.فسلكتها،فرأيت بها عقارب وحيات وأفاعي وأسودا

المشهد 2،الشرح الثالث

  1. فقلت له: كيف يبقى الدّرّ درّا،والجوهر جوهرا، والمرجان مرجانا.قال : إذا خرجت من البحر،فأخرج معك من مائه،فما بقي الماء بقي الدر،والجوهر، والمرجان على حاله. فإن يبس الماء عادت أحجارا .وفي سورة الأنبياء أوضحت سره . فأخرجت معي من الماء،فلما وصلت القفر رأيت،في وسط القفر، روضة خضراء فقيل لي: ادخلها.فدخلت،فرأيت أزهارها، وأنوارها،وطيورها، وثمارها .فمددت يدي لآكل من ثمرها، فيبس الماء واستحالت الجواهر فإذا النداء:ألق ما بيدك من ثمرها.فألقيت بها فنبع الماء، وعادت الجواهر إلى حاله . ثم قال لي:سر إلى آخر الروضة. فسرت، فوجدت صحرا . فقال:اسلكها .فسلكتها،فرأيت بها عقارب وحيات وأفاعي وأسودا. فكلما نالني منها ضرر نضحت الموضع بالماء ، فبرئ .ثم فتح لي في آخر الصحراء عن جنات، فدخلتها فيبس الماء، فخرجت منها فنبع الماء.ثم دخلت ظلمة،فقيل لي :ألق ثوبك وارم الماء والأحجار
    الشرح:

فقلت له: كيف يبقى الدّرّ درّا ،والجوهر جوهرا،والمرجان مرجانا ؟أي كيف لهذه الحقائق ان تبقى قيمتها ثابتة واسرارها قائمة ولا تتغير؟

قال:إذا خرجت من البحر، فأخرج معك من مائه،فما بقي الماء، بقي الدر،والجوهر، والمرجان على حاله.فإن يبس الماء عادت أحجارا وفي سورة الأنبياء أوضحت سره

 سبق وان ذكرنا قول ابن عربي (ثم أشهدني ما فوق الأخذ ،فرأيت اليد الإلهية)واليد الالهية هي القضاء،والقضاء سابق(ثم برزت اليد ،فإذا هي ساحل لذلك البحر)وهي ساحل البحر والقدر تابع لها،فالإرادة الإلهية غير تابعة لتصرفات العبد،غير مقيدة بها،وأحوال العبد لاتغير صفات الرب. فعطاؤه تعالى ومنعه،وضره ونفعه،غير معللين بشئ من أفعال خلقه،فلا الطاعة تنفعه ولا المعصية تضره،ومشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب. في بحر الربوبية لا توجد الا إرادة الله ،وفي بر المربوبين لاتوجد إلا مشيئة الإلهية(قل كل من عند الله)( والله خلقكم وما تعملون).                            بحر التجليات،وبر المقتضيات

قال تعالى في سورة الانبياء (أَوَلَمْ يَرَ اَ۬لذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضَ كَانَتَا رَتْقاٗ فَفَتَقْنَٰهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ اَ۬لْمَآءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّۖ اَفَلَايُومِنُونَ)الماء في الاية إشارة الى مرتبة من مراتب النبوة المحمدية،لذا وردت بالجعل،وليس بالخلق(أي لم يقل تعالى وخلقنا من الماء كل شيء حي) الماء الذي نعرفه،المكون من ذرتي الهدروجين وذرة الاوكسجين، والذي نحتاجه في حياتنا كان في باطن الارض ومنها خرج (والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها) “ماءها“. نسبه إليها.هذه المرتبة المحمدية،ظهرت بعد الفتق، وهي أم الوجود،منها جُعل كل شيءموجود.

