها بظهور آثارها،ثمّ تكرّم على آثارها بإعطاء كل من المؤثرات حقّه بإبلاغه إلى نهاية ما ينبغي أن يكون عليه ذلك الشيء. ثمّ تكرّم على الشيء بأن تجلّى فيه بأسمائه وصفاته حتى صار ذلك الشيء بواسطة هذا التجلي أصلاً،لأن الأسماء والصفات راجعة إلى الذات وقد تجلّت في ذلك الشيء المؤثر فيه،فصار الفرع أصلاً والأصل فرعاً. ولهذا لم يتطرّق عليه اسم البخل بجهة من الجهات ولا بنسبة من النّسب،لأنه خلق هذا الوجود على أتمّ صورة،وأبرز به ما تنزّه عن الخلقية من صفاته على أكمل معنى. فتمّ الوجود المطلق بين خلق وحق،وبين صورة تُنسب إلى الخلق ومعنى يُنسب إلى الحق،وكل واحد من الصورة والمعنى بما هو عليه منسوب إلى الله تعالى،فالله تعالى هو الجامع. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (إن أرضي واسعة) يعني بالأرض هنا مرتبة الألوهة،فهي أوسع المراتب فقبلت أن يُنسب إليها الحق والخلق،بخلاف مرتبة الربوبية فإنها لا تقبل غير مرتبة حقيّة.. وصفة هذا الاسم الكرم،وهو عبارة عن إعطاء الإجمال الوجودي تفصيلاً تبلُغ به الموجودات الوجودية غاية الكمال،فيتعيّن كل شيء في مرتبته كما هو عليه الآن.. فلأجل هذا كان الوجود المطلق جامعاً لجميع المراتب والكمالات والمقتضيات والنسب والحقائق والصور والمعاني والوجوه والاعتبارات والإضافات،والعوالم الأعلوية والعلوية والسفلية،والنسب القِدمية والحدوثية،والنعوت الحقية والخلقية،وما تترتب عليه هذه الصفات من الذوات وهذه الأعراض من الجواهر،وما هو في وسع العلم أن يحيط به وما ليس كذلك. ومن ثمّ قالت الطائفة المحقّقة: إن الوجود المطلق هو الله.. واعلم أنه لا يثبُت مثل هذا العلم إلا بالإيمان أو بالكشف والعيان،وإيّاكأن تثبت إليّ شيئاً من التعطيل أو الاتحاد أو الحلول أو المزج أو الإلحاد،فإنّي بريء من جميع ذلك وممّن يقول به وأنت،فإن لم تفهم ما قُلته موافقاً للكتاب والسنة فأرجع الأمر فيه إلى الله.. الرّقيب: هو الذي لم يزل ناظراً إلى علمه،وعلمه لم يزل محيطاً بمعلوماته،فهو مراقب لمعلوماته أزلاً وأبداً. ومعلوماته تنقسم قسمين: القسم الذي له الأولية سبقاً في الحكم هو أسماؤه وصفاته،فهو مُشاهد لأسمائه وصفاته كما علمها لنفسه. والقسم الذي له التبعية لحوقاً في الحكم بالمعلوم الأول هو معلوماته الخلقية التي هي مظاهر تلك المعلومات الحقية. وإنما تأخّر هذا القسم الثاني،المعبّر عنه بالمظاهر،في الحكم لأجل الظهور،لأن البطون أصل والظهور فرع عليه،وإلا فنفس علمه بنفسه عين علمه بخلقه،لأن الخلق إنما هو عبارة عن تجلّيه لنفسه في مظاهر أسمائه وصفاته.. فالحق هو العلم والعالِم والمعلوم،وهو الشاهد والمشهود،لأنه مُشاهد لمعلومه ومعلومه عينه فهو مشاهد لعينه،أي مُراقب لذاته وأسمائه وصفاته.. وصفة هذا الاسم الرّقيبيّة،وهي عبارة عن دوام شهوده لذاته،وهذا الشهود على ثلاثة أقسام: قسم يسمى: شهود الذات للذات بالذات في الذات،من غير اعتبار الأسماء والصفات. وقسم يسمى: شهود الذات لذاته في أسمائه وصفاته. وقسم يسمى: شهود الذات لأسمائه وصفاته في ذاته. وهذان القسمان الأخيران فيهما تفاوت أوليائه،بخلاف القسم الثالث الذي هو شهود الذات للذات بالذات،فإنه مختص به ليس لاسم الخلقية فيه مجال،لأنه لم يسع اسم الحقية فضلاً عن اسم الخلقية. والقسمان اللذان فيهما تفاوت الرجال: فقسم يشهدون ذات الله في أسمائه وصفاته،وهو لعوام الأولياء،وأما الخواص فإنهم يشهدون أسماءه وصفاته في ذاته،وكم بين من عرف بالذات ومن عرف بالأسماء والصفات. فأهل القسم الأول هم العارفون،وأهل القسم الثاني هم المحققون وهم أهل الطائفة. فالعارفون يشهدون الخلق مظهراً للحق،لأنه تعالى تجلّى فيهم بأسمائه وصفاته،فيشهدونه كما تجلّى. والمحققون من وراء ذلك يشهدون الحق مظهراً للخلق،لأنهم وجدوا الحق تعالى يشهد خلقه في علمه وعلمه في نفسه،فهو يشهد خلقه في نفسه،وحينئذ يكون تعالى هو المظهر والخلق هو الظاهر في ذلك المظهر،فهم يشهدون الخلق كما يشهدهم الحق،والحق يشهدهم ظاهرين في علمه وعلمه ذاته،وهذه المشاهدة هي المراقبة على الحقيقة.. المُجيب: هو الذي يمنح الحقائق الوجودية ما سألته منه،بلسان الحال أو بلسان المقال،ما تقتضيه أحوالها في كل وقت مخصوص،أو ممّا تهواه نفوسها بطريق التشوّف إلى ذلك الشيء المسؤول. فالذي تقتضيه أحوال تلك الحقائق هو السؤال الحالي،والذي تهواه نفوسها هو السؤال المقالي،وكلا السؤالين لا بد من حصول الإجابة منهما. فأما ما يقتضيه الحال فالإجابة واقعة على الفور،وأما ما تهوى له نفوسها،فما كان منها موافقاً للحال تعجّل حصوله،وما كان غير موافق للحال الوقتي تأخّر حصوله ولا بد من وقوعه،إما في الدنيا وإما في الآخرة.. واعلم أن السؤال ينقسم ثلاثة أقسام: فقسم ضروري،وهو ما يقتضيه الحال. وقسم نفسي،وهو ما يتمناه المرء ولا يقتضيه حاله. وقسم تعبّدي،وهو إما لعبادة الله تعالى أو لإظهار الفقر والفاقة إلى الله تعالى فقط.. والسائلون على ثلاثة أنواع: نوع عرفوا من ذواتهم ما تستحقه قوابلهم. ونوع عرفوا مقتضيات ذواتهم. ونوع وهم السائلون عبادة،فمنهم من يسأل ويطلب حصولالمسؤول،ومنهم من يسأل امتثالاً أو لإظهار فقر،فالأول من عبيد النفس والثاني من عبيد الله.. وصفة هذا الاسم الإجابة،وهي عند المحققين: موافقة الإرادة الإلهية لسؤال العبد،سواء تقدّم حصوله أو تأخّر.. الواسع: هو الذي تجلّى بجميع المظاهر الوجودية،من الوجوبية والإمكانية والصورية والمعنوية والحكمية والأثرية والعينية والعلمية والفرضية والقولية والفعلية والخيالية والحسية والتنزيهية والتشبيهية. فكان عين جميع ذلك من وجه واحد ومن كل الوجوه،وكان غير ذلك جميعه من وجه واحد ومن كل الوجوه. ثمّ هو في ظهوره لا يكون شيئاً غير ما ظهر،بل هو عين ذلك من كل الوجوه.. فلا تُدرك له غاية من وجه واحد ولا من كل الوجوه،فهو الواسع الذي قَبل الضدّين وتجلّى بالوصفين،وكان عين الشيء وخِلافه.. فصدقت عليه جميع الاعتقادات ووقعت عليه جميع العبارات،وما صدقت عليه جميع الاعتقادات ولا وقعت عليه عبارة من العبارات. كلّت الألسُن عن حصر ما هو عليه،وانحسرت العقول السليمة عن الوصول إليه. أحاط بالكون عدماً ووجوداً،ولم يُحط الكون به. ووسع الأشياء كلها علماً وذاتاً وصفة،ولم يسعه شيء. وأما قوله تعالى: ما وسعني أرضي ولا سمائي،ووسعني قلب عبدي المؤمن اهـ،فهذا الوُسْع عند المحققين إنما هو عبارة عن قبول القلب للألوهية من حيثه لنفسه على أنه الله،وهذا المعنى لا يتّسع له شيء من المخلوقات سوى قلب الإنسان الكامل لأنه مظهر الذات،وما سواه فمظاهر الأفعال والأسماء والصفات. والإنسان الكامل ولو عرف أنه هو الله وتحقق بما تحقق به من الأسماء والصفات،فإنه لا يبلغ غاية الكنْه الذاتي ولا يستوفيه بوجه من الوجوه.. وهذا الاسم من أسماء الصفات عند المحققين،ومن أسماء الأفعال عند العارفين. فالوسع الصفاتي: عبارة عن تعيّنه بجميع المظاهر التي لا نهاية لها،من غير تقيّد مع وجود القيد،ولا تحديد مع وجود الحد،ولا عدم مع وجود العدم،ولا وجود مع الوجود،إمكاناً ووجوباً،حقاً وخلقاً،صورة ومعنى،ظاهراً وباطناً،وأولاً وآخراً. والوسع الفعلي: عبارة عن دَرْكه للموجودات كما هي عليه بأحوالها وشؤونها وتغيراتها وكل ما يُنسب إليها من جميع وجوهها ومقتضياتها،على الحيطة والشمول،علماً وعيناً وإدراكاً.. الحكيم: هو الذي تجلّى في المظاهر بما تستحقه قابلية كل مظهر،من غير زيادة ولا نقصان،فأعطى كل ذي حقّ حقّه. وصفته الحكمة،وهي عبارة عن إظهار القدرة تحت ملابس الأسباب بوضع كل شيء موضعه من الترتيب اللاّئق بالعلم الإلهي،وأعطى كل حقيقة في الوقت المخصوص ما تقتضيه من الظهور والبطون والتعالي والتسفّل والنقص والكمال والتقديم والتأخير والإيجاد والإعدام والتقليل والتكثير،وغير ذلك من أحوال الأكوان التي هي عبارة عن شؤون الرحمن.. الوَدود: هو الذي أحبّ تكثير الوحدة،فظهر بواحديته في كثرة الأكوان كثيرة. فالوحدة هي الكثرة ولا يقع التعريف بها،والكثرة هي الظهور وبها وقع التعريف.. وصفة هذا الاسم الودّ،وهو عبارة عن التوجّه الإرادي الحبّي لا لعلّة،بل لمقتضى الذات. فلولا المحبة ما كان هذا الظهور،ولولا الظهور لما عُرف الله تعالى.. فالمحبة هي الواسطة بين الكثرية والظهور،ولأجل ذلك كان الحبيب المخلوق منها صلى الله عليه وسلم واسطة بين الله وبين خلقه،وتلك هي الوسيلة الكبرى التي لا تكون إلا لرجل واحد وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. المجيد: هو الذي عظُم،فالجلال من صفاته،وعزّ. فالكبرياء من خصوصياته،والعظمة ذاته،والعزّة صفاته.. وصفته المجد،وهو عبارة عن تجلّي شمول صفات الكبرياء والعظمة بالذات له من غير علّة ولا منازع.. الباعث: هو الذي بسط هذه الكثرة الوجودية من الوحدة الذاتية،فبعثها من ظلمة الغيبوبة إلى نور الشهادة،فأحياها بأن جعل لها من حياته حياة سمّاها بحياتها،وأفرد وصفها عن وصفه كما أفرد ذاتها عن ذاته،فتقول في الوجود باعتبار مخلوقيته أنه غير الله،وتقول في بقاء الوجود أنه بإبقاء الله،وتقول في حياته أنها فانية،كما أنك تقول في عين تلك الحياة بنسبتها إلى الله تعالى إنها سرمدية. فلولا انبعاث التكثير من الوحدة لما تغيّرت النّسب،بل ولا ظهر شيء من الأسماء والصفات،ولا من النسب والإضافات،لأن الوحدة مُنافية لجميع ذلك.. وصفته البعْث،وهو عبارة عن تجلّي الكثرة وتعيّن الذات باسم الغيرية وظهور الصفات المعنوية بالمظاهر الصورية،وجملة ذلك عبارة عن الظهور بعد البطون.. الشّهيد: هو الذي تعيّن بالمظاهر الشهادية،وشهد تعيّن نفسه بنفسه،فهو الشاهد والمشهود وهو الشهادة. ولأجل ذلك كان صيغة فعيل تأتي للفاعل والمفعول،فيصحّ في اللغة أن يُطلق الشهيد على الشاهد،ويصح أن يُطلق الشهيد على المشهود،فهو جميع الوجود شاهده ومشهوده. وإلى ذلك أشار عيسى عليه السلام بقوله: (وكنت عليهم شهيداً ما دُمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرّقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) إشارة إلى أنه عينُه،يعني: لمّا كنت ظاهراً كنت شاهداً عليهم،وأنت المشهود. فلما بطُنت فيك وظهرت أنت،كنت أنت الشاهد وأنا المشهود. وصفة هذا الاسم الشهادة،وهي عبارة عن الظهور الإلهي بجميع المظاهر،حقيّة كانت أو خلقية،مع قبول جميع النّسب والإضافات والأحوال والشؤون التي تلحق بأوصاف الخلق وأوصاف الحق. فالشهادة هي التعيين والظهور،والغيب هو الاستتار والبطون.. الحقّ: هو الواجب الذي لا يقبل الضدّ،وهذا الاسم إنما هو للذات الإلهية،واعتبار الوصفية فيه على سبيل المجاز. وصفته الحقيّة،وهي عبارة عن تميز الذات الإلهية بصفات الكمال عن الذات الخلقية. واعلم أن هذا الاسم قد يُطلق ويُراد به الذات الموصوفة بالكمال،المُمتازة عن صفات الأكوان. وقد يُطلق ويُراد به الذات الظاهرة في الملابس الكونية بما هي الأكوان عليه،وهذا هو الحق المخلوق،وإليه الإشارة في قوله تعالى: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق).. وقد يُطلق ويُراد به اليقين،وهو الحق الذي في مقابلة الباطل،لأن اليقين إذا ظهر في أمر زال خلافه.. الوكيل: هو الفاعل عن الخلق بالخلق،لأنهم عاجزون عمّا يُراد بهم وذلك عين ما خلقهم لأجله. فهو الوكيل المطلق،وَكّله العبد أم لم يُوكّله،لأنه الفاعل جميع أفعال الخلق. فليس للخلق على الحقيقة فعل ولا قوة ولا قدرة ولا إرادة مخصوصة،وإنما إرادتهم