فلسفة ابن سبعين
من كتاب: ابن سبعين وفلسفته الصوفية،للدكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاني.
الوحدة المطلقة: يبني ابن سبعين على الوحدة المطلقة مذهبه في المحقّق أو المقرّب. فالمحقق عنده ــ وهو أكمل أفراد الإنسان ــ هو المتحقق بالوحدة المطلقة، وهو متميز عن كل من سبقه. ويجعل ابن سبعين له رتبة متميزة على رتب: الفقيه والأشعري والفيلسوف والصوفي. والمقرب أو المحقق ليس شخصاً آخر غير ابن سبعين، وهومدي العالم من حيث حقيقته الروحانية.وأصالة ابن سبعين العرفانية هي في المقارنة بين مذهب المحقق ومذاهب غيره،من الفقهاء والأشعرية والفلاسفة والصوفية،ليثبت بُطلان هذه المذاهب بالقياس إلى مذهب المحقق.وهذا ما يعرنيه ابن سبعين بكلامه عن المراتب الخمس أو الرجال الخمسة.. ونحن لا نكاد نظفر بالفكرة الفلسفية في بعض عبارات ابن سبعين حتى نجدها وقد غابت عن فهمنا بالتدرج،وانقطعت صلتها بما يليها من العبارات ــ إذ ابن سبعين كثير الاستطراد في مصنفاته ــ ويستغلق معناها حيناً بسبب هذا التعقيد الذي يلجأ إليه ابن سبعين في التعبير عن أفكاره،وهوتعقيد متعمد كما يعترف ابن سبعين نفسه بذلك. ولهذا كله وجدنا صعوبة بالغة في فهم مذهب ابن سبعين،وفي استخلاص هذا المذهب من تلك الأشتات التي لا يبدو بينها ترابط في مصنفاته..
الله فقط: هذه هي العبارة التي يصدّر بها ابن سبعين كل لَوح من كتابه الألواح،وهي القضية الكبرى في مذهبه في الوحدة المطلقة.. أما كل من عَقَل أو أحَسّ،فهو وجود ومرتبة.. والمراتب زائلة،والوجود ثابت. والثابت حقّ،والزائل وَهْم وباطل.والمراتب الوجودية المختلفة،عند ابن سبعين،عوارض للوجود،والعرض لا يبقى زمانين في التحقيق،فهو باطل أبداً.يقول في كتابه الألواح: فثبت أن الحق (الله) هو الوجود،والوهم هو المراتب الزائلة والباطنة. و(كل شيء هالك) هي المراتب الوهمية،(إلا وجهه) وهو المجد والوجود،وهو الأمر الذي لا تخرُج عنه حقيقة من الحقائق الموصوفة بالوجود. ولا وصف ولا نعت ولا حدّ ولا رسم،بالنظر إلى ذاته،سوى أنه وجود اهـ..
ويفرق ابن سبعين في الوجود،تفرقة اعتبارية،بين الهوية والماهية. فالهوية هي الكل،والماهية هي الجزء. الهوية هي الواجب الوجود،والماهية هي ممكن الوجود. والهوية عنده هي الربوبية، والماهية هي العبودية. وفي الحق لا هوية بدون ماهية،كما أنه لا ماهية بدون هوية. فهما يتّحدان اتّحاد الكل بالجزء والفرع بالأصل،ولا تفرقة بينهما على التحقيق،بل هناك وحدة مطلقة،والكثرة من وَهْم الجُهّال والعوامّ.. [ والنصوص حول ذلك في كتابه الألواح ].والله.كما يذهب ابن سبعين،هو: عين كل ظاهر،فحقّ له أن يتسمّى بالظاهر.وهو معنى كل معنى،فحقّ له أن يتسمّى بالباطن.وله القبلية الوجودية بالفعل،فحق له أن يتسمى بالأول،(وإليه يرجع الأمر كله) بحقيقة الإيجاد. وبحُكم أن عدم النهاية هو له حقيقة،حقّ له أن يتسمى بالآخر..