:(كل شيء حي)

وما في الوجود إلا حي ،يسبح بحمد خالقه،والحقيقة المحمدية تترقى في مراتبها وحضراتها، فترقيها ذاتي لها،وليس عن نقص سابق،فالأسرار والحقائق أي “الدر والجواهر والمرجان” قائمة بالمرتبة التي تُسيٍّرها، وتسير تحت سلطان التجليات الإلهية،واذا كان الانتقال الى مرتبة آخرى،جفت التي قبلها،ففي كل عصر تظهر حضرات محمدية،لم تكن في العصر الذي قبله،لأن الكون يسير نحو الفناء،ولن تقوم الساعة حتى تظهر كل المقتضيات القرءانية،و كل شيء في الوجود،هو من مقتضى القرءان. 

 “فإن يبس الماء عادت أحجارا”(فإن)”إن” تشكيكية تقليلية، ولم يقل(فإذا) التي تفيد التحقيق،وأن الشئ واقع لا محالة.فالمرتبة وإن انتهى التجلي بها ،يمكن أن يبقى حكمها مستمرا،لذا جاءت “إن التشكيكية”(هذا ما أعطاه الذوق الصوفي السليم، والمنطق العرفاني القويم،لا الكشف)وهذا ما أشار إليه العارف الكبيرالبوصيري، بقوله : 

تتباهى بك العصور وتسمو● بك علياء بعدها علياء.

وعبر عنه الشيخ التجاني في صلاة جوهرة الكمال بقوله: صراطك التام الاسقم (صلاة أُعطيته من الحضرة المحمدية)

    فقابلية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،وحده،بقوابل سائر الموجودات،فهو المستفيض الأول،والمفيض الثاني،لأن الفيض الأقدس الرحموتي متوجه إليه بالتوجه الأول،ومنه يتوجه الى بقية المخلوقات،بقدر قوابلهم فهو كل الوجود،وبه كل شئ،وفق مراد الله.فالحقيقة المحمدية هي حقيقة الحقائق،التي لايقف على كنهها أحد من الخلائق.
فأخرجت معي من الماء،فلما وصلت القفر رأيت،في وسط القفر،روضة خضراء فقيل لي: ادخلها .فدخلت فرأيت أزهارها، وأنوارها،وطيورها،وثمارها . فمددت يدي لآكل من ثمرها، فيبس الماء واستحالت الجواهر ،فإذا النداء:ألق ما بيدك من ثمرها. فألقيت بها فنبع الماء، وعادت الجواهر إلى حالها .     

 أرض قفر،أي خلاء من الارض لاماء فيه،ولاسكان،ولا كلأ ، وهي ساحل هذا البحر..

  قفر، ومع ذلك في وسطها أرض خضراء فيها حياة وبها سكان.”قيل له ادخلها” ولكن لم يقل له كل من ثمارها،أراد الأكل بدون إذن.فيبس الماء أي المدد انقطع، واستحالت الجواهر ،أي جمد التجلي عليها فرجعت احجارا،وجاء النداء،ينبهه الى سر الاذن. “ألق ما بيدك من ثمارها”فلا إذن لك في الأكل منها،فألقاها فنبع الماء وعادت الجواهر الى حالها.وهنا اشارة ان الحياة منوطة بحضرات النبوة المحمدية، وغيابها عن الكون يفتح المجال للجلال (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون)فالنبوة المحمدية شمس الوجود ليس لها كسوف ،وقمره ليس له خسوف،لوغابت عن الوجود لانفطرت سماؤه، وانكدرت نجومه،وانتثرت كواكبه وزلزلت أرضه،وقامت قيامته. والاستمداد من حضراتها يكون بإذنها(عينا يشرب بها المقربون)يشرب بها، فهي الماء وهي الإناء،ولم يقل تعالى يشرب منها.                   الروضة لونها أخضر،وهو لون لباس أهل الجنة،ولون البحر اخضر،وبها أزهار،وأنوار وطيور،وماء …هذه الروضة اشارة الى الأسماء الإلهية الجمالية،وبدأ بها ،أي بالجمال لأنه ورد في الحديث”رحمتي سبقت غضبي”ولأن النبوة المحمدية أرسلت  رحمة للعالمين.فالبحر الاخضر،يشير الى الإجمال،حيث حكم الله الأولي، والبر(القفر) يشير الى التفصيل،وظهور تجليات الأسماء الجمالية والجلالية. 