وقوتهم وقدرتهم وأفعالهم جميعاً بحكم التبعية لله،فاسم الفاعلية للخلق مجاز وحقيقته لله تعالى.. وصفة هذا الاسم الوَكالة الإلهية،وهي عبارة عن قيامه بأمر الكون لافتقارهم إليه في ذواتهم لأجل تكميلها ببلوغ حقائقهم غاية الكمال اللاّئق بهم. فوكالته عنهم هو تدبيره لهم بأخذ نواصيهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم الأبدية التي خُلقوا لها.. القويّ: هو الذي حمل على الكون أعباء تجلياته،وإلا لعُدم العالم الكوني بأسره بشدّة ظهوره.. وصفته القوّة،وهي عبارة عن تجل إلهي حَفظ به أعيان الممكنات في مراتبها من التغيير والتحول والتبديل والزوال. واعلم أن القوة الإلهية هي الظاهرة في الأكوان الفاعلة والمتحوّلة،فظهورها في الأكوان الفاعلة بملابس العناصر الأربعة التي هي النار والهواء والماء والتراب. فكل فِعل ينفعل في العالم بواسطة هذه العناصر إنما هو بالقوة الإلهية المتسترة في هذه الأركان،وإلى ذلك الإشارة بقوله: لا حول ولا قوة إلا بالله.. فاعلم حينئذ أن القوة الباصرة والقوة السامعة والقوة الشامة والقوة الذائقة والقوة الماسة،وجميع القوى الباطنة كالقوة العقلية والفكرية وغير ذلك،جميعها قوة الله تعالى. وتأمّل ذلك منك على الدّوام،ولا تنظُر شيئاً إلا وأنت تعلم أن قوة البصرية لله،وكذلك لا تسمع ولا تشمّ ولا تذوق ولا تلمس إلا وأنت تعلم في حال فعلك أنه بقوة الله تعالى لا بغيره.. المَتين: هو الذي لا ينقطع كماله ولا يتناهى جلاله ولا ينفذ مُلكه،الذي هو مظهره وجماله،فلا تُحيط به معرفة ولا تُكيّفه عبارة. وكل تجلٍ ظهر به على الكون فإنما هو حجاب عليه،والكون يزعُم أنه عرفه بذلك التجلي،وهو سبحانه يتعالى عن معرفة الكون،ولمّا تحقّق الكمّل هذا المقام قالوا بالعجز عن الإدراك. وهذا الاسم عند المحققين من أسماء الصفات،وعند العارفين من أسماء الأفعال،وصفته المتانة الإلهية. فمن حيث كون هذا الاسم من أسماء الصفات،تكون المتانة الإلهية عبارة عن عدم الغاية للكُنه الإلهي الذي لا يُحاط به.. وأما من كون هذا الاسم من أسماء الأفعال،فالمتانة الإلهية عبارة عن عدم لحوق العجز به سبحانه بحال من الأحوال.. الوليّ: هو المتولّي أمر الوجود بذاته،المتجلّي في ذلك بأسمائه وصفاته.. وهذا الاسم يستحقه الإنسان الكامل إذا كان الإنسان متولياً لله بذاته وصفاته لذاته وصفاته،وكان التولّي الإلهي للعالم الكوني راجعاً إليه كما هو راجع إلى الله تعالى،فيكون الوليّ هو الله تعالى،قال تعالى: (فالله هو الوليّ)،وقال: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). فالله ولي العالَم،والإنسان الكامل وليّ الله. وصفة هذا الاسم الوَلاية،وهي عبارة عن مرتبة التصرف الكمالي في الوجود من غير مانع ولا عجز ولا عن نيابة،بل تصرّف المالك في مُلكه،وذلك هو مقام القطب الأكبر الغوث الجامع.. الحميد: هو الذي أثنى على ذاته بمقتضيات صفاته حقّ الثناء الواجب له في نفسه كما هو أهله. وصفته الحمْد،وهو عبارة عن التجلي الإلهي بما يستحقه لنفسه في نفسه بحمده،هو تجلّيه بالكمالات كلها على الحيطة والشمول ظهوراً للجمال والجلال وحيطة لجميع أوصاف الكمال.. فلهذا حصلت المناسبة الكلية بين اسمه وبين الحمد،والحمد هو مقام النبي صلى الله عليه وسلم،وإلى ذلك المعنى أشار بقوله: وله لواء الحمد اهـ،والله هو المحمود،وهو حقيقة المصطفى المعبّر عنه في اصطلاح القوم بالحقيقة المحمدية.. المُحصي: هو الذي أحاط بتجلياته إدراكاً ووجوداً،وأحاط بخلقه كما هم عليه عِلماً وشهوداً. ومن عرف الفرق بين الإحاطتين ذوقاً كان من أهل المعرفة الخاصة،ولا يعرف ذلك إلا أهل الله. وصفته الإحصاء،وهي عبارة عن تعيّن المعلومات في العلم الإلهي بكل وجه وكل نسبة وعلى كل حال،تفصيلاً وإجمالاً،وعيناً وشهوداً،ووجوداً وحقيقة وحُكماً.. المُبدئ: هو الذي أظهر الكثرة المعبر عنها بالأسماء والصفات مع مقتضياتها،التي هي عين المخلوقات الوجوديات والحكميات،في الأحدية الذاتية المعبّر عنها بحضرة الجمع والوجود وحقيقة الحقائق. وصفته الإبداء،وهي عبارة عن ظهوره تعالى بالتعينات الشؤونية للاقتضاءات الكمالية في المظاهر الوجودية من الأسماء والصفات الإلهية أو غيرها من الأعيان الخلقية والأحكام الوجودية والمعاني الحكمية،على ما هو عليه من غير تغيير للكثرية المخفية ولا انصرام للمرتبة البطونية.. المُعيد: هو الذي أخفى حُكم الكثرة في الأحدية المحض،حتى لا يظهر فيها خلق ولا حق ولا صفة ولا نعت ولا اسم ولا رسم،بل ذات مجردة ا ظهور فيها ولا بطون ولا نسبة ولا إضافة.. وصفته الإعادة،وهي عبارة عن رجوع الصفة إلى الذات والاسم إلى المسمى والمعلوم إلى العلم والعلم إلى العالم،والمتعيّن إلى مرتبة اللاّتعيّن،ولهذا قال الجنيد: النهاية هي الرجوع إلى البداية اهـ،يعني: نهاية الإنسان الكامل أن يرجع إلى التجلي الأحدي الذي هو مجمع البحرين،وحضرة الجمع والوجود،وحقيقة الحقائق،التي لا اسم لها ولا صفة. ومن الناس من أخذ قول الجنيد على ظاهر الأعمال فقال: نهاية العارف أن يرجع من الحق إلى الخلق فيعمل بأعمال أهل البداية،وهذا تأويل سائغ.. المُحيي: هو الذي تجلى في نظره إلى الوجود بتعينه فيه،فلو رفع نظره من الوجود لانعدم الوجود بأسره دفعة واحدة،فحياة الوجود بنظر الله إليه. وصفته الإحياء،وهو عبارة عن إظهار الصفة الوجوبية الإلهية في المظاهر الإمكانية ليترجّح جانب الوجود منها على جانب العدم.. المُميت: هو الذي بطن عن تعيّنه في المظاهر الكونية بنظره إلى ذاته من غير مظهر كوني لئلا يبقى ما سواه فيرجع كل شيء إلى أصله من العدم،ويظهر هو بالوجود المطلق. وصفته الإماتة،وهي عبارة عن إخفاء الصفة الوجوبية الإلهية عن المظاهر الإمكانية ليتميّز جانب العدم بذلك على جانب الوجود منها،فتنعدم لبطونه صفة الوجوبين فيها عن أحوالها وأوصافها فتموت بإماتته لها وما هو إلا بطونها فيه.. الحيّ: هو الواجب لذاته،الكامل في صفاته،الظاهر في كمالاته. وهذا الاسم هو إمام الأئمة ومُقدمها،والأئمة هي الأسماء السبعة النفسية التي هي: الحي والعليم والمريد والقادر والسميع والبصير والمتكلم. واسمه الحيّ إمام هذه الأئمة،لأنها لا تكون إلا لحيّ،فالحيّ هو المقدّم عليها.. وصفته الحياة الإلهية،وهي عبارة عن الوجود الساري المطلق في جميع الموجودات التي بها صحّ ظهور الحق والخلق.. القيّوم: هو الذي قام بنفسه،وقام به غيره. وصفته القيومية،وهي عبارة عن ظهوره بذاته في صفاته،وبصفاته في مخلوقاته بتكميل المراتب الوجودية على حسب مقتضيات الشؤون الذاتية،بما هو أهله مما هو عليه الوجود المطلق والمقيّد.. الماجد: هو الذي نظر إلى ذاته بالتعظيم،فأظهر لذاته بذاته ما لم يكن مستوراً عنه من المجد الشامخ والعز الباذخ،على مقتضى الكبرياء والعظمة والجلال والثناء،وهذا المعنى لا يعرفه إلا الغرباء. وصفة هذا الاسم المجد،وهو عبارة عن نظره إلى ذاته بما هو عليه من العظمة والكبرياء التي لا نهاية لها. والفرق بين المجد الذي هو صفة اسمه الماجد،وبين المجد الذي هو صفة اسمه المجيد: الذي هو صفة المجيد،عبارة عن ثبوت صفات العظمة والكبرياء كما هو عليه. والمجد الذي هو صفة الماجد،عبارة عن نظره إلى ذاته بتلك الصفات التي لم يزل ناظراً إليه بها. فلا تتوهّم أن هذا عين ذلك،فما في أسماء الله شيء مكرّر،بل كل اسم له معنى على حدة،وكذلك جميع آيات كتاب الله تعالى ليس فيها تكرار.. الواجد: هو الذي كمُل بذاته فلا يفقد شيئاً من كمالاته بوجه من الوجوه ولا بنسبة من النسب،بل هو واجد لجميع أسمائه وصفاته،من جماله وجلاله وكماله،على أتمّ الوجوه وأكملها وأجمعها وأشملها. وصفته الوجود،وهو عبارة عن تحقّقه بالكمالات ظهوراً وبطوناً،صورة ومعنى،غيباً وشهادة،علواً وسُفلاً،حقاً وخلقاً،حُكماً وعيناً،حيطة وشمولاً،قيداً وإطلاقاً.. الصمد: هو الذي استند الوجود المطلق في إطلاقه إليه،وقام الوجود المقيّد في تقييده عليه. فالمعنى في هذا الاسم هو توجه الوجود الكل إليه في شيئيته وموجوديته،مع غناه في وجوده إلى موجود سواه.. وصفته الصمدية،وهي عبارة عن تجلي استغنائي يظهر فيه افتقار الموجودات كلها في وجودها إليه.. القادر: هو الذي يُبرز الأعيان الثابتة من المحل العلمي إلى المحل العيني من غير مفارقة لها عن المحل العلمي،إبرازاً بحكم الإرادة المطلقة من غير علّة،بل حسب ما اقتضته الشؤون الذاتية والأحكام الصفاتية.. وصفته القدرة،وهي عبارة عن الصفة التي بها تظهر الكمالات الإلهية،وحقيقة القدرة قوّة ذاتية عظموتية لا يُعجزها أمر.. المُقتدر: هو الذي يفعل ما يريد من غير عجز ولا تقييد. وصفته الاقتدار،وهو عبارة عن فعل ما لا يقدر غيره عليه.. المقدّم: هو الذي جعل الأمهات الأول مقدمة الوجود في الحكم على نتائجها ومولداتها،ورتّب ذلك في جميع الحقائق الوجودية كلها،قديمها وحديثها،حقيّها وخلقيها. فالتقديم في الحقائق الحقية القديمة كما هو بيّن ظاهر بين اسمه الحيّ واسمه العليم،للاقتضاء الذاتي من حيث عدم وجود عالِم بغير حياة تقديراً،فهذا تقديم حُكمي إلهي. والتقديم الحُكمي الخالقي هو مثل تقديم وجود الهيولى على وجود الصور،وتقديم وجود العناصر على الأركان،وأمثال ذلك.. وصفة هذا الاسم التّقديم،وهو عبارة عن تجلي تفصيلي بهِ ظهرت المراتب الأولية وتميّزت المراتب العالية الحُكم،ومن هذا التجلي اتصافه تعالى بالقبلية لأن قبليته ليس بتقديم الزمان،إذ الزمان نفسه مخلوق،فكيف يصحّ تقدّمه على المخلوق بمخلوق،فعلم من ذلك أن تقدّمه بالمرتبة لا بالزمان.. المؤخّر: هو الذي جعل المولّدات مؤخرة الوجود على أمهاتها الأوّل في الحقائق القديم،كتأخّر اسمه الخالق على اسمه القادر،وفي الحقائق المُحدثة كتأخّر النبات عن وجود المعدن والحيوان عن وجود النبات والإنسان عن وجود الحيوان. وصفته التأخير،وهي عبارة عن تجل تظهر به المراتب الآخرية اللاّحقة بالمراتب الأوليّة لُحوق إضافة لا لحوق مرتبة،فإن الأولية في نفسها لا يصحّ ظهورها إلا بوجود الآخرية وكذلك الآخرية لا يظهر وجودها إلا بوجود الأولية،فهما اسمان لمرتبة واحدة،ولو فهمت التغايُر بينهما فإن ذلك التغاير في مقتضياتهما لا في المرتبة.. الأول: هو الذي وجوده بنفسه،فلا يتوقف وجوده على غيره،وبذلك صحّت له الأولية. فالوجود الخلقي متأخر عن مرتبة الأولية فهي لله وحده،وقد علمت ممّا مضى أن أوليّته تعالى لذاته لا لنسبة المخلوق إليه،فلو احتاج في شيء من صفات الكمال إلى غيره لم يكن كاملاً بالذات،وهذا معنى لا يفهمه إلا الأفراد الكمّل المقدّسون عن الانحصار بالقيود العقلية والحدود القياسية.. وصفة هذا الاسم الأوليّة،وهي عبارة عن وجوب الوجود الذي لا يسبقه عدم لأن كل وجود سُبق بالعدم لا يكون أولاً،بل العدم أوّله.. الآخر: هو الذي لا نهاية له،بل هو نهاية كل نهاية وغاية كل غاية. فاتصافه بهذه الصفة غير متوقفة على وجود مخلوق،بل هي لما هو عليه في ذاته وصفاته.. وصفة هذا الاسم الآخرية،وهي عبارة عن أحد صفتي وجوب الوجود الذاتي،فلعدم سبقه بالعدم كان أولاً،ولعدم لحوقه بالعدم كان آخراً،فالأولية والآخرية وصفان للواجب بذاته.. الظاهر: هو عين الموجودات المحسوسة والمعقولة والمعلومة والحكمية الشهادية والغيبية. وصفته الظهور،وهو عبارة عن تعيّنه تعالى بجميع المُتعيّنات الشّهادية والمظاهر الغيبيّة والمجالي الحكمية جميعها في المراتب العلوية والسفليّة والتقديسية والتشبيهية والحقية والخلقية. فلأجل ذلك بطُن لأنه لا