وأما انتقالات العلوم الإلهية،فهو الإسترسال الذي ذهب إليه أبو المَعالي،إمام الحرمين،و التعلّقات التي ذهب إليها محمد بن عمر إبن الخطيب الرازي. وأما أهل القَدم الراسخة،من أهل طريقنا ،فلا يقولون، هنا،بالإنتقالات. فإن الأشياء، عندالحق، مَشهودة، معلومة الأعيان،والأحوال على صُورها إذا وُجدت أعيانها،إلى ما لا يتناهى.فلا يَحدُث تَعلّق،على مذهب إبن الخطيب،ولايكون إسترسال ، على مذهب إمام الحَرمين. والدّليل العقلي الصحيح يُعطي ما ذَهبنا إليه. وهذا الذي ذَكره أهل الله،ووافَقناهم عليه،يُعطيه الكشف من المقام الذي هو وَراء طَور العقل . فصَدق الجميع،وكل قوة أعْطَت بحَسبها.
فإذا أوجد الله الأعيان،فإنما أوجدها لها،لا لَهُ.وهي على حالاتها، على إختلاف أمكنتها وأزمنتها.. فالأمر،بالنّسبة إلى الله، واحد،كما قال تعالى (وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر)،والكثرة في نَفس المعدودات. وهذا الأمر قد حَصل لنا في وَقت،فلم يَختَلّ عليها فيه. وكان الأمر،فيالكثرة،واحداًعندنا،ما غابَ ولا زال. هكذا شَهده كل من ذاقَ هذا.
وليس،في حَقّ نَظرة الحق،زمان ماض ولا مستقبل. بل الأمور، كلها،معلومة له في مَراتبها،بتعداد صورها فيها. ومراتبها لا توصَف بالتّناهي،ولاتَنحصر،ولا حَدّ لها تَقف عنده. فهكذا هو إدراك الحق تعالى للعالَم ولجميع الممكنات،في حال عَدمها ووُجودها. فعليها تَنوّعت الأحوال في خَيالها،لا في علمها . فإستفادت،من كَشفها لذلك،علماً لم يكن عندها،لا حالة لم تكن عليها. فتَحقّق،فإنها مسألة خَفيّة،غامضة،تتعلّق بسِرّ القَدر ،القليل من أصحابنا من يعثُر عليها.
وأما تَعلّق عِلمنا بالله ،فعَلى قسمين: معرفة بالذات الإلهية ،وهي موقوفة على الشهود والرّؤية ،لكنها رؤية من غير إحاطة. و معرفة بكَونه إلهاً ،وهي موقوفة على أمرين: أحدهما الوَهْب ،والآخر النّظَروالإستدلال ،وهذه هي المعرفة المُكتسبة .
وأما العلم بكونه تعالى مُختاراً ،فإن الإختيار تُعارضه أحدية المَشيئة . فنسبة الإختيار إلى الحق،إذا وُصف به،إنما ذلك من حيث ما هو المُمكن عليه،لا من حيث ما هو الحق عليه . قال تعالى (ولكن حق القول منّي)،وقال (أفمن حَقّت عليه كلمة العذاب)،وقال (ما يُبَدّل القول لَديّ)،وما أحسن ما تَمّ به هذه الآية (وما أنا بظلام للعبيد) وهنا نَبّه على (سِرّ القَدَر)،وبه كانت (الحُجّة البالغة لله على خَلقه).. ابن عربي