            فإذا النداء:ألق ما بيدك من ثمرها.                            فألقيت بها،فنبع الماء،وعادت الجواهر إلى حالها.النداء يذكره بسر الاذن،قال تعالى(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌرَحِيمٌ)(سورة النور).

ثم قال لي:سر إلى آخر الروضة. فسرت،فوجدت صحراء .فقال: اسلكها .فسلكتها، فرأيت بها عقارب وحيات وأفاعي وأسودا. فكلما نالني منها ضرر نضحت الموضع بالماء،فبرئ .ثم فتح لي في آخر الصحراء عن جنات، فدخلتها فيبس الماء،فخرجت منها فنبع الماء.ثم دخلت ظلمة، فقيل لي :ألق ثوبك و ارم الماء والأحجار.

بآخرالروضة صحراء،بها عقارب وحيات وأفاعي،وأسود وهذا اشارة الى الأسماء الإلهية الجلالية، كلما أصابه منها ضرر، شفي بالماء،ماء الحياة، فالتجليات الإلهية الجلالية تدخل عليها النبوة المحمدية الرحمة واللطف(وما ارسلناك الا رحمة للعالمين).

في الروضة الجمالية قيل له “ادخل”،وفي الصحراء الجلالية قيل له “اسلك” والقرءان الكريم لم يستعمل”سلك” إلا مع جهنم (ما سلككم في سقر)(يسلكه عذابا صعدا)اي مع الجلال.لم يؤمر بالاستفادة من الجمال،في حين تسلط عليه الجلال،دون رغبة منه ،كل هذا ليعرف قيمة الماء،ماء الوجود،المجعول منه كل موجود،وهو سر حياة الوجود،ولولاه لانهد الوجود وصار محض عدم.

يقول ابن الفارض:

ولو نَضحوا منها ثرَى قبرِ مَيّتٍ= لعادتْ اليه الرّوحُ وانتَعَشَ الجسم                             ولو طَرَحُوا في فَيءِ حائطِ كَرْمِها=عليلاً وقد أشفى لفَارَقَهُ السّقم                        ولوقَرّبُوا من حانِها مُقْعَداً مشَى=وتنطِقُ من ذِكْرَى مذاقتِها البُكْم                            ولوعَبِقَتْ في الشرق أنفاسُ طِيبِها=وفي الغربِ مزكومٌ لعادَ لهُ الشَّمُّ           

      ويظهرمن هذا المشهد ان الحقيقة المحمدية دواء لكل داء ،وبها يمكن للعارف أن يغير مقتضى التجلي ،من الجلال الى الجمال،بدعاء خاص يحرك القدر.

ثم فتح لي في آخر الصحراء عن جنات:

الصحراء،هذا جلال ،باطنه جمال(جنات) وهذه دائرة الأسماء الإلهية التي جمعت بين الجمال والجلال .بمجرد دخوله ظهرت تجليات الجلال(فدخلتها فيبس الماء) وبمجرد خروجه ظهرت تجليات الجمال(فنبع الماء). ليبين له ،أن ليس له من الامر شئ ،وأن الامر كله بيد الله.وأن مراتب النبوة المحمدية تابعة للارادة الالهية، ولا فاعل في الوجود الا الله،والماء ،هو ماء الحياة بإرادة الله، وبجعل من الله(وجعلنا من الماء كل شئ حي) لا بنفسه

 لذا قيل له(إلق ثوبك)أي تدبيرك،واختيارك ،ورؤيتك لنفسك.                              في الروضة الخضراء استعمل “الدخول“وفي الصحراء استعمل “السلوك“وفي الاخير يستعمل الفتح،والفتح معه الخيروهو جمال(ما يفتح الله من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له) ونسب الله تعالى الفتح إليه(فعسى الله أن ياتي بالفتح أوأمر من عنده)ويقال فتح الله عليه في العلم،وفتح عليه في الرزق، وسورة كاملة تحمله اسم “سورة الفتح”. فالمفتوح عليه يمرمن تجليات الجلال اكثر من تجليات الجمال(حفت الجنة بالمكاره).

ثم دخلت ظلمة:

يقول ابن عربي :”قال لي الحق”و “قلت له”إنما هي أسرار يجدها أهل هذه الطريقة في أنفسهم،يتردد الخطاب بها على وجودهم،فالخطاب منك إليك،على قدر ما يفتح لك.. .انتهى.

فالظلمة ليست خارجة عنه. والخطاب منه إليه والدخول منه فيه .                         قال الشيخ الاكبر”…لأهل الحق موتات أربعة في الحياة الدنيا، موت أبيض وهو الجوع،موت أحمر وهو مخالفة النفس عن هواها،موت أخضر وهو طرح الرقاع بعضها على بعض،موت أسود،وهو احتمال أذى الناس بل مطلق الأذى(الفتوحات ص 258 – ج1) .

الموتات الأربعة كلها مجاهدات للنفس،وفي ذلك غم للنفس، والغم ظلمة.                      في هذا المشهد عرف ابن عربي كيف تكون التجليات الجمالية، والتجليات الجلالية ،والتجليات الجلالية الجمالية،وعرف كيفية تصرف القدر في المقدور، قال“ثم دخلت ظلمة”ولم يقل سلكت ظلمة،دخل ظلمة نفسه،ظاهرها ظلمة وباطنها نور،كما بين هذا في باقي المشهد،لأن النفس المتروحنة تعود على صاحبها بصفاء السريرة وفتح البصيرة،وسلامة القلب.فالنفس ان لم تمت تكون حجابا للسالك،والحجاب ظلمة. فالظلمة تُدرك ولايُدرك بها، والنور يدرك ويدرك به.
فقيل لي :ألق ثوبك و ارم الماء والأحجار.                             أي تجرد عن غير الله وعن علمك ،ولا يبق للسوى كيف ما كان في نفس أثر.    

     يقول القاشاني(المصطلحات):

هناك اخلاص الخواص،هو اخراج رؤية العمل من العمل، بحيث لا تفتخر في نفسك بالعمل ،ولا تعتقد انك تستحق عليه ثوابا ،لكونك لا ترضى به لله ،ولا تراه لائقا بجنابه العزيز ،بل تراه من عين المنة عليك، والهبة لك،لا لأنه منك.

أما إخلاص خاصة الخاصة :هو الخلاص من رؤية الاخلاص،فإن رؤية الاخلاص علة تحتاج الى الخلاص منها،ترى أنه تعالى هو استخلصك فجعلك مخلصا.

فالنفس عندما تصفى من الاكدار ولا يبق فيها غير الله ،تتروحن وتصطحب مع الروح ،لذا قيل الله فيما بعد :الآن أنت أنت.

في هذا المشهد تعرف ابن عربي على مرتبة عظيمة من مراتب النبوة ‘الماء’،وعرف ترقياتها الذاتية،وعرف كيف تكون التجليات الجمالية ،والتجليات الجلالية،والتجليات الجلالية الجمالية(بعض الاسماء في نفس الوقت جلالية وجمالية) وعرف  سر القدر في المقدور، وعرف ان التجلي عنوان على الغنى المطلق لله ،وعرف ان الامور كلها بيد الله صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها ولا فاعل غير الله، وأن مجاهدة النفس،وكبح شهواتها قاعدة اساسية ،وشرط جوهري في السلوك الى الله (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)

مشاهد ليس بالسهل شرحها ،وفي كل مشهد، اجدد طلب الاذن من الشيخ الاكبر

هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد