ولما أرادت الخمرة أن تُظْهر مَحاسنها وتُبْرز أنوارها وأسرارها ،أظهرت قبضة من نورها حسية معنوية،فمن جهة حِسّها محدودة محصورة،ومن جهة معناها غير محدودة ولا محصورة بل هي مُتّصلة ببَحْر المعاني الذي لا نهاية له.فمثالها كثَلْجة في بحر لاساحل له،فالثلجة من جهة جُمودها محصورة،ومن جهة مائها الباطني مُتّصلة بالبحر الذي هي فيه. فنسبة القبضة من جهة حسّها لبحر المعاني الباقي على لطافته كنقطة في بحر أو كخرذلة في الهواء.والحاصل أن القبضة التي ظهرت في بحر المعاني هي عَيْن البحرالذي ظهرت منه،وأسرار الربوبية مجموعة فيها ثمّ أُخْتُصرت في الآدمي .. و”إحاطة بحر المعاني بالعرش وإستواؤه عليه هو معنى الإستواء” الذي وقع في القرآن عند المحقّقين، والى ذلك أشار ابن عطاء بقوله: “يا من استوى برحمانيته على عرشه فصار العرش غيباً كما صارت العوالم غيباً في عرشه ،مَحَقْتَ الآثار بالآثار ومَحَوْت الأغيار بمُحيط أفلاك الأنوار”. فالقبضة التي ظهرت من بحر الجبروت هي صورة العرش وما احتوى عليه من العوالم،وقد اسْتَوت عليه أسرار المعاني التي لا نهاية لها وأحاطت به من كل جانب حتى صار العرش غيباً أي شيئاً تافهاً لا نسبة له في جانب تلك الأسرار،كما صارت العوالم التي في جَوْف العرش غيباً في وجود العرش،إذ نِسْبَتُها معه كحَلَقة في فلاة.
فالرحمانية وَصْف للذات،والصّفة لا تُفارق الموصوف،فكَنّى بالرحمانية عن أسرار الذات وهي المعاني الخارجة عن القبضة التي لا نهاية لها وهي التي أحاطت بالعرش من كل جانب حتى صار غيباً فيها..ولذلك تَجِد قَلْب العارف يَتّسع بإعتبار الفكرة حتى يَصير العرش والكرسي في زاوية من قلبه..وسبب إتّساعه لهذا الأمر العظيم أن الفكرة إذا جالت في العظمة الفوقية التي لانهاية لها وفي العظمة التحتية والأولية والآخرية التي لا نهاية لكل واحدة منها، وأوْسَعَت النّظرة فيه ذلك،بَقِيَ العرش مُعَلقاً في العظمة كخردلة في الهواء فصار في زاوية من زوايا القلب الذي جالت فكرته في تلك العظمة.وهذه القبضة تُسمّى قَبْضة مُحَمديّة،لأن الله تعالى لما أراد أن يَتَجَلّى ليُعْرَف أظهر قبضة من نوره فقال لها: “كوني محمداً”،فتطوّرت على صورة محمدصلى الله عليه وسلم،كما في بعض الأحاديث ومن هذه القبضة تَفَرّعت الأكوان كلها،فهي بَذْرَة الوجود: “منها انْشَقّت الأسرار وانْفَلقت الأنوار” :أسرار الذات وأنوار الصفات. ويُسمى أيضاً:آدم الأكبر،لأنها تفرّعت منها الأشباح والأرواح . فظاهر هذه القبضة حِسُّها مُحَمّدي وباطنها معنى قُدْسي،ظاهرها شريعة وباطنها حقيقة،ظاهرها مُلْك وباطنها مَلَكوت،وما أحاط بها من بحر المعاني جَبَروت،فإذا رُدّت الفروع الى أصلها صار الجميع جبروتاً كما هو في الحقيقة. فالمعاني التي هي عالم الملكوت لا يُمْكن إظهارها إلا في مظاهر الحسّي الذي هو عالم المُلك.فما ظهرت أنوار الملكوت وبَهْجته وحُسْنه إلا في عالم الملك.