تحقيق حول فساد نظرية وحدة الوجود: فثمّ شيء من وراء طور العقل إن عرفته فالزم (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون). فكل ما تراه هي شؤون للحق تعالى وتجليات له يتجلّى بها،يخلع تجلياً ويلبس آخر على الدوام،دنيا وأخرى. قال بعض العارفين:
ولا أقول بتكرار الوجود ولا●● عود التجلي فما في الأمر تكرار.
البحر بحر على ما كان من قدم ●●إن الحوادث أمواج وأنهار
لاتحجبنّك أشكال مُشَكّلة ●●عمّن تَشكّل فيها فهي أستار
وقال آخر:
ومن وجه ليلى طلعة البدر تستضي●● وفي الشمس أبصار الورى تتحيّر
وما احتجبت إلا برفع حجابها ●●ومن عجب أن الظهور تستّر
ويشهد لما ذكروه حديث:” كان الله ولا شيء معه “، فافهم. ولا غير ولا حلول ولا اتحاد،إن تأمّلت وفهمت المراد،ذلك أنه لا وجودين ولا ذاتين حتى تحكُم باتصالهما أو بالاتحاد بينهما أو بالحلول، فإن من لا وجود لذاته من ذاته فوجوده عين مُحال..ولبعض العارفين،معبّراً عن حالته قبل الفتح وعما حصل له بعد ذلك من فنائه عن نفسه وعن العالم بجميعه واستغراقه في الحضرة الألوهية:
لقد كنت دهراً قبل أن يكشف الغطا ●● أخالُك أني ذاكِر لك شاكر
فلما أضاء الليل أصبحت شاهداً ●● بأنك مذكور وذكر وذاكِر
وقال العارف بالله سيدي علي وفا:
إن كنت تنظُر في المراتب صورتي●● فأنا الذي لكَ في المشاهد شاهد
وإذا نظرت على الحقيقة ذاتنا●●فأنا وأنت هناك شيء واحد
وبيان ذلك أنك إذا نظرت إلى ظلّ الشخص المتوجه على المرآة المرسوم فيها،تعلم المراد ويتضح لك الأمر ويذهب عنك توهّم الاتحاد أو الحلول،فإنه يجوز لك: أن تحكم على ذلك الظل بأنه عين الشخص المتوجه عليها لكون جميع مُشخصاته موجودة فيه،وأن تحكم عليه بالغيرية أيضاً إذ لا دم فيه ولا لحم ولا عصب ولا عظم ولا عروق،وبأنه ليس عيناً ولا غيراً. وتحكم على حركة المتوجه عليها بأنها حركة المتوجه قطعاً،إذ ليس في الحضرة سواهما،والمتوجه لم ينتقل ولا حلّ في المرآة. وهذا فية ما يوضح به الأمر تقريباً. ولا تغفل عن مرتبة الحدوث والقدم،فتقع في الحسرة والندم. فالحق تعالى توجّه على مرآة الوجود فظهرت الموجودات بواسطة الأسماء الإلهية،على حسب استعدادها وقابليتها،وذلك لأن الموجودات ظلال الأسماء الإلهية،والأسماء الإلهية ظلال الذات الغيبية، فافهم.
من هنا تعلم أن الوجود الكوني خيال،والوجود الحقيقي إنما هو للكبير المتعال.فظهر لك أن الكون واحد،وأن المراد بالنقطة نقطة الوجود الكوني،وأعني بها وحدة الشهود التي هي قطب رحى علم الصوفية ومركز فلك كلامهم الذي عليه يدور،وهي مغناهم الذي فيه يسرحون،وفسيحهم الخصب الذي إليه يرجعون،وروضهم الذي هم فيه يتنعمون.فأكرِم بذلك الحزب من حزب،إلهيّ مُبجّل باهي،وأعظم به من فريق دائماً يعومون ليلهم ونهارهم في موج تيار بحر الوحدة العميق.. فلا قيمة ولا تنافس بينهم إلا في طلب الدرّة الثمينة،فأولئك هو الرجال الكاملون وعرائس الحق المحجوبوبن الذين لا يحظى بمشاهدتهم وجميل مؤانستهم إلا محارمهم المعظمون..
واعلم أن من فتح الحق تعالى عليه الفتح الكبير، لا بد له من القول بوحدة التجليات الإلهية ذوقاً وشهوداً،خلافاً لجميع العبّاد والزهاد ولعلماء الرسوم،فإنهم لا يقولون بذلك لكونهم لم يشمّوا من تلك رائحة، ولا برقت لهم من بُروقها لائحة. وهي توحيد الخواص وأهل الاختصاص،الذين خصّهم الحق بعنايته،
يقول قائلهم: “ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله،أو معه، أو بعده أو فيه“: الأول لأبي بكر،والثاني لعمر،والثالث لعثمان والرابع لعليّ،وفي كلامهم جميعاً الاشارة إلى توحيدهم الخاص بهم،مع التصريح بدوام الحضور مع الحق جل جلاله..وجلّ ما تذكره السادات الصوفية من الكلام مبنيّ على تلك الوحدة ومُشير إليها،فيجب على كل من يطالع كتبهم أن يُسلّمها إليهم اعتقاداً وإن لم يُدركها ذوقاً،لكي ينتفع بهم وبكتبهم،وإلا فلا يذوق لكلامهم معنى ولا يشمّ له رائحة.ويحرم على من لم يسلّم لهم كلامهم أن يُطالع كتبهم المشحونة بالحقائق المبنية على وحدة الشهود، وإلا كان حتفه أقرب من عطفه.. نعم كتب الآداب والرقائق التي لهم يستحب مطالعتها وإدمان مراجعتها لتهذيب الأخلاق ومعرفة كيفية الأدب بين يدي الملك الخلاق،اقتداءًبهم،لأن لهم في ذلك القدح المُعلّى والمنصب الأعلى،فيرى المطالع لهم فيها من المجاهدات وجمع الهمّة والإخلاص في الخدمة وتصفية القلوب ما يحيّر العقول ويعجز الفحول،ومن العبادات الشاقة التي تكاد أن لا تكون في الطاقة،ومن عظيم الشوق للحضرة والاشتياق،إلى المحادثة والمشاهدة والنظرة، ومن التأوّه المتصاعد والتحسّر المتزايد انتهى
كتاب: (نثْر الدّرّ وبَسطُه في بيان كون العلم نقطة)..مع القليل من التصرف
السيّد أحمد بن محيي الدين بن مصطفى الحسني الغريسي الجزائري (ديسمبر 1833 – 23 يوليو 1902) (1249 – 17 ربيع الآخر 1320) فقيه مالكي ومتصوف قادري جزائري من أهل القرن التاسع عشر الميلادي/ الثالث عشر الهجري عاش معظم حياته في المشرق في سوريا العثمانية. ولد في القيطنة من ضواحي وهران بالجزائر العثمانية وهو أصغر إخوة الأمير عبد القادر الجزائري. نشأ وتعلم بها وحفظ القرآن. ثم انتقل إلى دمشق سنة 1856 فأخذ عن علماءها، ثم أقرأ في داره وفي جامع العنابة. اشتغل بالفقه والتدريس والكتابة وقد ألف سيرة لأخيه. مال إلى التصوف وسلك الطريقة القادرية. توفي بدمشق ودفن في مقبرة الباب الصغير