مقامات الاولياء

ابن العربي

مقامات الأولياء

__ الأقطاب : وهم الجامعون للأحوال والمقامات بالأصالة أو بالنيابة.. وقد يتوسّعون في هذا الإطلاق،فيُسمّون “قُطباً”: كلّ من دار عليه مقام ما من المقامات،وانفرد به في زمانه على أبناء جنسه. وقد يُسمّى رجل البلد قُطب ذلك البلد،وشيخ الجماعة قُطب تلك الجماعة. ولكنّ الأقطاب المصطلح على أن يكون لهم هذا الاسم مطلقاً،من غير إضافة،لا يكون منهم في الزمان إلا واحد. وهو “الغوث” أيضاً. وهو من المُقرّبين، وهو سيّد الجماعة في زمانه. ومنهم من يكون ظاهرَ الحُكم،ويحوز الخلافة الظاهرة كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام: كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ والحسن ومعاوية بن يزيد وعمرو بن عبد العزيز والمتوكّل. ومنهم من له الخلافة الباطنة خاصّة،ولا حُكم له في الظاهر: كأحمد بن هارون الرشيد السّبتي،وكأبي يزيد البسطامي. وأكثر الأقطاب لا حُكم لهم في الظاهر.

__ الأئمّة : لايزيدون في كل زمان على اثنين،لا ثالث لهما. الواحد “عبد الربّ”، والآخر “عبد المَلك”،والقطب “عبد الله”. قال تعالى:(وأنه لما قام عبد الله) يعني سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم. فلكلّ رجل اسم إلهيّ يخُصّه،بهِ يُدعى عند الله، ولو كان اسمُه ما كان.. والأئمة هما اللذان يَخلُفان القُطب إذا مات،وهما للقطب بمنزلة الوزيرين: الواحد منهم مقصور على مشاهدة عالَم الملكوت، والآخر مع عالَم المُلك.

__الأوتاد:وهم أربعة في كلّ زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. رأينا منهم شخصاً بمدينة فاس،يُقال له: ابن جعدون،كان يَنخُل الحنّاء بالأجرة.الواحد منهم يحفظ الله به المشرق وولايته فيه،والآخر هوالمغرب،والآخرالجنوب،والآخرالشمال. والتقسيم من الكعبة. وهؤلاء قد يُعبّر عنهم بالجبال،لقوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مِهاداً والجبال أوتاداً).. وكلّ ما نذكره من هؤلاء الرجال باسم الرجال،فقد يكون منهم النساء،ولكن نُغلّب ذِكر الرجال. قيل لبعضهم:[ كم الأبدال؟ فقال: أربعون نفساً. فقيل له: لِمَ لا تقول أربعون رجلاً؟ فقال: قد يكون فيهم النساء ]. ألقابُهم: عبد الحيّ، وعبد العليم،وعبد القادر،وعبد الودود.

__ الأبدال : وهم سبعة،لا يزيدون ولا ينقصون. يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة،لكلّ بَدَل إقليم فيه ولايته. وأسوقُهم على الترتيب إلى صاحب الإقليم السابع: الواحد منهم على قدَم الخليل، والثاني على قدم الكليم،والثالث على قدم هارون،والرابع على قدم إدريس، والخامس على قدم يوسف،والسادس على قدم عيسى،والسابع على قدم آدم ــ على الكلّ السلام. وهُم عارفون بما أودَع الله في الكواكب السيارة من الأمور والأسرار،في حركاتها ونُزولها في المنازل المقدّرة.ولهم من الأسماء “أسماء الصفات”: فمنهم “عبد الحيّ،وعبدالعليم،وعبدالودود،وعبدالقادر”،وهذه الأربعة هي أربعة أسماء الأوتاد. ومنهم “عبد الشكور،وعبدالسميع، وعبدالبصير”. لكلّ صفة إلهيّة رجل من هؤلاء الأبدال،بها ينظُر الحقّ إليه وهي الغالبة عليه.وما من شخص إلا وله نسبة إلى اسم إلهيّ،منه يتلقّى ما يكون عليه من أسباب الخير.. وسُمّوا هؤلاء أبدالاً،لكونهم إذا فارقوا مَوضعاً ويُريدون أن يُخلّفوا بدَلاً منهم في ذلك الموضع،لأمر يرون فيه مصلحة وقُربة، يتركوا به شخصاً على صورته،وهوشخص روحاني يترُكه بدَله بالقصد على عِلمٍ منه، فكلّ من له هذه القوّة فهو بدَل. ومن يُقيم الله عنه بدَلاً في موضع ما،ولا علم له بذلك،فليس من الأبدال المذكورين.زرأينا هؤلاء السبعة الأبدال بمكة،لَقيناهم خَلف حطيم الحنابلة،وهنالك اجتمعنا بهم،فما رأيت أحسن سَمْتاً منهم.وكُنّا قد رأينا منهم موسى السّدّاتي بأشبيلية سنة ستّ وثمانين وخمسمائة،وصَل إلينا بالقصد واجتمع بِنا.ورأينا منهم شيخ الجبال محمد بن أشرف الرُّندي.ولَقي منهم صاحبنا عبد المجيد بن سلمة شخصاً اسمه معاذ بن أشرس،كان من كِبارهم،وبلّغني سلامَه علينا. سأله عبد المجيد هذا عن الأبدال: بماذا كانت لهم هذه المنزلة؟ فقال: بالأربعة التي ذكرها أبو طالب المكي،يعني: “الجوع والسّهَر والصّمت والعُزلة”.وقد يُسمّون “الرجبيّين” أبدالاً،وهم أربعون. وقد يُسمّون الاثني عشر،أيضاً،أبدالاً. فمن رأى الرجبيّين قال: إن الأبدال أربعون نفساً، فإنهم أربعون.

__ النّقباء :وهم اثنا عشر نَقيباً في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. على عدد بُروج الفلك الاثني عشربرجاً،كل نقيب عالِم بخاصية كل برج،وبما أودع الله في مقامه من الأسرار والتأثيرات،وما يُعطي للنّزلاء فيه من الكواكب السيارة والثّوابت.. واعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء: علوم الشرائع المنَزّلة،ولهم استخراج خَبايا النفوس وغَوائلها،ومعرفة مكرِها وخِداعها. وأما إبليس فمكشوف عندهم،يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه.