فالمُلْك ريّاض للملكوت ،فيه ظهر جماله وحُسْن طَلْعته.فما تَبَهّج الملكوت وظهرت محاسنُه إلا بزَهْر جمال مولانا محمد الذي ظهر في عالم الملك. وكما تجلّى الحقّ جلّ جلاله في هذه القبضة بإسمه الظاهر تجلّى فيها أيضاً بإسمه الباطن،فأظهر فيها أوصاف العبودية بعد أن تجلّى فيها بأسرار الربوبية،فإجتمع فيها الضّدّان: ربوبية وعبودية،فالمَظْهر للربوبية والقالب للعبودية..فمن وَقَف مع ظاهر القوالب حُجِبَ عن أسرار الربوبية وكان جاهلاً بالله،ومن نَفَذَ الى شُهُودْ بواطن الأشياء وَجَدها نورانية ملكوتية وكان عارفاً بالله،
ولذلك قال ابن عطاء الله في الحِكَم: ” الكون كُلّه ظُلمة وإنما أناره ظهور الحق فيه،فمن رأى الكون ولم يَشْهد الحق فيه أو قبله أو بعده أو معه فقد أعوزه وجود الأنوار وحُجِبَتْ عنه شُمُوس المعارف بسُحُب الآثار”
وقال أيضاً: “سبحان من سَتَر سِرّ الخصوصية بظهور وصف البشرية،وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية”.فتحصّل أن الحق جل جلاله تَجلّى بين الضدّين،بين حسّ ومعنى،بين عبودية وربوبية ،بين قدرة وحكمة.فالقدرة عبارة عن أسرار المعاني القائمة بالأواني ،والحكمة عبارة عمّا ظهر في الأواني من تَشْكيل وتَقْييد وتَخْصيص وما يَلْزَمُها من أوصاف البشرية وأحكام العبودية.. والناس باعتبار شُهُود هذين الضدين على ثلاثة أقسام: قسم لم يشهدوا إلا عالم الحكمة،وقفوا مع ظواهر الأشباح ولم يَرْتقوا الى عالم الأرواح، وهُم أهل الدليل والبرهان من عوام أهل اليمين. وقسم لم يشهدوا إلا عالم القدرة وهو عالم المعاني الذي هو عالم الملكوت،نَفَذوا من شهود عالم الأشباح الى عالم الأرواح،فغابَتْ عنهم الأشكال والرسوم في شهود أنوار الحيّ القيوم،فلو كُلّفوا أن يشهدوا غيره لم يستطيعوا،وهم أهل الفناء في الذات من المجذوبين المُغْرقين في الأنوار المَطْموس عنهم الآثار.وقسم أكمل منهم وهم الذين يشهدون القدرة في محلّها والحكمة في محلّها مع إتّحاد مظهرهما،فيُعْطون القدرة حقّها من الشهود والحكمة حقّها من الأدب والتعظيم،فلم يَحْجُبْهم شهود القدرة عن الحكمة،ولا شهود الحكمة عن القدرة،فهم مَجْموعون في فَرْقِهم،مفروقون في جمعهم،كلما شربوا إزدادوا صَحْواً وكلما غابوا إزدادوا حُضوراً،وهم أهل البقاء قد إتّسعت دائرة معرفتهم،فتارة تَصْعَد أرواحهم الى مَحَلّ الحُرية فيَغْرقون في أنوار العظمة الربوبية فتغيب عنهم الرسوم والأشكال التي هي مَحَلّ العبودية ،وتارة تَتَنزّل أرواحهم الى محلّ العبودية فتَتفنّن في علوم عالم الحكمة وتتلذّذ بحلاوة المُناجاة والتعلّق مع الحبيب في الخلوة. فهي تَتَنعّم في جنّتين عن يمين وشمال،فيقال لها ولأربابها (كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة) وهي جنّة الجمع (ورب غفور)لنقائص جنة الفرق،والله أعلم… الشيخ أحمد ابن عجيبة
حصل المقال على : 42 مشاهدة