القصد الأول والقصد الثاني: الله،عند ابن سبعين،هو العلّة الأولى التي تتقدّم جميع العلل، وبالقصد الأول فاضَت عنه كل الأشياء. وهذه العليّة التي يكون فيها الخالق والمخلوق،او العلة والمعلول،شيئاً واحداً،هي وحدها العلّيّة الحقيقية، ولذلك يُسميها ابن سبعين بالقصد الأول. في مقابل العليّة التي توجد بين ذوات الممكنات،ويسميها بالقصد الثاني.ويترتّب على ذلك: أن ما يصدُر عن الله بالقصد الأول ضروري،ومن ذاته. على حين أن ما يصدر عن المخلوقات،بالقصد الثاني،ممكن وبالعرض. فالله هو الموجود الأول والعلّة الأولى،منذ الأزل،وهو فوق كل شيء، وهوالنور المطلق والخير المحض.ويسمي ابن سبعين الذات الأزلية أو الموجود الأول (قبل الفيض) بالقصد القديم. والذي وُجد منذ الأزل،بمقتضى قانون أزلي،يسميه بالنظام القديم..وكان المبدَع الأول هو أول ما خَلق،ولهذا المبدع الأول وجهان: وجه من الله الواجب الوجود،ووجه من الممكنات. وهذا الوجه الأخير يسميه ابن سبعين الوجود الكاذب. والمبدع الأول بالوجه الأول يعتبر هوية خاصة،وبالوجه الثاني يعتبر هوية عامة. وبما يُفاض عليه من الله هو مبدع بالقصد الأول،وبالذي يُفيض مبدع بالقصد الثاني..
مراتب الموجودات: ذكر ابن سبعين في كتابه بدّ العارف: مراتب الموجودات،كم هي،وكيف ترتبت عن الأول الحق تعالى؟. وهو يُقسّم الموجودات إلى نوعين: كليات وجزئيات. فالكليات : منها تسعة مراتب كتسعة أحاد: أولها الله عز وجل،فاعل الكل وخالق كل شيء.ثمّ العقل الكلي (المبدع الأول)،ثم النفس،ثم الطبيعة،ثم الهيولى،ثم الجسم المطلق،ثم الفلك،ثم الأركان (وهي العناصر الأربعة)،ثم المولّدات. فهذه هي الكليات.ونحن ننزل في الكليات، بالتحليل، من الأعلى إلى الأنقص فالأنقص. أما في الجزئيات فنبدأ من أنقص الحالات،ثم نرتقي أولاً بأول إلى أرفعها وأعظمها. مثال ذلك: أن ننتقل من المعدن إلى النبات،ثم إلى الحيوان،ثم إلى النفس الناطقة،ثم إلى العقل الفعال،ثم إلى العقول المجردة.. وجدير بالذكر أن ابن سبعين لا يثبت على كيفية واحدة في بيانه لمراتب الموجودات ،أو في التسميات التي يطلقها عليها.. أضف إلى ذلك أنه يطلق أحياناً على المرتبة الوجودية الواحدة تسميات كثيرة،تختلف في ظاهرها وتتّفق في مدلولها.. [ انظر نصوص ذلك في كتابه بد العارف ]..وينتهي ابن سبعين،في حديثه عن المراتب الوجودية،إلى القول: بأن جميع الجواهر الجسمانية والروحانية، المُشار إليها في مراتب الموجودات،لا وجود لها إلا بالأول ومن الأول وعن الأول.فالأوليّة ممتدة في الجميع، ملازمة لها. وهي لغيرها من الموجودات ذاتية في وجود كل واحد منها،ومقومة لطبيعتها، وكأن الكل داخل تحت آنيّتها.ووجود هذه الرتب المختلفة مُستعار،وليس بحقيقي. يقول: يُفهم من الاستعارة هنا ما يُفهم من المثال الذي لا حقيقة له إلا تخليص المسألة،ويُمحق بعد ذلك فرضه ولا يلحق بالوجود بوجه. إذ الاستعارة ما بين اثنين،والوجود واحداهـ. فوجود هذه المراتب المختلفة هو عين وجود الله، فلاكثرة في الوجود بوجه من الوجوه: ومن المحال أن يختلف الواحد في نفسه أو يعدم ما في طبع جنسه،على حد تعبير ابن سبعين نفسه..ويقسم ابن سبعين الوجود، تقسيماً اعتبارياً لا حقيقياً،إلى ثلاثة أقسام: مطلق (الله)، ومقيّد (أنا وأنت)،ومقدّر (جميع ما يقع في المستقبل).
يقول ابن سبعين في الرسالة الرضوانية: فالمقدّر لا شيء،وأنا وأنت لا شيء. فإذاً أنا نائب عن الغفلة التي حَملتني على قولي: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله بعده،ثم على ما هو أقرب من هذا وهو: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله معه،ثم على قولي ما هو أقرب من هذا وهو قولي: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله. وأنا (ابن سبعين) الآن نقول: هو هوهو،ثم نقول: هو ونَصمُت،ثم نُشير،ثم نَقطعها (يقطع الإشارة)،ثم لا ثَمّ إلا الحقّ المحض اهـ.
وفي الرسالة الفقيرية يجعل ابن سبعين الوجود المطلق حاوياً للوجود المقيّد، ويُمثّل لذلك بالدائرة التي يُجمع الوجود المقيّد كله في نقطتها،والمطلق في محيطها.. يقول: ما خالَف الوحدة المطلقة والوجود الواجب،هو عدم من جهة ووجود من أخرى. فلا وجود على الإطلاق،ولا واحد على الحقيقة،إلا الله،إلا الكُلّ،إلا الهو هو،إلا المنسوب إليه، إلا الجامع، إلا الأيْس، إلاالأصل،إلاالواحد،إلا الأصحّ أصحّ.. لا نتّهمه ولا نتوهّمه اهـ. وبذلك يؤمن ابن سبعين بأن جميع المراتب الوجودية التي يتحدّث عنها أصحاب المذاهب، من فلاسفة وصوفية،إنما هي وَهْم على التحقيق، وهي منصرفة إلى القوة الجامعة المانعة ــ الكلمة الجامعة المانعة المحيطة بكل ما يُتوهّم أو يتحقّق أو يتوسّط في أمره،وهي محركة لكل شيء ــ وعلى الإنسان المحقّق أن يصرف إلى هذه القوة الجامعة أيضاً: الواجب والممكن والعدم والمُحال،وجميع ما أدركه الحسّ أو تَطرّق إليه الوهم أو دَلّ عليه الدليل أو عُلم بالبديهة، والوجود المطلق والمقيد والمقدّر،إذا أراد أن يقف على الحق ويُعاين مرغوبه بعين كماله ويظفر بكماله اهـ..
يقول ابن سبعين في الألواح: الله فقط. الله في كل شيء بكلّه، وليس فيه الكل والبعض.وهو شيء فيه ما ليس بشيء،وما هو شيء معاً. فعَين ما تَرى ذات لا تُرى، وذات لا تُرى عين ما تَرى. فجاء في ذلك أنه حصر من انحصر،وبسط من انبسط، وانحصر وانبسط اهـ..ويعلن ابن سبعين أنه في مذهب الوحدة المطلقة لا يأخذ بمنهج الفقهاء،ولا بمنهج المتكلمين،ولا بالفلسفة ومناهجها،ولا بالتصوف الخالص. وإنما هو يأخذ بما يسميه بعلم التحقيق ،وهو علم خاص به باعتباره محقّقاً يختلف في موضوعه ومنهجه عن كل العلوم. وهكذا يبني ابن سبعين على الوحدة المطلقة مذهباً في التحقيق والمحقّق..
التّحقيق والمُحقّق:علم التحقيق: يعتقد ابن سبعين أن الوحدة المطلقة،على الوجه الذي يقول به،هو: ممّا لم يُسمع في عصر، ولا قيل أنه ظَهر في دَهر،ولا ممّا دُوّن أو عُلم في فَلاة أو مَصر اهـ.وهذه الوحدة المطلقة،عنده،هي موضوع علم خاص يُسميه بالتحقيق،والمحقّق بها يكون حاوياً لكل الكمالات الوجودية والعرفانية، ويُسمّيه تارة بالمحقّق وتارة بالمُقرّب.يقول ابن سبعين: واعلم أن الفيلسوف والصوفي والأشعري،وبالجملة جميع من تكلّم،لا يقدرون على إدراكه (يقصد علم الوحدة) والاتّصاف به ووَصف ماهيته دون أن يُحقّقوا علم السّفَر، وأنا نزعم أن أناظِر على ذلك أهل الأرض اهـ، ويقول أيضاً: والذي يتكلم بها (أي بالوحدة) يُقطع رأسه في عالم الشهادة.. وبالجملة لا سبيل إلى الوقوف على شيء من ذلك كله إلا بالوصول إليه والحلول فيه،فإنه من الأشياء التي لم تألَفها الطباع ولا عَلمتها النفوس. وهي (أي الوحدة) حضرة عَليّة بَهيّة،فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر،والتحكّم على وَصفها بالألفاظ ممّا لا يَجمُل ولا يجوز ولا يُمكن اهـ.. والتحقيق الذي يتحدّث عنه ابن سبعين هو نوع من العرفان الذوقي الخاص،وهو ــ في رأيه ــ أسمى من كل علم أو معرفة، سواء عند أصحاب النظر العقلي أو الصوفية..
المذاهب الخمسة: يذكر شارح رسالة العهد،وهو أحد تلاميذ ابن سبعين،أن أستاذه قد اطّلع على القوانين المتقدمة كلها،الشرعية والفلسفية والأدبية،وحصر الكتب المنزلة فيها وغير المنزلة، من أول مبدأ العالَم إلى عصره. وأنه عرف مُجملها ومُفسّرها ومُهمَلها ومُخصّصها، وفكّ غوامضها. ثمّ بعد ذلك خصّص منها خمسة مذاهب فقط،منها أربعة ناقصة (وهي مذاهب: الفقيه والأشعري والفيلسوف والصوفي)، وواحد كامل وهو الذي يُسميه بمذهب المحقّق.ومع ذلك يجعل ابن سبعين كل مذهب من المذاهب الأربعة مُصيباً في بعض الأشياء وغير مُصيب في بعضها الآخر،ويُقرّ كل مذهب منها على إصابته ويُنبّه على المواطن التي أخطأ فيها.فمع نقده لهذه المذاهب،فإنه يرى أنه لا غِنى للمسترشد عنها..ويرى ابن سبعين أن لكل رجل من الرجال الخمسة كمالاً خاصاً بالنسبة له،وللوصول إلى هذا الكمال الخاص أسباب أو آلات معينة:
أ_ فهو يرى أن أسباب الكمالات عند الفقيه في تحصيل مذهبه هي: معرفة اللغة العربية، ومعرفة تاريخ الآيات والأحاديث، والعلم بالناسخ والمنسوخ،والنظر في المحكم والمتشابه، وغير ذلك مما هو متعلّق بعلوم الكتاب والسنة..
ب_ أما أسباب الكمالات عند الأشعري فهي،كما يرى ابن سبعين: سَلامة العقل والفطرة،والاجتهاد الكلّي،والبحث المسدّد، والمعلم الخبير الناصح..
ج_ وأسباب الكمال عند الفيلسوف أو الحكيم هي: تحصيل المطالب الأصلية والعلوم المنطقية، مثل كتاب ايساغوجي والمقولات العشر وباري أرمينيا سوأن الوطيقي الخ، وسعادة المولد،وحسن المعلم،وما يلحقها من التجرّد والرياضة..
د_ أما الصوفي ففي أسباب الكمال أنواع: صوفي يأخذ مقدماته الأول من الفقيه في الأعمال الشرعية،ومن الأشعري في الاعتقاد،ويركب على ذلك التوجه والمجاهدة والتوكل والتسليم والتفويض والرضا.وصوفي يرى سبب الكمال: التخلّي عن غير الله،والتحلّي بصفات الله،والتجلّي ثمرة ذلك كله.وصوفي سرى سبب الكمال: الصدق والإخلاص،واستصحاب الحال، وثبوت القدم،والتجرّد المحض،والتخلّق الكلّي.
هـ_ أما المحقّق أو المقرّب،فله ــ عنده ــ شأن آخر: فأسباب الكمال عنده غير أسباب الكمال عند غيره،وهي عنده لا تخرُج عن إسقاط الاثنينية من الوجود والنظر إلى كل شيء في ضوء الوحدة.. فالمحقق،على حد تعبير شارح رسالة العهد،هو: كهف الكمالات وكُنْه الإمكانات اهـ. ولذلك فإن: المقرّب لا يُذكر مع أحد من هؤلاء (المذاهب الأربعة المذكورة) بوجه،ولا يقع بينهم وبينه مقاربة. لأن المقاربة لا تقع إلا في الأنواع المُتّفقة بالحدود، المختلفة بالكيف. والمحقق خارج عما ذكرناه اهـ كما يقول ابن سبعين. يقول شارح رسالة العهد: والوصول إلى الله لا يكون إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم،والنبي لا يُعرف إلا بالوارث ، فالله لا يُعرف إلا بالوارث..والوارث هو المحقّق، فالعقلاء يطلبون المحقق ويحتاجون إليه بالضرورة. وهذا هو معنى قوله (ابن سبعين): الكلّ من أصحابنا، وقوله: الوقت والجهاد سبعينية لا غير،لما رأى من إحاطته وإفراط اضطرار العالَم إليه.. والوارث هو الواسطة الذي يأخذ عن النبي ويُفيض على العالم،فالوارث هو الفيّاض على العالم بالجملة.. فالعالَم يَقبل من الوارث في كل زمان اهـ..
منطق المُحقّق:لم يُعْنَ الصوفية الخُلّص بمنطق أرسطو كما عنيَ به غيرهم من مفكري الإسلام،كالمتكلمين والفلاسفة، وذلك راجع إلى أنه طريق نظري،وهم لا يعنون بالنظر وإنما تنصرف عنايتهم إلى طريق الذوق والكشف.أما متفلسفوا الصوفية فقد نقد بعضهم المنطق الأرسطي نقداً عنيفاً،لبيان قصوره،ومن هؤلاء حكيم الإشراق السهروردي وابن سبعين.وقد أبان السهروردي المقتول،في نقده للمنطق الأرسطي،عن عُقم هذا المنطق وقصوره. وحاول أن يضع منطقاً جديداً ينطوي على عنصر ذوقي إشراقي،معارضاً به المنطق التقليدي. وكذلك كان لابن سبعين من المنطق الأرسطي موقف خاص،فهو يخصّص في كتابه “بد العارف” قسماً طويلاً لمباحث المنطق. وهو حين يَعرض لمبحث منها يبدأ أولاً فيذكر آراء أرسطو وغيره من النظار فيه،ثم يعقّب بنقده العنيف لهذه الآراء،وهو ينتهي دائماً إلى إثبات بُطلانها بالقياس إلى مذهب المحقّق..وهكذا يحاول ابن سبعين أن يهدم المنطق الأرسطي التقليدي من أساسه ليُرسي على أنقاضه منطقاً ذوقياً جديداً لا يقوم على أساس التجربة والاستقراء،وإنما يقوم على أساس الفطرة والمشاهدة..وقد أصبح منطق المحقق أحد المميزات الهامة لفلسفة ابن سبعين التصوفية،حتى أن الشيخ زروق مَيّز تصوف ابن سبعين عن غيره من أنواع التصوف الأخرى بأنه قائم على أساس المنطق،وفي ذلك يقول في إحدى قواعده: تعدد وجوه الحسن يقضي بتعدد الاستحسان وحصول الحُسن لكل مستحسن، فمن ثَمّ كان لكل فريق طريق:.. وللمنطقي تصوف نَحا إليه ابن سبعين في تأليفه اهـ.. وينبغي أن نُنبّه إلى أن ليس كل ما نصادفه في مصنفات ابن سبعين من مباحث المنطق معبّراً عن رأيه،وذلك لأنه يعمد إلى عرض مباحث المنطق التقليدي في مصنفاته،كما هي عند أصحابها،وهو ينقل أحياناً نقلاً حرفياً عن المصادر القديمة.. ويمكن أن نقول بأن ابن سبعين لا يسوق آراء المناطقة إلا ليرد عليها ويبيّن فسادها بالقياس إلى مذهبه هو في التحقيق.وجدير بالذكر أن المستشرق الاسباني لاتور لم يفطن إلى ذلك حينما رأى ابن سبعين في قسم المنطق ينقصه الأصالة.. وتابعه في هذا الحكم الخاطئ المستشرق الاسباني هرناندس..وفي رأينا أن أوجه الأصالة في مذهب ابن سبعين في المنطق تلتمس في أمرين: الأول نقد ابن سبعين لآراء المناطقة في كل مبحث من مباحث المنطق،والثاني تلك الإشارات المجملة إلى مذهب المحقق والتي نجدها في نهاية كل مبحث من المباحث المنطقية..ومن المباحث المنطقية التي حاول ابن سبعين من خلالها هدم المنطق الأرسطي التقليدي: مباحث الحدّ والألفاظ الكلية والمقولات والعلم.. ليرسي على أنقاضه منطقاً جديداً خاصاً به.ويتبيّن في مبحث المقولات أن ابن سبعين يُثبت الجوهر الذي هو الوجود الحقيقي فقط،وما عداه من المقولات المنطقية لاوجود له إلا في الوَهْم. وفي ذلك يقول: ألا ترى أن المقولات العشر مختلفة ومتباينة،ويُطلق عليها الوجود والشيء الواحد والحق والأمر بالترادف اهـ.
وما ذلك إلا لإيمانه القوي بالوحدة المطلقة [ فنقول: المقولات العشر هي العالم بجملته،والعالَم هو هذا المشار إليه. وأيضاً الإنسان قد صحّ أن المقولات مجموعة فيه ولاحقة له ومحمولة عليه،وهذا معقول بالضرورة وبالتصور والتصديق،والإنسان في العالم والعالم كله متماثل،والمتماثل واحد مع مِثله،فالإنسان والعالَم واحد.. فإن قال القائل أن الوجود غير الشيء، سَقطت مكالمته. فإن الشيء هو الذي يمكن أن يُعلم ويُخبر عنه،وهو المشار المطلق المحيط بجميع الذوات،فإذا حَطّ على موجود موجود ونُسب إلى ذات ذات، كان هو هو الوجود وهو هو الذات ]..بعد أن عرض ابن سبعين ــ في بد العارف ــ للمقولات العشر،نجده يبحث فيما يعرف بزوائد المقولات أو لواحقها،وهي عنده: المقابلة، وأنحاء التقدم،والحركة،والشيء في الشيء،ومعنى مع والمتلازمة. وكلامه فيها لا يخرج عما هو موجود في رسائل إخوان الصفا عنها.وبعد ذلك يأتي كتاب باري أرمينياس أو العبارة،وفيه يبحث ابن سبعين في: الاسم والكلمة والحرف والقول والخبر،وبالجملة: تركيب المعاني المفردة بالايجاب والسّلب،حتى تكون قضية أو خبراً يلزمه أن يكون صدقاً أو كذباً. ويأتي بعد كتاب العبارة،عند ابن سبعين،تحليل القياس (أنالوطيقا الأولى)،ويشمل عنده البحث في: القضية والنقيض والضدّ. وانقسام القضية إلى موجبة وسالبة،وكلية وجزئية. وانعكاس القضية،والشكل وأنواعه،والتقابل بين القضايا وما يتعلق بذلك مما هو لازم تركيب القياس..أما مبحث العلم وحدوده ففيه طرافة من حيث أن ابن سبعين يُظهرنا فيه على رأي المحقق أو رأيه هو،منتقداً آراء المذاهب الأربعة (الفقيه والأشعري والفيلسوف والصوفي) حول حدودهم للعلم،وكل هؤلاء كما يقول ابن سبعين: طنطن وطوّل وسفسط وتَقوّل،ولم يمش نحو الصواب،وخلط في تعريفه للعلم بقدر قوته ومادة عقله،وبحسب إدراكه وعلمه اهـ..
فالعلم عند المحقق ليس من جنس ما يُكتسب،بل هو معرفة ذوقية بالوجود المطلق الواحد بالانسلاخ التام عن الموجودات الوَهْمية المضافة والمضافة إليها،وقطع اللواحق على اختلافها،وهجر كل ما يُشعر بالاثنينية،حتى يتبيّن أن العابد هو المعبود وأن العالِم هو المعلوم.. النفس والعقل:يهتمّ ابن سبعين اهتماماً كبيراً بدراسة النفس الإنسانية،لأنه يؤمن بأن: من لم يعرف نفسه،فحقيق عليه أن لا يعرف غيره اهـ..
وقد اطّلع على آراء فلاسفة اليونان والإسلام في النفس والعقل،ووَجّه إليها نقده،واستطاع في النهاية أن يخرج من بحثه في النفس والعقل بآراء طريفة تختلف عن آرائهم كل الاختلاف..
النفس: القول على النفوس المعقولة في عالم الكون،وهي النفوس الجزئية،وهي المشتركة بين الحيوان الناطق وغير الناطق. فالحيوان الناطق تكمل فيه جميع أنواعها: إما بالذات وإما بالعرض. فالذي بالذات منها: النفس النباتية والحيوانية والناطقة. والذي بالعرض: النفس الحِكمية والنفس النبوية..ويقرر ابن سبعين أن النفوس المتقدمة كلها،ممّا لا يعجز عنه الإنسان،إلا النفس النبوية،فإنها في رأيه رتبة ممنوعة.. وبذلك فالنبوة ليست مكتسبة،وإنما هي اختصاص من الله لبعض أفراد الإنسان. فلا يصحّ لأي إنسان،حتى إذا كان فيلسوفاً على التمام،أن يطمع فيما هو ممنوع أو محال. فهو يذهب إلى أن الخير في النبي بالذات، والفيلسوف لا يعطي الخير ولا له إليه طريق..
العقل: ويتحدث ابن سبعين عن العقل على طريقة الفلاسفة،فيرى أن النفس الناطقة لها قوتان: إحداهما العقل النظري،وهو الذي يستنبط به الإنسان ما يريد أن يفعله من الأعمال الإنسانية. والثانية العقل العملي،وهو الذي يتمّ به جوهر النفس الناطقة،وتصير به جوهراً عقلياً بالفعل..وينقُد ابن سبعين في بد العارف آراء الرجال الأربعة (الفقيه والأشعري والفيلسوف والصوفي) في النفس والعقل،ليبيّن فسادها وقصورها بالنسبة إلى مذهب المحقق الذي يؤمن هو به..فالنفس والعقل عند ابن سبعين، باعتباره محققاً،لا وجود لهما متميزاً عن وجود الأول أو الأوليّة، وهو وجود الواحد المطلق.وكل ما يتحدث به الفلاسفة عن النفس، وعناتّصال العقل الإنساني بالعقل الفعال،فهو في رأي ابن سبعين وَهْم،لأن ذلك يتضمن الكثرة،ويتضمن الإثنينية بين الواصل والذي يَصل إليه،على حين أن الوجود واحد بإطلاق.. ويجمع ابن سبعين لمريده في النهاية بين الفيلسوف والأشعري والفقيه،مُبيّناً فسادهم وفساد آرائهم،قائلاً: والذي أوصيك به أن تجمع الفقيه والأشعري والفيلسوف،ونفوسهم المعذّبة المخيّبة المشعبة الأمارة المنكوسة،وتجعلهم في وعاء التّلَف وتُغطّيهم بغطاء العدم وتبني عليهم بطين التلف،وترميهم في بحر المحقق،وتقول عند ذلك: لا رجوه،لارجوع،لا رجوع اهـ..
مذهب المحقق في النفس والعقل: حاصل رأي ابن سبعين في النفس والعقل هو أنه لا مجال للقول بوجود نفس وعقل ،فهما وغيرهما من المراتب الوجودية لا وجود لهما في التحقيق متميزاً عن الوجود المطلق.. يقول: ونبدأ بتركيب الحروف: العقل والنفوس والروحاني والكلمة والقضايا والفصل والصدور والوجود والشيء والحق والأمر والذات والآنية والهوية والوحدة،جميع ذلك محمول على قضية ثابتة (قضية الوجود المطلق الواحد). والقضية تتفرّع إلى قضيتين (لعله يقصد الممكن والواجب).. والقول عليها(على القضية الواحدة)هو بعد تحصيل إبطال العدد،فإن العدد هو المعدود اهـ.ولما كانت النفس لا وجود لها على التحقيق،أو أنها (بعبارة ابن سبعين) قضية ذاهبة،والقضية الذاهبة لا يمكنها المعرفة بالله. وترتّب على ذلك أن النفس لا تعرف الله،وأنهما عرف الله على التحقيق إلا الله.. الأخلاق النظرية:الأخلاق عند ابن سبعين امتداد طبيعي لمذهبه في الوجود الواحد المطلق، فهو لا يضع لنا قواعد أخلاقية معيارية تُعلمنا ما ينبغي أن يكون في حياتنا العادية كما يفعل علماء الأخلاق ،بقدر ما يضع لنا الأسس الميتافيزيقية التي تقوم عليها الأخلاق..فالاتجاه الغالب على ابن سبعين في بحثه في الأخلاق هو الاتجاه الميتافيزيقي،على حين أن الاتجاه الغالب على الصوفية الخلّص في بحثهم في الأخلاق هو الاتجاه السيكولوجي.وقد بحث ابن سبعين في معنى: الخير والشر، وبواعثهما. كما بحث في اللذّة والسعادة. وانتهى من بحثه إلى أن الخير واللذة والسعادة في التحقق بالوحدة المطلقة، والشر والألم والشقاء في اثبات التعدّد في الوجود. ثم هو يذهب إلى ما هو أبعد عن ذلك،حتى ليقول: إن التمييز بين الخير والشر وَهْم من الأوهام،إذ المحقق يرى في مذهبه أن لا فرق بين الخير والشر،بل هما من الأسماء المترادفة..وقد بحث ابن سبعين في مسألة التكليف الشرعي،وذهب إلى القول بأن الرحمة الإلهية سارية في الوجود كله،وهي الفاعلة فيه. وهي كما تتعلّق بالمؤمن تتعلق بالكافر،وكما تشمل المطيع تشمل العاصي،وبمقتضاها يدخل الكل الجنة..ويبين ابن سبعين أن ما يدعو الإنسان إلى الشر هو الغفلة أو التغافل،وما يدعوه إلى الخير هو التشبّه بالسيرة الجميلة والأفعال الحميدة..ويقسم الخير فيرى: أن الخير إما أن يكون عرضياً أو يكون ذاتياً. فالخير الذاتي يكون في الأشياء التي فيها الخير بالذات، ويمثّر للخير الذاتي ب: العلم والهداية والطاعة ورضوان الله تعالى وما تضمنه القدر من الخير المحض. والخير العرضي هو الذي يكون في الأشياء التي فيها الخير بالعرض،وذلك مثل أن يقع حجر على خراج أو ورم لإنسان فيفتحه..ويبيّن لنا الصّلة بين الخير والسعادة،قائلاً: أن الحياة شرط في العقل،والعقل شرط في العلم، والعلم شرط في العمل،والعمل الصالح شرط في الفضل،والفضل شرط في السعادة،والسعادة شرط في الكمال، والكمال شرط في الخير،والخير شرطه وأصله التخصيص بل العناية الإلهية خاصة..فالسعادة الحقيقية هي معرفة الله ومعرفة ما يجب من أجله.. واللذّة لا تصح إلا بالسعادة. وذلك كله،عنده،لا يتمّ إلا بالقصد الأول الواجب الوجود الذي هو الأصل في السعادة واللذّة.. ولا يلبث المقرب أن يذهب إلى ما هو أكثر تحقيقاً من ذلك،لأنه إذا قاس السعادة بمقياس القرب والبُعد من الأول الحق،فهو ما يزال عندئذ واقفاً مع وَهْم الاثنينية.. فيرى أن الخلق عين الحق،فلا اتّصال ولا انفصال، ولا قرب ولا بُعد،ولا عدد ولا معدود.. وعندئذ تتحقّق له اللذّة بحذف التقسيم في الوجود،والقولباطلاق وَحدته.. فالمقرّب الذي هو عين الخير هو أيضاً عين السعادة،فلا يصح أن نُطلق على المقرب أنه سعيد. يقول ابن سبعين: وسعادته (المقرب) لا يُفهم من مدلولها ما يُفهم من السعادة (عند الفلاسفة وغيرهم)،فلا يطلق عليه سعيد،إذ السعادة إحسان وجاه ونعمة وخصوص،وهذه تُنافر بصناعتها ذلك،إذ الأشياء على حقيقتها عنده (لأن المقرب هو عين الوجود المطلق)،وهو(المقرب) بالجملة: في حروف التقديس والعبودية الخِلافية (الخلافة عن الله)والدعوة الماحية اهـ.
وفي رسالة العهد يوجّه ابن سبعين الخطاب إلى مريده قائلاً له: وعليك بالحكمة التي تُفيد الصورة المُتمّمة للسعيد اهـ،وقد أبان شارح هذه الرسالة أن الحكمة التي يُشير إليها ابن سبعين: إنما يعني بها الحكمة التي يكون بها تمام الإنسان، فتحصل له الصورة التي لا يكون فيها زيادة ولا نقصان،وهي صورة الوجود من حيث هو مطلق..
يقول الشارح: ولا يكون ذلك إلا إذا وجد السعيد جوهره هو كل شيء،والأشياء المختلفة فيه شيئاً واحداً متّفقاً من كل الجهات،لا ضد عنده ولا خلاف ولا غَيرة. فلا نقص يهرب منه،ولا كمال يرحل إليه، ويكون خَبره ذات مُخبره وعينه ذات آنيته اهـ..
الأخلاق العملية:في الأخلاق النظرية بَحث ابن سبعين في: البواعث الأخلاقية،والخير والشر،واللذّة والسعادة. ووضع مُثلاً أخلاقية عُليا. وانتهى إلى إثبات الخير المطلق ونَفى وجود الشر في العالم،وإلى أن الخير واللذة والسعادة هي جميعاً في التحقيق بالوحدة المطلقة، فيصير الإنسان صورة الوجود من حيث هو مطلق.ويحاول إلى جانب ذلك وضع الوسائل العملية في السلوك لتحقيق تلك المُثُل الأخلاقية العُليا التي دعا إليها. ويُسمي ابن سبعين الطريق العملي للتحقّق بالمثُل الأخلاقية العليا بالسفَر،والذي يسلُك هذا الطريق بالمسافر. على أن المسافر عنده وإن كان يتحقق عملياً بالمثُل الأخلاقية العليا بما يصطنعه من رياضات عملية،إلا أنه لا بد أن يتجاوزها إلى التحقّق بالوحدة المطلقة.. فهو يرى أن السفر ليس فقط وسيلة إلى التحقق بالمقامات والأحوال التي هي مظهر تكمّل السالك من الناحية الخُلقية عند الصوفية الخلّص،وإنما هو بالإضافة إلى ذلك مُؤدّ إلى التحقق بالوحدة المطلقة.ويَعيب ابن سبعين على رجال الرسالة القشيرية وابن العريف والغزالي،ومن نَحا نحوهم، تصوّفهم، ويقول: أنه مركب من طريق وسلوك ووصول وفناء عن الوصول،وهو بذلك تصوف صناعي..ويتميز ابن سبعين أيضاً،فيسَفره،عن الصوفية الخلّص في سلوكهم، من حيث إنه يجعل الرياضات العملية فيه وسيلة إلى التصرّف بالهمّة في عالم الطبيعة،وقد أعانه على هذا التصرّف حَذقه لعلم الحروف والأسماء وأسرارها أو السيميا،ومعرفته برياضات أصحابها.. ويجعل ابن سبعين السفر موصلاً إلى علم التحقيق،وذلك بعد نهاية التصوف. يقول: والتصوف تسعة أوجه،بعدها حبل التحقيق،وبعد الحبل نبدأ بعالَم السفر، وبعد السفر نقرُع باب التحقيق والنور المبين اهـ.. الذكر: ولا بد للمسافر في سفره ــ بحسب ابن سبعين ــ من أن يصطنع رياضات عملية معينة،يُهيّء نفسه بها للوصول إلى الحقيقة. فمن هذه الرياضات رياضة الذكر. يقول: لا بد من الذكر،وهو يتقدّم ويتأخّر،ويُقارن المقامات واللذّات والأحوال والجميع اهـ.
وقد خصّص رسالته المعروفة بالنورية لرياضة الذكر،وهو يشرح فيها معنى الذكر وأنواعه وما يترتب على الذكر من المقامات والأحوال..ومن الرياضات العملية التي لا بد منها للمسافر ، يذكر ابن سبعين: الخلوة والعزلة والصوم والدعاء والسماع..
نسخة ب د ف على تلغرام
لخصه الفقير الى عفو ربه رشيد موعشي