__ ( النّجباء :وهم ثمانية في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. وهم الذين تبدو منهم وعليهم أعلام القَبول من أحوالهم، وإن لم يكن لهم في ذلك اختيار،لكن الحال يغلب عليهم.ولا يعرف ذلك منهم إلا من هو فوقهم،لا من هو دونهم. وهم أهل عِلم الصفات الثمانية: السبع المشهورة،و “الإدراك” الثامن. ومقامهم الكُرسيّ،لا يتعدّونه ما داموا نُجباء. ولهم القدم الراسخة في علم تسيير الكواكب من جهة الكشف والاطّلاع،لا من جهة الطريقة المعلومة عند العلماء بهذا الشأ،والنّقباء هم الذين حازوا عِلم الفلك التاسع،والنّجباء حازوا عِلم الثمانية الأفلاك التي دونه،وهي كلّ فلَك فيه كوكب.

__ الحواريّون : وهو واحد في كل زمان،لا يكون منه اثنان. فإذا مات ذلك الواحد، أقيمَ غيرُه. وكان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام،وهو كان صاحب هذا المقام،مع كثرة أنصار الدين بالسيف. فالحواري من جمع في نُصرة الدين بين السيف والحجّة،فأعطيَ العلم والعبارة والحُجّة،وأعطي السيف والشجاعة والإقدام. ومقامه التحدّي في إقامة الحجّة على صحّة الدين المشروع ،كالمعجزة التي للنبيّ.فلا يقوم بعد رسول الله،بدليله الذي يُقيمه على صدقه فيما ادّعاه،إلا حَواريُّه. فهو يَرث المعجزة،ولا يُقيمُها إلا على صِدق نبيّه.. وقد رأيناه في زماننا،سنة ستّ وثمانين وخمسمائة..

__ الرجبيّون : وهم أربعون نفساً في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. وهم رجال حالُهم القيام بعظمة الله،وهم من الأفراد، وهمأرباب القول الثّقيل من قوله تعالى:(إنا سنُلقي عليك قولاً ثقيلاً).وسُمّوا “رجبيّون” لأن حال هذا المقام لا يكون لهم إلا في شهر رجب،من أوّل استهلال هِلاله إلى انفصاله،ثمّ يفقدون ذلك الحال من أنفسهم، فلا يجدونه إلى دخول رجب من السنة الآتية. وقليل من يعرفهم من أهل الطريق.وهم مُتفرّقون في البلاد،ويعرف بعضهم بعضاً.. لقيت واحداً منهم بدُنَيْسير من ديار بكر،ما رأيت منهم غيره،وكنت بالأشواق إلى رؤيتهم. ومنهم من يبقى عليه،في سائر السنة ،أمرُ ما كان يُكاشَف به في حاله في رجب.ومنهم من لا يبقى عليه شيء من ذلك. وكان هذا الذي رأيته قد أبْقِيَ عليك “كَشف الروافض”،من أهل الشيعة،سائر السنة. فكان يراهُم خنازير. فيأتي الرجل المستور،الذي لا يُعرف منه هذا المذهب قطّ،وهو في نفسه مؤمن به،يَدين به ربّه. فإذا مَرّ عليه يراه في صورة خنزير، فيستدعيه ويقول له: تُبْ إلى الله فإنك شيعي رافضيّ.فيبقى الآخر متعجّباً من ذلك،فإن تابَ وصدَق في توبته رآه إنساناً،وإن قال له بلسانه: تُبت ــ وهو يُضمر مذهبه ــ لا يزال يراه خنزيراً، فيقول له: كذبت في قولك: تُبْت..

__ الخَتْم : وهو واحد،لا في كلّ زمان،بل هو واحد في العالَم. يَختم الله به الولاية المحمدية،فلا يكون في الأولياء المحمديين أكبر منه. وثَمّ ختم آخر،يختم الله به الولاية العامّة من آدم إلى آخر وليّ،وهوعيسى عليه السلام،هوختم الأولياء كما كان ختم دورةالمُلك.فله يوم القيامة حَشران: يُحشَر في أمّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،ويُحشَر رسولاً مع الرّسل.

__ ثلاثمائة نفس على قلب آدم : في كلّ زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. فاعلم أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في حقّ هؤلاء الثلاثمائة: “إنهم على قلب آدم”، وكذلك قوله في غير هؤلاء ممّن هو على قلب شخص من أكابر البشر أو الملائكة، إنما معناه: أنهم يتقلّبون في المعارف الإلهية تَقلّب ذلك الشخص،إذ كانت واردات العلوم الإلهية إنما تَرد على القلوب.. وربما يقول بعضهم: “فُلان على قدَم فُلان”،وهو بهذا المعنى نفسه.. ولكل واحد من هؤلاء الثلاثمائة من الأخلاق الإلهية ثلاثمائة خُلُق إلهيّ،من تَخلّق بواحد منها صَحّت له السعادة.. ولهذه الطائفة من الزمان الثلاثمائة من السنين التي ذكر الله أنها لَبثَها أهل الكهف.. وهذه الجُملة قريبة من ثُلث يوم واحد من أيّام الربّ. فإذا أخذَ العارف في مَشهد من مشاهد الربوبيّة حَصّل في مقدار يومها في تلك اللحظة من العلوم الإلهية ما يُحصّل غيره،في عالَم الحسّ مع الاجتهاد والتهيّؤ،من العلوم الإلهية في ألف سنة من هذه السّنين المعلومة..

__ أربعون شخصاً على قلب نوح : في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون.. وصفتهم القبض،ودعاؤهم دعاء نوح:(ربّ اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً). ومقام هؤلاء الرجال مقام الغَيرة الإلهية، وهو مقام صعب المُرتقى. فإنه صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله غيور، ومن غيرته حرّم الفواحش”. فثبت من هذا الخبر أن الفاحشة هي فاحشة لعَيْنها،ولهذا حرّمها.. وعلى معارج هؤلاء الأربعين عَملت الطائفة الأربعينيات في خلواتهم،لم يزيدوا على ذلك شيئاً،وهي خلوات الفتح عندهم..

__ سبعة على قلب الخليل إبراهيم : في كلّ زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. ودعاؤهم دعاء الخليل: (ربّ هب لي حُكماً وألحقني بالصالحين)،ومقامهمالسّلامَة من جميع الرّيْب والشّكوك. وقد نزع الله الغلّ من صدورهم في هذه الدنيا،وسَلم الناس من سوء ظنّهم.. وقد أرسل الله بينهم وبين الشرور التي هم عليها الناس حجاباً، وأطلعهم على النّسب الذي بين الله وبين عباده.. ولقد لقيتهم يوماً،وما رأيت أحسن سَمْتاً منهم: علماء، حُلماء، إخوان صِدق “على سُرر متقابلين”..

