بُدّ العارف
المؤلف: عبد الحق ابن سبعين (ت667هـ).
عنوان الكتاب بالكامل،كما ذكر الشيخ ابن سبعين: [ بدّ العارف وعقيدة المحقق المُقرّب الكاشف وطريق السالك المتبتّل العاكف ]. يعتبر كتاب (بُدّ العارف) المصدر الأهم لفلسفة عبد الحق ابن سبعين.. وقد ألّفه على الأرجح حوالي سنة (643_1245)،حين انتقل من بلاد الأندلس إلى المغرب ليجيب على بعض المسائل الفلسفية التي أرسلها الامبراطور فردريك الثاني إلى الخليفة الحفصي الرشيد. وقد نُشرت هذه المسائل لأول مرة سنة (1941).. أثار هذا الكتاب،منذ انتشاره،العديد من ردود الفعل السلبية. والصعوبة الأولى فيه،بل التحدّي الأول،يكمن في عنوانه. إذ أن لكلمة “بُدّ” في اللغة العربية،وكما استعملها ابن سبعين دون مُواربة،معنى لا يتطابق والمفهوم الصوفي الذي يريد الكتاب افشاؤه. فالكلمة تعني “صنماً” أو “وثناً”،كما تعني كذلك “بيت الصنم”.. عِلماً أنه استعمل هذه الكلمة تكراراً في كتابه هذا،كما في رسائله،كمرادف لكلمة “الله”.. وإذا كان الله صورة كل شيء،فالبُدّ ليس في أبعد دلالته إلا مِثالاً أو رمزاً،أي هيئة وأنموذجاً. وإذا انطلقنا من المفهوم الثاني لكلمة البدّ،أي دلالة الكلمة على بيت الصنم لا على الصنم بالذات،فلم لا نفترض أنه عني بذلك مثلاً صدر المؤمن أو نفسه. إذ أن التصوف،وتصوف ابن سبعين خاصة،ليس سوى التجربة التي تُقنعنا بالنهاية أن الطريق إلى الله هو الطريق إلى الذات،وأن اكتشاف الذات هو اكتشاف الله الكامن فيها.. فالإنسان في نهاية المطاف خليفة الله في أرضه وصنع يديه. وقد حاول المستشرق لاتور تفسير كلمة بُدّ بمعنى: النصيب أو الحظّ أو ما يُصيب العارف أو الساعي لمعرفة الحق،فقال: [ تعني كلمة بدّ: الحظ أو النصيب،وبد العارف هو ما يجب أن يُصيبه العارف ليبلغ هذه الدرجة ]. فالبد إذاً هنا لمعنى “ما لا بد”،أي ما يحتاج إليه العارف من علوم وأعمال ليبلغ الدرجة العليا في التصوف. والتفتازاني شرح الكلمة فجعلها مرادفاً لكلمة “معبود” أو من يتوجّه إليه العارف في عبادته.. يطرح الكتاب سؤالاً وحيداً،وهو: كيف يمكن للمتصوف الوصول إلى الحق أو الحقيقة الإلهية؟ أو متى يبلغ المتصوف درجة العارف المحقق المستعد لاستقبال وفهم الكمالات الإلهية؟.
وقد اتبع ابن سبعين،في ردّه هذا التساؤل،طريقة جدلية تقوم في أساسها على نقاش المذاهب السابقة على مذهبه وردّها،واثبات عدم استطاعتها الوصول إلى تحقيق هذا الهدف..
وقد حاول ابن سبعين أن يدخل التصوف من باب الفلسفة،مستعملاً لذلك عرض تاريخ الفكر الإسلامي كطريق يخلص منه لتبيان أن حقيقة هذه العلوم ــ الفقه والكلام والفلسفة ــ ليست إلا خطوة في طريق التحقيق. فعلوم المحقق،الصوفي،الذي بلغ درجة الكمال،خلاصة العلوم الأخرى..
_ الكتاب ليس نقداً وحسب،بل يهدف أولاً إلى إثبات فكرة تدور حول معنى “الوصول الصوفي” وكيفية ذلك.. ويعرض لذلك جواباً من شقين: يتناول في شقه الأول تمهيداً لنظرية المعرفة،أو بالأصح: وَصفاً لكيفية الوصول إلى العلم الإلهي عن طريق أداة المنطق.. وفي الشق الثاني يتناول ابن سبعين مفاهيم متعددة،مركزاً على مفهومي العقل والنفس باعتبارهما أداة المعرفة.. _ اعتمد ابن سبعين على مصادر ثلاثة حاول دائماً الرجوع إليها،وهي: رسائل إخوان الصفاء،وكتاب “الخير المحض” لبرقلس،وكتاب “الحدائق” لابن السيد البطليوسي. بل إننا نستطيع أن نجد في الكثير من التفاصيل التي سردها نقلاً حرفياً في بعض الأحيان عن هذه المصادر التي ذكرنا،حتى ليصعب علينا أحياناً التمييز بين ما يعتبره ابن سبعين رأيه وما يسرده على أنه رأي لسواه.. مما يحدونا إلى القول أن ابن سبعين ظل مؤلفاً انتقائياً،تعدّدت مصادره وحاول الاستفادة منها كلها.. الكتاب أما بعد: فقد استخرت الله العظيم على إفشاء الحكمة التي رمزها هرامسة الدهور الأولية،والحقائق التي رامت إفادتها الهداية النبوية،والسعد الذي يطلبه كل مسترشد مصدق،والنور الذي يريد الاستنارة به كل مجتهد محقق،والعلم الذي لم يُبثّ في الزمان المتقدم ولا نبّه عنه،والسر الذي من أجله بعثت الرسل وبه ومنه.. والذي حملني على ذلك استدعاء من وجب في شريعة الإسلام إجابته، فأجبته لذلك مستعيناً بالله،سالكاً طريق الإختصار،متجنباً من التطويل،قاصداً البيان والاستبصار. مُنبّهاً المُسترشد إلى واجبه،ومُعطٍ الطالب جميع مطالبه،ومعلماً السعيد علم سعادته،ومُبصراً العابد عن عبادته،ومُخرجاً المنكر من رعونته وعادته،ومُغبطاً السالك بقصده ومُشوّقه إلى لازمه وبُدّه..
أول ما يجب تقديمه: معرفة الحدّ،والألفاظ الدايرة بين الطلبة والمطالب الأصلية والمعاني المنطقية،ومعرفة العلم والمعلوم والعقل والعالم والنفس،واصطلاح أهل علم الكلام والفقهاء والفلاسفة والصوفية والمقربين،ومعتقد كل واحد منهم ومذهبه فيما ذكر.. وبعد ذلك نذكر لك ما يتعيّن عليك من العلم والعمل بحسب مذاهبهم،ونُنبّهك على إشارات المحققين. ونكتب لك في آخر الرسالة أسطاراً تتضمن العلم الذي سألت عنه برمز يسهل عليك وعلى مثله فكّه وفهمه.. فإني جعلت هذا المختصر شبه المقدمة،يدخل به المبتدي في معرفة علم الكلام وحقائق المعاني،بألفاظ مختصرة وعبارات موجزة،ويكون سبباً لبلوغ ما وراءه ومدخلاً لما سواه.. الكلام عن :الحدّ:قام المؤلف بشرح معنى الحدّ بأقسامه: اللغوي والشرعي والعقلي.. ثم قال: [ وبالجملة نحتاج أن نجعل للكلام في الحدّ كتاباً حتى نبيّنه كما يجب،لأنا لم نبلغ فيه الغاية التي نريد أن نُفيدها لك.. والكلام في الحد وماهيته لم يخلّصه أحد من المتقدمين،وفيه تشكيك،يعلم ذلك من نظر فيما بعد الطبيعة (كتاب لأرسطو).. وهذا النظر الذي نحُضّك عليه هو من “الحكمة المشرقية”،وهو كان المستعمل قبل الأصول والمنطق. وإذا أردت أن تظفر به،فلا تلتفت إلى العدد،ولا إلى الألفاظ والتسميات،ولا إلى الجدل والغلبة والتبكيت والعناد،لأن طلبك للحقائق،ودَعْ الميل المعروف المألوف،واطرح ما ألفته كإزالة العوايد. فإن القوم الواصلين إلى هذه المرتبة يرون أن “العلم والعالم والمعلوم” واحد،و”الإدراك والمُدرَك والمُدرِك” واحد.. ]. الأشياء كلها نوعان: مركبات وبسائط. فالمركبات تُعرف حقائقها إذا عُرفت الأشياء التي هي مركبة منها،والبسائط تعرف حقائقها إذا عرفت الصفات التي تخصّها.. “الهيولى”: جوهر بسيط قابل للصور.. و”الحدّ”: يؤلّف من جنس وفصل،كقولنا في الإنسان إنه “حيوان ناطق”.. و”الرّسم”: يؤلف من جنس وخاصة،كقولنا في الإنسان إنه “حيوان ضاحك كاتب”.. و”الرسم التام”: قول مؤلف من جنس الشيء وأعراضه اللاّزمة حتى تُساويه.. و”الرسم المطلق”: هو قول يُعرّف الأشياء تعريفاً غير ذاتي ولكنه خاص،أو قول مميز للشيء عما سواه لا بالذات.. والحدّ على الإطلاق: هو القول الدال على ماهية الشيء،وهو مؤلف من جنسه القريب وفصله المُقوّم لطبيعته.. _ هذا الذي تكلمت معك فيه هو على “مذهب الحكمة المشرقية”،وإنا لا نقول به على الإطلاق،ولكنا نُفضّله على غيره لقُربه من الحق. والحق الذي لا شُبهة فيه فَهم الشارع صلى الله عليه وسلم،ومقاصد الصوفية بصناعة السفر (أي: علم السفر،وهو علم التصوف) الدالّة بأمثلتها على ما في النظام القديم.. المباحث والمطالب الأصلية في معرفة حقائق الأشياء: وهي تسعة أنواع،والسؤالات عنها كذلك تسعة ألفاظ،ولكل سؤال جواب لا يُشبه بعضه البعض،وهي: “هل هو” و”ما هو” و”كم هو” و”أي هو” و”كيف هو” و”أين هو” و”متى هو” و”لمَ هو” و”من هو”.