وجود لغيره حتى يظهر على ذلك الغير بكل وجود،إنما هو وجوده. فهو من حيث ظهوره باطن ومن حيث بطونه ظاهر،وكل موجود سواه إنما يكون ظاهراً من جهة باطناً من غير تلك الجهة،بخلافه سبحانه وتعالى. ومنه قول الطائفة: احتجب الحق لشدّة ظهوره.. الباطن: هو الذي من وراء المحسوسات والمعقولات والمعلومات والحكميات الشهاديات والغيبيات. فكل ما تصوّر في الحال أو خطر بالبال أو شاهدته بالعين أو سمعته بالأذنين أو أدركته بالعلم أو ميّزته بالفهم،فالله تعالى من وراء ذلك كله باطن لا تعرفه،ومُحيط لا تُحيط به فتنعتُه أو تصفه. واحذر من أن تميل إلى أحد الطرفين فتقف عند اسمه الباطن دون معرفة اسمه الظاهر،أو تقف عند اسمه الظاهر دون معرفتك باسمه الباطن،فالله تعالى هو الظاهر وهو الباطن.. وصفة هذا الاسم البُطون،وهو عبارة عن العماء الذاتي الذي هو صرافة الذات المحض في حضرة لا يُنسب فيها الوجود والعدم ولا حضرة. وهذه الحضرة هي باطن الأحدية،تنزّلت الأحدية عنها لوجود نسبة الوجود في المشهد الأحدي من غير وجود نسبة،إذ الأحدية مُستغرقة بجميع النّسب والإضافات والنعوت والأسماء والصفات،فهي وجود محض،ولذلك كان المشهد العمائي باطناً لها.. الوالي: هو الذي وَليَت صفاته آثارها حتى ظهرت المؤثَرات،فصفاته هي الحاكمة في مؤثّراتها بالولاية في وجود صفات الحق تعالى،فهي التي ترفع وتضع وتوجد وتُعدِم وتُدني وتُقصي وتُعزّ وتُذلّ،فلا يصدر من الذات فعل في الوجود إلا بواسطة صفة،والأسماء كلها على الحقيقة صفات.. وصفة هذا الاسم الولاية،وهي عبارة عن الحكم والتأثير في الأكوان بمقتضى الصفات الإلهية والقوابل الخلقية. فالحكم عليها إنما هو بمقتضى قوابلها التي خلقها مجبولة عليه،والتأثير فيها إنما هو مقتضى الصفات الإلهية،وبينهما لطيفة.. المُتعالي: هو الذي تجلّى قدره عن الانحصار بمرتبة دون أخرى،فلا ينضبط العارف ولا يُدرك العالم،ولا يُقيّد بتقييد ولا إطلاق. وصفته التعالي،وهي عبارة عن وجود تنزيهه في تجلّيه بالمجالي التشبيهية،فهو تعالى عين ذلك المظهر وغيره،وهو على ما هو عليه من التنزيه والكمال والجمال والجلال في كل مظاهره الخلقية والحقيّة.. البَرّ: هو الذي لا يتخلّل جوده فترة،بل هو المانح بدوام تجلياته في الوجود،وبدوام تجلياته دام الوجود وتنوّعت أحكام العالم ودار أمر الكون على النظام الأكمل.. وصفته البِرّ،وهي عبارة عن الفيض الإلهي المطابق للقابلية الواقع موقع حصول الفاقة من الوجود.. التوّاب: هو الذي يتجلّى على الكون في كل آن بتجلٍ يؤثر في الكون حالة أحسن للوقت من الحالة التي كان الكون عليها قبل ذلك التجلي فيتوب الكون،أي يرجع عن تلك الحالة التي كان عليها إلى ما هو أعزّ منها في الحال.. وصفته التوبة،وهي عبارة عن الرجوع لأنها مشتقّة من التأويب وهو الترجيع. فالتوبة بالنسبة إلى الله،عبارة عن ظهوره في كل يوم إلهي بتجلٍ غير ما ظهر به من التجليات في غيره من الأيام الإلهية،لأن الحق تعالى لا يتجلّى بتجلٍ واحد مرتين في الوجود.. والتوبة بالنسبة إلى الكون تنقسم إلى قسمين: فتوبة حالية: وهو رجوعها عمّا هي عليه في كل آن تحكُم ما هي عليه من التجلّي كما سبق بيانه. وتوبة فعلية: وهي التوبة المشروعة التي هي عبارة عن الرجوع ممّا هو سبب البُعد عن الله إلى ما هو سبب القُرب إليه.. المُنتقم: هو الذي يفعل ما أراده من كل ما لا يُلائم طبع الكون بحجة بالغة على الكون،حملاً على أن حصول عدم ذلك الغير الملائم إنما هو لسوء أدب صادر من الكون،وعلى الحقيقة إنما هي صفات إلهية تقتضي من الكون في كل زمان حالة مخصوصة،ولا بد للكون من التلبّس بتلك الحالة. غير أن لتلك الحالات مظاهر في الأكوان جارية على قانون الحكمة عدلاً لا جوراً،فأيّما كونٍ ظهرت عليه حالة تسمى معصية لا بد أن تظهر عليه حالة تسمى انتقاماً. فهي بالنظر إلى المصدر الأول تجليات إلهية من غير علّة،وهي بالنظر إلى الكون مُجازاة على حسب الأعمال والأحوال. وصفة هذا الاسم الانتقام،وهو عبارة عن إظهار أثر اسمه العدل في الكون بضرب من القهر لا لعلّة،بل لمقتضى صفاته الإلهية.. العَفُوّ: هو الذي لا يؤاخذ المجرم بفعله،بل يترك عنه نسبة فعل الإساءة إليه،لأنه على الحقيقة لم يفعل لك،إن الله هو الفاعل الأصلي،فيتفضّل على ذلك المظهر المسمّى المجرم برفع نسبة فعل الإجرام عنه.. وصفته العفْو،وهي عبارة عن معاملة المسمّى بالفضل لا بالعدل.. الرؤوف: هو الذي رحم الكون بتجليه فيه من غير حلول،ولولا تجليه في الكون لعُدم الكون بأسره في أسرع من طرفة عين. وهذا التجلّي المخصوص الحافظ للكون من الانعدام هو عبارة عن نظره تعالى إلى العالم نظر العناية المنبعثة من الرأفة،ولولا الرأفة لما حصلت العناية.. وصفته الرأفة،وهي عبارة عن شمول الرحمة للكون في سائر أحواله حتى لا يكون الكون في حاله إلا وقد شملته الرأفة،سواء ظهرت فعرفها الكون أو خفيت عنه فلم يعرفها.. مالِك المُلك: هو الذي له وجود الأشياء،فهي له لا لها.. والمُلك،الذي هو عبارة عن ما سوى الله،جميعه مظاهر له،والحق هو الظاهر في هذه المظاهر بمقتضيات أسمائه وصفاته. فهو سبحانه يُجري أحكام مظاهره على حسب ما اقتضته شؤونه الذاتية،وتنوّعت به كمالاته الصفاتية.. وصفته المِلكيّة،وهي عبارة عن تحقّق المالِك بجميع ما نُسب إلى مملوكه،من الوجود والسببيّة والأفعال والأقوال والحركات والسكنات،وجميع أحوال المملوك بأمرها حتى لا يستقل المملوك بأمر من الأمور،لا حُكماً ولا وجوداً،بل تكون راجعة إلى المالك حقيقة،ونسبتها إلى المملوك مجازاً،فما ثَمّ إلا الله مالك المُلك.. ذو الجلال والإكرام: هو الذي عظُمت ذاته وعظّمته مخلوقاته،فذو الجلال عبارة عن التعظيم بذاته تعالى،وذو الإكرام عن تعظيم الكون له،فذو الجلال والإكرام هو العظيم المُعظّم. وهذا الاسم هو الذي حجب القلوب عن المعرفة الإلهية،لأنه تعالى جبَل المخلوقات على تعظيم ذاته سبحانه وتعالى،فلأجل ذلك لا تستطيع أن تخرق حُجب العظمة شُهود الجلال الإلهي للأكوان،فترجع إلى حضيض الذلّة والمسكنة،فلا تعرف الله تعالى.. وقوله تعالى: (وما قدروا الله حقّ قدره) هو على الحقيقة في حقّ جميع المخلوقات، محجوبين كانوا أو مقربين. فالأنبياء والأولياء وغيرهم من الملائكة المقربين والكروبيين العلويين جميعاً (وما قدروا الله حق قدره) اللاّئق بذاته،ولكنهم قَدروه حق قدره اللاّئق بذواتهم،فما قدروه حق قدره على الإطلاق.. واعلم أن العارفين من الكمّل المحققين مجتمعون في مقام التوحيد،عارفون له بالأحدية الخاصة التي لا تنكشف إلا لأوليائه وأنبيائه،ولكنهم إنما يتفاوتون في معرفة قدره، وذلك أمر من وراء التوحيد،وهو عبارة عن حقيقة التعظيم الإلهي المتجلّي من منظر الجلال والإكرام،فمن تحقق في هذا المقام كان هو القطب والختام.. وصفة هذا الاسم: الجلال والإكرام،وهما عبارة عن تجل ذاتي بالكمالات الإلهية في ظهور المجد والكبرياء لتأخذ الصفة العظموتية حقّها من كل الجهات عظمة وتعظيماً. فالعظمة له والتعظيم للكون،فهو العظيم والكون هو المعظّم.. المُقسط: هو الذي أعطى الفاعلية للمرتبة الحقية،وأعطى المفعولية للمرتبة الخلقية فقط بالعدل،وأعطى كل ذي حق حقه من الوجود. فالتنزيه والكمال من صفات المرتبة الحقية،والتشبيه والنقصان من صفات المرتبة الخلقية. فإذا ظهر الحق بما للخلق أو ظهر الخلق بما للحق،فالحق كل واحد منهما بمرتبته،فأضف التنزيه إلى الحق والتشبيه إلى الخلق،وأسند الكمال إلى القديم والنقصان إلى المحدَث،فقد قال تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وحقيقة الأمرين إلى الذات الإلهية،وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى: (قل كل من عند الله). وصفة هذا الاسم القِسْط،وهو عبارة عن إعطاء القوابل مقتضياتها على الإطلاق بالعدل السابق والحكم الماضي بما هو لها،وعلى النفسية بما تستحقه القابلية في كل وقت مخصوص من الأمور التي اقتضتها إجمالاً.. الجامع: هو الذي جمع بذاته متفرقات التجليات الوجودية،فكان عين الأشياء العلوية والسفلية والصورية والمعنوية والحسية والعقلية والحقية والخلقية. فجمع الأضداد بحكم الجمع وحكم المعرفة،فهو الجامع المطلق غيباً وشهادة،مُلكاً وملكوتاً،حدوثاً وقِدماً،وجوداً وعدماً. وصفته الجمْع،وهو عبارة عن ظهور الوحدة السارية في الكثرة بكل الوجود والاعتبارات وسائر النسب والإضافات،في الشمول بالكليات والجزئيات في المراتب العلويات والسفليات،جمع أحدية محض كما يجمع البحر أمواجه،بل كما يجمع الشيء الواحد واحديته الغير المنقسمة.. الغنيّ: هو الذي لا يحتاج إلى غيره في شيء من كمالات وجوده،وهذا هو الغِنى الذاتي. وقال الإمام محيي الدين بن العربي: إن الغني إنما هو للذات فقط،وأن الصفات لا يُطلق عليها أنها غنية اهـ،ثمّ قال: لأن وجود الذات محتاج إلى وجود مربوب،وهذا الكلام يقتضي الحكم بتغيير القديم عما كان عليه لأنه حدث له بوجود المربوب ربيّة،فازداد مرتبة من مراتب الكمالات بغيره اهـ.. الحق تعالى هو عين هذه المؤثرات فيها لأنه حقيقة الوجود بأسره،وهذه مسألة لا يُخالفنا فيها أحد من أهل الحقائق. فإذا كان الله هو حقيقة الوجود جميعه،المؤثّر والمؤثّر فيه،بطُل القول باحتياج أسمائه وصفاته إلى شيء غيره. وإذا كان كذلك صحّ ما قُلناه من أنه تعالى غني بذاته وأسمائه وصفاته،غير محتاج إلى سواه في شيء من كمالاته.. وصفة هذا الاسم الغِنى،وهي عبارة عن وجوب وجود كماله بوجوب وجود ذاته.. المُغني: هو الذي أغنى حقائق الموجودات بإيصال ما تقتضيه قوابلها إليها،فهي غير محتاجة في بلوغها الكمال المعين لها بالنظرة الأصلية إلى شيء سوى حقيقتها،فكل حقيقة من حقائق الموجودات مُستغنية بالله عما سواها.. وصفته الإغناء،وهو عبارة عن تجلي جمالي بالمحاسن الإلهية في كل موجود لتظهر كل حقيقة بما هي عليه من الجمال الإلهي فتستغني بذلك عما سواها.. المانع: هو الذي منع الحقائق عما لا تقتضيه قوابلها منّة عليها وفضلاً،وإلا لفسدت وهلكت. وإلى ذلك أشار تعالى بقوله: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزّله إلا بقدر معلوم)،فلا يُعطي إلا على قدر القابلية ولا يمنع إلا ما تقتضيه القابلية،والقابلية لا تقتضي ما قدره لها وفطرها عليه.. وصفته المنْع،وهو عبارة عن تجل إلهي حجب كل حقيقة وجودية بوجودها عن غيرها،فلا تتّسع لما سواها بحال،فلا تأخذ الأمور إلا بقدر قابليتها من كل شيء.. الضارّ: هو الذي أخفى وجوده في الموجودات حتى بدا ضرّها وظهر نقصها فرجعت إلى حضيضها،فببطونه فيها ظهر ضرّها وافتقارها،وذلك الضرّ عين نفعها لأن به صحّ لها الوجود المجازي.. وصفته الضرّ،وهو عبارة عن انستار الكمال وظهور العجز والنقص على الإطلاق،وهو على مراتب كثيرة،وجميع ذلك راجع إلى انستار الكمال وظهور النقص.. النافع: هو الذي أظهر محاسنه في الموجودات حتى لمعت بوارق الجمال في جميع العالم.. وصفته النّفْع،وهو عبارة عن ظهور الكمال وانستار النقص،والنفع على مراتب كثيرة كلها راجعة إلى ظهور كمال وخفاء نقص.. النور: هو الذي به ظهر الوجود من العدم المحض،وتميّز الحق من الخلق،وعرفت المراتب وبانت المطالب. فاسمه النور هو الذي أظهر أسماءه وصفاته،وأظهر آثارها.. وهذا الاسم عند المحققين اسم ذاتي لأنه عَلَم على الذات التي هي النور المحض والحق الصرف،وطائفة من العارفين قائلون بأن هذا الاسم من أسماء الصفات. وصفته النورية،وهي عبارة عن الموجودية المحض،فما لم يكن وجود له