__ خمسة على قلب جبريل : في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون.. لهم من العلوم على عدد ما لجبريل من القِوى المُعبّر عنها بالأجنحة التي بها يَصعد وينزل،وهوالمُمدّ لهم من الغيب،ومعه يقفون يوم القيامة في الحشر.

__ ثلاثة على قلب ميكائيل : في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. لهم الخير المحض والرحمة والحنان والعطف. الغالب عليهم: البَسط والتبسّم ولِين الجانب والشّفقة المُفرطة ومُشاهدة ما يوجب الشّفقة. ولهم من العلوم على قدر ما لميكائيل من القوى.
__ واحد على قلب إسرافيل : في كل زمان. وله الأمر ونقيضه،جامع للطرفين.. وكان أبو يزيد البسطامي منهم،وله من الأنبياء عيسى. فمن كان على قلب عيسى فهو على قلب إسرافيل،ومن كان على قلب إسرافيل قد لا يكون على قلب عيسى. وكان بعض شيوخنا على قلب عيسى،وكان من الأكابر.

__ رجال عالَم الأنفاس : وأمّا رجال عالَم الأنفاس فهم على قلب داود عليه السلام،لا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان. وإنما نَسبناهم إلى قلب داود،وقد كانوا موجودين قبل ذلك بهذه الصفة،فالمُراد بذلك لأنه ما تفرّق فيهم من الأحوال والعلوم والمراتب قد اجتمع في داود. ولقيت هؤلاء العالَم كلّهم،ولازَمتهم وانتفعت بهم. وهم على مراتب لا يتعدّونها بعدد مخصوص،لا يزيد ولا ينقُص. وأنا ذاكرُهم إن شاء الله تعالى.
__ رجال الغيب: وهم عشرة،لا يزيدون ولا ينقصون. هم أهل الخشوع،فلا يتكلّمون إلا هَمساً،لغلبة تجلّي الرحمن عليهم دائماً في أحوالهم. قال تعالى:(وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً). وهؤلاء هم المستورون الذين لا يُعرفون..بابُهم الحَياء،إذا سمعوا أحداً يرفع صوته في كلامه ترعد فرائصهم ويتعجّبون.
وقد يُطلقون مصطلح “رجال الغيب”، ويريديون به من يحتجب عن الأبصار من الإنس. وقد يُطلقونه ويريدون به رجالاً من الجن،من صالحي مؤمنيهم. وقد يطلقونه على القوم الذين لا يأخذون شيئاً من العلوم والرزق المحسوس من الحسّ، ولكن يأخذونه من الغيب.
__ الظاهرون بأمر الله عن أمر الله : وهم ثمانية عشرنفساً،لا يزيدون ولا ينقصون. ظهورهم بالله،قائمون بحقوق الله،مُثبتون الأسباب،خَرق العادة عندهم عادة. آيتهم: (قل الله ثم ذرهم)،وأيضاً: (إني دعوتهم جهاراً). وكان منهم شيخنا أبو مدين،كان يقول لأصحابه: أظهِروا للناس ما عندكم من الموافقة،كما يظهر الناس بالمخالفة. وأظهروا بما أعطاكم الله من نعمه الظاهرة ــ يعني خرق العوائد ــ والباطنة ــ يعني المعارف.. وهذه الطبقة اختصّت باسم “الظّهور”،لكونهم ظهروا في عالَم الشهادة، ومن ظهر في عالَم الشهادة فقد ظهر لجميع العالَم،فكانوا أولى بهذا اللّقب من غيرهم. كان سهل بن عبد الله يقول في “رجال الغيب” الأُوَل: “الرجل مَن يكون في فَلاة من الأرض فيُصلّي، فينصرِف من صَلاته،فينصرف معه أمثال الجبال من الملائكة على مُشاهدة منه إيّاهُم”. فقُلت لحاكي هذه الحكاية عن سهل: “الرجل من يكون وحده في الفلاة فيُصلّي، فينصرف من صلاته بالحال الذي هو في صلاته،فلا ينصرف معه أحد من الملائكة،فإنهم لا يعرفون أين يذهب؟”. فهؤلاء هم عندنا رجال الغيب على الحقيقة،لأنهم غابوا عنده. فإن رجال الغيب قِسمان في الظهور: منهم رجال غيب عن الأرواح العُلى،ظاهرون لله لا لمخلوق رأساً. ورجال غيب عن عالَم الشهادة،ظاهرون في العالم الأعلى. فرجال الغيب أيضاً أهل ظُهور، ولكن لا في عالَم الشهادة.

__ رجال القوة الإلهية :وهم ثمانية رجال.. آيتهم من كتاب الله:(أشدّاء على الكفار)،لهم من الأسماء الإلهية: (ذو القوة المتين). جمعوا ما بين عِلم ما ينبغي أن تُعلَم به الذات الواجبة الوجود لنفسها من حيث هي،وبين علم ما ينبغي أن تُعلم به من حيث ما هي إله،فقَدمهم عزيز في المعارف. لا تأخذهم في الله لومة لائم،وقد يُسمّون “رجال القهر”. لهم هِمَم فعّالة في النفوس،وبهذا يُعرفون. كان بمدينة فاس منهم رجل واحد يُقال له أبو عبد الله الدقّاق،كان يقول: “ما اغْتَبتُ أحداً قط،ولا اغتيبَ بحضرتي أحد قط”.ولقيت أنا منهم ببلاد الأندلس،لهم أثر عجيب وكلّ معنى غريب. وكان بعض شيوخي منهم. _ ومن نمط هؤلاء: خمسة رجال في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. هم على قدم هؤلاء الثمانية في القوّة،غير أن فيهم لِيناً ليس للثمانية.وهم على قدم الرسل في هذا المقام،قال تعالى: (فقولا له قولاً ليّناً).. وأما في العزائم فهم في قوّة الثمانية على السواء،ويزيدون عليهم بما ذكرناه ممّا ليس للثمانية. وقد لقينا منهم وانتفعنا بهم.
__ رجال الحَنان والعطف الإلهي :وهم خمسة عشر نفساً.آيتهم من كتاب الله آية الرّيح السليمانية:(تجري بأمره رُخاءً حيث أصاب). لهم شفقة على عباد الله،مؤمنهم وكافرهم. ينظرون الخلق بعين الوجود والجود،لا بعين الحُكم والقضاء.لايُولّي الله منهم قط أحداً ولاية ظاهرة: من قضاء أو مُلك،لأن ذوقهم ومقامهم لايحتمل القيام بأمر الخلق ،فهم مع الحقّ في الرحمة المطلقة. لقيت منهم جماعة،وماشَيتهم على هذا القدم ،وانتقلت منهم إلى الخمسة التي ذكرناهم آنفاً. فإن مقام هؤلاء الخمسة بين رجال القوّة ورجال الحنان، فجمعت بين الطرفين،فكانت واسطة العقد. وهم الطائفة التي تصلُح لهم ولاية الأحكام في الظاهر. وهاتان الطائفتان ــ رجال القوّة ورجال الحنان ــ لا يكون منهم والٍ أبداً،ولا يُستخلف منهم أحد جملة واحدة.