فمن يزعم أنه يعرف حقائق الأشياء ويُخبر عن عِلَلها وأسبابها،يحتاج أن يكون قد عرف هذه المباحث التسعة،والجواب عن هذه السؤالات واحداً واحداً بحقّها وهدفها.. وإذا سئلت عن حقيقة شيء من الأشياء بمطلب ما،لا تستعجل بالجواب،وتدبّر في الشيء الذي سُئلت عنه وتفكّر فيه،وانظر المسؤول عنه: هل هو من البسائط أو من المركبات،وأجب السائل بحسبه إن كان من المحققين أو من النظار أو من المسترشدين.. [ أجاب المؤلف عن المطالب التسعة،وفصل القول فيها.. ]. _ مطلب “كَمْ”: هو سؤال يبحث عن مقدار الشيء،وينقسم قسمين: متصل ومنفصل. فإن سألت عن المتصل فاعلم أن أنواعه خمسة: “الخط والسطح والمكان والزمان والجسم”. وإن سألت عن المنفصل فهو ينقسم قسمين: “العدد والحركة”.. _ ضرورة المنطق: أول ما يحتاج أن يعلم بعد الحدّ والمطالب،معرفة كتاب ايساغوجي،وهو شبه المدخل إلى علم المنطق،وهو يحتوي على ستة ألفاظ يستعملها المتمنطقون في أقوالهم ومخاطباتهم. ومنهم من جعلها خمسة وترك السادس منها لكونه يندرج في الخمسة وهو محمول عليها. والألفاظ الستة هي: “الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرضوالشخص”. [ شرح المؤلف هذه الألفاظ،مبيناً ومنتقداً.. ]. _ المقولات العشرة: المعاني التي تطلب معرفتها وتبحث عنها،محصورة في عشرة أجناس،والأجناس العشرة هي ذوات الموجودات التي حَصرها هذا الوجود،لا يخرج منها شيء،وهي: “الجوهر والجنس العالي” الموطأ لغيره من الأجناس التسعة،وبعده “الكمية”،ثم “الكيفية”،ثم “المضاف”،ثم “متى”،ثم “أين”،ثم “الوضع”،ثم “المقولة” وهي مقولة له ويُقال له القنية،ثم “الفعل”،ثم “الانفعال”. [ المقولات الأربعة الأولى بسيطة،والستة الباقية مركبة ]. فإذا نُظر فيها من حيث هي حاضرة في النفس الناطقة عند المقايسة بين بعضها وبعض،في العموم والخصوص والاتفاق والاختلاف،كان البحث منطقياً. وإذا نظر فيها وبحث عنها بحسب وجودها في الهيولى،ولها مبدأ وحركة وسكون،ويلحقها التغاير والاستحالات والحركات،كان النظر طبيعياً. وإذا نظر فيها من حيث هي موجودة في العقل،مُعراة عن المادة ومنزهة من الشوائب،وفهمت ذواتها ونظرت مجردة عن الأحوال من حيث تدل عليها حدودها ورسومها،كان بحث ما بعد الطبيعة،وهو الذي يُسمى إلهياً.. فقد اجتمعت في ثلاثة وهي: المنطقية،والطبيعية،وما بعد الطبيعة. والبحث عنها على ثلاثة أنواع: بحث منطقي،وبحث طبيعي،وبحث إلهي. [ قام المؤلف بشرح هذه المقولات،شرحاً تفصيلياً جامعاً.. ]. واعلم أن معاني الأشياء موجودة في أربعة مواضع: إما في قِوى الأشياء ذوات المعاني،وإما في الفكر النفسي،وإما في القول، وإما في الكتاب. والكتاب دالّ على ما في القول،والقول دال على ما في الفكر،والفكر دال على ما في الأشياء،والأشياء دالة على ما في ذواتها. ولما كان هذا الكتاب يتضمن الإبانة عن الدلالة القولية،فينبغي أن نحُدّ “الإسم والكلمة والحرف”،فإن هذه أستقصات القول ثم السالبة ثم المُثبتة، فنقول: “الاسم”: وهو ما يحسُن معه: نَفعني وانتفعت به. و”الكلمة”: وهي الفعل،صوت موضوع دالّ باتفاق يدل على زمان ولا يدل جُزؤه على شيء من معناه،ولها تصرّف كقولنا: يصحّ وصَحّ،والصحة إسم لا كلمة. و”الحرف”: وهو الأداة،لفظ يدل على معنى مفرد لا يمكن أن يفهم وحده بنفسه دون إضافته للإسم والكلمة. [ قام المؤلف بتعريف وحدّ مجموعة من المفاهيم: القول،والخَبر،والنقيض،والأزمان (ماض وحائر وآتٍ)،والعناصر (واجب وممكن وممتنع)،والقضية،والشكل،والقياس.. ]. انقضى الكلام هنا على الكتب المنطقية [ نقل المؤلف من كتاب (العبارة) لبارياميناس،ومختصر أنالوطيقي ] وبقي منها كتاب افوهوفطيقي،وهو كتاب (البرهان) تركناه واستغنينا بالكلام على العلم عنه.. فنبدأ بذكر “العلم” وحقيقته. حدّ العلم: العلم قد حدّه كثير من الناس،وعدد حُدوده لا تحصى وكلام الناس فيه كثير.. [ ذكر المؤلف عدداً من الحدود للعلم،ثمّ قدّم تعريفاً عرفانياً جامعاً لحقيقة العلم.. ].. وجميع ما ذكرته لك في العلم من الحدود،وما لوّحت به من صفات العابد والمعبود،أردت بذلك أن نُنبّهك على تخليط العلماء وغلطهم وسفسطتهم ومغالطتهم. وكيف خالف بعضهم البعض،وتشتّت أقاويلهم وفساد حدودهم،وعدم التحقيق في شاهدهم ومشهودهم،وما هم عليه من الاضطراب والحيرة والجهالة المحضة المستمرة.. وأنا أشرح لك بعد هذا خلاف الناس وسببه،والحق في نفسه ما هو بقدر الطاقة. ونجعلك بحول الله تُبصر بعين البصيرة ما حرموا بالحس والتمييز.. ونذكر لك مذهب الفقهاء والأشعرية والفلاسفة وأهلالحق والمقربين،ومعلوم كل طائفة من هؤلاء وعلمهم واصطلاحهم وألفاظهم وحدودهم لذلك بتقريب واختصار. ونُبرز أنموذجاً يُشوّقك ويُشير عليك ويُنبّهك حتى يَحملك إليك،وبكَ تصعد إلى الملأ الأعلى وتسجُد في مقعد الصدق،وتحفظ وتلبس ثوب البقاء بحضرة الحق،وتعود لا بكَ ولا لكَ،وكأنك أنت وأنت العدم،وكأنك هو وهو الوجود. وتصعق مع السادة الخاطبون والجامعون،وتقرأ عندما تفيق: “الحمد لله الذي أماتنا وأحيانا وإنا إليه راجعون”. [ قام المؤلف بعرض تعريفات لمسائل: علم الفقه وعلم الكلام والفلسفة.. ]. والمطالب الأصلية التي تقدّم ذكرها،والكتب المنطقية والفلسفية،أردت بها هناك أن تكون ركاباً لغيرها،إذ هي أحسن ما يُنظر في البداية. والعلم النظري وغير ذلك من العلوم،مكتسب منها. _ الحكم على المذاهب الأربعة : و”علم الأشعرية”فاسد الأصل قبيح الفرع،لا نتيجة له من حيث هو علم،وإنما نتيجته من أجل ما وُضع ولماذا وُضع. ولما كان المراد بمذهبه قطع المخالف للشريعة،والشريعة حقّ،قيل له صاحب حق بالعرض.. وأما “الفقيه” فهو صالح،فاسد الفرع وصادق الجنس وكاذب النوع. يتكلم من عند نفسه ويقيس على اليوم بأمسه،ويُفتي السائل ويُنزل نفسه في رتبة المسؤول. ويزعُم أنه يفهم كلام المُرسِل وخبر الرسول،ويُعلّل دينه ويُتمّمه برأيه واجتهاده.. ويحجُب نور الله عن عباده بالفروع المُعلّلة،ويتصرّف فيهم بغير الكتب المنزلة.. الأشعري كثير الكلام،قليل المعاني،لا يصلح أن يُنظر لمذهبه ولا يُلتفت له بوجه،فلا تعوّل عليه يا أخي ولا تنظر إليه إلا بالازدراء فإنه بدعة. والفقيه ليس بعالِم ولا بصاحب حقيقة،وهو في مذهبه على الحق أكثر من الأشعري،فإنه لم يتعدّ غير مذهبه ولا تخطاه،وترك أصله صحيحاً ولم يغيّره ولا زاد فيه،وما حرم الفائدة إلا من عدم فهمه الذي بين يديه. والأشعري بخلافه،إذ مذهبه من عند نفسه واختراعه،وأصوله أكثرها من غير دينه ومذهبه.. فاخرُج من سجنك يا أخي لرياض التصوف.. و”الصوفي” ظفر بنتيجة العلم الإلهي،والفقيه بمقدماته. و”المُقرّب” لا يُذكر مع واحد من هؤلاء بوجه،ولا يقع بينه وبينهم مقارنة. لأن المقارنة لا تقع إلا في الأنواع المتّفقة بالحدّ المختلفة بالكيف،والمحقق خارج عما ذُكر. والخير في النبوة