فهو ظلمة محض،ولهذا قال المحققون إن هذا الاسم اسم ذاتي لأنه عبارة عن الوجود المحض الذي لا عدم فيه.. الهادي: هو الذي أخذ بنواصي الأكوان إلى محل سعادتها،وسلَك بها على الطريق المستقيم في حق كل منها،فهداها بذلك إلى بلوغ كمالها الذي خُلقت له. قال تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) فشَهد لهم بالعبادة،لأن التسبيح عبادة،فهم عابدون قائمون بما خلقهم من أجله. ولهذا قال تعالى: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) لأن الطريق الذي أخذ بناصية كلّ إليه هو طريق سعادة ذلك الشيء،فهو مستقيم في حقّه مُعوجّ في حق غيره،وهذا هو محض الهداية،قال تعالى: (وهديناه النجدين) أي الطريقين،المسمّى أحدهما سعادة والآخر شقاوة،وهما راجعان إليه لأنه تعالى منتهى كل سالك.. وصفة هذا الاسم الهداية،وهي عبارة عن إرجاع الكون إليه بسلوك الطريق الذي خُلق ذلك الكون من أجله. والهداية نوعان: هداية مطلقة وهداية مقيّدة. فالهداية المطلقة: هي رجوع الكون إليه بالضرورة على أي طريق كان،لأن كل طريق يكون موصلاً إلى الله فسلوكه هداية،سواء كانت طرق السعادة أو كانت طرق الشقاوة.. والهداية المقيّدة نوعان: فنوع هو هداية العوام: وهو اتباع الرسل بالسلوك إلى الله تعالى على الطريقة التي شرعها نبي ذلك الوقت. والنوع الثاني هو هدايةالخواص: وهو أن سلوك العبد إلى الله على الطريقة التي كان عليها نبي ذلك الوقت بباطنه،وهذا النوع إنما هو بعد حصول الهداية الأولى التي هي هداية العوام.. فالهداية الثانية هداية الله،قال تعالى: (إن هُدى الله هو الهُدى)،والهداية الأولى هداية إلى الله،قال تعالى: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من يُنيب). فالعوام التابعون شريعة الله: هداهُم الله إليه،والخواص التابعون أحواله: اجتباهم الله وهداهُم هُداه.. البديع: هو الذي أظهر ما لا يعلمه غيره قبل إظهاره له،فهو تعالى مُبدع على الدوام لأنه يخلُق العالم في كل وقت خَلقاً جديداً،وبَصره على نظام لم يكن العالم عليه قبلها ولا بعدها. وهذا التغيير واقع في ذوات العالم عند المحققين،وخالفهم في ذلك أهل الكلام فقالوا: إنما التغيير واقع في الأعراض لا في الجواهر،ولم يعلموا أن تغيير العرَض لازم لتغيير الجوهر نفسه بالذات.. ولولا التغيير لدامَ العالم،ولا دوام للعالم،بل العالم كالعرض على الوجود الحقيقي والعرض لا يبقى زمانين.. وصفة هذا الاسم الإبداع،وهو عبارة عن ظهور تجل مخصوص في كل شيء مخصوص على نمط مخصوص بمقتضى مخصوص،من غير تكرار أو إعادة.. قال تعالى: (كل يوم هو في شأن) وهذا اليوم ليس من أيامنا،التي هي عبارة عن زمان طلوع الشمس وزمان غروبها،بل هو عبارة عن تجليات الحق تعالى،فهو سبحانه له في كل تجلّي مخصوص شأن مخصوص.. الباقي: هو الذي لا يتغيّر تجلّيه في الوجود،لأن الواجب بذاته يجب أن تكون أسماؤه وصفاته كلها واجبة بوجوب ذاته. وإذا كانت كذلك فتجلياته واجبة،لأن التجليات إنما هي لأسمائه وصفاته،وهذا التجلي البقائي العام هو الشامل للتجليات الجامع لها.. وهذا الاسم عند المحققين من أسماء الصفات الإلهية،وهو عند البعض من أسماء الصفات النفسية،لأن طائفة من علماء الكلام ذهبوا إلى أن الصفات النفسية ثمانية: السبعة المذكورة في أول الكتاب،والثامن هو البقاء الذي هو صفة هذا الاسم. والبقاء هو: عبارة عن السرمدية التي لا أول لها ولا آخر،فهي باعتبار الأولية الحكمية تسمى أزلاً،وباعتبار الآخرية الحكمية تسمى أبداً،وباعتبار التوسط بين الأولية والآخرية يسمى أمَداً.. واعلم أن الأوقات والأنات المتكاثرة الخارجة في الطور الخلقي عن هذا الإحصاء الإمكاني،إنما جميعها عند الله تعالى وقت واحد وآن واحد،لأنه تعالى لا تمرّ عليه الليالي والأيام،وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر). وقد شاهدنا طرفاً من ذلك في هذا الوجود،في قبض الأوقات المبسوطة حتى أن الزمان الكثير يراه العارف كطرفة العين،وكذلك بالعكس في طرفة العين ويراها العارف زماناً طويلاً لا نهاية له. وإذا كان هذا سائغ في المخلوق،فما قولك في الخالق عز سلطانه؟.. الوارث: هو الذي ورث المملكة الوجودية بنسبة الوجود إليه من دونها،فكلما زالت صورة موجود من المظاهر وَرثه اسمه الباطن وقامت تلك الصورة في ذلك المجلى منسوبة إلى الله بوجودها،وكلما برز موجود من الباطن ورثه اسمه الظاهر فقامت صورة ذلك الموجود في المجلى الظاهري منسوبة وجودياً إليها. فما ثَمّ إلا ظهور يَرثه الباطن وبُطون يَرثه الظاهر،والله هو الوارث الحقيقي.. وصفته الوراثة،وهي عبارة عن ظهور تحقّقه بوجود كل موجود فيَرث شيئية كل شيء فلا يبقى لشيء في شيئية نفسه وجود ولا ملك،بل يرثه الوارث.. الرّشيد: هو الذي تجلّى في الأرواح بتجلٍ إلهي عند خلقها،فأرشدها حتى استعدّت بتلك التجلي لما تقتضيه حقائقها،حتى فطرت قوابلها على ذلك التجلي الإلهي،فقبلت بعد ذلك في الوجود من فيض تجلياته على قدر تلك القابلية التي فطر الله الأرواح عليها بواسطة ذلك التجلي الأول الرشيدي.. وصفته الرّشاد،وهو عبارة عن أخذه بناصية العبد إلى محل الكمال الإلهي بخلوصه من القيد الخلقي وتحقّقه بالإطلاق الحقّي. وإلى هذا المعنى أشار تعالى حاكياً عمّن اتّصف بصفة الرشاد: (وقال الذي آمن يا قوم اتّبعون أهدكم سبيل الرشاد)،واعلم أن إيمان هذا المتّصف هو الإيمان الحقيقي،وهذا الإيمان هو إيمان الوليّ بحقيقته الإلهية. وتحقّقه بما هو لها وجداناً واتّصافاً،إيمان كمال لا إيمان نقص. لأن المؤمن بالإيمان الكمالي إنما ينسب إيمانه إلى الله،وأفعال الله كلها كاملة. والمؤمن بالإيمان النقصي إنما ينسب إيمانه إلى نفسه،وأفعال الخلق كلها ناقصة.. الصّبور: هو الذي جعل الأقدار جارية بمقتضى صفاته الإلهية على قدر القوابل الخلقية.. وصفته الصبر،وهو عبارة عن رحمته في النقمة،إما بتأخيرها وإما بتركها فضلاً ومنّة.. الباب الثالث: في اتّصاف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالأسماء والصفات الإلهية: قال الله تعالى لنبيه: (وإنك لعلى خُلُق عظيم) والخُلُق هو الوصف،والأوصاف العظيمة هي أوصاف الله تعالى. وسُئلت عائشة عن أخلاقه فقالت: كان خُلقه القرآن اهـ،إشارة إلى حقيقة التحقّق بالكمالات الإلهية،لأن القرآن إنما هو عبارة عن كمالات الله تعالى،ولأن القرآن كلام الله والكلام صفة المتكلم،وهو خُلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،يعني صفته،فهو مُتّصف بأوصاف الله تعالى جميعها.. والدليل على أن سيدنا محمداً ذاتي،ومن دونه صفاتي،هو أن الله تعالى لم يُسمّ أحداً غيره من الأنبياء بأسمائه الذاتية على الإطلاق،وسمّى سيدنا محمداً بها،فسمّاه بالحقّ وسمّاه بالنور،فزكّاه وسمّاه بأسماء عدّة.. وقد صحّ بالإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية ابن وهب أنه قال: قال الله تعالى: سَلْ يا محمد. فقُلت: ما أسأل يا رب؟ اتخذت إبراهيم خليلاً،وكلّمت موسى تكليماً،واصطفيت نوحاً،وأعطيت سليمان مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده. قال الله تعالى: ما أعطيتك خير من ذلك،أعطيتك الكوثر،وجعلت اسمك مع اسمي يُنادى به في جوف السماء،وجعلت الأرض طهوراً لك ولأمّتك،وغفرت لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر،فأنت تمشي في الناس مغفوراً لك ولم أصنع ذلك لأحدٍ قبلك،وجعلت قلوب أمتك مصاحفها،وخبّأت لك شفاعتك ولم أخبّئها لنبيّ غيرك اهـ،هذا الحديث حديث صحيح الإسناد مُعتمد على رُواته.. فقوله: أعطيتك الكوثر،يعني المعرفة الذاتية الإلهية التي يستمد منها كل من سواه. وقد ذكر القاضي عياض في الكوثر: أنه المعرفة،بعد أن ذكر أقوال العلماء في ذلك. وقوله: وجعلت اسمك مع اسمي يُنادى به في جوف السماء،إشارة إلى الجمعية الكبرى والمكانة العظمى المعبّر عنها في اصطلاح القوم بمرتبة الألوهة. فسواء قُلت: هو محمد،أو قلت: هو الله. ومقارنة اسمه صلى الله عليه وسلم مع اسم الله في كلمة الشهادة،إشارة لهذا المعنى الذي ذكرناه،لأن كلمة التوحيد إنما هي موضوعة لتوحيد الواحد بوحدته التي هي له من دون كثرة،فلو كان اسم محمد خلاف تلك الوحدة لما ساغَ مقارنته بالاسم الله في كلمة التوحيد لوجود الغيرية،والأمر بخلاف ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم هو المسمّى بالله،والدليل على ما قُلناه قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مُطاعٍ ثَمّ أمين)،وكل من تأمّل في هذه الآية ــ وقوله فيه: (مُطاعٍ ثَمّ) يعني في مقام العندية المعبّر عنه في الآية: (عند ذي العرش مكين) ــ يفهم ما تحت ذلك من الإشارات السالفة.. وما في الأنبياء نبيّ إلا وقد ظهرت البشرية عليه،إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فإن بشريته معدومة لا أثر لها،بخلاف غيره من الأنبياء والأولياء فإنهم إن زالت عنهم البشرية فإنما زوالها عبارة عن استتارها كما تنستر النجوم عند ظهور الشمس،وبشريته صلى الله عليه وسلم معدومة مفقودة بالكلية ليس لها وجود،وعن ذلك عبّر بقوله: لم يؤمن من الشياطين إلا شيطاني اهـ.. وقوله: ولم أصنع ذلك لأحد قبلك،يعني: أن الكمالات التي تحقق بها رسول الله لم يتقدّمه أحد في التحقق بذلك،فكل متحقّق بالكمالات الإلهية فهو بعد سيدنا محمد لا قبله،فالسّبق بالقبليّة في الكمالات الإلهية مخصوص بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. وقوله: وخبّأت لك شفاعتك ولم أخبّئها لنبي غيرك،وهو الخصوصية الذاتية التي خصّ بها رسول الله من دون غيره،والمعنى: خبأتلك عنك،يعني: أن تلك ولو كانت لك فهي منسوبة إلى باطنك الإلهي لا إلى ظاهرك الخَلقي. ومعنى: ولم أخبئها لنبي غيره،يعني أن التجلي الذاتي الأحدي ليس هو للأغيار بل هو واحد ولواحد،وأنت ذلك الواحد،وإلى هذا المعنى أشار بقوله: إن الوسيلة لأعلى درجة في الجنة،وإنها لا تكون إلا لرجل واحد،وأرجو أن أكون أنا ذلك الرجل اهـ.. ولانفراده صلى الله عليه وسلم بمجامع الكمالات الإلهية دلائل كثيرة،تلك الدلائل على ثلاثة أنواع: فمنها دلائل ثبتت بالكتاب والسنة،ومنها دلائل ثبتت بحديثه الذي هو وحي يوحى،ومنها دلائل عقلية أيّدت بالكشف الصريح الذي هو من الله تعالى بلا واسطة تلقينية إلى الكمّل من أوليائه.. النوع الأول: في الدلائل الثابتة بالقرآن: اعلم أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم قد اتّصف بجميع أسماء الله وصفاته وتحقّق بها،والدليل على ذلك أن الله تعالى شهد له بأنه: مكين عند ذي العرش،والتمكين في ذلك المقام إنما هو في الأسماء والصفات الإلهية.. وقوله تعالى: (ثمّ دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى) عبارة عن البرزخية الكبرى،وهي صرافة الذات المعبّر عنها بحقيقة الحقائق. ولو حصل لأحد من الكمّل نصيب من ذلك فإنما هو على قدر قابلية ذلك الكامل،والحاصل لسيدنا محمد إنما هو كما ينبغي لله تعالى. فمعرفة سيدنا محمد لله تعالى عين معرفة الله تعالى لنفسه،ومعرفة الأنبياء والأولياء والملائكة كلهم إنما هي على قدر قوابلهم لا على قدر الله. فهو صلى الله عليه وسلم عرف الله بمعرفة الله لنفسه فتحقّق بمقام الجمعية،ولم يتحقق به غيره من الأنبياء.. وقد ذكر الله اتصافه بكثير من أسمائه في القرآن،حتى لأنها تبلغ أسماء الإحصاء،فمنها ما هو صريح ومنها ما هو كناية وإشارة. فأما الصريح فمن ذلك: اسمه الحق،وهو اسم ذاتي سمّى به سيدنا محمداً