__رجال الهَيْبة والجلال:وهم أربعة أنفس في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. آيتهم: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزّل الأمر بينهن)،وأيضاً: (الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى من خلق الرحمن من تفاوت).. وهم الذين يُمدّون “الأوتاد”. الغالب على أحوالهم الروحانيّة،قلوبهم سماويّة،مجهولون في الأرض،معروفون في السماء. الواحد من هؤلاء الأربعة هو ممّن استثنى الله في قوله: (ونُفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله). والثاني له العلم بما لا يتناهى،وهو مقام عزيز،يعلم التفصيل في المُجمَل، وعندنا: ليس في عِلمه مُجمَل. والثالث له الهمّة الفعّالة في الإيجاد، ولكن لا يوجد عنه شيء. والرابع توجد عنه الأشياء، وليس له إرادة فيها ولا همّة متعلّقة بها.. أحدهم على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،والآخر على قلب شعيب، والثالث على قلب صالح،والرابع على قلب هود. ينظُر إلى أحدهم،من الملأ الأعلى، عزرائيل. وإلى الآخر جبريل،وإلى الآخر ميكائيل،وإلى الآخر إسرافيل. أحدهم يعبد الله من حيث نِسبة العماءإليه،والثاني يعبد الله من حيث نسبة العرش إليه،والثالث يعبد الله من حيث نسبة السماءإليه،والرابع يعبد الله من حيث نسبة الأرض إليه. فقد اجتمع في هؤلاء عبادة العالَم كلّه.. ما لقيت، فيمن لقيت،مثلهم.لقيتهم بدمشق، فعرفت أنهم هم. وقد كنت رأيتهم ببلاد الأندلس واجتمعوا بي،ولكن لم أكن أعلم أن لهم هذا المقام،بل كانوا عندي من جملة عباد الله. فشكرت الله على أن عرّفني يمقامهم،وأطلعني على حالهم.

__ رجال الفتح: هم أربعة وعشرون نفساً في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. بهم يفتح الله على قلوب أهل الله ما يفتحه منالمعارف والأسرار. وجعلهم على عدد الساعات،لكلّ ساعة رجل منهم.. وهم متفرّقون في الأرض،لا يجتمعون أبداً. كل شخص منهم لازم مكانه،لا يبرح أبداً. فمنهم باليمن اثنان،ومنهم ببلاد الشرق أربعة،ومنهم بالمغرب ستة،والباقي بسائر الجهات. آيتهم: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها)..
__ رجال العُلى:هم سبعة أنفس في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. لهم في كل نفَس معراج،وهمأعلى عالَم الأنفاس. آيتهم: (وأنتم الأعلون)،(والله معكم).. وهم مع النفَس الصاعد. ولله رجال هم مع النّفَس الرحماني النّازِل الذي به حياتهم وغذاؤهم، وهم أحد وعشرون نفساً. يتخيّل بعض الناس،من أهل الطريق،أنهم “الأبدال”،لما يرى أنهم سبعة. كما يتخيّل بعض الناس في “الرجبيّين” أنهم الأبدال لكونهم أربعين،عند من يقول: إن الأبدال أربعون نفساً،ومنهم من يقول: سبعة أنفس. وسبب ذلك أنهم لم يقع لهم التعريف من اللهبذلك،ولا بعدد ما لله في العالَم في كل زمان من العباد المُصطَفين الذين يحفظ الله بهم العالَم..

__ رجال التّحت الأسفل: وهم أحد وعشرون نفساً في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. وهم أهل النفَس الذي يتلقّونه من الله،لا معرفة لهم بالنفَس الخارج عنهم. آيتهم: (ثمّ رددناه أسفل سافلين) يُريد عالَم الطبيعة،إذ لا أسفل منه،رَدّه إليه ليَحيا به. فإن الطّبع ميّت بالأصالة،فأحياه بهذا النفَس الرحماني الذي ردّه إليه لتكون الحياة سارية في جميع الكون.. وهؤلاء الرجال لا نَظر لهم إلا فيما يَرِد من عند الله مع الأنفاس،فهمأهل حضور مع الدّوام.
__ رجال الإمداد الإلهي والكونيّ: وهم ثلاثة أنفُس في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. فهم يستمدّون من الحقّ ويُمدّون الخَلق،ولكن بلُطف ولين ورحمة،لا بعنف ولا شدّة ولا قهر.يُقبلون على الله بالاستفادة،ويُقبلون على الخلق بالإفادة. فيهم رجال ونساء،قدأهّلهم الله للسّعي في حوائج الناس وقضائها عند الله،لا عند غيره.. ما رأيت أحسن منهم في معاملة الناس.. لقيت منهم واحداً بأشبيلية،وهو من أكبر من لقيته، يُقال له موسى بن عمران،سيّد وقته.. الواحد من هؤلاء الثلاثة فَتحُه دائم لا ينقطع، على قدم واحدة لا يتنوّع في المقامات. وهو مع الله واقف،وبالله في خَلقه قائم. هِجّيره: (الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم). والثاني له عالَم الملكوت، جليس للملائكة، تتنوّع عليه المقامات والأحوال،ويظهر في كلّ صورة من صور العالَم،لهالتروحُن إذا شاء،كقضيب البان.والثالث له عالَم المُلك،جليس الناس، لَيّنالمعاطف،تتنوّع أيضاً عليه المقامات. إمداده من البشر،أي النفوس الحيوانية، وإمداد الثاني من الملائكة. شأنهم عجيب ومعناهم لطيف.
__ إلهيّون رحمانيّون يُشبهون الأبدال في بعض الأحوال: وهم ثلاثة أنفس في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. يُشبهون الأبدال في بعض الأحوال،وليسوا بأبدال. آيتهم: (وما كان صلاتُهم عند البيت إلا مُكاءً). لهم اعتقاد عجيب في كلام الله بين الاعتقادين. هم أهل وحي إلهيّ،لا يسمعونه أبداً إلا كسلسلة على صفوان،لا غير ذلك،ومثل صلصلة الجرس..