بالذات،فقد دلّت بالجملة على الخير،وتكلّمت بكلام ربه ومُفيضه والمُنعم به. فكأن النبي والفيلسوف ضدان: النبي يحضّ على الخير ويُفيده ويُرشد إليه،والفيلسوف لا يحضّ عليه ولا يُرشد له إلا بالمغالطة أو بما لا يُعلم لما لا يُعلَم. والصوفي مع المحقّق مثل الفيلسوف مع الصوفي.. _ الطبيعة وترتيب الموجودات: الموجودات نوعان: كليات وجزئيات. ف”الكليات” منها تسعة مراتب كتسعة آحاد: أولها الله عز وجل،فاعل الكل وخالق كل شيء. ثم العقل الكلّي،ثم النفس،ثم الطبيعة،ثم الهيولى،ثم الجسم المطلق،ثم الفلك،ثم الأركان،ثم المولّدات. فهذه الكليات،وأنت تنزل بالتحليل من الأعلى إلى الأنقص فالأنقص. و”الجزئيات” تبتدئ من أنقص الحالات،ثم ترتقي أولاً فأولاً إلى أرفعها وأعظمها. [ ذكر المؤلف مختلف حدود وتعريفات “الطبيعة”،من كلام الفلاسفة.. وقدم تعريفاً مختصراً لبعض الكتب المنطقية والطبيعية: ايساغوجي،باري أرمينياس،أنالوطيقا الثاني،أفودقطيقي الرابع.. ]. _ أنواع العلوم: العلوم التي يتعاطاها البشر ويسعى في تحصيلها،ويظفر بالآخرة بها،ثلاثة أجناس هي: العلوم الشرعية والأدبية والفلسفية. “العلوم الشرعية”: ستة أنواع: علم الكتب المنزلة،وعلم مدلولها وعما هي،وعلم الروايات والأخبار،وعلم الفقه والسنن والأحكام،وعلم الوعظ والتخلّق ومكارم الأخلاق،وعلم المقامات. و”العلوم الأدبية”: كثيرة لا تحصى،فمنها: علم الكتابة،وعلم اللغة،وعلم الشعر والعروض،وعلم الرجز والفأل والتواريخ والسحر والعزائم والحيل.. و”العلوم الفلسفية”: تنقسم قسمين: أحدهما العلم،والآخر العمل. القسم العلمي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها هو العلم الطبيعي وعلم ذوات العنصر. والثاني: يُقال له الوسط،وهو علم الرياضيات،وعلم ما ليس بذي عنصر موجود في عنصر. والثالث: العلم الأعلى،وهو علم ما بعد الطبيعة.. والقسم العملي ينقسم ثلاثة أقسام: الأول: سياسة الذات. والثاني: سياسة المنزل. والثالث: سياسة المدينة.. _ السادة هم الصوفية: والذي أقول لك أن سادة أهل ملّة الإسلام هم الصوفية،فإنهم فهموا الشريعة،والتصوف نتيجتها. ولا حقيقة إلا عند الصوفية،ولا تَقبل لغيرهم،وكل ملّة لا يقدرون على الوصول إلا بالتشبّه بهم. فمذهبهم أصل في الوصول،وهم السعداء لا غير،وهم السالكون لطرق الله خاصة،وسيرتهم أحسن السّيَر وطريقهم أعدَل الطّرق ونفوسهم أفضل النفوس وعقولهم أرجح العقول وأكملها،والخير فيهم بالذات والسيادة بالذات والعزّة بالذات والكمال بالذات والمعرفة بالذات. فأما كون الخير فيهم،وغير ذلك،بالذات: فلأن القوم لا يتركون للنقص ولا للرذالة ولا للغباوة ولا للجهالة ولا للكسب الحاضر وجوداً، ولا يعقل في طريقهم من ذلك شيء من حيث هي. ومكارم الأخلاق عندهم شرط في تحصيلها،والعلم بالله كذلك،وجميع ما يفعلونه مُقتبس من نور النبوة. وبالجملة: لا يُطلقون الصوفي إلا على العارف العامل المُدرك.وكأن اسم الصوفي يُطلق على جملة تركّبت من: علم وفضائل وكمال وسعد ورضوان الله.. الصوفي: هو العالم بالله،العارف به،الواصل لغاية الإنسان السعيد على الإطلاق.. والصوفي يتكلم على الغاية،وكل علم عنده لا يُرشد إلى طريقه بشيء لا يصلُح ولا يجوز. وهو ينظُر العلماء،ويسمع أقاويلهم ويحملها وينحل ما يجب،ويقبل الحق ويدفع الباطل. ولا يلتفت إلى العبارات من حيث هي،لأن غرضه ومقصوده الحقائق.. واعلم أن حَدّ العلم عنده (أي الصوفي) والمعرفة والعالم والعارف والشيء والموجود والحق والأمر والواجب،جميع ذلك يجده في نفسه،متى حقّقه أعدمه ومتى جهله أوجده.. والصوفية على خمسة أقسام: قسم جمهوري،وقسم مشارك،وقسم غير واصل،وقسم كامل،وقسم محرّر. القسم الأول من التصوف أقسام: الأول منه: هو التصوف الذي أدركه رجال الرسالة القشيرية،وأشار إليه ابن العريف في محاسنه ومفاتح المحقق،وهو مركب من طريق وسلوك ووصول وفناء عن الوصول،ولواحقه مائة وخمسون كالصبر والحلم والعلم وغير ذلك. وهو مقام الغزالي،وجميع من تكلم في التصوف بالعلوم الصناعية،غير أنه لم يُحقّقه على ما يجب. والثاني منه: هو مقام ذي القرنين،وهو ينقسم على ثلاثة وثلاثين قسماً. والثالث: هو مقام الخضر،وهو ينقسم إلى سبعة أقسام. والرابع منه: مقام يوشع بن نون،وهو ينقسم إلى تسعة أقسام. والخامس منه: ينقسم إلى ثلاثة أقسام،وهو مقام مريم. والقسم الثاني منه: هو المُشارك،حد العلم عنده في استقباله وتحقيقه في حمده وجلاله،وهو دُنوّ لا هيبة له ولا هيئة إلا إذا انجلى وفرع وقَهر الإشارة وفَهمها وأعادها لمثل خطابه ب”أنا وهو وعليّ”،وهذا مقام الكلام فيه كثير وهو لا ينقسم،وهو عثماني. والقسم الثالث منه: هو الواصل،حد العلم عنده صرف المعروف بحروفه المتشابهة،وأخذ المألوف المخطوف لقراره وقراءته،وهو ينقسم على عدد المثاني،وهذا المقام علوي. والقسم الرابع منه: هو الكامل،حدّ العلم عنده تشطير السرّ واحتياط اللواحق،وأمانة الصدق والصادق،بحسب: “الم” و”حم عسق” و”طه”،وأقسامه بعدد آيات البقرة،وهذا هو المقام العمري. والقسم الخامس منه: هو المُحرّر،حدّ العلم عنده سَلام أهل اليمين واستفهام،(واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا)،وأقسامه بعدد حروف “يس”،وهذا هو المقام البكري. فافهم واعذر وسَلّم وحسّن الظن وأحسن النظر وأنصف واعدل واستفهم وتوقّف ولازم واغتبط،والله يُعينك ويُسهّل عليك بمنّه وكرمه،ولا ربّ سواه. وتحصيل الصوفي على خمسة ضروب: الضرب الأول: يحصُل بالعلم والعمل. وحاصل العلم: قطع عقبات النفس،والخروج عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة،وتجريد القلب عن غير الله وتَحليّته بذكر الله. وبالجملة: مُشارُه واحد،ونفسه سَهلة وخير محض،واعتقاده وِتْر في جملة تصريفه،فلا يسمع إلا من واحد ولا يرى إلا لهُ ولا يتحرّك إلا به. والعمل: مركب من الأوامر الشرعية،واجبها ومندوبها،والزهد في مباحها،والصوم،وأفعال البرّ،ودخول الزاوية.. وهذا الضرب هو الذي يُعظّم الغزالي،وبه كان وصوله لمقامه الذي وصفه في غير كتاب. وهذا مقام صناعي، وهويته ممتدّة مع الأمل،وغايته الفناء والخروج عن الوجود والبقاء.. الضرب الثاني: ينقسم إلى خمسة أقسام: الإشارة وفهمها،والتلاوة وطيبها،والانفعال الصادق وتحصيل “الكا والما والحا وما” بالتعليم و”هَل” بالتعظيم،وحديث القلب مع ماهيته بغير أنيّته وسلام التوحيد وإرشاد الواحد ولذّة المتوحد،ويدور على نفسه ويصل بدلالة لا مدلول لها،فافهم. الضرب الثالث: يصل ويظفر بالمحتملات،ولا يؤمن بالذوات الروحانية ولا بالكلمة ولا بالفصل ولا يقول ذلك،ومقامه أجلّ وأرفع،ولا نسبة بينه وبين غيره.. الضرب الرابع: يحصل أول مبادئ الموجودات بنفس الأولية،وما معنى الغايات بنفس الغاية،ويُميت الكل،وتفرّق عليه أمثلة الهداية بقدر التذلّل ويَصل. الضرب الخامس: يظفر ويصل بقدر ما يرمي ويُرمى عليه،ويجد الكفاية،وترمى الغاية ويُصيب القوسين ويُعلّل الجرمين،ويصل. وهذه الأقسام،وما هي،والتخلّق بها،وكيف هي: تحتاج إلى زمان طويل. وبالجملة: المُشافهة فيها أبلغ،والإشارة لسانُها،وقرينة الحال صناعة براهينها..
_ المحقّق : هنا نقطع عن الصوفي الكلام بالجملة،ونبدأ بذكر: من إذا ذكر سكت المتكلم،وإذا علم لم ينتقل عنه لغيره إلا في نفسه وذاته،وإن تنوّع فإنما تنوّع بحسب الشرف والزيادة. والصوفي المذكور قبل هذا هو بمنزلة الظلّ له،والخبر للمُخبر والكلام للمتكلم،وسعادته لا يُفهم من مدلولها ما يُفهم من السعادة.. وحدّ العلم عنده: هو من المحال أن يذكره بحسب ما هو عليه عنده،وإنما يذكر منه ما تحمله الأمثلة وعلى قدر قوتها ومفهومها لذلك.. [ ذكر المؤلف معارف المحقق المقرّب،مقارنة مع الفيلسوف والصوفي،مقدماً معرفة غائصة ورقيقة.. ].. والصدّيق يقول: لكل شيء سرّ،وسرّ القرآن في حروف القسم (أي الأربعة عشر حرفاً في أوائل السور).. وحدّ العلم عند المقرّب لا يحمله هذا الكتاب ولا محدوداته،إذ لو تكلّم به بطلت وزالَ المقصود منها.. وهذا العلم إن تكلّمت به مع محقّق العصر ورئيسه،تمُجّك طِباعُه وتَشهد عليك بالكفر جوارحه،وإن سكت عنك بلسانك يُحمّقك باعتقاده. فتكلّم مع الناس بالذي ذكرت لك من صناعة الأشعرية والفقهاء والفيلسوف. وتفهّم هذا،وكن به غريباً،فطوبى للغرباء. هنا نقطع،ونتكلم على العقل بحسب المراتب الخمسة.. القول على العقل: القول على العقل بحسب الرجال الخمسة والرّتب الخمس،فنقول: 1 “الفقيه”: يعتقد في العقل ما تعطيه اللغة والنصوص الشرعية،وهو عنده صفة يلزم بوجودها التكليف ويقع عليها الخطاب،ويتأتّى بها إدراك المعلوم.. وهو بالجملة: لا يتعرّض له ولا يبحث عنه،من حيث هو في نفسه،ولا يطلبه بشيء من المطالب الأصلية،ولا يعلم ما هو: هل هو عرض أو جوهر أو صفة نقص أو صفة كمال أو روحاني أو جسماني أو قديم أو محدث؟. وإن بحث عنه بشيء من المباحث فهو إما أشعري أو فيلسوف أو صوفي.. 2_ أما “الأشعري”: فهو أنْبَه بيسير من الفقيه وأشعر للمعنى. وهو ممن تُحرّكه نفسه لطلب الفائدة بصناعة النظر،ولا يقنع في البرهان بالخبر.. [ ذكر المؤلف مسائل النظر التي تعرض لها الأشعرية،وقام بالردّ عليها ونقدها.. ]. وهذا الردّ الذي رددت به على الأشعرية هو بحسب ما سُمع منهم،ولو سمعت منهم ما هو أنبه لكان الجواب والرد عليهم من نسبة ما تكلموا به.. ولم نترك الكلام على الفقيه تسليماً له وارتضاءً بالذي يقوله،بل من حيث لم يتخلص عندي فصله من الحيوان غير الناطق،ولا تمّت له الصفة الإنسانية. ورأيت أن الكلام معه والردّ عليه مما لا يعقل،فأضربت عنه وأنا شاكّ في إنسانيته،وتركته لكونه غير مُخاطب،فافهم.. 3_ أما “الفيلسوف”: العقل عند الفيلسوف ينطلق على أنحاء،فيقال عقل: لما يكتسبه الإنسان بالتجارب من الأحكام الكلية،وحدّه: أنه معانٍ مجتمعة في الذهن تكون مقدمات يستنبط بها المصالح والأغراض. ويقال لمعنى آخر: أنه هيئة محمودة للإنسان في حركاته وسكناته وكلامه واختياره. وله عند الحكماء ثمانية معانٍ دون هذه.. [ فصل المؤلف القول في هذه المعاني،واختلاف الحكماء في حقيقة العقل،ومرتبته وعدده،وغاية وصوله.. كما انتقد الفلاسفة المسلمون: ابن باجة وابن رشد والفارابي وابن سينا والغزالي. ]. قال المؤلف عن الفارابي: وهذا الرجل أفْهَم فلاسفة الإسلام وأدراهُم للعلوم القديمة،وهو الفيلسوف فيها لا غير. ومات وهو مُدرك ومحقّق،وزال عن جميع ما ذكرته،وظهر عليه الحق بالقول والعمل.. وقال عن الغزالي: وأما الغزالي فلسان دون بيان،وصوت دون كلام،وتخليط يجمع الأضداد،وحيرة تقطع الأكباد. مرّة صوفي،وأخرى فيلسوف،وثالثة أشعري،ورابعة فقيه،وخامسة محيّر. وإدراكه في العلوم القديمة أضعف من خيط العنكبوت،وفي التصوف كذلك لأنه دخل الطريق بالاضطرار الذي دعاه لذلك من عدم الإدراك.. وينبغي أن يُعذر ويُشكر لكونه من علماء الإسلام على اعتقاد الجمهور،ولكونه عظّم التصوف ومال بالجملة إليه ومات عليه بحسب ما أعطاه كلامه وفهم من أغراضه.. واعلم أن جميع ما ذكروه (أي الفلاسفة) لم يتخلص لهم فيه الحق ولا هم على شيء،وجهلهم بالأمور الإلهية أبْيَن من براهينهم المنطقية والهندسية،وخلافهم في النفس هو في تسعة مواطن،وفي العقل الهيولاني في ثلاثة مواطن،وفي المستفاد في خمسة مواطن،وفي العقل الفعال في خمسة مواطن،وفي ترتيب العقول التسعة في خمسة مواطن،وفي العقل الكلي في جملة مواطن،وفي السبب الأول في ثلاثة مواطن،وفي الفعال وفي كيفية الصدور في عدة مواطن.. وأنت يا أخي عليك بالذي يقوله المقرّب المحقّق،بعد الكلام على الصوفي،ولا تلتفت لجميع من تكلّم. 4_ أما “الصوفي”: الصوفي يرى أن العقل والهداية والنعمة والرضوان والسّعد وما أشبه ذلك،من الأسماء المترادفة. ولا يفرقون بين المحمول والموضوع،ولا يتنوع الوجود عندهم من حيث هو.. وهم،مع كونهم فضلاء وسُعداء،تنقصهم المقارنة والنسبة والشيء في نفسه،الصادق عليه بجُمله ما لديه،والله يُخلصهم وإيانا بمنّه وكرمه. فلا تكن صوفياً إلا في الخوف والتجرّد والسّلب،لا غير. 5_ أما “المقرب المحقق”: المقرب لا يجد مع من يتكلم بمذهبه من حيث هو،وإنما يتكلم بقدر يفهمه من حيث ما يقبله المخاطَب.. [ ذكر المؤلف ملخصاً لمعنى العقل عند المقرب المحقق.. ]. القول على النفس: بحسب المراتب الخمسة: 1_ “الفقيه”: النفس والروح عند الفقيه بمعنى واحد،وزعم أن الشرع يُطلق ذلك بالترادف. ومن الفقهاء من أطلق النفوس على الثلاثة التي في القرآن،ومنهم من جعلها أربعة هي: “الأمارة واللوامة والمطمئنة والسوالة”،وأطلقها على غير الذي أطلق الروح،وجعل هذه الثلاثة صفات الروح الذي نُهي عن الكلام فيه على زعمه. والعقل هو الذي يُطلب منه،عنده،بأن يُصلحها حتى تُردّ الأمارة واللوامة مطمئنة.. [ ذكر المؤلف كل نفس من النفوس الأربعة عند الفقهاء،وذكر ما يُقابل كل نفس وما ينتج عنه.. ]. كما أن الروح،عندهم،وهو النفس: جسم لطيف،واختلفوا في صورته وهَيئته.. [ ذكر المؤلف أقوال الأئمة الأربعة حول المسألة.. ]. 