تتمة شرح المشهد الأول :مشهد نور الوجود بطلوع نجم العيان:
ثم قال لي:من وجدك وجدني،ومن فقدك فقدني.ثم قال لي :من وجدك فقدني، ومن فقدك وجدني.ثم قال لي:من فقدني وجدني،ومن وجدني لم يفقدني.ثم قال لي:الوجود والفقد لك لالي.ثم قال لي: الوجود والفقد لي،لا لك.ثم قال لي:من وجدك وجدني،ومن فقدك فقدني.ثم قال لي:من وجدك فقدني ومن فقدك وجدني .
الشرح 9
ثم قال لي:من وجدك وجدني، ومن فقدك فقدني :
في هذه المشاهد الصورة،صورة ابن عربي الحاتمي،أما حقيقته فهي النبوة المحمدية،[كان شيخي رحمه الله تعالى يقول لو أزلت جلبابي لوجدت محمدا رسول الله]فإذا وجدت من يعرف النبوة المحمدية وصاحبته،وعرَّفك بها،وعرفت دورها في الكون الإلهي ،فقد وجدت الله ونزهته،وقدرته كما ينبغي تقديره،وإن فقدته، كالطعن في الوساطة المحمدية، وإنكار الحلل التي كساها الله إياها.كل انكار وجحود لمقام النبوة المحمدية في الكون الإلهي شرك خفي(وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون) وفي هذه الحالة تختفي عليك معالم الطريق،والسير الى الله، وكذلك الأمر هو بالتبعية بالنسبة لخليفته،ختم كل زمان، فإن وجدت العارف بالله الذي يوصلك الى معرفة الله،وجدت الله،وإن أنكرته لاتسلم من أوحال التوحيد فتجمع بين الايمان والشرك.ومن هنا قال المرسي رحمه الله :“لو غاب عني رسول الله طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين”. فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،هوخليفة الله في أرضه، والخليفة ظهر بصورة من استخلفه،ففز بالخليفة،تفز بالقرب بالمستخلف،فالغوث الختم هو خليفة سيدنا رسول الله في كل زمان،إذا هو خليفة خليفة المستخلف.وكأن باطن هذه الحقائق يقول لك:عليك بصحبة شيخ عارف،فلا يعرف سيدنا محمد إلا من عرف من عرفه صلى عليه وسلم.(وَلَوْأَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ)“لوجدوا الله“وهكذا اذا وجدت العارف المقرب من رسول الله وجدت رسول الله،وبالتالي وجدت الله. وياسعداه ويا فرحتاه.
“من وجدك وجدني ومن فقدك فقدني”
لأن باطنك النور المحمدي الأحمدي،أنت خليفة خليفتي ،أنت محل نظري من الكون، وفقدانك هو بعدم الاعتقاد بوجودك،وبدورك في كوني، لك الخلافة الجزئية،والنيابة القولية والفعلية،عن النبوة المحمدية، ولهذا قيل”الغوث محل نظر الله من العالم” فبتغزلاته في النبوة المحمدية تظهر المقتضيات وتتقدم العلوم والتكنولوجيات. وللاشارة فالسالك،إذا كان لا يعتقد في وجود الغوث لا يترقى ولايعد من الصوفية .
من وجدك وجدني:
وهذا يقتضي البحث عنه حتى تجده ،ولا تحكم على ظاهره، فهو حامل للمعرفة، والمعرفة حقيقة باطنة،وحقائق الألوهية باطنة،وكذلك حقائق العارف بالله الختم،فلا تقيده بلحية، وعكازة،ووقار،ومظهر جذاب (رب أشعث أغبر)وكثرة الاتباع. وكلمة باطن في القرءان كله ثابتة الألف في حين الظاهر محذوف الألف.فلا صورة له تميزه ،ولا صفة له تقيده،لاصفة للعارف غير المعرفة.
