النص المتبقى شرحه من المشهد الثاني:
فقيل لي : ألق ثوبك وارم الماء والأحجار ،فقد وجدت فألقيت كل شيء كان عندي ،وما رأيت حيث ألقيت وبقيت.فقال لي:الآن أنت أنت.ثم قال لي :ترى ما أحسن هذه الظلمة ،وما أشد ضوؤها،وما أسطع نورها.هذه الظلمة مطلع الأنوار،ومنبع عيون الأسرار،وعنصر المواد.من هذه الظلمة أوجدتك وإليها أردّك ،ولست أخرجك منها .ثم فتح لي قدر سم الخياط،فخرجت عليه،فرأيت بهاء ونورا ساطعا.فقال لي :رأيت ما أشد ظلام هذا النور. أخرج يدك،فلن تراها.فأخرجت يدي ،فما رأيتها.فقال :هذا نوري،لايرى فيه غيري نفسه . ثم قال لي :ارجع إلى ظلمتك،فإنك مبعود عن أبناء جنسك.ثم قال لي :ليس في الظلمة غيرك،ولا أوجدت منها سواك، منها أخذتك.ثم قال لي :كل موجود دونك خلقته من نور ،إلا أنت .فإنك مخلوق من الظلمة.ثم قال لي :وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ” لو كانوا في النور لقدّروه .أنت عبدي حقا.ثم قال لي : إن أردت أن تراني،فارفع السترعن وجهي.
الشرح
فقيل لي:ألق ثوبك وارم الماء والأحجار،فقد وجدت ،فألقيت كل شيء كان عندي،وما رأيت حيث ألقيت وبقيت”
أي لم يلتفت لقامته المعرفية،ولا لمقامه العرفاني،فهو في حالة فناء،وبعد أن ألقى انتقل الى حالة البقاء،لأن مقام العبودية هو الأرقى والأنقى والأرسخ، والأوضح. قال في الباب 311 :ما أعرف اليوم في علمي من تحقق بمقام العبودية أكثر مني وإن كان ثم فهو مثلي فإني بلغت من العبودية غايتها ، فأنا العبد الممحض الخالص لا أعرف للربوبية طمعا انتهى .لذا قيل له:” الآن أنت أنت.” فوجد نفسه ووجد حقيقته، واستقربه المقام في العبودية المحضة التي لاتشوبها ربوبية.كان عدما ظاهرا فأصبح حقيقة شاهدة ومشهودة “وأضاءت ظلمته وسطع نورها “.
” ثم قال لي :ترى ما أحسن هذه الظلمة،وما أشد ضوؤها،وما أسطع نورها”.هذه الظلمة مطلع الأنوار،ومنبع عيون الأسرار،وعنصر المواد.من هذه الظلمة أوجدتك ،وإليها أردّك،ولست أخرجك منها….”
فهذه الظلمة ليست ضدا للنور والضياء،بل هي ظلمة منيرة،هي مطلع الأنوار ومنبع الأسرار.وهذا من صفات الحقيقة المحمدية،منها انشقت الاسرار،وانفلقت الانوار ،فالحق سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصربه ،تروحنت نفسه استقرت النبوة المحمدية في وجدانه فشاهدها بها،فهي الشاهدة المشهودة.تجلت بظلمة أنوارها في قلبه كما كان التجلي لموسى عليه السلام في النار(وان بورك من في النار ومن حولها)كنى عن هذا التجلي بالظلمة،وليس لها جمع أي لاتجمع على ظلمات،لأن النبوة المحمدية،لاضرة لها في الوجود اطلاقا،ونعتها بالظلمة إشارة الى ليل الجهل بها،وعدم معرفة كنهها،وحقيقة محتدها الأحدي،الذى عبر عنه العارفون بالعدم،وهي ظلمة نورانية تحول دون معرفة الله . ورد في الحديث:”إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره”(وفي المشهد الثالث ذكرٌ لهذه الحجب)والحجاب الظلماني هوعين الحجاب النوراني من حيث حقيقته، ورجوعه الى الاسم الجامع “الله”. فالنهار(وهو ضوء)مسلوخ من الليل(وهوظلام) (واية لهم اليل نسلخ منه النهار)لهذا في عالم الظهور اذا كان الظلام وحضر النور،اختفت الظلمة،ومن اسماء الله “النور” وبهذا الاسم يكون التجلي،والظلام لايعطي للناظر فيه سوى نفسه،فهو يُدرك ولا يُدرك به فإنه غيب والضوء يدرك ويدرك به.فالحقيقة المحمدية جمعت بين الاضداد، فهي نور من حيث محتدها الاحدي،وظلمة في بعض حضراتها،ظلمة الجهل بها لا ظلمة انعدام النور،فهى ظلمة نورانية.وهذه الظلمة النورانية ترجع بنا الى سر حرف الباء(ب)التي لها وجهة حقية ووجهة خلقية وهي حرف ظلمانى ظاهرا،اذ هي ليست من الحروف الأربعة عشرة الواردة في اوائل السور(تجمع في:طرق سمعك النصيحة)وهي حرف نوراني لأن بسطها وكسرها،يشير الى الصفة الأحدية .ب = 13= احد.