فقال: (قد جاءكم الحق من ربكم).. واسمه الله،قال تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)،فالنتيجة أن الرسول هو الله لأن الحاصل في المقدمتين الأولين أن الرسول هو الله.. واسمه الرؤوف والرحيم،قال تعالى: (بالمؤمنين رءوف رحيم). واسمه النور،قال تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين).. واسمه الشهيد،قال تعالى: (وأنت على كل شيء شهيد).. واسمه الكريم،قال تعالى: (إنه لقول رسول كريم). واسمه العظيم،قال تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم). واسمه الجبار،ذكره القاضي عياض،وقوله تعالى: (وما انت عليهم بجبار) مفهومه عند المحققين: وما انت عليهم بجبار مخلوق،بل أنت جبار الحق. واسمه الخبير،قال تعالى: (الرحمن فاسأل به خبيراً). واسمه الفتاح،قال تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح). واسمه الشكور،قال تعالى: (إنه كان عبداً شكوراً). واسمه العليم والعلاّم،قال تعالى: (ويُعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون). واسمه الأول والآخر،وهذان الاسمان وردا في القرآن بطريق التأويل في حق سيدنا محمد،ولكن وردا في الأحاديث الصحيحة مُصرحة،فقال صلى الله عليه وسلم: نحن الآخرون السابقون اهـ.. واسمه القويّ،قال تعالى: (ذي قوة عند ذي العرش مكين).. ومن الأسماء: الصادق والوليّ والعفُوّ والهادي والدّاعي والمؤمن والمهيمن والعزيز.. وقال تعالى مُخاطباً له: (يس) يعني: يا إنسان،(والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم)،فتنزيل خَبر ثانٍ لاسم: إنك،وحقيقة معناه: أن الله تعالى أقسَم بالقرآن أن سيدنا محمداً تنزيل العزيز الرحيم،يعني أن الهيكل المحمدي تنزّل إلهي للحقيقة المحمدية التي هي حضرة الجمع والوجود،وهو العزيز الرحيم.. ومن ذلك اسمه: طه ويس،وعلى الحقيقة هما أسماء الله تعالى وأسماء سيدنا محمد،وهذان الاسمان ذاتيان لا وصفية فيهما. ومن ذلك أسماؤه التي هي في أوائل السور،وهي الحروف المقطعات،وعلى الحقيقة أن الجميع أسماء الله تعالى،وهي بعينها أسماء سيدنا محمد. ومن ذلك اسمه: الماحي والمحمود والحاشر والمقدس،قال صلى الله عليه وسلم: انا الماحي،أنا الحاشر اهـ. وذكر القاضي عياض في الشفاء: أن المتوكل والمختار ومُقيم السنّة والمقدَّس وروح الحقّ،من أسماء النبي،وذلك معنى البارقليط في الإنجيل اهـ.. واعلم أن هذه الدلائل المذكورة في هذا المحل،إنما هي منقولة،نقلناها: شيء من كتب الشريعة وشيء من كتب الحقيقة. وأما الذي تحققناه بالاطلاع والكشف فسنورده في النوع الثالث بالدلائل العقلية،ونُبرهن على ذلك حسب الإمكان بما لا يردّه مُتأمّل.. النوع الثاني: في الدلائل الثابتة بالحديث النبوي: في حديث ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم: فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر اهـ،وفي حديث أنس: أنا أكرم ولد آدم على ربّي ولا فخر اهـ،وفي حديث ابن عباس: أنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر اهـ. وفي حديث عائشة عنه صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل فقال: قلّبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أرى رجلاً أفضل من محمد،ولم أرى بني أب أفضل من بني هاشم اهـ. وعن أنس أن النبي أتِيَ بالبُراق ليلة أسري به فاستصعب عليه حمله،فقال له جبريل: أبمحمد تفعل هذا؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه،فانفضّ عرقاً اهـ. وقال صلى الله عليه وسلم: أعطيت ستاً ــ وفي بعض الروايات خمساً ــ لم يُعطهم نبي قبلي: نُصرت بالرّعب مسيرة شهر،وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليُصلّ،وأحلّت لي الغنائم ولم تُحلّ لنبي قبلي،وبُعثت إلى الناس كافة وكان النبي يُبعث إلى قومه،وأعطيه الشفاعة اهـ،وفي رواية: وأوتيت جوامع الكلم،وفي رواية: وختم بي النبيون،وفي رواية: فأنا أول من تنشق عنه الأرض اهـ. وعن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول الله يقول: إنّي عبد الله وخاتم النبيين،وإن آدم لمنجدل في طينته،ودعوة إبراهيم وبشارة عيسى بن مريم اهـ.. وروى البيهقي: إن آدم عند معصيته قال: اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي. فقال له الله تعالى: من أين عرفت محمداً؟ فقال آدم: لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا لله محمد رسول الله،فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدراً عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك. فأوحى الله إليه إنه: وعزّتي وجلالي لآخر النبيين من ذريتك،ولولاه ما خلقتك اهـ. وفي هذا الحديث إشارة إلى أن سيدنا محمداً هو المتجلّي بالكمالات الإلهية،لأنه رأى سيدنا محمداً على العرش،وعرشه على الحقيقة أسماؤه وصفاته،فظهر له هذان الاسمان: محمد ظاهر والله باطن،وكلاهما اسمان لمسمى واحد. وفي حديث ابن مسعود دلالة ظاهرة على ذلك حيث قال: إن الله نظر إلى قلوب العباد فاختار منها قلب محمد صلى الله عليه وسلم فاصطفاه لنفسه اهـ. وفي حديث الإسراء تصريح ظاهر بعلو مرتبته، حيث لكل نبي سماء،وذكر عبوره عن ذلك وعروجه عن سائر مقامات النبيين،وعروجه عن سائر مقامات الملائكة،حتى توقف كل من النبي والملائكة دون مرقاه،وكونه أمّ النبيين وصلّى بهم إشارة ظاهرة على انفراده بالكمالات لموضع الإمام من المأموم.. وفي الحديث: وأنا قائدهم إذا وفدوا،وأنا خطيبهم إذا أنصتوا،وأنا شفيعهم إذا حُبسوا،لواء الكرم بيدي اهـ. لواء الحمد عنوان بيانه على الله بما أثنى الله به على ذاته،وذلك حقيقة التحقّق بالصفات الكمالية،إحاطة وشمولاً من كل وجه وبكل اعتبار ونسبة،ولا يكون ذلك إلا للذات وهي الحقيقة المحمدية. وفي حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ثُمّ أقوم عن يمين العرش،ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري اهـ،فهذا تصريح ظاهر بشموله وحيطته للكمالات ظاهراً وباطناً.. ودليل ظاهر على أكمليته ما ورد في حديث أبي سعيد أنه قال: ما يرضون أن يكون إبراهيم وعيسى فيكم يوم القيامة ــ ثم قال: إنهما في أمّتي اهـ. وعن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب النبي ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم،قال: سمعت حديثكم وعَجَبكُم،إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً وهو كذلك،وموسى ناجى الله وهو كذلك،وعيسى رفعه الله وهو كذلك،وآدم اصطفاه الله وهو كذلك. ألا وأنا حبيب الله ولا فخر،وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر،وأنا أول شافع وأول مُشفع ولا فخر،وأنا أول من يُحرّك حِلَق الجنة فتفتح لي فندخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر،وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر اهـ،وهذا حديث جامع مُصرّح بكماله وتقديمه على كل مخلوق. قوله: ومعي فقراء أمّتي،يعني المحققين الذين قال فيهم بعض الصوفية: الفقر هو الله،وقال بعضهم: إذا تمّ الفقر فهو الله تعالى اهـ. وهذا الفقر هو الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: الفقر فخري اهـ،وبه افتخر ولم يفتخر بجميع الكمالات التي حكاها لنفسه،لأن الفقر المحمدي عبارة عن الأكملية الكبرى الجامعة بين الألوهة والعبودة.. ويكفي هذا القدر من ذكر ذلك لأن الأمّة مُجمعون على ذلك،وما ذكرنا هذا المقدار من هذا المعنى إلا ليعرف أهل الله ما هُم عليه من النبي.. كل وليّ يحضُر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصرف كلمة الحضرة الكمالية إلى رسول الله،فإنه لا يبلغ مرتبة الكمال. وكل من حضر بين يدي رسول الله في مشهد،وكان مُشاهداً لله في نفسه،ثمّ صرف كلمة الحضرة إلى رسول الله فشهدها في سيدنا محمد من غير حلول،بل كمال هو لله،فإنه يكمُل ويحصُل له بتركه ذلك الصرف ما لم يكن في قابليته،لأنه حينئذ يأخذ بقابلية النبي صلى الله عليه وسلم،لأن كل ولي وإن علا شأنه فليس محتدّه من الكمالات الإلهية إلا الأسماء أو الصفات،ومحتدّ رسول الله هو الذات.. النوع الثالث: في الدلائل العقلية المؤيدة عند الخواص بالكشف الصريح،وعند العوام بالخبَر،ليُعلَم بذلك انفراده صلى الله عليه وسلم في تحقّقه بالذات الإلهية والكمالات الوجودية. اعلم أن رسول الله كان أكمل الوجود وأفضل العالَم وأشرف الخلق بالإجماع،لكونه مخلوقاً من نور الذات الإلهية،وما سواه فإنما هو مخلوق من أنوار الأسماء والصفات،فلأجل ذلك كان عليه الصلاة والسلام أول مخلوق خلقه الله تعالى. فكما أن الذات مُقدّمة على الصفات،فمظهرها أيضاً مقدّم على مظهر الصفات. وقد أخبر عن نفسه في حديث جابر فقال: أول ما خلق الله روح نبيك يا جابر،ثم خلق العرش منه،ثم خلق العالم بعد ذلك منه اهـ. والسرّ في ذلك أن الذات سابقة الوجود في الحُكم على الصفات،وإلا فلا مفارقة بين الصفات والذات،والسبق إنما هو في الحُكم لا في الزمان،لأن الصفات لا بد لها من ذات تنتسب إليه،فالذات أقدم في الوجود.فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقدم في الوجود لأنه ذات محض،والعالم أجمعه صفات ذلك الذات،وهذا معنى: خلق الله العالم منه. وروح سيدنا محمد هو المعبر عنه بالقلم الأعلى وبالعقل الأول،لبعض وجوهه. ومن هذا المعنى ورد قوله صلى الله عليه وسلم: أول ما خلق الله العقل،وفي رواية: أول ما خلق الله القلم،وفي رواية: أول ما خلق الله روح نبيك يا جابر اهـ. فلو لم تكن الثلاثة الأشياء عبارة عن وجود واحد هو روح سيدنا محمد لكان التناقض لازماً في هذه الثلاثة الأخبار،وليس الأمر كذلك،بل هي جميعها عبارة عنه.. لما أراد الله تعالى أن يتجلّى في العالم اقتضى كماله الذاتي أن يتجلّى في أكمل موجود ذاتي من العالم،فخلق سيدنا محمداً من نور ذاته لتجلّي ذاته،لأن العالم بأكمله لا يسع تجليه الذاتي لأنهم مخلوقون من أنوار الصفات. فهو صلى الله عليه وسلم بمنزلة القلب الذي وسع الحق،وإلى ذلك أشار أن: يس قلب القرآن اهـ،ويس اسمه. أراد بذلك أنه بين القلوب والأرواح،وسائر العوالم الوجودية،بمنزلة القلب بين الهيكل وبقية الموجودات الذي لم يسع الحق. فسيدنا محمد هو قلب الوجود،وهو الذي عنده الوسع الذاتي للمعرفة الذاتية،وإلى ذلك أشار بقوله: لي وقت مع الله لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل اهـ. فجعلهم بمنزلة السماء والأرض،فالملَك من أهل السماء والنبي المُرسل من أهل الأرض،فكلاهما لم يسعا الحق بالذات ويسعان الحق بالصفات.. وهذه المسألة لقّننيها رسول الله بحُججها التي ذكرتها في هذا المكان.. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتياً مُتّسعاً للتجلي الذاتي،كان متّصفاً متحققاً بسائر الأسماء والصفات،ومُستوعباً لسائر الكمالات من جميع الوجوه،وللنّسب والاعتبارات. فحاز صلى الله عليه وسلم الكمالات الوجودية،الحقية والخلقية،ولم يجتمعا بكمالهما في موجود رسول. ومن أجل ذلك جعلت هذا النوع مُنقسماً على فصلين: الفصل الأول: في استيعابه الكمالات الخلقية،خَلقاً وخُلقاً: ذكر أصحاب السير من عجائب ذلك ما يضيق المحل عن ذكره،وإنما أردت التبرك بذكر شيء من ذلك. فإن في كل صفة من صفاته الخَلقية والخُلقية أسرار جليلة ومعاني جميلة لا يمكن شرحها،ومجمل ذلك: أن هيئته الصورية الظاهرة الهيكلية أمّ لصور الكمالات الحسيّة الوجودية،العلوية والسفلية. وهيكليّته المعنوية الباطنة التي هي عبارة عن أخلاقه،هي أمّ لمعاني الكمالات المعنوية الوجودية،العلوية والسفلية. فكل كمال تشهده بالمحسوسات فهو من فيض صورته الظاهرة،وكل كمال تعقله من المعنويات فهو من فيض معانيه الباطنة. فعالم الشهادة فيض ظاهره،وعالم الغيب فيض باطنه،وغيب الغيب عبارة عن حقيقته صلى الله عليه وسلم.. اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان من اعتدال الخِلقة في كمال وحُسن وجمال لا زيادة عليه،لأن الأمر الإلهي إنما أبرزه للكمال لا للنقصان،ولأجل ذلك قال: بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق اهـ. فكان الوجود قبل بعثته ناقصاً،فهو المُكمّل للوجود بالمحمودات الضرورية والمحمودات الشرعية،فما كان كمال الوجود صورة ومعنى إلا به صلى الله عليه وسلم. ولما كان هو كمال الوجود،كان كل شيء فيه على غاية من الكمال،لأنه كمال محض،حتى فضلاته كانت طاهرة،والدليل على ذلك أن المرأة لما شربت بوله لم ينهاها هو ولا أحد من أصحابه.. ومن أجل ذلك كان على أكمل نظام وأجمل حلية،فظهر صلى الله عليه وسلم في نهاية من حُسن الصورة واعتدال الخِلقة بكمال الأعضاء وتناسُبها،ولطافة البشرة ورقّة الحاشية وزيادة البهجة وحسن الصوت وبشاشة الوجه وسواد الشعر وبياض اللون المشرّب بالحُمرة وطيب الرائحة وفصاحة الكلام وطيب المكالمة،وحُسن العِشرة في سائر حركاته وسكناته،ومتوسّط القامة من الطويل والقصير،وتماسُك الخلقة وتسوية البطن والصدر،وبُعد المنكبين وذرع المشية وحُسن الالتفات وخفض الطرف. فكان كاملاً في جميع ما يُنسب إليه،من خَلقه أو خُلقه.. ومتى يعقل العبد هذه الصورة في قلبه وكان دائم الملاحظة،حصلت له السعادة الكبرى،وانفتح بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم طريق الاستمداد من غير واسطة،حتى أنه إذا تصفّى وتزكّى وتخلّص من خواطره النفسية والعقلية وما دونهما فإنه يرتقي في ذلك إلى أن تُفاجئه الصورة المحمدية قادمة من عالم الأرواح،فتظهر له كما هي عليه ويناجيها وتُكلّمه،فيأخذ من رسول الله كما أخذ منه أصحابه. ومتى كان هذا العبد من أهل التوحيد الخاص فإنه يشهد بعد ذلك كمالاته المعنوية،وبها يتقوّى للاتّصاف بما يقدّر له منها. ولا يزال كذلك حتى يشهده في الملكوت الأعلى،ثمّ يشهده في الأفق المبين،ثم يشهده في الأفق الأعلى. فإذا شهده في الأفق الأعلى انطبع بالخاصية المحمدية في قابلية الولي كمالات محمدية من المقام المحمدي،فبها يكمُل في وجوده ويتحقّق بصفات معبوده. فمن لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى والمستوى الأزهى،لم يكن من أهل المقام المحمدي فلم يتحقق بالكمال الأعلى. وكل من يراه في ذلك المقام فإنما يراه على قدر قابلية نفسه،لا على ما هو عليه سيدنا محمد فإنه لا يُطيق أن يراه على ما هو عليه أحد سواه صلى الله عليه وسلم.. أما في أخلاقه صلى الله عليه وسلم،فإنه كان جامعاً لمحاسن الأخلاق،حاوياً لها على الإطلاق،لأنه مفطور على كمال الأخلاق الضرورية ومجبول مخلوق على كمال الأخلاق الكسبية. فقد كان صلى الله عليه وسلم كامل الأخلاق الضرورية المخلوقة عليها ذاته في جبلّته مثل: قوة عقله وزيادة حظّه من الإدراك القلبي وصحة قياسه الفكري،وصدق ظنونه وصحة فهمه وفصاحة لسانه وحلاوة منطقه،وقوة حواسه وأعضائه،واعتدال حركاته الضرورية. والأخلاق الضرورية المكتسبة بالكسب مثل: غذائه ونومه ويقظته ومَلبسه ومسكنه ومنكحه وماله ومُعاملته للناس،وأمثال ذلك.. وجميع أوصافه صلى الله عليه وسلم كلها أوصاف جبليّة فُطر عليها،لم يتّصف يوماً من الدهر بنقيض كمالها،ولم يتخلّق بضدّ حُسنها وجمالها،بل كان حاوياً بالطبع لجميع الأوصاف المحمودة عقلاً وشرعاً: كالعلم والحلم والصبر والسكون والعدل والزهد والرضى والتواضع والعفو والعفّة والجود والشجاعة والحياء والمروءة والصمت والصدق والوفاء بالوعد وعرض الحب وطول الجاه والمودّة والوقار والرحمة وحسن الأدب والمُعاشرة والهداية للخلق وحب الخير لكل أحد،وإعطاء الحكمة حقّها في سائر أموره كلها.. الفصل الثاني: في استيعابه للكمالات الإلهية صورة ومعنى،ظاهراً وباطناً،وَصفاً وتحقّقاً،ذاتاً وصفاتاً،جمالاً وجلالاً وكمالاً: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حقيقة ذاتية ترجع إليها الكمالات الإلهية رجوع الصفة إلى موصوفها.. ولهذا عبّرت الطائفة عن الحقيقة المحمدية بالذات،وبحضرة الجمع والوجود،وذلك هو الله وأسماؤه وصفاته.. والكمّل إنما قبلوا من الكمالات الوجودية بقدر قوابلهم،وقبول سيدنا محمد منها بقدر الله،وقد الله لا نهاية له.. واعلم أن هذا المعنى الذي ذكرته له يشهد به جميع الكمّل،ويؤمن به جميع العارفين. فالمحقق يجد ذلك عياناً وكشفاً ووجداناً،والعارف يجد ذلك علماً يقيناً وإيماناً،ومن سوى هذين الطائفتين فإنه لتحققه بمقام التفرقة يُنكر ذلك ولا يؤمن به. ولقد أقمت في مشهد محمدي بالروضة الشريفة النبوية،في تاريخ الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام سنة اثنين وثمانمائة،فرأيته صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى والمستوى الأزهى،حيث لا يُقال فيه حيث،ذاتاً محضاً صرفاً،متحققاً بألوهة كاملة جامعة. وسمعت عن يمينه قائلاً يقرأ: (قل هو الله أحد)،يُشير بلفظة: (هو الله ) إلى المظهر المحمدي،فقلت مقوله. فلما رجعت إلى العالم الكوني وجدت هذه السورة بكمالها مكتوبة في أسطوانة من أسطوانات الشباك المُقابل لضريحه ولم أكن أشهد تلك الكتابة قبل ذلك الوقت،ولم تزل مكتوبة إلى تاريخنا هذا. ثمّ عرفت أن الكاتب لتلك السورة في ذلك المكان عبارة عن تجلّي عليه من الحقيقة المحمدية في مشهد من المشاهد العلية. واعلم أن جميع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله في القرآن،كقوله: (والسماء بنيناها)،وقوله: (وما أمرنا إلا واحدة)،وقوله: (وكذلك نُنجي المؤمنين)،وأمثال ذلك كله إنما عبّر عن ذاته الإلهية. والدليل على ذلك أنه قال عن القرآن الذي هو كلام الله: (إنه لقول رسول كريم) فالقرآن كلامه،وكل ما فيه من صفات الله أخلاقه وصفاته،بدليل قول عائشة: كان خُلقه القرآن،يغضب لغضبه ويرضى لرضاه اهـ.. وسوف أبيّن لكم ذلك وأشرحه على قدر ما علمناه من مقامه صلى الله عليه وسلم وشاهدناه،متحققاً بأن له من وراء ذلك ما لا يمكن شرحه إجمالاً وتفصيلاً،ولا تنتهي إليه همّته ولا ينتهي علم ومعرفة.. أما اسمه الله: فإنه صلى الله عليه وسلم متحققب الألوهة التي هي مركز هذا الاسم،والدليل على ذلك أنه متصف بسائر الأسماء والصفات،وتلك هي الألوهة.. وأما اسمه الرحمن: فإنه صلى الله عليه وسلم كان متحققاً بالرحمانية لسريان وجوده في جميع الموجودات،لأنه هيولى العالم،فهو حياة العالم وهو الرحمة العظمى التي عمّت الموجودات.. وأما اسمه المَلك: فقد كان متحققاً بذلك،وقد ورد أن جبريل نزل عليه يُخبره بين أن يكون ملكاً أو يكون عبداً،فاختار العبودية. وسرّ هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان متحققاً بالملكية فتنزّل منها إلى مقام العبودية،كمالاً وتمكيناً،وقد أخذ الله له العهد على الأنبياء كما يؤخذ العهد للملك على غلمانه وحواشيه.. وأما اسمه السلام: فإنه صلى الله عليه وسلم كان متجلياً به،والدليل على ذلك: ارتفاع المسخ والخسف بعد بعثه،فإنه كان سبب سلامة العالم من ذلك،وقد قال الله تعالى: (وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم). فهو سلامة محض،وهو السلام المطلق.. وأما اسمه المتكبر: فإنه كان متّصفاً بذلك،والدليل كونه قد اتصف بأسماء الله الحسنى،فلا كبرياء أعظم من صفات الله تعالى. واعلم أن التكبر عن الله بالله محمود،وما ورد من ذمّ التكبر فإنما هو في التكبر على الله،فافهم موضع الحمد من الذم.. وأما اسمه الخالق: فإنه كان متصفاً بالصفة الخالقية،والدليل: نبع الماء من بين أصابعه،فإنها صفة خالقية.. وأما اسمه المصوّر: فإنه كان متصفاً به،والدليل على ذلك قوله للأعرابي: كن زيداً،فإذا هو زيد.. وأما اسمه الغفّار: فإنه كان متصفاً به،والدليل على ذلك غفرانه للأعرابي الذي واقع أهله في رمضان وأسقط عنه الكفارة. وقد قال تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً)،جعل استغفار الرسول شرطاً للمغفرة والتوبة.. وأما اسمه الوهّاب: فإنه كان متصفاً به كما روي في الحديث: ما سُئل النبي عن شيء فقال لا اهـ.. وأما اسمه الفتاح: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متصفاً بالصفة الفتاحية،فإنه فتح أبواب السموات،وفتح الله به أعيناً عُمياً وقلوباً غُلفاً.. وأما اسمه العليم: فإنه كان متصفاً بصفة العلم الإحاطي،والدليل قوله: فعلمت علم الأولين والآخرين اهـ،وهو علم الكون بأسره،فهذا دليل معرفته بالمخلوقات كلها أولها وآخرها،دنياويها وأخراويها. وأما دليل علمه بالله،ففي الحديث: أنا أعرفكم بالله وأشدّكم له خوفاً اهـ.. وأما اسمه القابضوالباسط: فإنه كان متصفاً بهاتين الصفتين،والدليل ما روت أسماء بنت عميس: أنه قبض على الشمس فوقفت حتى صلّى عليّ اهـ. فهذا دليل عظيم على اتصافه بالقبض والبسط،فإنه قبض على الشمس أن تغيب وبسط في النهار حتى زاد.. وأما اسمه المُعزّوالمُذلّ: فإنه صلى الله عليه وسلم كان متصفاً بهاتين الصفتين،والدليل على ذلك تمكينه في التصرف الكلي في الوجود،وقد شهد الله له بذلك فقال في حقه: (ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين).. وأما اسمه الحكَموالعدل: فإنه كان متصفاً بهاتين الصفتين الإلهيتين حقيقة،والدليل على ذلك قوله تعالى من أجله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) الآية.. وأما اسمه الحفيظ: فهو متحقق بهذا الاسم لأنه حفظ المراتب الوجودية لأنه المتعين في جميعها،فلولا الموجود لما كان للوجود تعيّناً،ولولا المَقام لما كان المُقام،ولولا ذو المرتبة لما كانت المرتبة. فهو الحافظ للوجود بتعيّنه وظهوره في المراتب الوجودية،صورة ومعنى.. وأما اسمه الجليل: فإنه كان متحققاً بالجلال،والدليل على ذلك أن الله تعالى أمرنا أن نتأدّب معه ولا نرفع أصواتنا فوق صوته،لجلالة قدره.. وأما اسمه الرقيب: فإنه كان متحققاً به،والدليل قوله: تنام عيني ولا ينام قلبي اهـ وهذا من كمال المراقبة. وقوله: تُعرض عليّ أعمال أمتي اهـ الحديث،وهذا دليل بكونه رقيباً على الحوادث الكونية. وأما قوله: ولا ينام قلبي،فإنه دليل على المراقبة الإلهية المعبر عنها بحقيقة اليقين،فهو المراقب المطلق.. وأما اسمه الحقّ: فإنه متحقق به،متصف بالصفة الحقيّة،فهو الحق الذي خلق الله منه السموات والأرض،فهو الحق المخلوق.. وأما اسمه الوليّ: فإنه صلى الله عليه وسلم كان متحققاً بهذا الاسم،موصوفاً بهذه الصفة. ولا ولاية أعظم من نبوته لما اتّفق عليه الجمهور: إن كل نبي ولي وكل رسول نبي،فما كل نبي رسول ولا كل ولي نبي. واعلم أن كل نبي أو رسول،فإن ولايته على قدر نبوته ورسالته،ولهذا قال المحققون: إن الولاية أفضل من النبوة اهـ،يريدون بذلك في الرجل الواحد،يعني أن ولاية النبي أفضل من نبوته. ولأجل ذلك كانت الرسالة أنزل من النبوة،والنبوة أنزل من الولاية.. وأما اسمه الحيّ: فإنه كان متحققاً بهذا الاسم،متصفاً بهذه الصفة. والدليل على ذلك أنه المادة للوجود،فهو الحياة السارية في الموجودات الأبدية الأزلية. لما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة الحياة السارية في الموجودات،وكان كل من