السؤال الرابع: هل للعبد أن يقول أنا الحق في وجودي؟.. الجواب: لا يجوز ذلك لأحد ولو ارتفعت رتبته في التقريب،وللحق تعالى أن يقول ما ثَمّ غيري وأنتم عدم في حال كونكم وجوداً لأني على كل شيء قدير،أخاطب المعدوم كالموجود،وأنعّمه وأعذّبه في حال عدمه..
قـــلــــت :إخواننا الافاضل قلتم (هل للعبد؟)،أي اضفتم له صفة العبدية،فما علينا الا أن نحسن ظننا بهذا العبد ولا نقول ان في كلامه ادعاء للربوبية،فربما أراد أن يقول أن كل تصرفاته لله،وبالله وليس فيها باطل،أي قال أنا على حق،وربما أن الإسم الإلهي”الحق”أصبح صفة له ،كقوله تعالى في حق ابن نوح عليه السلام (إنه عمل غير صالح)فجعل ابن نوح عين العمل الغير صالح،أي صفة له.لوقلتم (هل لشخص)لكان الجواب: لا يحق.
فكلمة شخص نكرة،وكلمة (العبد) تحمل في طيها صفة العبودية.القطب الكبيرابن مشيش في صلاته يقول:“واقدف بي على الباطل فأدمغه “فهو يريد ان يتصف باسمه تعالى”الحق“قال تعالى(بل نقدف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ).
كما أن كلمة عبد مطلقة،وكل المخلوقات عباد لله،وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،فهو أول العابدين،وهو صلى الله عليه حق،قال تعالى(وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ) والهوية راجعة على اخرمذكور،فسيدنا محمد هو الحق،وحق له أن يقول أنا الحق. قال صلى الله عليه وسلم”اللهم لك الحمد، أنت نورالسَّماوات والأرض ومَن فيهنَّ،ولك الحمد،أنت قيّم السَّماوات والأرض ومَن فيهنَّ،ولك الحمد،أنت ربّ السَّماوات والأرض ومَن فيهنَّ،ولك الحمد،لك مُلك السَّماوات والأرض ومَن فيهنَّ،ولك الحمد، أنت ملك السَّماوات والأرض،ولك الحمد ،أنت الحقُّ،ووعدك الحقُّ، وقولك الحقُّ، ولقاؤك الحقُّ،والجنَّة حقٌّ،والنار حقٌّ، والنَّبيون حقٌّ،ومحمدٌ حقٌّ،والسَّاعة حقٌّ، الى اخر الحدييث [البخاري]. ومحمد حق.
والحق اسم من اسماء الله تعالى،وسيدنا محمد تحقق،وتخلق ,وتجلى بالأسماء الإلهية،فهو حق .قال صلى “من راني فقد راى الحق”ولا ينوب في رؤية الحق، إلا من هو حق.فسيدنا محمد حق.
وانطلاقا من الاية(وماخلقنا السماوات والارض الا بالحق)وصف ابن العريف الصنهاحي النبوة بقولته المشهورة “الحق المخلوق به“.
قال تعالى (قل هذه سبيلي ادعوا الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني)فإن كان هذا القائل معروف بورعه وبولايته وبأذواقه، وبتغزلاته في النبوة المحمدية،وصدرعنه هذا،فنبحث له عن المعاذير،فهوعلى قدم النبوة،وقال هذا بالتبعية لنبيه،وأنه حط الرحال في مقام القرب،ونطق على لسان الحقيقة المحمدية فكان الحق تعالى “سمعه الذي يسمع به،وبصره الذي يبصر به،ولسانه الذي ينطق به...
فيمكن أن تصدر عنه مثل هذه الأقوال، ولكن لا يقصد بها ادعاء للربوبية، فهو ناطق لابلسانه ،ناظر لا بعيانه،وسامع لا باذانه،بل ببصيرته التي استقرت بها الصفة النبوية.
كان شيخي رحمه الله تعالى يقول: لو أزلتم جلبابي لوجدتم محمدا رسول الله. قال ابو بكر الشبلي لأحد تلامذته:أتشهد أني محمد رسول الله ؟،وكان هذا المريد من المكاشفين،فقال له نعم أشهد،لما راى النبوة المحمدية متجلية في باطنه.
حينما يصل السالك إلى مقاب القرب،تستقر الصفة النبوية في وجدانه،فيرى بها،وينطق على لسانها. كقول ابن الفارض:
فلا حي إلا عن حياتي حياته●
وطوع مرادي كل نفس مريدة
والى هذا المعنى اشار من غلب عليه سكره فقال(سبحاني).
سأل إخواننا “هل للعبد أن يقول أنا الحق في وجودي”…
هذا العبد الذي نسبت إليه هذه المقولة، المشهور بشطحاته،شخصية جدلية جدّ محيّرة لدارسيه،وطِلَسْمًا من طلاسم التصوف،ومن أكثرالرجال الذين اختلف في أمرهم،فهناك من اعتبره من الأولياء الكبار،والعارفين بالأسرار،وهناك من اتهمه بالفسق والزندقة.نشأ في مدينة واسط بالعراق،في عهد الدولة العباسية،صاحب أبا القاسم الجنيد وغيره،ومن مشايخه أيضا أبو الحسن النوري،وتتلمذ على يده الشيخ سهل بن عبد الله التستري،وعمرو بن عثمان المكي.هوالشيخ الحسين بن منصورالحلاج ،الذي يقول فيه ابن عربي “الحلاج لا يصح للاحتجاج”.لهذا لم يذكره القشيري في رسالته،إثر الجدل الذي نشأ حوله وذكره السلمي في طبقاته.
عندما وصل الحلاج الى مقام المشاهدة ،نظر ببصيرته في الوجود،رآى أن الكون كله منطبع في مراة الحقيقة المحمدية، واذا نظر الإنسان في مرآة،ولم سبق له،وأن راى مرآة قط في حياته،يظن أن صورته المتجلية في المرآة متحدة بها،وأنها هو، وهو،هي،وهذا هو ما حصل للحلاج،نظر في مراة الحقيقة المحمدية فرآها بها، فظنها هو،وأنه هوالمنطبع فيها،الظاهر بها،فأصابه سكر وفناء،بهذه المشاهدة. فقال :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا = نحن روحان حللنا جسدا.
(انا الحق) وفي حقيقة الأمر،هوعبر عن حقيقة الأمر،فأينما توليت لاتجد إلانور النبوة ينفقه عليك من كل الجهات،فمحمد هو الحق وهو حقيقة الوجود.ولما ردُّ الى سلطان الشريعة،وفاق من سكره ،وخرج من سلطان مشاهدته،عرف ان ذلك فناء بالله في الله،وكشف عرفاني أراه أن “الحق المخلوق به” هو حقيقة الوجود ،ولله الغنى المطلق.فقال :
عجبتُ منك و منـّـي=يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي
أدنيتـَني منك حتــى=ظننتُ أنـّك أنـّــي
وغبتُ في الوجد حتّـى=أفنيتنـَي بك عنـّــي
حالة فناء أخرجت الحلاج من مقام التمكين،كالقائل مخاطبا الحق تعالى من شدة الفرح:“اللهم أنت عبدي وأنا ربك (رواه مسلم ).وكفناء صويحبات يوسف عليه السلام،في يوسف (ماهذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم).حالة فناء أفقدته التمييز: أدنيتـَني منك حتى ظننت انك أني.مجرد ظن،وليس حقيقة،وليس هو الحق، فسحب كلامه(أنا الحق) واعتذر، قال(اخبار الحلاج ص 28): من ظن أن الالوهية تمتزج بالبشرية، والبشرية بالالوهية ،فقد كفر فإن الله تعالى تفرد بذاته وصفاته عن ذوات الخلق وصفاتهم، لايشبههم بوجه من الوجوه ولا يشبهونه انتهى.وقبلنا اعتذاره.
فالحلاج من الشطاحين،والشطح عند اصحابه يأتي بصيغة المتكلم،من غيرشعور منه،فنى عن ذاته فنطق بلسان الحضرة، وعندما يرجع الى صحوه يقول :ما انفصلت البشرية عنه ولا اتصلت به (طبقات الصوفية للسلمي ص31).
وَهَبَ الحلاج حياته ثمنا لفنائه في اسرار النبوة،وقتل الحلاج بسيف الشريعة،ولو أُسْند الحكم الى محمكة الحقيقة ما قتلوه.وقتل الخضر الغلام بسيف الحقيقة ،ولو أُسند الحكم الى الشريعة ما قتلوه.
فحقائق الألوهية غير مقيدة ،وقد جمع الحق تعالى بين الأضداد .
ومن أقواله التي تبين مقامه قوله:حجبهم بالإسم فعاشوا،ولو أبرز لهم علوم القدرة لطاشوا ولو كشف لهم الحجاب عن الحقيقة لماتوا”.
ومن أقواله التي تبين احواله قوله:إن الأنبياء عليهم السلام سلطوا على الأحوال،فملكوها فهم يصرفونها،لا الأحوال تصرفهم.وغيرهم سلطت عليهم الأحوال، فالأحوال تصرفهم، لاهم يصرفون الحوال انتهى.
سُلِّطت عليه الاحوال فقتلته ،رحمه الله تعالى.
وأختم بقوله تعالى(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).ولا شك أن الحلاج رحمه الله لم يكن متعمدا …