قال ابن عربي: الألف تعطي الذات،والباء تعطي الصفة ،وقال : بالباء ظهر الوجود وبالنقطة تميز العابد من المعبود،وقال الشيخ أبو مدين رحمه الله:ما رأيت شيئا إلا رأيت الباء عليه مكتوبة،وقال الشيخ الشبلي :أنا النقطة التي تحت الباء.
وكل ايات القرءان بدأت بحرف الباء،وهذه العلوم هي المسماة بالعلوم البائية.وعلوم الباء لا يمحيها الماء كما قال الشيخ التبريزي.
وعنصر المواد.من هذه الظلمة أوجدتك ،وإليها أردّك،ولست أخرجك منها.…
فهي الحق المخلوق به،وهي أم الاكوان من حيث حقيقته،لامن حيث صورته،هي “يبنؤم” موسى وهارون ،ويبنؤم الصافون والمسبحون،وخلائق اجمعون.
وفي هذه المشاهد،هذه الظلمة صفة لابن عربي،والرجوع الى الاصل اصل( ان الذي فرض عليك القرءان لرادك الى معاد)فهي معاد ابن عربي،هي المتجلية في قلبه،ولن يخرج منها،لأن مقامه أصبح ذاتيا له،وسيبعث يوم القيامة مرتديا صفته . ورد في الحديث(إنَّ للهِ جُلَسَاءَ يومَ القيامةِ عن يمينِ العرشِ،وكِلْتَا يدَي اللهِ يمينٌ،على منابرٍ مِن نورٍ،وجوهُهُم مِن نورٍ،لَيسوا بأنبياءَ ولاشُهداءَ ولاصدِّيقينَ قيلَ:يا رسولَ اللهِ،مَن هُم ؟ قال:هُم المُتحابُّونَ بجلالِ اللهِ تباركَ وتعالى”(انتبه قال” بجلال الله” وليس بجمال الله). .
ثم فتح لي قدر سم الخياط (وسم الخياط هو تعبير يستخدم لوصف شيء صعب او مستحيل)
فخرجت عليه،فرأيت بهاء ونورا ساطعا.فقال لي :رأيت ما أشد ظلام هذا النور. أخرج يدك،فلن تراها.فأخرجت يدي،فما رأيتها.فقال :هذا نوري ،لايرى فيه غيري نفسي.
أنوار الحقيقة المحمدية ملأت عالمي الملك والملكوت،من شدتها ظهوره اختفت هي الروح الكلية،وقال تعالى (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) فهي من أمر الله ،وأمر الله لايطلع عليه أحد “ماعرفني حقيقة غير ربي”.
قال تعالى (ورفعنا لك ذكرك)ومن رفع الله ذكره كيف تصله الأفهام،والأذواق، والعقول،والكشوفات، اصطحب بالاسم ‘الظاهر”وبالاسم “الباطن” فظهر وبطن، تجلى وتستر،فكان باطنا في عين ظهوره وظاهرا في عين بطونه.
قال الشيخ ابو العباس المرسي:
وما احتجبت الا لكشف حجابها= ومن عجب أن الظهور تستر
فكيف تُدرك حقيقته صلى الله عليه وسلم ؟ هيهات هيهات.فما أدرك العارفون من حقيقته إلاعلى قدر تجليات عصرهم،وحسب مايريد الله تعالى اظهاره في زمانهم،فما ظهر،كان سببا يسمو به زمانهم وتتقدم به العلوم والتكنولوجيا…وما بطن فهو رحمة بهم ولهم،وكيف يرى يده هو امام تجلي النبوة المحمدية في الظلمة؟ وسلطان التجلي هو الحاكم وعلى كل الشؤون قائم؟
ثم قال لي :ارجع إلى ظلمتك،فإنك مبعود عن أبناء جنسك: ثم قال لي : ليس في الظلمة غيرك ،ولاأوجدت منها سواك،منها أخذتك .
ارجع الى صفتك،فأنت منفرد بها بين أبناء جنسك،أنت الإنسان الكامل،فليس في الظلمة غيرك ،لأن مقام الختمية ،لايخص إلا فردا واحدا في زمانه،فلا مثل لك،ولا ثاني لك،فأنت مبعود عن أبناء جنسه .
خُص ابن عربي بأعلى مقام في الولاية المحمدية:مقام الختمية الكبرى،وتربع على كرسيه أزيد من أربعين سنة،وبعد موته احتل خانة العرش بالمخمس العرشي.
قال ابن عربي :
لكل عصر واحد يسمو به =وأنا لباقي العصر ذاك الواحد
يقول الشيخ الكتاني في كتابه خبيئة الكون أن ابن عربي هو الختم المحمدي على كل الأزمنة.
يقول ابن عربي في ج1 ص 319…. فكنت بمكة سنة تسع وتسعين وخمسمائة أرى فيما يرى النائم الكعبة مبنية بلبن فضة وذهب،لبنة فضة ولبنة ذهب،وقد كملت بالنباء وما بقي فيها شيء،وأنا أنظر إليها وإلى حسنها فألتفت إلى الوجه الذي بين الركن اليماني والشامي هو إلى الركن الشامي أقرب،فوجدت موضع لبنتين لبنة فضة ولبنة ذهب ينقص من الحائط في الصفين،في الصف الأعلى ينقص لبنة ذهب،وفي الصف الذي يليه ينقص لبنة فضة، فرأيت نفسي قد انطبعت في موضع تلك اللبنتين فكنت أنا عين تينك اللبنتين وكمل الحائط ولم يبق في الكعبة شيء ينقص وأنا واقف أنظر وأعلم أني واقف وأعلم أني عين تينك اللبنتين لا أشك في ذلك وأنهما عين ذاتي. واستيقظت فشكرت الله تعالى وقلت متأوّلا أني في الإتباع في صنفي كرسول الله في الأنبياء عليهم السلام وعسى أن أكون ممن ختم الله الولاية بي وما ذلك على الله بعزيز وذكرت حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم في ضربه المثل بالحائط وأنه كان تلك اللبنة…انتهى.
اللبنتان تشيران الى مقام الختمية ومقام المخمس العرشي. فمقام الختمية ذاتي له،ومقامه في المخمس العرشي كذلك.
يقول ابن عربي ف ح ج3 صفحة 323 “…. وإن يخصني بمقام لا يكون لمتبع اعلى منه ولو أشركني فيه جميع من في العالم،لم أتأثر لذلك فإني عبد محض لا أطلب التفوق على عباده بل جعل الله في نفسي من الفرح أني أتمنى أن يكون العالم كله على قدم واحدة في أعلى المراتب فخصني الله بخاتمة أمر لم يخطر لي ببال …..”انتهى.
يقول فلا يكون لمتبع اعلى منه،ولكن لو اشرك معه غيره في هذا المقام لم يتأثر بذلك بل يفرح،فجاء من بعد الشيخ الأكبر أختام غيره.