الأفراد الإنساني نسخة له،كان في كل إنسان حياة سارية في الموجودات،يعرفها المكاشف بها. وإذا أردت أن أوضح لك طرفاً منها فانظر إلى موجود ما من الموجودات،فإنك تصوّره في عالم خيالك لسريان روحك في موجودية ذلك الموجود،فلو لم يكن لك ذلك السريان لما أمكنك تصوره في خيالك. فسريان روحك في العالم هو طرف من الحياة السارية،بل عينها إن كان لك قلب أو ألقيت السمع وأنت شهيد. وهذه النكتة لم يُنبّه أحد عليها سواي،وهي شريفة المقدار.. وأما اسمه الوالي: فإنه كان متحققاً به،متصفاً بصفة الولاية الكبرى. فهو والي الوجود وحاكمه الأكبر،لأنه المعطي منه لكل حقيقة من الحقائق مرتبة من المراتب على ما يقتضيه شأن وجوده،وهذه عين الولاية الكبرى والحكم النافد. فهو الوالي الحقيقي لأنه قطبالوجود المطلق،عليه تدور رحا الحقائق كلها صلى الله عليه وسلم.. وأما اسمه المُتعالِ: فإنه كان متحققاً به،والدليل على ذلك ما شهد الله تعالى له به فقال في حقه: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى)،ولا تعالٍ أعلى من قاب قوسين. وقد ذكر القاشاني في اصطلاحاته: أن قاب قوسين عبارة عن مقام القُرب الأسمائي باعتبار التقابل بين الأسماء في الأمر الإلهي المسمى دائرة الوجود،كالإبداء والإعادة والنزول والعروج والفاعلية والقابلية اهـ،وقال أيضاً في: أو أدنى: إنه أعلى من هذا المقام،إذ هو عبارة عن أحدية عين الجمع الذاتية،بارتفاع التمييز والاثنينية الاعتبارية اهـ،فأيّ تعالٍ أعظم من ذلك. وقد وصف الله تعالى نبيه: (وهو بالأفق المبين)،وقال المحققون: إن الأفق الأعلى هو الحضرة الواحدية والحضرة الألوهية،وذلك غاية التعالي.. وأما اسمه مالك المُلك: فإنه كان متحققاً بهذا الاسم،موصوفاً بصفة المالكية بالمملكة الوجودية. والدليل على ذلك: أن الله تعالى خلق العالم من أجله،فهو مالك العالم وسيده.. وأما اسمه الجامع: فإنه كان متحققاً به،لأنه جمع الكمالات الإلهية والكمالات الخلقية،فتمّ واستدار زمانه كما روى عن نفسه،لأنه الدائرة نصفها حق ونصفها خلق،فاستدارتها عبارة عن شمول كمالات المرتبتين صلى الله عليه وسلم.. وأما اسمه الوارث: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الوارث الأكمل الذي ورث الكمال الإلهي وتحقّق به. وأما قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) يعني: أرض الخلافة الإلهية المعبّر عنها بالاتّصاف بالأسماء والصفات،يرثها عبادي الصالحون للوراثة الإلهية،وسيّد هذا المقام هو الفرد الجامع صلى الله عليه وسلم..وأما اسمه الرّشيد: فإن رسول الله كان متحققاً به،متصفاً بصفة الرّشاد،لأنه هَدى العالم بعد الضلال وأرشدهم بعد الغيّ،فهو الرّشيد ظاهراً وباطناً. فأما ظاهراً: فلمقام نبوته،وأما باطناً: فلأنه المُعطي من حيث الحقائق لكل حقيقة ما تستحقه من كماله الذي يكون به عين سعادتها، ومُهديها إلى ذلك بنوره الوجودي،ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: كلّ ميسّر لما خُلق له اهـ.. هذه اتّصافاته صلى الله عليه وسلم تحدّثنا عليها من حيث المجاز،لأن الحديث عنها من حيث التحقّق الأصلي يُفضي إلى أشياء أخر. ونزيد لذلك تمهيد مقدمات،ولا نأمن من غلط أفهام الناظرين،فاقتصرنا على الاستدلال في اتصافه بالأمور المجازية،والحديث عنها من طريق الظاهر دون الباطن،لأن أهل الحقائق لا منازعة لهم في ذلك.. ليعلَم أهل المجاز بعض ما جهلوا من حقّه صلى الله عليه وسلم،وعدد هذه الأسماء المذكورة ثمانية وتسعين اسماً،والتاسع والتسعون هو اسمه تعالى: هو. أعرضنا عن ذكره في أول الباب لأنه يحتاج إلى بعض إطناب وتفصيل،فنقول:الحقيقة المحمدية عبارة عن الهوية الإلهية بما هي عليه من الشؤون والأسماء والصفات،والظهور والبطون والشهادة والغيبة،إلى غير ذلك من النسب والإضافات المُندرجة تحت هذا الاسم. فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو المشار إليه بهذا الاسم، وقد صرّح تعالى بذلك في كتابه فقال: (قل هو الله) يعني: قل يا محمد إن الفاعل هو الله،وفاعل قُل هو محمد المأمور بالقول، فهو الله أحد. فسيدنا محمد هو الهوية المتعيّنة،والهوية عبارة عن الذات الإلهية بتعيّنها بجميع الأسماء والصفات. فسيدنا محمد هو الهوية المتعينة على سبيل ظهور ذلك البطون وشهادة تلك الغيبوبة في هيكل مخصوص مُنفرد بالكمالات الإلهية المنطوية تحت الهوية الإلهية. فهو صورة ذلك المعنى وشهادة ذلك الغيب وتفصيل ذلك الإجمال،على سبيل الواحدية لا على سبل الغيرية.. والاتصاف المحمدي وتحققه بالأسماء الإلهية،أعزّ وأجلّ من أن تشير إليه العبارات أو تُعبّر عنه الإشارات،فلأجل ذلك أعرضنا عن حقيقة الخوض فيه واكتفينا بالاستدلال بظاهر المجاز. واعلم أن الأصل في التحقق بسائر الأسماء والصفات الإلهية اسمان: العلم والقدرة، فإذا ظهر أثرهما على عبد فهو متّصف بما عداهما إلى تمام المائة أو إلى ما لا نهاية له. فمدار الأسماء الفعلية على القدرة،ومدار الأسماء الوصفية والذاتية على العلم،فإذا تحقق العبد بهما فقد تحقق بالجمع..

الباب الرابع: في معرفة ما في الإنسان من الأمور الكمالية والصفات الإلهية وبيان كيفية الاتصال إلى ذلك: مقدمة: اعلم أن الوجود كله لا يخلو،إما أن يكون قديماً أو يكون محدثاً. فالقديم هو الواجب لذاته أزلاً وأبداً،وهو الله تعالى وأسمائه وصفاته. والحديث هو ما صار واجباً بعد أن كان جائزاً،وهو المعبّر عنه بما سوى الله وبالعالم. وما سوى الله لا يخلو: إما أن يكون حسياً،وإما أن يكون غير حسّي. والحسّي إما أن يكون مركباً من كثائف الطبيعة أو لطائفها،فالمركب من كثائف الطبيعة هي الأجسام الأرضية وتوابعها كالمقتضيات الحيوانية وأمثالها،والمركب من لطائف الطبيعة هي الأجرام النورية وتوابعها كالحركات الفلكية وأمثالها،فكل ذلك هو المعبر عنه بعالم المُلك. وأما الذي هو غير حسّي فلا يخلو: إما أن يكون واجبالرؤية أو جائز الرؤية أو ممتنع الرؤية. فالواجب هو عالم الأرواح الجزئية،وهو المعبر عنه بعالم الملكوت. والجائز هو عالم الأرواح الكلية،وهو المعبر عنه بعالم الجبروت. والممتنع هو عالم المعاني،وذلك عبارة عن الأمور الحكمية الغير الوجودية،فهي موجودة في الحكم مفقودة العين،كالأمهات الحكمية وأمثالها،فهذه الأمور المعنوية لا تُشهد أبداً في عالمها،لكنها إذا تنزّلت في عالم المثال شُهدت بحسبها على صورة مناسبة لها.. فظهر لك أن الوجود كله ينقسم قسمين: حقّ وخلق. والخلق ينقسم على أربعة أقسام: مُلك وملكوت وجبروت ومعنى،ولكل قسم من هذه الأقسام الأربعة طرفان: أعلى وأدنى،وبينهما مراتب. فالمُلك له طرفان: فالأعلى هو الأجرام النورية والحركات الفلكية،والأدنى هو الإنسان البشري،والمراتب التي بينهما كثيرة وهي: الحيوانية فالنباتية فالمعدنية فالترابية فالمائية فالهوائية فالنارية.. والملكوت له طرفان: أعلى وهو الأرواح الفعالة المدبرة للوجود،وأدنى وهو الأرواح المنفعلة المسخِّرة لأمور جزئية،وبينهما مراتب كثيرة.. والجبروت له طرفان: أعلى وهو الأرواح العلوية التي ليست بعنصرية،كالعرش العظيم والأرواح الحافة به والحاملة له،والكرسي والقلم الأعلى واللوح،وأمثال ذلك. وأدنى وهو الملائكة المهيمة. وبينهما مراتب كالعقل الأول والروح الكلية،وأمثال ذلك.. وعالم المعنى له طرفان: أعلى وهو عبارة عن الأمور التي توجد الذهنولا أثر لها في الخارج،كالهباء وأمثال ذلك. وطرف أدنى هو عبارة عن الأمور التي توجد حُكماً في الذهن ولها في الخارج أثر ظاهر،كالقُرب والبُعد والعلم والجهل وأمثال ذلك.. فهذا تقسيم الوجود كله،حقّه وخلقه،ظاهره وباطنه،أعلاه وأسفله.. والإنسان عند المحققين هو الوجود المطلق،لأنك قد تُطلق هذه اللفظة وتُريد بها قسماً واحداً من هذه الأقسام،ثمّ تُطلقها وتريد بها قسماً آخر غيره،ولا تزال كذلك حتى تستوفي جميع أقسام الوجود بهذه اللفظة. ولا شيء يحوي جميع أقسام الوجود كله إلا الإنسان،فلأجل ذلك تقول الملكوت وتُريد به باطن الإنسان،وتقول المُلك وتريد به ظاهره،وتقول الجبروت وتريد به حقائقه،وتقول عالم المعنى وتريد به الأمور المعنوية الموجودة فيه حكماً،وتقول الحقّ وتريد هوية الإنسان وحقيقته،وتقول الخلق وتريد هيكل الإنسان ومجازه.. الفصل الأول: في مظهرية الإنسان للحق،ذاتاً وصفاتاً وأسماءً وأفعالاً: قال الله تعالى في الحديث القدسي: كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف،فخلقت الخلق وتجليت عليهم،فبي عرفوني اهـ. هذا حديث صحيح من طريق الكشف،وضعيف من طريق الإسناد.. لما أراد تعالى إظهار ذاته،بما له من أسمائه وصفاته،ولم يكن معه موجود سواه،تجلّى في نفسه لنفسه بتجلي الغيرية فأحدث منه له موجوداً سمّاه بالعالَم،والدليل على هذا قوله عز وجل: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) فالعالم كله منه،من حيث المجاز،وإن شئت قُلت من حيث اقتضاء المقام ليكون القول حقيقة،وإن شئت قُلت من حيث التقسيم: العالم غير الله،وصفات الله منزهة عن صفات العالم.. ولذلك نقول من حيث الحقيقة،وإن شئت قلت من حيث الذات،وإن شئت قلت من حيث الواحدية وعدم الانقسام: العالم كله هو الله لا غيره.. والتعدّد الظاهر في الوجود غير مُنافٍ للواحدية الإلهية،لأن الوجه الواحد إذا قابلت به مَرائي كثيرة فإن الواحد يتعدّد فيها ولا يتعدد في نفسه. فهو واحد من حيثُه،متعدّد من حيث تلك المرائي. ومثال العالَم بالنسبة إلى الحق تعالى مثال الصورة المتخيلة في ذهنك، المفروضة أنها غيرك بالنسبة إليك: فهل ترى التغيير الواقع بتلك الصورة راجع إليه من حيث حقيقتك،أم راجع إلى ذلك المتخيل المفروض وأنت على ما أنت عليه قبل ظهوره في مخيلتك وعند تصوره وبعد زواله. وأيضاً فإن وجود ذلك التغيير اللاّحق بذلك المفروض المتخيل غير حقيقي،لأن وجود ذلك المفروض نفسه وجود مجازي غير حقيقي، إذ لا استقلال له إلا من حيث الفرض،فصفاته أيضاً كذلك فتغييره مجازي. فلا يلحق ذلك التغيير إلا بتلك الصورة لأنه صفتها،ولا يلحق بالشخص المتصوِّر. وإذا عرفت هذا علمت أن العالم متخيل الوجود ليس له حقيقة وجود،فجميع أوصاف العالم كذلك مجاز ليس له حقيقة وجود لأنها موهومة متخيلة،والله تعالى حقيقتها.. ثمّ إنه تعالى لمّا توجّه لخلق العالم منه،خلق روحاً كلياً سمّاه: حضرة الجمع والوجود،لكونه جامعاً لحقائق الوجود. وسماه القلم الأعلى لانبعاث صور الموجودات منه كما تنبعث صور الكلمات من القلم الكتابي. وسمّاه بالعقل الأول لأنه أول شيء عقل،أي: ربط وقيّد باسم الغيرية. وسماه بالحقيقة المحمدية،لكون الحمد ــ مدار حضرة الجمع والوجود ــ هو الهيكل المحمدي. فهي وإن كانت لها مظاهر كثيرة فإنما تعينها بهذا الاسم،لكون محمد أكمل مظاهرها،على أنه ما في الجنس الإنساني أحد إلا وهو مظهر هذه الحقيقة،كل إنسان يكون فيه ظهورها وبطونها،على قدر كماله ونقصانه.. ثمّ إن الله تعالى لما خلق هذا الروح المحمدي المسماة بحضرة الجمع والوجود،أوقفها موقفاً عرشياً،أعني صوّرها على صورة سماها عرشاً، فذلك خلق العرش منها. ثم جمعها إلى صورتها الأولى التي هي حضرة الجمع والوجود ،فخلق الكرسي منها.. ولم يزل كذلك يقبضها إلى صورتها الأولى،ثم يبسطها بصورة من صور الوجود،والموجودات ينبعث من ذلك التصوير،حتى خلق جميع الوجود منها،أعلاه وأسفله،جبروتية وملكوتية ومُلكية،صورة معنوية لطيفة وكثيفة،وهو آخر المراتب الوجودية مُخلّقة منها،ولم يقبضها. فكان الإنسان هو حضرة الجمع