__ رجل واحد له الاستطالة على كلّ شيء سوى الله: هو رجل واحد،وقد تكون امرأة،في كل زمان. آيته: (وهو القاهر فوق عباده). له الاستطالة على كل شيء سوى الله. شَهم،شُجاع،مقدام،كبير الدّعوى بحقّ ،يقول حقّاً ويحكُم عَدلاً. كان صاحب هذا المقام شيخنا عبد القادر الجيلي ببغداد، كانت له الصولة والاستطالة بحقّ على الخَلق. كان كبير الشأن،أخباره مشهورة. لم ألقهُ،ولكن لقيت صاحب زماننا في هذا المقام،ولكن كان عبد القادر أتمّ في أمور أخَر من هذا الشخص الذي لقيته..

__ رجل واحد،مُركّب،مُمتزج : هو رجل واحد،مركّب،مُمتزج،في كل زمان،لا يوجد غيره في مقامه. وهو يُشبه عيسى عليه السلام،مُتولّد بين الروح والبشر،لا يُعلَم له أب شرعيّ. كما يُحكى عن بلقيس أنها تولّدت بين الجنّ والإنس. فهو مركّب من جنسين مختلفين،وهورجل البرزخ،به يحفظ الله عالَم البرزخ دائماً،فلا يخلو كل زمان عن واحد مثل هذا الرجل.. وهو مخلوق من ماء أمّه،خلافاً لما ذكر عن أهل علم الطبائع: أنه لا يتكوّن من ماء المرأة ولد،بل الله على كل شيء قدير.
__ رجل واحد له رقائق مُمتدّة إلى جميع العالَم : وهو رجل واحد،وقد يكون امرأة،له رقائق ممتدّة إلى جميع العالَم. وهو شخص غريب المقام،لا يوجد منه في كل زمان إلا واح. يَلتبس على بعض أهل الطريق،ممّنيعرفه،بحالة القطب فيتخيّل أنه القطب،وليس بالقطب.
__ سقيط الرّفرف ابن ساقط العرش : ومنهم رجل واحد،يُسمّى بمقامه “سَقيط الرفرف ابن ساقط العرش”.رأيته بقونية. آيته:(والنجم إذا هوى).حاله لا يتعدّاه، شُغله بنفسه وبربّه. كبير الشأن،عظيم الحال،رؤيته مؤثّرة في حال من يراه،فيه انكسار. هكذا شاهدته: صاحب انكسار وذُلّ. أعجبتني صفته،له لسان في المعارف،شديد الحياء.

__ رجال الغِنى بالله : ومنهم رجلان في كل زمان،وقد يكون منهم النساء،من عالم الأنفاس. آيتهم: (الله غني عن العالمين) ،يحفظ الله بهم هذا المقام. الواحد منهم أكمل من الآخر: يُضاف الواحد منهم إلى نفسه،وهوالأدنى،ويُضاف الآخر إلى الله تعالى.. قال النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب هذا المقام: “ليس الغنى عن كثرة العرَض، لكن الغنى غنى النفس”.. وإن كان في العالَم أغنياء النفوس،ولكن في غِناهم شَوْب، ولا يخلُص في الزمان إلا لرجلين،تكون نهايتهما في بدايتهما وبدايتهما في نهايتهما. للواحد منهما إمداد عالَم الشهادة: فكلّ غنى في عالَم الشهادة فمن هذا الرجل. والآخر منهما له إمداد عالَم الملكوت: فكل غِنى بالله في عالم الملكوت فمن هذا الرجل. والذي يستمدّان منه،هذانالرجلان،هو “روح عُلويّ،متحقّق بالحقّ. غِناه الله،ما هو غِناه بالله”. فإن أضفته إليهما: فرجال الغِنى ثلاثة. وإن نظرت إلى بشريتهما: فرجال الغنى اثنان. فغَنيّ بالنفس،وغنيّ بالله،وغنيّ غِناه الله. ولنا جزء عجيب في معرفة هؤلاء الرجال الثلاثة.
__ شخص واحد،يتكرّر تَقلّبه في كلّ نفَس : ومنهم شخص واحد،يتكرّر تقلّبه في كل نفَس،لايفتُر،بين عِلمه بربّه وبين عِلمه بذات ربّه. ما تكاد تراه في إحدى المنزلتين إلا رأيته في الأخرى. لا ترى في الرجال أعجب منه حالاً،وليس في أهل المعرفة بالله أكبر معرفة من صاحب هذا المقام.. تحقّقت به،ورأيتُه وأفادني. آيته:(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) وقوله تعالى: (ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم). لا تزال ترعد فرائصه من خشية الله،هكذا شَهدناه.
__ رجال عين التّحكيم والزّوائد : وهم عشرة أنفس في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. مقامهم إظهار غاية الخصوصيّة بلسان الانبساط في الدعاء. وحالهم زيادات الإيمان بالغيب،واليقين في تحصيل ذلك الغيب،فلا يكون لهم غيباً.. آيتهم: (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم)،(فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون) بالزيادة،وقوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان).