“من وجدك فقدني،ومن فقدك وجدني”
أي وجودك متعلق بي،فإذا كان الإلتفات إليك دون استحضار أن الأمور كلها ترجع إلي ظاهرها وباطنها،صغيرها وكبيرها ،ولا فاعل غيري،ودون استحضار الوساطة المحمدية ،فقد فقدني أي تاه وضل الطريق(والكثير من السالكين يعظمون شيوخهم اكثر من سيدنا محمد،والكثير ممن يعظمون الشيخ الاكبر أكثر من سيدنا محمد صلى الله عليه، وأكثر من الصحابة)والختم بشرٌ أجله مقدرأزلا،يوما ما،سيرحل عن الوجود والحق تعالى حاضر وموجود،أزلا وأبدا،فالختم بالله ،ومن الله،وإلى الله ،حركاته وسكناته بأمر من الله ليس له من الأمر شيء (لله الأمر من قبل ومن بعد)وسيدنا محمد في الوجود حاضر وللكون مراقب وناظر.فالوجود كله ينتمي لله وحده،وما سواه “عدم” في ذاته قائم بأسماء الحق وصفاته.قال المحققون أن الوجود الحق واحد،والمخلوقات في ذاتها لاتمتلك الوجود، والوجود مستعار لها(العارية الوجودية)فالوجود الحق لله الواحد،وما سواه يستمد منه وجوده، فوجودها محدود،مقيد، مشروط.
ثم قال لي :من فقدني وجدني:
من فقدني في قلبه،وغاب ذكري عن لسانه،وجدني عند الأسباب، فالأسباب حجاب، والأسباب تابعة للأسماء الإلهية وهي من مقتضياتها ،فكل ما يفتقر اليه يصب في دوائرها، عرف ذلك من عرفه ،وجهله من جهله. فالاسماء الالهية هي علة الوجود.
ومن وجدني لم يفقدني.
من عرف أن لا فاعل سواي،أنا المعطي والمانع،والضار والنافع ،فقد وجدني ولم يفقدني،يراني في الأسباب ويثبتها ولكن لا يعتمد عليها بقلبه،أينما تولى يراني(فأينما تولوا فثم وجه الله).فالحق تعالى هو الظاهر في المظاهر باسمائه وصفاته فمن معاني “فَــقَــد” توارى واختفى،ووجه الله في كل الاتجاهات، فيا حسرتاه لمن فقده هو اينما تولى هو في واجهته،كأن تولي ظهرك لشخص وتقول أريد أن اراك.؟.
ومن وجدني لم يفقدني.
هذا من خصوصيات مقام القربة “كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به …”صاحب هذا المقام لايرى إلا الله في الوجود،أي تجلياته تعالى والحضرات المحمدية،هو من اصحاب وحدة الشهود، النبوة المحمدية لاتغيب عنه يراها في كل شيء .
قال تعالى(فلا اقسم بماتبصرون وبما لا تبصرون)وما في الكون إلاظاهرا نبصره وباطنا لا نبصره ،فما أقسم تعالى بالأشياء إلا لوجود هذا الوجه الإلهي فيها(فثم وجه الله).قال ابن مشيش للشادلي”حدد نظر الإيمان ترى الله قبل كل شيء،وبعد كل شيء ومع كل شئ ،ومن هذا الباب اتهم أهل الله بالقول بوحدة الوجود.وهي في حقيقة الأمر وحدة الشهود.
ومن وجدني لم يفقدني:
هذه الكينونة” كنت سمعه الذي يسمع به وبصره.…الحديث ” تصبح ذاتية للعارف،وتكون مانعا دون سلب المعرفة منه ،ف”كنته” أعطته الإطلاقية،ولا يعود الى التقييد و الى هذا اشار الامام زين العابدين،بن الحسين بن علي:
تَوَضَّأ بِماءِ الغَيْبِ إنْ كُنْتَ ذا سِرٍّ= وإلا تَيَمَّم بالصَعيدِ أو الصَخْرِ
وَقَدِّمْ إماماً كُنْتَ أنْتَ إمامَهُ وَصَلِّ=صَلاة الظُهْرِ في أوَّلِ العَصْرِ
فَهذي صَلاةُ العارِفِيْنَ بِرَبِّهِم فَإنْ= كُنْتَ مِنْهُمْ فانْضَحِ البَرَّ بالبَحْرِ
ثم قال لي:”الوجود والفقد لك لا لي .