2_ أما “الأشعرية”: اعلم أن اعتقاد الأشعرية في الروح جهل يَنطق،وسُخف يتكلّم،وهذيان يحكم به ويحكم،وحرمان يُطلب لذاته ويُتعلّم،ووسواس يُبحث عنه ويُتّهم.. إن كان الفقيه يقول عن الروح أنه جسم،فقاله لكونه لم يَر إلا المحسوسات الجسمانية ولا علم له بغيرها،ووقَف مع العادة والأخبار، وخاف على نفسه أن يزيد أو ينقص فيكون من أصحاب النار،وأقرّ بعجزه.. وهذا (أي الأشعري) يزعم أنه يُقيم الدليل على أن الحق هو ضدّه،وأن السعادة في ضمن الذي بذل فيه جدّه،وما هو سبيله عين الظلام المعنوي الذي لا يُبصر به أين الحقّ.. [ قام المؤلف بانتقاد أئمة المذهب الأشعري: أبو الحسن الأشعري والباقلاني وإمام الحرمين الجويني وابن فورك ]. وبالجملة: الأشعرية يعتقدون في الأرواح أنه جسوم لطيفة،وفي العقول أنها صفات للعقلاء. وأنكروا الجواهر الروحانية،وأقاموا الدليل على أن ذلك باطل ومُحال،وأن لا موجود إلا الجوهر الجسماني والأعراض خاصة. وإذا ذُكر لهم الروحاني وما هو عليه من الشرف والرّفعة والنزاهة،كفّروا القائل لذلك،وقالوا له هذا هو الله،وفي هذا من النقص ما فيه.. 3_ أما “الفيلسوف”: فهو يبحث عن النفس بجملة مباحث،وهو في ذلك على بصيرة.. وكانوا أهل حق في البحث عنها بالنظر إلى غيرهم،وهذا حرمته الأشعرية والفقهاء وظنوا أن ذلك مما منعه الشارع،والدليل على كذبهم ما أدركه الصوفية وفهموه،وهم مؤمنون وسادة الإسلام وجميع ما هم عليه من مفهوم الشريعة.. ومعرفة النفس عند الفيلسوف هي نتيجة العلم الإلهي،إذ أن النفس لا تقف معرفتها عنده إلا عند العقل الفعال،ومن ثَمّ يكمُل جوهرها. فهي عند العقل الفعال بالتجوهُر،وعند العقل الكلي بالعلم،وهذا مذهب أرسطو،وغيره يقول بخلاف هذا.. وهم بالجملة وإن اختلفوا في غايتها،فقد اتّفقوا على البحث العلمي في بدايتها.. [ ذكر المؤلف أجلّ مذاهبهم وأعلم رجالهم وأرفع كتبهم،في مسألة النفس.. ].. وما حملني على ذمّ القوم والردّ عليهم (أي الفقيه والأشعري والفيلسوف) بعد سرد مذهبهم،إلا الفتنة التي زرعوها وسَقَوها بتخليطهم،وحفظوها حتى أثمرت البُعد عن الله.. فتعليل الفقيه علّة مُعبّئة،وحقائق حدود الأشعري لنور الحق مُطفئة،وسهام شُبه الفيلسوف للضعيف قاتلة،وسعادة الإنسان بالجملة في مذاهبهم باطلة.. 4_ أما “الصوفية”: النفس،عندهم،يُطلقونها على أنحاء وفي مواطن،بحسب المنتقد والمُسَلّم. فتارة يطلقونها على الأخلاق المذمومة، وهي عندهم كيفية لا فائدة لها ومكروهة.. [ شرح المؤلف أقوال الصوفية،بحسب طوائفهم،حول النفس،وفصل القول في الخواطر والسلوك.. ] 5_ أما “المقرب المحقق”: المقرّب لا يتكلم مع المُسترشد إلا بعد ما يُقدّم له مقدمات تصلح به ولا تتعلّق بالمقرّب من حيث هي،ولا مدلولها يدلّ على مذهبه وعلمه. وإنما غايتها وفائدتها أن يتصرّف بها في الإشارات لا في العبارات،وهي له كالحروف.. وأنت إذا خاطَبت نفسك ونظرت الحقيقة من حيث هي فكُن مع المقرّب،وإذا جادَلت فكن مع الفيلسوف،وإذا أعطيت الإقناع ودفعت الخصم عن نفسك فكن مع المتصوفة،وإذا خلطت وخاطبت المجانين فكن مع الأشعرية،وإذا شرعت في التخلّق العملي فكن فقيهاً.. [ فصل المؤلف القول في ردّ المقرب على الفقيه والأشعري والفيلسوف والصوفي،بمباحث رقيقة عرفانية قيّمة.. ]. _ أنواع علوم الدين: اعلم أن علوم الدين أنواع خمسة: فمنها علم ظاهر بَيّن جَليّ،ومنها باطن مكنون خَفيّ،ومنها متوسط بين الأول والثاني،ومنها ما يُفهَم إذا فهمت الثاني،ومنها ما يُقذف وهو في أصله السبب ومعلوماته تُفهم لا من جنس ما يُكتسب. الأول: هو الذي يصلُح للعامة،وهو ما كان سهلاً ظاهراً مكشوفاً،كعلم القراءة والرواية والأخبار والقصص المقبول دون تفهّم الوعد والوعيد من غير تحقيق وما شاكل ذلك. والثاني: للأولياء السادة،وهم الذين ينظرون في أسرار الدين والبحث عن حقائقه وغايته،وما هو على التمام بالتصور الصحيح والتصديق التام ووضع المطالب الصادقة وبواطن معاني الأديان وفهم القرآن على وجهه،ولأيّ شيء سجدت الملائكة لآدم،وما هو الإبداع والمبتدع الأول،وهل يمكن أن يتجوهر بالعقل أو يتّصل به،وما المفهوم من قوله تعالى: (خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش)،وما الأمانة والميثاق الذي أخذ على آدم وعلى ذريته،وما الوسيلة.. وغير ذلك. والثالث: الذي هو المتوسط،هو الذي يصلح بالعامة والخاصة والجمهور،وهو التفقّه في أحكام المُكلّفين،ومعرفة المفروض والمسنون ، والبحث على السِيَر الجميلة والتفسير لكتاب الله ومفهوم مدلول التنزيل،والنظر في المحكم والمتشابه وطلب الدليل على ذلك والبرهان،وأن لا يقنع بالأمر ويقبل من غير صحة. والرابع: هو الذي يصمت به ويُمق عنده،ويُقام على بابه ولا يُسلّم على حُجّابه. وهو من لدن الكلمة إلى المُحبّ الأعظم،له نغمات سرّ رَكّبتها الإرادة الأزلية ونظمتها المشيئة الأولية. وجميع ما يحصل من هذا العلم الأعظم حقيقة مفهوم الاسم الأعظم الذي يُفهم على ما هو عليه عند العارفين بالواحد العلاّم.. والخامس: صاحبه هو المتكبر بذات الإفادة،والمُحقّر ببذل الإستفادة والوجود المضاف.. وهو ينظر وجه الله وخَلفه الكلمة قد أصْرف وجهه عنها وعن الذوات المُكلّمة،وإن نظرها على الدوام زجره الاستحقاق،وإن أضرب بالجملة عنها أحرقه الإشراق. فهذه يا فقيه أنواع علوم الدين،وهيالمخلصة ليوم الدين. وجميع ما تفقهت فيه واعتقدته لا يجب أن يُذكر ولا ينبغي أن يُتدبّر فيه ولا أن يُفكّر.. _ الروح عند المقرّب : وها أنا أذكر لك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصلُح بمذهبي ويُخالف مذهبك،إذ الحق بضد الباطل والذهن الحاضر أنفذ من الغافل. قال رسول الله: “أول ما خلق الله العقل،فقال له: أقْبِل،فأقْبَل. ثمّ قال له: أدْبِر،فأدبر”. وقال صلى الله عليه وسلم: “كل ابن آدم يأكله التراب” إلا عُجْب الذّنب،منه خُلق وإليه يعود وفيه يُركّب،وهو عند العقلاء أسّ صفة العالَم والقطب الذي يدور عليه التدبير.. [ تكلم المؤلف بكلام عرفاني حول مفهوم الروح على مذهب المقربين.. ]. فإن الذي يتكلّم معك به من كلام المقربين عند موضح الطرائق بأهل الحقائق الذين سُربلوا بالأنوار العالية وقُدّسوا في الأنهار الصافية،وجُمع لهم بين الأرض والسماء،فهُم ورثة العلم المخزون وأمناء الله على السرّ المَصون. آهٍ ثمّ آهٍ على غربة الإسلام وفساد الدين وكساد العلم ونفاق الجهل وضعف اليقين ودُروس سُبل الدين. واعلم أن المُقرّب تَرد عليه الأحكام من فوق الفلك،ولا مسافة هناك،وإنما نُريد بذلك أجلّ وأعلى وأرفع بالمكانة لا بالمكان،فافهم.. المقرّب تَردّد الأوّليّة وأثَرها،وشهيد أنيّتها،وحتى هويّتها،وخبير بها وهادِم فَصلها بأدوات “كن”.. ما يَرد على المقرب من عالَم التأمّل،والعوالم عنده كثيرة وتتكثّر بحسب النظر إلى غاياتها عنده،فافهم. _ الواحد الحق ليس بعدد: الواحد الحقّ ليس بعدد،لأن العدد مركّب. والمركب له أجزاء،والحق لا يتجزّأ ولا ينقسم،لا بالوهم ولا بالعقل ولا بالحسّ. فإذا لم يكن بشيء من ذلك كله،ويتنزّه عن هذا،فهو واحد ووَحدته بالذات. وجميع الذوات مُعلّلة المبدأ،إذ لكل واحد منها استناد لغيره وله أول،وآنيّة مشتقة،ونوعها مُتكثّر،ولها معانٍ عامة وخاصة.. _ عِزّة المقرّب وذِلّة الفيلسوف: والدليل على عزّة المقرب وذلّة الفيلسوف: أن الفيلسوف يبحث عن الوحدة والأنيّة المطلقة، ويخلّص البحث عن الهوية والذات المشار إليها،ويتجوهر بالفعال ويُتمّم شَرف نفسه بالنّزاهة في أثر النظام القديم،وتستغرقه لذّة الإدراك الإلهي. وبالجملة: الكمال والسّعد عنده إنما هو في القُرب من الواجب الوجود. والمُقرّب هو ذات العناية والسّعد،وهومبدأ الكمال والذي من أجله عقل الفضل،وكأن الكمال الذي يُشير إليه الفيلسوف هو عنده عين النقص “حسنات الأبرار سيئات المقربين”. وإن كان بحث الفيلسوف يُبلّغه للأول الحق،ويصل به إلى غاية الإنسان بالنظر والاستدلال،فهو ليس بحق وغير واجب. وأما المقرب فالحق والسعد والكمال عنده داخل تحت نعت عبوديته،لكونه يخاف الفَوْت على الواحد والوقوع في خلال الشفع وحرمانه.. ==البراهين على وجود النفس: قدّم المؤلف مذهب الفلاسفة في النفس: هل هي موجودة أو معدومة؟ أو أنها شيء يتولّد من امتزاج الطبائع ضرباً من المزاج؟.. وناقش الفلاسفة في أفكارهم ومقدماتهم ونتائجهم،من وجهة نظر المقرّب.. وفي كل المسائل التي يوردها المؤلف،يختمها بكلامه ورأيه الذي يصفه بأنه: الحق الذي لا شيء أبْيَن منه ولا أظْهَر لكل ذي بصيرة.. يقول: اعلم أن المقرّب ــ لما كان أعلم أهل الأرض،وأن الذي يعرف من الأشياء هو الحق الواضح ــ صارت مقدماته مخالفة لغيره وبحثه كذلك. وليس له لارشاد الضعفاء سبيل إلا بهذه النّسبة التي وضعتها لك،لأن الغاية عنده متّصلة بالذي بَدأ به ويظهر هذا بآخر أوضح من الشمس عند الزوال الصيفي،فافهمه.. == روحانية النفس وعدم قابليتها للقسمة: النفس روحانية غير متجزّئة،وجوهر حيّ قائم بنفسه. لأن العقل الكلّي فيه صورة كل شيء،وهو روحاني نوراني،عَلاّم بالفعل وفعّال بالفعل،وجملته: حُبّ واستغراق في نَظر الجلال والنّظام القديم. والنفس منه مشتقّة،وكأنه لها مادة وغاية ومبدأ.. والظاهر أن لها: قوّة علاّمة،بها تُعطي لنا النّطق والفهم والعلم. وقوة فعالة،بها تُصوّر جميع ما في عالم الكون من المولّدات. (رأي فيثاغورس الذي أثبت النفس الكلية).. وهذه الحروف،يا فيلسوف،قد ذكرتها لك فاسمع تركيبها كما هي العادة،والذي نريد بها أن نجعل غايتك هي البداية،بل لا نسبة بين الحق والباطل إلا بحسب المجاورة.. [ ثمّ أخذ المؤلف بمناقشة آراء الفلاسفة في النفس: مبحث “أين كانت قبل حلولها في الجسد”،”حلول النفس في الجسد”،”تركيب النفس في الجسد”. وفصّل القول في الحواس الخمس،والحواس الباطنة كالمخيلة والعاقلة والمفكرة والحافظة.. وبحث “مفارقة النفس الجسد”،ومبحث”بقاء النفس بعد فراقها الجسم”،ومبحث “إلى أين تَصير النفس”؟،ومبحث”كيف تَسعد النفس”؟.. وفي كل مسألة ومبحث يذكر أقوال الفلاسفة وأفكارهم،وبعدها يذكر مذهب المقرّب في نقد وتفنيد المذهب الفلسفي.. ]. الجواهر الروحانية: لا جهة لها ولامكان ولا مسافة ولا زمان،وبالجملة: نَزاهة مطلقة ومفارقة محضة. _ أين كانت النفس قبل حلولها في الجسد: وجملة الأمر عند الطائفة: أن النفس الناطقة كانت،قبل حلولها في الجسد،في النظام القديم واجبة،وفي الكلمة ثابتة،وفي المبدع الأول صورة،وفي العقل الفعال فِعل وأثَر وسبب وصورة،وفي النفس الكلية قوة ونوعاً،وفي الطبيعة محمولة ممكنة،وفي المركب محركة ومدبرة ومتممة ومفيدة الحياة. وهي في الفلك معقولة في الحركة،وفي نفس الفلك بالذات،وفي عقله بالأنيّة المطلقة،وفي الشمس والكواكب والبروج بالقوة والاستعداد.. وهذا المبحث لا تتوهّم أنه “أيْن المكان”.. وإنما هو إشارة إلى معقول المبدأ،كما تقول: “أين العدد؟”،فيُقال: في الواحد. وفي مطلب “أين” نتكلم على اطلاقه الجسماني واطلاقه الروحاني.. وهذا المطلب،يا فيلسوف،قد خلصته لك من مذهبك على مرادك،وهو مخالف للحق وأهله،ومُعين على الضلالة. فاسمع حروف المُقرّب،فنقول: الأوليّة ممتدة بذاتها،وهي شرط في وجود الغاية.. وكأن الخط بجملتة،أذا حقّق: أوليّة ومبدأ،فإن النقطة المتقدمة أولية بالإضافة إلى الأخرى،والغاية توهّم الطرف الذي يَلي غاية الخط.. [ ذكر المؤلف قول المقرب بنفس عرفاني،متعرّضاً لوحدة الشهود وللشطح والفناء.. ].. واعلم أن قلوب المقربين مفتوحة وصدورهم مشروحة،متّسعة بنور الهداية والتوفيق العلوم والمعارف والتحقيق. وقلوب الفلاسفة الذين لم يسمعوا من المقربين،حَرجة وضيّقة ومنغلقة ومظلمة،وعقولهم قاصرة وأفكارهم تائهة،ونفوسهم ممتلئة من وساوس حديثها. وفي القرآن آية تشرح أحوال المقربين السَنيّة،وآية تشرح أحوال الظالمين الجهلة. مثل قوله تعالى في أحوال المقربين: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة) الآية،ومثل أحوال الظالمين قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجيّ يغشاه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).. فعليك ــ أيها الفيلسوف ــ بالبحث الشرعي والهداية المحمدية،وتفهّم الألفاظ البكرية والعُمرية،وتحصيل إشارات أهل البيت ونصوصهم،واقتدي بهم في قصصهم واقتصاصهم إن أردت أن تَسعد وتصعد وتُجزى وتُكرم ولا تُبعد.. _ لا تظن أن العوالم التي تسمع منّي هي عوالم هيولانية،والعوالم التي يطلقها الصوفية مثل ما نسمعهم في مصنفاتهم يُسمون: عالم العقل وعالم النفس وعالم المُلك وعالم الملكوت وعالم الجبروت. وكذلك الذي يطلقه الفلاسفة من العوالم الروحانية والذوات المجردة. فجميع ذلك عندي هو “العالم الأول”. وهؤلاء كلهم الذين نُسميهم ب”الصّمّ”،أعني رجال الرسالة (أي الرسالة القشيرية / ابن سبعين لا يعترف بهذا النوع من التصوف) وجميع علماء الملّة والفلاسفة على الإطلاق وجميع المصنفات الموجودة. وهذا الذي نريد أن نُنبّه عنه هو: مما لم يُسمع في عصره ولا قيل أنه ظهر في دهر ولا مما دُوّن أو عُلم في فلاة ولا مَصر،وهو مأخوذ من كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.. _ البصيرة : لو شرع المحقّق في بَثّ الأسرار في كل شيء يَراه ويسمعه،لهَلك ولأهلك،وذلك أن الأمور المألوفة هي طبيعة الناس والجمهور،والذي عند المحقق هو من الأمور التي ليست من جنس ما يُكتسب.. مثال ذلك لو قال أحد: المحقّق يُبصر على خمسة أيام،لأنكر عليه ذلك جميع الناس.. والعين التي ذكرتها لك عند المحققين هي “البصيرة”،وموضوعها العقل المستفاد،وغرضها مبثوث في صورة التحقيق. فمن انسدّت بصيرته عَمي عن مُدركها وإدراكها،ومن تخلّصت بصيرته بَصر وشاهد المشاهد العظيمة.. وجميع الجمهور لا يقول بحاسة البصيرة ولا يصدّق بها،ولا يقول بها منهم إلا القليل.. والنبوة لم تُرسل إلا بتعليم هذه الحاسة القلبية،وبيّنت أنموذج ذلك وأظهرته للعيان. والعاقل يعلم من حالها أنها لم تُطالع العلوم ولا بصرت المغيبات بحاسة البصر،وإنما كان الباصر منها عين القلب في لوح الملكوت.. وما من علم إلا وهي تعلمه على أتمّ ما وُضع له،وما يعلمه الناس بالبحث تعلمه هي بالوحي والإلهام والنوم.. _ حاسة السمع : اعلم أن حاسة السمع بالجملة هي: المُفيدة للحيوان العاقل في تعليم العلوم. لأنا نقول الأعمى يَعلم بالسمع،والذي يقطع لسانه،وكذا الذي لا يطعم والذي لا يلمس. والبصر بعد هذه الحاسة في الشّرف،فإن به يقرأ العالِم إذا لم يسمع.. وقد ذكره الله تعالى فقال: (صُمّ بُكم عُمي) الآية. وفيها من الأسرار الروحانية أنها تسمع فحوى الخطاب فتزيد على مدلول اللفظ معنى آخر غيره.. وهي على الإطلاق: حاسة روحانية. وما من حاسة إلا ولها،من نفسها،على مُبدعها،الحق الأول الواجب الوجود،الاستدلال عليه،وهي مطلوبة بتعظيمه.. فأجناس العلوم التي لا تُعلم،لا بفكر ولا روية ولا نظر،تنقسم إلى أربعة أقسام وهي: المقبولات والمشهورات والمحسوسات والمعقولات. فهذه الحواس (أي الحواس الخمس) قد أخذت من هذه الأقسام أكثرها. وحاسة السمع هي التي سمع بها نبينا صلى الله عليه وسلم،وجميع الأنبياء،الوحي،وبها رحم الله عباده.. == أقسام النفوس: القول على النفوس المعقولة في عالم الكون،وهيالنفوس الجزئية،وهي المشتركة بين الحيوان الناطق وغير الناطق. فالحيوان الناطق تكمل فيه جميع أنواعها: إما بالذات وإما بالعرض. فالذي بالذات منها: النفس النباتية والحيوانية والناطقة. والذي بالعرض: النفس الحِكمية والنفس النبوية.. كلامنا هنا على وصف مذهب الفيلسوف،لا الحق الذي يعول عليه ويُسعى إليه ويُرام تحصيله ويُطلب من الله كثرته وقليله.. النفوس خمس: نفس نباتية ونفس حيوانية ونفس ناطقة. وهذه أجناس النفوس الجزئية،إلا أن الناطقة منها قد تكون على وجه التمام: نفس حِكمية ونفس نبوية،وعقل بالقوة وعقل بالفعل.. ولكل نفس من هذه الأنفس: خواص وأفعال وقوى ولواحق.. النفس النباتية : وهي الموضوعة للنفس الحيوانية،والحيوانية صورة فيها. وهي الشهوانية وأفعالها في جسد الإنسان،والنزاع إلى الغذاء وطلبه والتلذّذ به عند حلوله،والاستضرار بفَقده،وجذب الموافق من الأغذية ودفع المخالف،وحفظ الشيء بشخصه ونوعه.. ولا خلاف بين الفلاسفة في هذه النفس أنها: فانية،فإنهالا حياة لها ولا عقل.. وهذه النفس عنصرها عنصر طبيعي،ولا تعلّق لها بالذوات المفارقة،فهي تعود لعنصرها.. النفس الحيوانية وهي الغضبية،وفيها شهوة النكاح والمأكل والمشرب والغلبة والانتقام وطلب الرئاسة،ولها الهياكل المنتصبة اللحمية والأخلاط الطبيعية.. ولها الحركة الارادية والاختيارية.. وفيها الحواس الخمس.. وبالجملة: لها الألم واللذّة،ولبعضها التخيّل والوهم.. النفس الناطقة : هي التي فيها الفكر والرَويّة ومحبة العلم والمعرفة،وهي التي تملك الصنائع القياسية والغير قياسة،ولها العمل باليدين،ولها الهياكل المنتصبة. وهي التي تكون فلسفية وحكمية ونبوية،وتبحث عن العلوم النظرية التي تُبلّغها لحقائق الأمور.. وفي هذه النفس ظهرت الصورة الشريفة والقوة الإلهية النبوية،وتلقي الوحي والإلهام والإتصال بالعقل الفعال وتقويم سائر النفوس المنحرفة.. النفس النبوية تأخذ الأمر من الأول الحق والكلمة المعظمة والذات المنزهة بغير واسطة ولا تركيب،ولا بالقوة ولا بالبحث. والنفس الحكمية ما لها أكثر من النظر في كليات الأشياء خاصة.. والنفس الناطقة هي التي قيل بها للإنسان “حيوان ناطق يعقل”.. واعلم أن النطق يطلقه القدماء على ثلاثة أنحاء: أحدهما العقل البديهي. والثاني هو ما يحصل للنفس من المعلومات والمعارف والكليات،وهذا هو النطق الداخل. والثالث العبارة باللسان عما في النفس،وهذا هو النطق الخارج.. واعلم أن النفس الناطقة أشرف النفوس في عالم الكون،لأنها عاقلة فَحّاصة قابلة للعلم والحكمة،مميزة بين المحمودات والمذمومات، راغبة في الفضائل مجتنبة للرذائل،مُثابَة معاقبة لعلمها بالذي تُثاب عليه والذي تُعاقب عليه. وهذه النفس باقية بعد الموت،لا تفنى ولا تتغيّر،بل الموت يزيدها حُسناً وبهاءً،وهو ولادتها..
ولما صحّ أن الموت نقض التركيب وصرف الأشياء إلى مواضعها،رجع الروحاني إلى الروحاني والجسماني إلى الجسماني. والروحاني لا يفنى بالمفارقة،فإن الفناء إنما هو في المركبات،والنفس الناطقة بسيطة.. ومعلوم عند العارفين كلهم: أن النفس لا آخر لها،لأنها شرط في الكلمة وقول عامل وتعلّق صادق. وما لا آخر له نَظرناه في نفسه: فإن كان هو ممكن الوجود فخبره من الواجب المطلق،وإن كان هو واجب الوجود فخبره من نفسه. والواجب هو الخير المحض،والممكن لا صفة له إلا تابعة من القصدين: فإما الخير وإما ضدّه. والخير لا سبيل للإتّصاف به إلا به وبالتشبّه،ولايصلح إلا بالتخلّق بأسمائه وصفاته،وذلك سُلّم المعراج الأول. وهذا لا يكون إلا بالعلم والعمل،لا يكمُل ولا يصحّ إلا بالقصد،والقصد يحمل السعيد إلى حضرة القاصد،وحضرة القاصد هي: الخير والأمر والنور والأنس والفرح والسرور واللذّة والجنة. ومصير النفس السعيدة في الحقيقة إليه حتى تفنى فيه وبه،وفي المجاز إلى أمره وفعله.. فلا تتخيّل يا مسترشد أن هذا الوصول مثل وصول الصوفية حين تسمعهم يتكلمون في الفناء والخروج عنه.. _ ولا تظن أني أثبت عوالم هيولانية غير هذه،وإنما الجواهر الروحانية يزيد عليها ما هو أعظم منها وإن كان بينهما نسبة في الذات،والأحوال الواردة على هذه الذوات مفارقة. وبالجملة: ما يرد على هذه الجواهر المفارقة التي تعقلها أنت،لا التي أعقلها أنا،وما بينهما نسبة في الذات ولا مقايسة. فإن ذلك بالفيض والكلمة والفصل والمصدر والإمكان والإستفادة. وهذه بالعلم والإمداد والإقامة ومشاكلة النظام والخطف المكفوف والتقديس الملهوف. وهؤلاء عباد الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون،لأن هوياتهم معطوفة وأنيّاتهم مقطوفة وماهياتهم مسلوفة وبصائرهم مُستنارة وذواتهم مستعارة،وهم يُنزهون الحق التنزيه الذي يجمُل به ويجب له. ومعارف الفلاسفة لا يحسُن معها التنزيه والتعظيم،وإن كانت على نحو ما ووَجه ما قد يحسن،فهو يكذب بالإضافة إلى هذا. وحقائق الصوفية وإن كانت صادقة،ولها الوصول والإدراك والبلوغ إلى حد العجز عن ذلك الإدراك،فهو غير مستقيم المعنى ولا يصح معه التنزيه لله إلا بالخروج عن العبودية،والخروج عن العبودية ما يكمل لهم إلا بالسكر والصحو،وأمورهم مشهورة ومعروفة.. والذي نريد أن نذكره ونُنبّه عليه أن الحق لا يوجد إلا عند المقرّب وفي مفهوم الكتاب العزيز،حتى يستقيم الشرع والتحقيق على البرهان.. [ ثمّ ذكر المؤلف مذهب المقرّب في مبحث النفس.. ]. ولا تظنّ أنّي أنكر من علمك (يقصد الفيلسوف) ما يقبله العقل بالبرهان،وإنما أنكر منه ما يمحله هو ويُثبته العلم بالقرآن.. _ سعادة النفس: السعادة في الإنسان إنما هي ثمرة تمام الإنسانية وكمالها. وكمال الإنسان لا يتمكن إلا بصلاح عقله،وعقله لا يصلح إلا بالعلم والتجوهر بالعقول المجردة،والسلوك عليها حتى يكون عقلاً بالفعل لا يحتاج إلى تجرد غيره له. والعلم والتجوهر لا يتمكن إلا: بالتمدن والحد والعزم والبحث ومعرفة الصنائع العلمية والعملية،وتقويم فطرتها وفعل ما ينبغي كما ينبغي. فإذا صح لنا هذا كله،وتمّ معقول الإنسان: لم يعقل للسعادة ماهية ولا للإنسانية هوية متمّمة إلا بالقُرب من الأول الحق. وبقدر مرتبته في القرب منه كانت سعادته،وحيث انتهى علمه فتنتهي سعادته. فالسعادة معرفة الله،ومعرفة الله ما يجب من أجله. واللذّة (المحمودة) لا تصح إلا بالسعادة. وهذا كله لا يتمكن إلا بالقصد الأول والواجب الوجود الذي هو الأصل في السعادة واللذّة.. وهو الذي صورة كل شيء وغايته،ومُقدّم الوجود وضرورته التي لا انفكاك له عنها. وهو البُدّ اللاّزم الذي يلزم لكل موجود سواه.. فإذا فارقت النفس البدن فسعادتها: منزلتها وقُربها منه وعلمها به،وبحسب ما تبعُد عنه تنتكس،وبقدر ما تقرب منه ترشد وتسعد وتصعد،فافهم.. ويظهر من كيفية السعادة،بحسب مذهب الفيلسوف،أنها: تابعة للأفعال المحمودة،والأغراض الصادقة،والتميّز القاطع،والنور الساطع،والمكاشفة الشارحة الجليّة،والهداية الباهرة العليّة. وهذه الكيفية هي القسم الأول من أقسام هذا المبحث. أما القسم الثاني فهو: هل بين الحق الذي تَسعد النفس به نسبة أو شبهة ما،أم ليس بينه وبينها نسبة ولا شبهة؟ فنقول: المُسعِد هو الحق،والسعيد هو المعلول. والحق واجب،والمعلول ممكن. والواجب متقدّم على الممكن بالطبع،والممكن متأخر عنه. والمتقدّم يُفارق من ذاته المتأخر.. ولا نسبة ولا شبهة بين المختلفات.. ولا يخدعك ما ترى من رسم الروحاني فتتخيّل أن الحق سبحانه من تلك النّسبة،فتغلط وتهلك ولا تُجبر بوجه.. _ الفرق بين الصوفي والمحقّق : نُريد بالمحقّق هنا ما لا نريد بالصوفي. وإن سمعته يصف العوالم ويحُدّها ويفنى عنها،ويقسم الأحوال والمقامات ويصفها ويُنوعها،ويصعد عليها بالعلم والعمل والمعرفة،ويُدرك حقيقة الظاهر والباطن والحدّ والمطّلع والإسلام والإيمان والإحسان ــ فهو بعد ذلك يحتاج إلى المحقق ويضطر إليه،فإنه مباين له من جهة ومتّفق معه من أخرى. المقرّب،وهو المحقّق،هو السيد الذي لا تختلف عوالمه،ولا يرحل منها إلى غيرها،ولا يضطر إلى عالم آخر،وإنما تركيبه متماثل،ويُنشئ الذوات. والصوفي يُنشئ الصفات. وإن أردت بالمقرّب محقّق الصوفية،فاعلم أني لا أريد ذلك ولا أقول به ولا أرضاه،وإن كان هو عندي عظيم،وهو الذي يختار المقرب من رجال الرّتب الأربعة،وهو المخاطَب عنده بينهم وحده. واعلم أنّي لم أختر الرّتَب الأربعة إلا لشرفها عندي،لأنها أجلّ الناس بعد الصوفية المقربين.. فالمذاهب المخالفة للحق لا منفعة فيها. وإن كان الفقيه غير مناظر في المعقولات،وكذلك الأشعري لأنه ضعيف الصناعة. فهما شريفان لأجل أصلهما ومذهبهما وفضيلتهما.. وإن سمعتني أوبّخهم وأردّ عليهم وأذمّ مذهبهم،فلا تتخيّل أني أذمهم بذم مطلق ولا أستنقصهم بوجه إلا بإضافتهم للمقرّب،ولئلا يغلط السالك والمسترشد فيهم فيترك الحق ويُهمل طريقه. وبالجملة: فأنت إن سمعت منّي: تستعين بالفقيه في العمل،وبالأشعري في الحب للشريعة،وبالفيلسوف في الصنائع العملية،وبالصوفي في الحال الصادق والمكاشفات والإنصاف بالأمور التي لا من جنس ما يُكتسب،وباصطلاحهم في ذلك وتآليفهم وأقوالهم وما هم عليه. وبالمقرّب في الجملة،وفي كل ما يقوله ويفعله،فإذا اشترفت عليه لا تنظر إلى سواه.. الصوفي الكامل هو الذي يُحيط بالمنقول والمعقول،والأحوال والمواهب والاتّصاف،والإدراك الروحاني كله بجميع أنواعه والجسماني بجميع أنواعه والمشترك بين الروحاني والجسماني. إذا فرضناه مريداً،وتصوفه صناعياً،وهو من التصوف الذي يحصل بصناعة التركيب. والصوفي الكامل تصوفاً طبيعياً،الذي يُطلق عليه صوفي،هو الذي يَرد عليه التصوف بمجرد الرحمة والموهبة والفيض،حتى لا يكون عنده من عالم الشهادة بما ينزل إليه،وهذا هو الذي يستحق اسم التصوف لا غير. والأول يستحقه بالإضافة لغيره من العلماء،أعني النظّار. والصوفي حقيقة هو الذي يتخلّق بالأسماء الحسنى،ويجدها في نفسه لا بنفسه ولا عن نفسه ولا من نفسه ولا لنفسه.. ولا يتمكّن التصوف ولا يحصُل ويُظفر به إلا بالتحقيق وبما يُعطيه المحقّق لهم. والمحقق هو المقرب.. _ أصل الحرمان: الحرمان أصله الجهل،والجهل يحدُث من جملة أشياء وهي: الكسل والملل والغفلة،وفساد الذهن وقلّة الاحتمال،وسوء الأخلاق وعدم الإنقياد،والركون إلى الراحة،والرجاء في المستقبل والتسويف،والفرح بالتقليد والنفور من الاجتهاد،وحب الرئاسة والعمل لها،ومخالطة المُفسد والمُجّان،وكسب العرض والانفراد بالمذهب والبحث عن الشيء دون معلم،وأخذ الموافق من الأمور الشهوانية وترك المخالفة للنفس الحيوانية من الأمور الروحانية،وخلطة العامة والأميين وأهل البدع والأهواء. وبالجملة: عدم القبول والاستعداد وسوء البخت في التربية والمعاشرة،والمزاج المنحرف والتركيب الخسيس والمنشأ الخلف.. والحق هو أصل كل شيء وبُدّه وصورته وذاته وكُلّه وبعضه،من جهة ما يجب له وعلى ما يجب وكما يجب له. فالجهل فعل الله تعالى في العبد،لا على ما يرضاه ولا بأول قصد،أعني بالأول هذا المقصود بالكمال،فإن البُعد عن الحق ضد الكمال،وهو الحرمان الأعظم. ولا تظنّ بالشرّ أنه لم يأخذ من الإبداع الأول شيئاً ولا ظهر منه،فتغلط غلط بعض القدماء الجهال. ولا تجعله مع الخير في صدور واحد،لئلا يقطعك حد المبدأ الذي يلي الحق الذي يطلب الواحد في الإبداع ولا يتمكن الشفع فيه.. لأن الشر ليس بشيء ولا له هناك وجود،لأنأعظم الشرّ الجهل بالله وإنكاره والبُعد منه،وهذا باطل لأنه لا موجود واجد إلا الله.. فالخير والشر واحد في العلم والإرادة،وفي التعلّق معاً. غير أن الخير المنفعل ينتهي إلى حيث ينتهي به علمه،فهو في حق وإلى حق. والشر ينفصل ولا وجود له في الحقيقة،ولا يتجوهر بمقام من المقامات السنيّة.. وبالجملة: الشر يتّفق مع الخير في الصدور الأول،ويختلف معه في الغاية. ولما كان الخير الأول أصلاً في كل موجود ممكن،وجب تقدّمه لأن طبيعة النظام الأول مستقيمة ومعتدلة ومكملة.. الجهل يُفقد به الكمال الإنساني،وفَقد الكمال الإنساني هو الحرمان. والعرض المهلك هو الذي يُثمر ذلك كله، وهو قضية يمنع بطبعها المقصود وتحول بين العابد والمعبود.. __ النفس عند المقرب: ثم ختم المؤلف كتابه بمبحث النفس عند المقرّب،وقد ضمنه كلاماً عرفانيا مطلسماً ومرموزاً.. ثم قال: وقد صحّ أن المعنى الذي يشير إليه المقرب وينطق به ويُفيده،كيف ما كان،لم يُسمع ولم يُبصَر ولا خطر على قلب البشر الخواص الذين كشف لهم الغطاء.. هنا بلغ الإملاء في (بد العارف وعقيدة المقرّب الكاشف طريق السالك المتبتل العاكف). والحمد لله واهب العقل ومُنتج الفرع من الأصل. وكان التمام من الكتاب المذكور والجامع المشهور،يومالأحد الرابع عشر في شهر رجب المعظم سنة تسعة وسبعين وستمائة. لخصه الاستاذ رشيد موعشي