__ البُدَلاء : وهم اثنا عشر نفساً في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. وسُمّوا بُدلاء لأن الواحد منهم لو لم يوجد الباقون،نابَ مَنابهم وقام بما يقوم به جميعهم،فكل واحد منهم في عين الجميع. ويلتبس على الناس أمرهم مع “الأبدال”من جهة الاسم، ويُشبهون “النّقباء” من جهة العدد. آيتهم قول بلقيس: (كأنه هو) تعني عَرشَها،وهو هو. فما شَبّهته إلا بنفسِه وعينِه،لا بغيره. وإنما شوّش عليها بُعد المسافة المعتاد، وبالعادات ضَلّ جماعة من الناس في هذا الطريق.
__ رجال الاشتياق : وهم خمسةأنفس،وهم أصحاب القلق،فالأشواق تُقلقهم في عين المشاهدة. وهم من ملوك أهل طريق الله، وهمرجال الصلوات الخمس: كلّ رجل منهم مختصّ بحقيقة صلاة من الفرائض. وإلى هذا المقام يؤول قوله صلى الله عليه وسلم: “وجُعلت قرّة عيني في الصلاة”. وبهم يحفظ الله وجود العالَم. آيتهم:(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى).لا يفترون عن صلاة في ليل ولا نهار. كان صالح البربريمنهم،لقيته وصَحبته إلى أن مات،وانتفعت به. وكذلك أبو عبد الله المهدوي بمدينة فاس، صَحبته..
__ رجال الأيّام الستّة : وهم ستّة أنفس في كل زمان،لا يزيدون ولا ينقصون. كان منهم ابن هارون الرشيد السّبتي،لقيته بالطواف يوم الجمعة بعد الصلاة،سنة تسع وتسعين وخمسمائة،وهو يطوف بالكعبة. وكان روحُه تَجسّد لي في الطواف حِسّاً، تجسّد جبريل في صورة أعرابيّ.وهؤلاء الرجال الستّة لَمّا اطّلعت عليهم،لم أكن قبل ذلك عرفت أن ثَمّ ستّة رجال،ولمّا عُرّفت بهم في هذا الزمان القريب،لم أدر ما مقامهم؟ ثمّ بعد هذا عُرّفت أنهم رجال الأيّام الستّة التي خلق الله فيها العالَم،وما علمت ذلك إلا من هِجّيرهم:(ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسّنا من لُغوب).ولهم سُلطان على الجهات الستّ التي ظهرت بوجود الإنسان. وأخبرت أن واحداً منهم بعَكّاء،من جُملة العَوانيّة من أهل أرْزَنِ الروم.أعرف ذلك الشخص بعينه،وصَحبته،وكان يُعظّمني ويَرى لي كثيراً. واجتمعت به في دمشق وفي سيواس وفي ملطية وفي قيْصرية ،وخدمني مدّة.. فما رأيت،فيمن رأيت، من يَبرّ أمّه مثله. وكان ذا مال. ولي سنون فقَدته من دمشق،فما أدري هل عاش أو مات؟.

ألقاب الرجال الذين لا يحصُرهم عدد ولا يُقيّدهم أمَد

__ المَلاميّة : فمنهم “المَلاميّة”،وقد يقولون “الملامتية”،وهي لغة ضعيفة. وهم سادات أهل طريق الله وأئمّتهم. وسيّد العالَم فيهم ومنهم،سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهم الحكماء الذين وضعوا الأمور مواضعها وأحكموها،وأقرّوا الأسباب في أماكنها،ونَفوها في المواضع التي ينبغي أن تُنفى عنها.. فما تقتضيه الدار الأولى تركوه للدار الأولى،وما تقتضيه الدار الآخرة تركوه للدار الآخرة. فنظروا في الأشياء بالعين التي نظر الله إليها،لم يخلطوا بين الحقائق.. فالملامتيّةقرّرت الأسباب،ولم تعتمد عليها. فتلامذة الملامتية الصادقون يتقلّبون في أطوار الرجولة،وتلامذة غيرهم يتقلّبون في أطوار الرعونات النفسيّة..
__ الفقراء : قال تعالى تشريفاً لجميع الموجودات وشهادة لهم: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله). فالفقراء هم الذين يفتقرون إلى كلّ شيء،من حيث أن ذلك الشيء هو مُسمّى الله. فإن الحقيقة تأبى أن يُفتَقر إلى غير الله.. فعلمنا أن الحقّ قد ظهر في صورة كلّ ما يُفتَقر إليه فيه.. فالناس محجوبون بالأشياء عن الله، وهؤلاء السادة ينظرون الأشياء مَظاهر الحقّ،تجلّى فيها لعباده. حتى في أعيانهم فيفتقر الإنسان إلى سمعه وبصره وجميع جوارحه،ظاهراً وباطناً.. فسَمعُه وبصره مَظهر الحقّ ومَجلاه،وكذلك جميع الأشياء بهذه المثابة. فما ألطف سَريان الحقّ في الموجودات،وسريان بعضها في بعضها. وهو قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) فالآيات هنا دلالات أنها مظاهر للحقّ. فهذا حال الفقراء إلى الله،لا ما يتوهّمه من لا علم له بطريق القوم. فالفقير من يفتقر إلى كلّ شيء وإلى نفسه،ولا يفتقر إليه شيء. فهذه أسنى الحالات..
__ الصوفية : لا عدد لهم يحصرهم،بل يكثرون ويَقِلّون.وهم أهل مكارم الأخلاق ،يُقال: “من زاد عليك في الأخلاق، زاد عليك في التصوف”.مقامهم الاجتماع على قلب واحد،أسقطوا الياءات الثلاثة،فلا يقولون: “لِي،ولاعندي،ولامَتاعي”. أي: لا يُضيفون إلى أنفسهم شيئاً،لا مِلك لهم دون خلق الله. فهم فيما في أيديهم على السواء مع جميع ما سوى الله،مع تقرير ما بأيدي الخَلق للخَلق،لا يطلبونهم بهذا المقام. وهذه الطبقة هي التي يظهر عليهم خرق العوائد عن اختيار منهم،ليُقيموا الدّلالة على التّصديق بالدّين وصحّته في مواضع الضرورة. وقد عاينّا مثل هذا من هذه الطبقة،في مناظرة فيلسوف. ومنهم من يفعل ذلك لكونه صار عادة لهم،كسائر الأمور المعتادة عند أهلها،فما هي في حقّهم خرق عادة. فيمشون على الماء وفي الهواء، كما نمشي نحن وكل دابّة على الأرض. لا يحتاج في ذلك،فيالعموم،إلىنيّة وحضور، إلاالملاميّة والفقراء فإنهم لا يمشون ولا يخطو أحد منهم خطوة ولا يجلس إلا بنيّة وحضور: لأنه لا يدري من أين يكون أخْذُ الله لعباده..