ليس في الظلمة غيرك، ولا أوجدت منها سواك
.لأنك في مقامك متصف بالفردانية،ولاضرة لك في زمانك، فأنت في مقام وحدة الشهود ،أنت المخلوق على الصورة المنطبع في المرآة، أنت الوارث لظلمة الهوية الالهية المحمدية الاحمدية،المردود لفنائك الظلماني،وكمالك النوراني.
منها أوجدتك ،ومنها أخذتك،وإليها أردّك،هذه المعاني كله تصب فيما ذكرناه ان هذه الظلمة هي وصف للحقيقة المحمدية،من حيث بطونها وعدم إدراك كنهها،والوصول الى حقيقتها فهي ظلام شديد النور يراه من فتح الله عين بصيرته ،وكان ناظرا بنور هذا الظلام،لأن هذا الظلام أصبح صفة ذاتية له.
“أخرج يدك فلن تراها” كيف يرى يده،وهو فان في حقيقة نبيه،وهو ظل ردائه.فكيف للظل ان يرى صاحبه ؟ هذه يده ،لا يجهلها،ومن شدة ظلمة هذا النور لم يراها؟ فكيف له برؤية هذه الحقيقة التي جمعت بين الظلام والنور،فهذا النورالمحمدي واسطة في تجليات الحق،وترى فيه الألوهية مظاهر أسمائها. فلا تطلب التحقيق في حقيقة هذه الظلمة،ولا زيادة التدقيق في حقيقة هذا النور،فهي ظلام شديد النور،ونور شديد الظلام.فكن ابراهيمي المشرب وليطمئن قلبك
فأخرجت يدي ،فما رأيتها.
فقال :هذا نوري ،لايرى فيه غيري نفسي فنوره. هو النورالمحمدي،ترى فيه الألوهية نفسها،والأسماء الإلهية أثارها ،وهو الظاهر في المظاهر.
ثم قال لي :كل موجود دونك خلقته من نور. من نور الأسماء الإلهية.”خلق الله ءادم على صورة الرحمن”. والكون كله منطبع في المرآة المحمدية.
إلا أنت .فإنك مخلوق من الظلمة.
ظلمة النور المحمدي الأحمدي،فأنت خليفته وظل رداءه.
ثم قال لي :وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
يقول في ج 1 ص 230 :… وقد حصل لنا منه صلى الله عليه وسلم شعرة وهذا كثير لمن عرف فما عند الخلق منه إلا ظله،ولما أطلعني الله عليه،لم يكن عن سؤال وإنما كان عن عناية من الله..فتوقفت وسألت الحجاب فعلم ما أردت فوضع الحجاب بيني وبين المقام…” ….. وممن تحقق بهذا المقام معنا أبو يزيد البسطامي كشف له منه بعد السؤال والتضرع قدر خرق الإبرة فأراد أن بضع قدمه فيه فاحترق فعلم أنه لا ينال ذوقا وهو كمال العبودة… انتهى بالتصرف.
فاذا كان الولي الختم لايستطيع تقدير النور المحمدي الاحمدي فما بالك بالذات الالهية.فإذا أخبرنا الله تعالى أناعاجزون عن إدراك حق قدره، فكيف لنا بحقيقة قدره ،وكيف لنا بمعرفة ذاته .؟ فلا احد يعرف شيئا عن الذات الالهية،وبالتالي لا يستطيع تقديرها حق قدرها.ولا أحد يعرف الحقيقة المحمدية،وبالتالي لا يستطيع تقديرها حق قدرها. والاعتراف بعدم الادراك ،هو معرفة،وكمال العبودية. قال الصديق”العجز عن الادراك ادراك”.
لو كانوا في النور لقدّروه .
لقدروه الضمير راجع على النور،لو كانوا في نور المعرفة لعرفوا أن الجهل بالله، والجهل بالحقيقة المحمدية هو المعرفة وهذا تقديرهم لها. أنت وصلت الى هذا المقام فأنت عبدي حقا.
ثم قال لي : إن أردت أن تراني،فارفع السترعن وجهي.