من حيث بشريتك التى هي تحت حكم اسمائي، فالوجود والفقد أحوال لا تخرج عن مقتضى الأسماء،وأنت تسير تحت تجلياتها،ولا تسلم من تأثيراتيها،وتجلي الإسم المميت ينتظرك ،فستفقد من الكون . الوجود والفقد أحوال،قال القاشاني:الحال،ما يرد على القلب الأخذ في السير إلى اللّه من غير تعمد ولااجتلاب،وهو نعت إلهي كوني حيث أنه تعالى مع كونه واحد العين ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) انتهى.
فكُنتَ في وجودٍ علمي مفقودا، لا اسم لك ولاصفة ولا رسم، وفي الوجود العيني،مكثت في ملكي ساعة ونصف من أيام ربوبيتي(أن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون)وتجلى عليك اسمي المميت،ففقدت من الوجود الظاهر،فأنت قديم في علمي،محدث في الحس.
الوجود والفقد لك لا لي:
لأن أحديتي حجاب بيني وبين مخلوقاتي،ولأنني من حيث ذاتي غني عن الوجد والفقد وغني عنك وعن العالمين.فأنت العدم الظاهر القائم بأسمائي وصفاتي مقيد بها والوجود الحقيقي لي لا لك،أنا المطلق.
ثم قال لي :الوجود والفقد لي،لا لك“.
لي لا لك،من حيث ألوهيتي، وربوبيتي،فالألوهية تطلب المألوه،والربوبية تطلب المربوب،فاسم الله الغفار يطلب المذنب،فلو فقد المذنب لاختفى مقتضى الغفار.فالحق تعالى بيده كل شئ ،يفعل ما يريد، ويحكم ما يشاء،ولا شيء خارج عن دائرة الأسماء الالهية،هي الفاعلة في الكون بأياد خفية، الكون يسير وفقها،فالوجد والفقد من مقتضياتها.
اعطى الحق تعالى الأشياء وجودا نسبيا،لتظهر بذلك اسرار الألوهية في الكون،فالوجود الحقيقي لاينسب إلا لله تعالى وحده،أما ما عداه فموجود بهذه الصفة الإضافية وظاهر بتلك العارية الوجودية.
قوله الوجود والفقد لك لا لي. نعوت نُسبت إليه.ثم نفاهما عنه:الوجود والفقد لي،لا لك… يبين أن الوجود والفقد نعتان، وليسا صفتان ،لأن الصفة ملازمة للموصوف،وكذلك في حق المتكلم ،هما نعتان عائدان على الأسماء الإلهية( كما اشار الى ذلك القاشاني). في هذا المشاهد،الشاهد(الشيخ الاكبر)فانٍ،وخطاب المشهود يثبته ويمحوه،ويمحوه ويثبته. كما ورد في حق النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى (وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى) أثبت له الرمي ونفاه عنه. نفاه عنه(وما رميت)وأثبته له(إذ ميت)ونفاه عنه(ولكن الله رمى).
فهذه المشاهد ربانية محمدية أحمدية لا إرادة لابن عربي فيها،ولااختيار له لخطابها ،ولا دخل له في عددها،فهو في حالة فناء يتلقى الخطاب،ويَرُد من مقام صفته الختمية، فالمخُاطَب له هو الذي يحدد أسلوب الخطاب يمحو ويثبت، يقيد ويطلق ،يشير ويرمز، يصرح ويبهم. مشاهد وهبية حصرها الوهاب في 14 مشهدا على عدد حساب “وهاب'” الذي هو من حضرة القدس ولاعلاقة له بالحروف، ولا بمنازل الفلك. يقول ابن عربي:”.. استشراف الأولياء على الأسرار على قدر مقاماتهم، التي وهبهم واهب العقل سبحانه،فاستشرف بهم وهي العناية الكبرى…”
ويرى ابن عربي أن هناك صفة ثبوتية واحدة للذات الالهية،هي الاستغناء الذاتي في مقابلة الافتقارالذاتي للمخلوقين.
وهذه المشاهد ليس بالسهل شرحها،ومحاولة تبسيطها أكثر،يفقدها أسرارها،.وربما يحتاج هذا الشرح قراءته مرات متعددة حتى يُستوعب،ويُدرك، ويُحاط بفهمه، وبالتكرار يقع الاستقرار.