والوجود،فليس لحضرة الجمع والوجود صورة إلا الصورة الإنسانية لأنها بسطت فيه ولم يقبض عنه،إذ لا مرتبة أنزل من هذه المرتبة،فهو غاية تنزّلها،والحق غاية عروجها.. فرجعت إلى الإنسان حقائق الموجودات بأسرها رجوع الفرع إلى الأصل،وجمعها بذاته جمع الكل للجزء، فناسب كل شيء منها كماله.. ومن ثمّ استحقّ الخلافة،ووجب أن يسجد له من استخلف عليهم. فلما كان العالم كله مُسخراً للملائكة،وكانت الملائكة حاكمة على العالم مُدبّرة للوجود،اكتفى بسجودهم له دون غيرهم لأنه لا يستحق مرتبة السجود عند الملك إلا أكابر الدولة،فسجد له الملائكة كلهم أجمعون.. وما ورد عن الشيخ الأكبر وأمثاله من القول بأن الملائكة العلوية التي ليست بعنصرية لم تؤمر بالسجود له،فذلك صحيح وحقّ. والنكتة في أنهم لم يؤمروا بالسجود لكونهم له كالقوى للأعضاء،فهُم من ذاته،ولأجل ذلك عظموا عن الأمر بالسجود كرامة للإنسان لا لهُم،لأن كرامتهم على الحقيقة راجعة إلى الإنسان.. واعلم أن الله تعالى لما أراد أن يتعرّف إلى خلقه ليظهر من كثريته بقدر ما عرفوه به،اقتضى الشأن الإلهي أن لا يكون العالَم صفة إلا لحيّ،ولا تكون الحياة إلا لذات،فخلق ذات الإنسان وجعل الحياة والعلم وصفاته لها. ولما عَلم الإنسان وجود الحق وعَلم وجود غيره،اقتضى الشأن الإلهي أن يميّز بينهما ليحصُل الإدراك التفصيلي الذي هو نتيجة لإجمال العلم،فخلق له القدرة والإرادة ليزيد التمييز فيقدر على ذلك،فيميّز بين الحق وبين الخلق. ولا تكمُل الصفة العلمية إلا بوجود الثلاثة الصفات التي هي: الحياة والقدرة والإرادة. وكذلك القدرة لا تكمل إلا بالثلاثة الصفات وهي: الحياة والإرادة والعالم. وكذلك الإرادة لا تكمل إلا بالثلاثة الصفات وهي: العلم والقدرة والحياة. وكذلك الحياة لا تكمل إلا بالثلاثة الصفات وهي: العلم والقدرة والإرادة. فظهر أن كل صفة من هذه الصفات الأربعة لا تكمل إلا بوجود الثلاثة الباقية،ولا تكمل الذات إلا بوجود هذه الأربعة،فهي أمهات جميع الأسماء الإلهية،ومن ثمّ قال بعض العارفين: إن الأسماء النفسية هي هذه الأربعة فقط،وأن السمع والبصر داخل حيطة العلم،والتكلّم داخل تحت حيطة القدرة.. وهذا سرّ التربيع الذي عليه بناء أصل الوجود،فالعناصر أربعة والطبائع أربعة والأركان أربعة والمولدات أربعة،وهلم جراً إلى ما لا نهاية.. واعلم أن الإنسان لمّا كان مخلوقاً من ذات الله تعالى كان له حقيقة الكمالات الإلهية من حيث الذات والمرتبة على وجه الأصالة،لا على سبيل التبعية والتفريع. وقد بيّنا في مؤلفاتنا كيفية مُضاهاة تركيب الإنسان للحقائق الإلهية فجعلنا: روحه وسريانها في معلوماتها مضاهية بروح الحق وسريان حياتها في الموجودات كلها،وجعلنا عقله مضاهياً للعلم الإلهي،وجعلنا مُصورته مضاهية للإرادة الإلهية،وجعلنا همّته مضاهية للقدرة الإلهية،وجعلنا شهوده لمعلوماته من حيث مرتبتها مضاهياً للسمع الإلهي،وجعلنا سمعه لمعلوماته أي دركه لها من حيث مسموعيتها مضاهياً لسمع الحق،وجعلنا إيجاده للصورة المقصودة في مخيلته بمنزلة كلمة كنْ من الله.. فالحقيقة الإنسانية هي الذات الإلهية،ولها من صفات الكمال ما تَعرّف الله به إلى عباده وما استأثر عنده مما لم يتعرّف به إلى خلقه لجميع ذلك. لهذه الحقيقة الإنسانية فاطلُبها منك فيك بالاسم الله حتى تجد المسمى فيسقُط الاسم فتعرف ذلك،ثم تجد ما عرفت،ثم تتصرّف بما وجدت. وإذا صحّت معرفة ذلك ثمّ وجدت ما عرفت،ثم تصرّفت بما وجدت فيما أردت،فاعلم أنك أنت الإنسان الكامل وقطب الأواخر والأوائل. وإذا لم يصح بك ذلك فاعلم أنك إنسان مطلقاً،مُنحطّ عن مرتبة الكمال بقدر ما فاتك من ذلك.. فالقابلية أصلية في كل شخص لأنه مخلوق من الذات الإلهية،ومن كان كذلك فهو ذو قابلية للكمالات الإلهية،لكن الاستعداد هو الذي يُبلغك مرتبة الكمال. فمثل القابلية والاستعداد في الإنسان كمثل الصقل والمقابلة في المرآة،لأن كل مرآة مصقولة لا بد أن تكون قابلة لتجلي وجه الملك فيها،ولكن لا يحصل ذلك إلا للمرئيات المستعدة لذلك.. درّة يتيمة في لجّة عظيمة: اعلم أن باطنك لمّا كان مغيّباَ عنك،وكان فيه أمور غريبة ونِكات عجيبة،تَغرّب عنك لجلالة قدرها ولا تكاد تفهمها للطافة أمرها،لنها بالكلية مُنافية لأمر ظاهرك،جارية على أسلوب بخلاف ما تعلمه من نفسك.. ولو أعطيتَ من الوجود ماذا عسى أن تُعطَه،فإن الجمال المنفصل عنك كالأموال والأولاد وأمثالهما، ليس كالجمال المتّصل بك من حُسن الخلقة وشرف النّسب وجمال الهيبة وكمال مكارم الأخلاق. لأن الجمال الذي هو عبارة عن وجودك هو الباقي لك،وما سواه فلا بد من مفارقته.. الفصل الثاني: في مظهرية الإنسان للعالم صورة ومعنى،علواً وسفلاً،ظاهراً وباطناً،فاعلة ومنفعلة: الإنسان على الحقيقة ليس هو بتَبع للعالم ولا نسخة له،بل العالم تبع الإنسان ونسخته. وما سمّي العالم بالإنسان الكبير إلا لكون الأشياء الموجودة في العالم محسوساً في النظر والرؤية،لا أنه أكبر في المقدار عند الله تعالى من الإنسان. فلذلك كان في الإنسان أشياء موجودة ليست هي في العالم الكبير إلا من حيث الحُكم،وهذه الأشياء الموجودة في الإنسان هي أشرف الأمور كالعلم بالله مثلاً. فإن العالم الكبير ليس عنده مرتبة العلم بالله،ولا مرتبة الوسع الإلهي المذكور في قوله: لم تسعني أرضي ولا سمائي،ووسعني قلب عبدي المؤمن اهـ،فكل ما في العالم في الإنسان ولا عكس.. ولا اعتبار بخلق السماوات والأرض والملائكة قبل خلق الإنسان،فإنما جرت سنّة الله بذلك أن يخلق الشجرة قبل الثمرة،والثمرة هي المقصودة من الشجر. ألا تراه كيف يخلق الجسم في الرحم قبل نفخ الروح فيه،فكذلك العالم بالمثابة جسم والإنسان روحه،ألا تراه يفنى الجسم والروح باقية.. فإذا عرفت ذلك فاعلم أن الإنسان عالم كبير في نفسه،وفيه مضاهاة لكل شيء من الأشياء الموجودة في العالم الكبير،جملة وتفصيلاً. فأول مضاهاته هي المضاهاة العلوية: يُضاهي العرش بقلبه،وقد قال صلى الله عليه وسلم: قلب المؤمن عرش الله تعالى اهـ. ويُضاهي الكرسي بنفسه،ويضاهي اللوح بمخيلته. فكما أن صور الموجودات ظاهرة في اللوح،كذلك هي ظاهرة في مخيلة الإنسان مُنطبعة فيها بالقبلية الأصلية. ويضاهي القلم بعقله الكلّي،فكما أن القلم يُثبت في اللوح مقادير الموجود كذلك العقل يثبت في المخيلة مقادير الأشياء. ويضاهي العناصر بطبعه،ويضاهي السماوات السبعة وأفلاكها بقواه الروحانية. ومضاهاته للملائكة: فمضاهاته لجبريل بالعقل الأول منه،ومضاهاته لإسرافيل بقلبه،ومضاهاته لميكائيل بهمّته، ومضاهاته لعزرائيل بوهميته،ومضاهاته لباقي الملائكة المسخرة بخواطره الفكرية،ومضاهاته للكروبيين بالقوى القدسية التي له في روحه. ومضاهاته للجنة والنار بمصورته،لأنه يُصوّر في وجوده بمصورته جميع تلك الأشياء الموجودة فيهما من النعيم والعذاب وأسبابهما. ويضاهي البرزخ بعالم المثال الموجود فيه،والدليل على ذلك قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) الآية،فعلم من ذلك أن عالم البرزخ الذي يكون فيه الإنسان بعد الموت هو عالم المثال الذي يكون فيه الإنسان عند النوم،لأن الميت ممسوك فيه والمتيقظ مُرسل منه،وقد وجدنا ذلك بطريقة الكشف والمعاينة تحقيقاً. وإنما سُمّي بعالم المثال للحيّ وبالبرزخ للميّت،لأن الحي يضرب له فيه الأمثلة عن الحوادث فيعبّرها عند يقظته،والميت تظهر له فيه الحوادث صوراً فيرى محله وموضعه من الدار الآخرة.. ويُضاهي الحشر بعالم خياله،ثمّ إنه يضاهي الميزان بعقله المعاشي لمقابلة الأشياء بمقتضياتها.. ثم إنه يضاهي المحاسبة بنتائج فكره،ويضاهي الصراط بطريق هُداه الحاصل فيه إلى معرفة كل شيء. وأيضا الحق بروحه،فكما تقول في الحق تعالى: حي وعليم ومريد وقادر وسميع وبصير ومتكلم،كذلك تقول في روح الإنسان.. وقد تمّ بذلك مضاهاته للعالم العلوي جميعه،ملائكته وملكوتيته وحبروتيته وإلهيته. ونقول في مضاهاته للعالم السفلي: فإنه يضاهي الكرة النارية بالمرّة الصفراوية،ويضاهيالكرة الهوائية بالطبيعة الدموية،ويضاهي الكرة المائية بالخلط البلغمي،ويضاهي الكرة الترابية بالطبيعة السوداوية،ويضاهي النبات بشعره،ويضاهي الحيوان بنفسه الحيوانية،ويضاهي كذلك كل جنس من الحيوانات بما في قابلية نفسه الحيوانية من الأوصاف.. وقد فتحت لك باباً شريفاً في معرفة مضاهاته للأشياء جميعها: علويها وسفليها،سعيدها وشقيّها،دقيقها وجليلها،كثيرها وقليلها،حقها وخلقها. ففُكّ هذا الرمز منك،وافتح قُفل هذه الخزانة الشريفة تقع على المطلوب.. وصل: وقد آن أن نختم الكتاب بوصْل يوصلك إلى السعادة الكبرى إن فعلت ما تضمّنه،والله الموفق وهو الهادي. اعلم أنّا ذكرنا مضاهاة الإنسان للعوالم كلها،وليس القصد من ذلك كله إلا لتعلم أن العالم صورة والإنسان روح تلك الصورة.. ولما كانت فيك حقائق لا تصل إلى معرفتها،وضعَ لك ذلك الاسم وليس له مسمى سواك. فأول ذلك هو أن تعقد بقلبك وقالبك أنك مُسمّى ذلك الاسم الأعظم،ثمّ تشهد تلك الصفات الكمالية بكمالها على سبيل الملك والمرتبة،لا على سبيل الحكم والمجاز. فإذا استقام قلبك على هذا العقد،وانتفى عنك الرّيب والخناس وزال الشك والالتباس،فإنك سوف تجد تلك الأوصاف فيك شهوداً وجودياً عيانياً. فإذا صح لك ذلك رجعت إلى تفصيل ذلك الأمر الإجمالي بفتق ما أريتهُ من الأمر في المشهد الأول،فتأخذ في التعين بكل اسم وصفة على حد ما هو عليه. فإذا تمّ لك ذلك تنفتح عليك أبواب المناظر الإلهية الغيبية الشهودية،فيقع لك ضرورة الشهود بجميع ما كتب عقدك عليه قلبك حتى تجده بكليتك،فتحصل لك في هذا المقام لذّة عظيمة تُخرجك عن الحد البشري.. ثم تنتقل بعد ذلك إلى مشاهد الحقيقة،وذلك هو المعبر عنه بحق اليقين. فأول ما تشرع في عمل ما اقتضته الصفات الكمالية التي بك،فلا تزال مصيباً تارة ومُخطئاً تارة إلى أن يلج جمل القلب من سمّ خياط الصفة القادرية بالهمّة العالية والاستقامة الزاكية،فحينئذ تجلو الأشياء في العالم الروحاني وتستهلك من أمره،حتى أنك تتشكّل بكل صورة روحانية. ثم لا تزال والأمر يتفتح عليك وقلبك يأخذ في القوة إلى أن تتمكّن من ذلك في عالم الأجسام،فتفعل ما تشاء. ثمّ تعمل في تصحيح الصفة العلمية،فأول عمل لك في هذا الشرع أن تتصوّر أنه البيّن،على حذر بما اقتضته حقيقتك من حيث ما هي عليه تلك الصور. ثم ترتقي إلى أن لا تحتاج إلى ذلك التصوير،بل بنفس اطّلاعك على حقيقتك من حيث ذلك الشيء تجد الأمر على ما هو عليه،فتارة تجده عياناً وتارة تجده وقوعاً يقع عندك علمه بحيث لا تقدر على ردّه،وآونة تسمع خطاباً منك بتحقيق ذلك الأمر. ولا تزال كذلك حتى تفرُغ عن جميعها التعملات في جميع الأوصاف،فتكون ذاتاً ساذجاً.. وأنت برزخ بين بحرين: البحر الأول الذي يقع عليه نظرك هو بحر الألوهية،والبحر الثاني الذي يقع عليه نظره منك هو بحر الخلقية والعبودية،وهذا البحر هو الدرّ يكون وراء ظهرك،والأول هو بين عينيك. فلا تزال كذلك مقدّس الذات،منزّه الصفات،ظاهراً بجميع التشبيهات،جامعاً للمعاني والتصورات، فاعلاً ما تريده من سائر الإرادات،عالماً بما هي عليه جميع الموجودات، عاملاً بما تقتضيه شؤونك في جميع الحالات. وقد كمُل الخطاب،وهذا ختم الكتاب،والله أعلم بالصواب. والحمد لله،وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.

هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

عرض التعليقات (1)

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد