:يقول العارف سيدي عبد العزيز الدباغ
إن الذين ألّفوا في كرامات الأولياء،وإن نفعوا الناس من حيث التعريف بالأولياء،فقد أضرّوا بهم كثيراً من حيث أنهم اقتصروا على ذكر الكرامات،ولم يذكروا شيئاً من الأمور الفانية التي تقع من الأولياء الذين لهم تلك الكرامات،حتى أن الواقف على كلامهمـ إذا رأى كرامة على كرامة وتصرّفاً على تصرّف وكشفاً على كشف،توهّم أن الوليّ لايعجزفي أمريُطلب منه،ولايصدُر منه شيء من المخالفات ولو ظاهراً،فيقع في جهل عظيم،لأنه ظنّ أن الولي موصوف بوصف من أوصاف الربوبية،ولم يُعطه الله تعالى لرُسله الكرام، فكيف بالأولياء.
وقد يسمع الرجل بالوليّ في بلاد بعيدة،فيُصوّره في نفسه على صورة تُطابق الكرامات التي تُنقل عنه،فإذا وجده على غير تلك الصورة التي سبقت في ذهنه وقع له شك في كونه هو ذلك الوليّ.والناس اليوم إذا رأوا وَليّاً دعا فلم يُستجب له،أو رأوا ولده على غير الطريق،أو امرأته لا تتّقي الله،قالوا:ليس بوليّ،إذ لو كان ولياً لاستجاب الله دُعاءه، ولو كان ولياً لأصلح أهل داره،ويظُنّون أن الوليّ يُصلح غيره،وهو لا يقدر على إصلاح نفسه،
قال تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يُزكي من يشاء).وأذا رأوا الولي وقع في مشكل دنيوي ،يقولون لو كان عنده كشف ما وقع له هذا؟ والعصمة من خصائص النبوة،والوَلاية لا تُزاحم النبوة،والخير الذي يظهر على يد الوليّ إنما هو من بركته صلى الله عليه وسلم،إذ الإيمان الذي هو السبب في ذلك الخير إنما وصل إليه بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم..
أما ذات الولي فإنها كسائر الذوات،بخلاف الأنبياء فإنهم جُبلوا على العصمة،وفُطروا على معرفة الله تعالى وتقواه.
الوليّ تارة تظهر الطاعة على جوارحه،وتارة تظهر المُخالفة عليها كسائر الناس،وإنما امتاز الوليّ عنهم بأمرواحد،وهو ما خصّه الله تعالى به من المعارف ومنحه من الفتوحات.انتهى… ] .
الأصل في الوَلاية عند العارفين أنها اصطفاء من الله تعالى لعبده،ولا يقدر على ضبطها مخلوق من المخلوقات،لأن سرّ الخصوصية باطني أكثر مما هو ظاهري، فسبحان من ستر سرّ الخصوصية بظهور البشرية،ولا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية.
وقد أورد الشيخ ابن عطاء الله في كتابه(لطائف المنن) كلاماً نفيساً،حين أشار لقوله تعالى: (الله وليّ الذين آمنوا يُخرجهم من الظلمات إلى النور)،يقول: [ دلّ سبحانه بقوله: (يُخرجهم من الظلمات إلى النور)على وسع رحمته وسُبوغ نعمته.عَلم تعالى أنهم يدخلون في الظلمات،ولكن الله لوَلايته إيّاهم يتولّى إخراجهم،كما قال سبحانه: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون)،فساق ذلك مَساق المدح للمومنين،كما ساق الآية الأولى مَساق البشارة لهم].
يقول الشيخ زكريا الأنصاري:[لا يَخلو كلام الأئمّة العارفين عن ثلاثة أحوال: إما أن يُوافق صريح الكتاب والسنة،فهذا يجب اعتقاده جزماً،وإما أن يُخالف صريح الكتاب والسنة فهذا يحرُم اعتقاده جزماً، وإما أن لا يظهر لنا مُوافقته ولا مُخالفته فأحسن أحواله الوقف].
فلا بد أن نستحضر هنا الفرق الذي وضعه العارفون في الفرق بين العصمة والحفظ. فالعصمة مرتبطة بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.. والحفظ مرتبط بكلام المجتهدين من العارفين العلماء بالله،وكلامهم يُؤخذ منه ويُترك،لأن الإحاطة بعلم الله تعالى مستحيلة،لأنها مرتبطة بالتجليات الإلهية،ولكل عصر تجلياته،فاختلفت الإحاطة باختلاف العصور،وكلما كان العارف معاصراً كلما كان أكثر معرفة وتحقيقاً.ومهما كانت معارف العارف مُتّسعة وعميقة،فهي تدخُل في مفهوم القلّة بجانب العلم الإلهي يقول تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)،والقلّة هنا مرتبطة بعلوم الوهب وليس العلوم المكتسبة،واليقين مرتبط بالأولى،والظنّ مرتبط بالثانية.من هنا كانت العصمة لكلام الله تعالى وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم،لأنهما من علم الله المُحيط بكل شيء.. ولا بدّ من التفريق بين أرباب الأحوال الذين ينبغي التّسليم لهم.وبين العارفين المحققين الكُمّل الذين هُم قُدوة للناس،يجب عليهم حفظ ظاهرهم مع أحكام الشريعة،وإلا عدم الناس النّفع بهم.وينبغي التنبيه هنا أن العارفين يُناقشون هذه المسألة في حق العارف المحقق،الذي يتّصف بالأدب مع الله تعالى ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي الكتاب والسنة)،والذي هو مرابط في باب الجود الإلهي يتعرّض للتنزلات المعرفية في كل لحظة ونَفَس،ولكماله وعُلوّ مرتبته فهو مُتجرّد،آيته في قلبه،صفته التواضع والأدب مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.. أما المُدّعون فلا كلام معهم إلا من باب التّحذير وكشف عوارهم ودجلهم وتَلْبيسهم،ولا يخلو عصر منهم.علمهم كله سَرقة وخَلط وتدليس..
ويكفي أن نستعرض ما جاء في أهم مصادر التصوف الإسلامي،في القرون الأولى ،فكيف بعصرنا المتأخر هذا.
يقول الشيخ الطوسي في كتابه (اللمع): [واعلم أن في زماننا هذا قد كثُر الخائضون في علوم هذه الطائفة، وقد كثر أيضاً المتشبهون بأهل التصوف..والمشايخ الأوائل لم يتكلّموا في المسائل والإشارات إلا بعد قطع العلائق،وإماتة النفوس بالمجاهدات والرياضات والمنازلات والوجد والاحتراق..وقاموا بشرط العلم ثمّ عملوا به ثمّ تحقّقوا في العمل،فجمعوا بين العلم والحقيقة والعمل..].
ويقول الشيخ القشيري في (رسالته): [ارتحل عن القلوب حرمة الشريعة،فعدّوا قلّة المُبالاة بالدين أوثق ذريعة.ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام،ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام.واستخفّوا بأداء العبادات،وركضوا في ميدان الغفلات،وركنوا إلى اتباع الشهوات،وقلّة المبالاة بتعاطي المحظورات..ثمّ لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال،حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال،وادّعوا أنهم تحرروا من رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال،وأنهم قائمون بالحق..وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختُطفوا عنهم بالكلية،وزالت عنهم أحكام البشرية..ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوّحت ببعضه من هذه القصة،وكنت لا أبسط إلى هذه الغاية لسان الإنكار،غيرة على هذه الطريقة أن يُذكر أهلها بسوء أو يجد مخالف لثلبهم مساغاً..].والأمثلة على ذلك كثيرة،واللبيب تكفيه الإشارة..
فكلام العارفين ليس قرآناً،ففيه الغثّ والسّمين،والعصمة في كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم.كما يجب التّمييز بين العارف وبين من يدّعي المعرفة ويَجْتَرّ كلام السابقين ].
ذ رشيد موعشي