__ العُبّاد : وهم أهل الفرائض خاصّة. قال تعالى مُثنياً عليهم: (وكانوا لنا عابدين)،ولم يكونوا يؤدّون سوى الفرائض. ومن هؤلاء المنقطعون بالجبال والشّعاب والسواحل وبطون الأودية،ويُسمّونالسيّاح. ومنهم من يُلازم بيته وصلاة الجماعات،ويشتغل بنفسه. ومنهم صاحب السبب،ومنهم تارك السبب. وهم صُلحاء الظاهر والباطن،قد عصموا من الغلّ والحسد والحرص والشرَه المذموم، وصرفوا كل هذه الأوصاف إلى الجهات المحمودة. ولا رائحة عندهم من المعارف الإلهية والأسرار ومُطالعة الملكوت، والفهم عن الله في آياته حين تُتلى. غير أن الثواب لهم مشهود،والقيامة وأهوالها والجنة والنار مشهودتان.. وكان منهم خليفة من بني العبّاس،هرب من الخلافة من العراق وأقام بقرطبة،إلى أن دَرَج ودُفن بباب عبّاس منها. يُقال له أبو وَهْب الفاضل،خرّج فضائله شيخنا أبو القاسم خلَف بن بَشكوال.. وكان خالُنا أبو مسلم الخولاني من أكابرهم..
__ الزهّاد: وهم الذين تركوا الدنيا عن قُدرة.. فمن رؤسائهم إبراهيم بن أدهم، وحديثه مشهور. وكان بعض أخوالي منهم،يُقال له يحيى بن يُغان.. فهؤلاء الزهّاد هم الذين آثروا الحقّ على الخلق وعلى نفوسهم. فكلّ أمرٍ لله فيه رضا وإيثار قاموا به وأقبلوا عليه،وما كان للحقّ عنه إعراض أعرضوا عنه. تركوا القليل رغبة في الكثير..

__ رجال الماء : وهم قوم يعبدون الله في قعور البحار والأنهار،لا يَعلم بهم كلّ أحد..

__ الأفراد : وهم المُقرّبون بلسان الشرع. كان منهم محمد الأواني،يُعرف بابن قائد،من أصحاب الإمام عبد القادر الجيلي.. وهم رجال خارجون عن دائرة القطب،وخَضر منهم. ونظيرهم من الملائكة: الأرواح المُهيّمة في جلال الله،وهم الكروبيّون.. مقامهم بين الصدّيقيّة والنبوة الشرعيّة،وهو مقام جليل جَهله أكثر الناس من أهل طريقنا،كأبي حامد وأمثاله،لأن ذوقه عزيز. هو مقام النبوّة المطلقة،وقد يُنال اختصاصاً وقد يُنال بالعمل المشروع،وقد يُنال بتوحيد الحقّ والذلّة له وما ينبغي من تعظيم جلال المُنعِم بالإيجاد والتوحيد. كل ذلك من جهة العلم،وله كشف خاصّ لا ينالُه سواهم.. وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يُرسَل ويُنبّأ من الأفراد،الذين نالوا الأمر بتوحيد الحقّ وتعظيم جلاله والانقطاع إليه.. وأما الرسالة ونبوّة الشرائع العامّة(أعني المُتعدّية إلى الأمم )والخاصّة بكل نبيّ: فاختصاص إلهيّ في الأنبياء والرسل،لا يُنال بالاكتساب ولا بالتعمّل. فخطاب الحقّ قد يُنال بالتعمّل. والذي يُخاطَب به إن كان شرعاً يُبلّغه أو يخُصّه،ذلك هو الذي نقول فيه: لا يُنال بالتعمّل ولا بالكسب،وهو الاختصاص الإلهي المعلوم. وكلّ شرع يَنالُ به عامِلُه هذه المرتبة،فإن نبيّ ذلك الشرع من أهل هذا المقام،وهو زيادة على شريعة نُبوّته له،فضلاً من الله ونعمة،وهو لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالقطع. وكلّ شرع لا ينال العامِل به هذا المقام،فإن نبيّ ذلك الشرع لم يحصُل له هذا المقام الذي حصَل لغيره من أنبياء الشرائع. قال تعالى: (ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض)،(تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض) في وجوه منها هذا. قال الخضر لموسى في هذا المقام:(وكيف تصبر على ما لم تُحط به خُبراً) فإن موسى في ذلك الوقت لم يكن له هذا المقام.. ولا أدري بعد هذا الاجتماع،هل حصل لموسى من جانب الحقّ ذلك المقام الذي كان لخضر أم لا؟ لا عِلم لي بذلك. فرحم الله عبداً أطلعه الحقّ على أن موسى قد أحاط بالعلم الذي ناله الخضر،بعدذلك،وحصل له هذا المقام خُبراً،فألحقه في هذا الموضع من كتابي هذا،ونَسبه إلى نفسه لا إلَيّ.

__ الأمناء : قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن لله أمناء”،وقال في أبي عبيدة بن الجراح: “إنه أمين هذه الأمة”.هم طائفة من الملاميّة،لا يكون الأمناء من غيرهم. وهم أكابر الملامتيّةوخواصّهم،فلا يُعرف ما عندهم من أحوالهم لجَريهم مع الخلق بحُكم العوائد المعلومة،التي يطلبها الإيمان بما هو إيمان: وهو الوقوف عندما أمر الله به ونَهى،على جهة الفرضيّة.. ولولا أن الخضر أمره الله أن يَظهر لموسى بما ظَهر،ما ظهر له بشيء من ذلك،فإنه من الأمناء.. ويزيدون على سائر الطبقات أنهم لا يُعَرّف بعضهم بعضاً بما عنده،فكل واحد يتخيّل في صاحبه أنه من عامّة المؤمنين..

__ القُرّاء : أهل الله وخاصّته.. وأهل القرآن هم الذين حَفِظوه بالعمل به، وحفظوا حُروفه،فاستظهروه حِفظاً وعملاً. كان أبو يزيد البسطامي منهم،فإنه ما مات حتى استظهر القرآن. فمن كان خُلقه القرآن كان من أهله،ومن كان من أهل القرآن كان من أهل الله.. ونال هذا المقام سهل بن عبد الله التستري،وهو ابن ست سنين ،ولهذا كان بَدؤه في هذا الطريق سُجود القلب. وكم من وليّ لله، كبير الشأن، طويل العمر،مات وما حصل له سجود القلب،ولا علِم أن للقلب سجوداً أصلاً،مع تحقّقه بالولاية ورسوخ قَدمه فيها.. فأكثر الأولياء يَرون تقليب القلب،من حال إلى حال،ولهذا سُمّي قَلباً. وصاحب هذا المقام ــ وإن تقلّبت أحواله ــ فمن عين واحدة،هو عليها ثابت،يُعبّر عنها بسجود القلب..
__ الأحباب : قال الله تعالى: (فسوف يأتي الله بقوم يُحبهم ويُحبونه). فمن كونهم مُحبّين: ابتلاهُم. ومن كونهم مَحبوبين: اجتباهُم واصطفاهم. أعني: في هذه الدار وفي القيامة. وأما في الجنّة فليس يُعاملهم الحقّ إلا من كونهم محبوبين خاصّة.. وهذه الطائفة على قسمين: قسم أحبّهم ابتداءً،وقسم استعملهم في طاعة رسوله طاعةً لله،فأثمرت لهم تلك محبّة الله إيّاهم.. وعلامتهم الصّفاء،فلا يشوب وُدّهم كدر أصلاً. ولهم الثّبات على هذه القدَم مع الله. وهم مع الكون بحسب ما يُقام فيه ذلك الكون،من محمود ومذموم شرعاً،فيُعاملونه بما يقتضيه الأدب..

__ الأخلاّء : قال الله تعالى: (واتّخذ الله إبراهيم خليلاً)،وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذت أبا بكر خليلاً،ولكنّ صاحبكم خليل الله”. والمُخالَلة لا تصحّ إلا بين الله وبين عبده،وهو مقام الاتّحاد.[ لأنّ أعيان الأشياء متميّزة،وكون الأعيان إنما هو وجود الحقّ لا غير،ووجود الشيء لا يمتاز عن عينه. فلهذا لا تصحّ الخُلّة إلا بين الله وعبيده خاصّة،إذ هذا الحال لا يكون بين المخلوقين: لأنه لا يُستفاد من مخلوق وجود عين،فاعلم ذلك ]. ولا تصحّ بين المخلوقين،وأعني من المخلوقين من المؤمنين. ولكن قد انطلق اسم الأخلاّء على الناس،مؤمنيهم وكافريهم. قال تعالى: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) فالخُلّة هنا هي المُعاشرة.. واعلم أن شروط الخُلّة لا تصحّ بين المؤمنين،ولا بين النبيّ وتابعيه. فإذا لم تصحّ شروطها،لا تصحّ هي في نفسها. ولكن في دار التكليف فإن النبيّ والمؤمنَ بحُكم الله،لا بحكم خليله ولا بحكم نفسه. ومن شروط الخلّة أن يكون الخليل بحُكم خليله،وهذا لا يُتصوّر مطلقاً بين المؤمنين،ولا بين الرسل وأتباعهم،في الدار الدنيا. والمؤمن تصحّ الخلّة بينه وبين الله،ولا تصحّ بينه وبين الناس. لكن تُسمّى “المُعاشرة” التي بين الناس إذا تأكّدت في غالب الأحوال خُلّة. فالنبيّ ليس له خليل،ولا هو صاحب لأحد،سوى نبوّته. وكذلك المؤمن ليس له خليل ولا صاحب،سوى إيمانه. كما أن المَلِك ليس له صاحب،سوى مُلكه.. فمن اتّخذ من المؤمنين خليلاً غير الله،فقد جَهل مقام الخُلّة.. فلا خليل إلا الله. فالمقام عظيم وشأنه خطير..
__ المُحدَّثون : وعمر بن الخطاب منهم. وكان في زماننا منهم أبو العباس الخشّاب وأبو زكريا البجائيبالمعرّة..
وهما صنفان: صنف يُحدّثه الحقّ من خلف حجاب الحديث،قال تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب)، وهذا الصنف على طبقات كثيرة. والصنف الآخر: تُحدّثهم الأرواح الملَكيّة في قلوبهم، وأحياناً في آذانهم،وقديُكتب لهم. وهم كلّهم أهل حديث. فالصنف الذي تُحدّثه الأرواح،الطريق إليه بالرياضات النفسية والمجاهدات البدنيّة،بأيّ وجهٍ كان ومَن كان. فإن النفوس إذا صفَتْ من كدَر الوقوف مع الطبع، التحقت بعالَمها المناسب لها،فأدركت ما أدركت الأرواح العُلى،من الملكوت والأسرار، وانتقش فيها جميع ما في العالَم من المعاني،وحصّلت من الغيوب بحسب الصنف الروحاني المناسب لها.. فلكل روح مقام معلوم،فهم على درجات وطبقات. فمنهم الكبير والأكبر: كجبريل،وإن كان من أكابرهم ،فميكائيل أكبر منه ومنصبه فوق منصبه، وإسرافيل أكبر من ميكائيل،وجبريل أكبر من إسماعيل.. فهذا من آثار صَفاء النفوس وتخليصها من الوقوف مع الطبع،وارتفاعها عن تأثير العناصر والأركان فيها،فهي نفس فوق مزاج بَدَنها. وقنع قوم بهذا القدر من الحديث،ولكنما هو شرط في السعادة الإيمانية في الدار الآخرة، لأنه تخليص نفسيّ. فإن كان المحدّث أتى جميع هذه الصفات التي أوجبت له التخليص من الطبع،بالطريقة المشروعة والاتّباع النبوي والإيمان الجزم،اقترنت بالحديث السعادة. فإن انضاف إلى ذلك الحديثِ الحديثُ مع الربّ من الربّ تعالى إليهم،كان من الصنف الأول الذي ذكرنا أنه على طبقات في الحديث. قال تعالى: (وكلّم الله موسى تكليماً) فأكّده بالمصدر لرفع الإشكال،هذا هو المطلوب بالحديث في هذه الطريقة. وأما قوله تعالى: (فأجره حتى يسمع كلام الله) فذلك لأهل السماع من الحقّ في الأشياء،لا من بين الأشياء،لأن بينيّة الأشياء عبارة عن النّسب ،وهي أمور عدميّة لا وجودية. فإذا كان الحديث منها كان بلا واسطة،وإذا كان من الأشياء فذلك قوّة الفهم عن الله. ورد في الخبر الصحيح : “إن الله قال على لسان عبده: سمع الله لمن حمده” فهذا عين قوله تعالى: (فأجره حتى يسمع كلام الله). والذي نطلبه في هذا الطريق كلام الله من بين الأشياء،لا في الأشياء ولا من الأشياء. وإن كان هو عين وجود الأشياء،فإنه ليس عين الأشياء. فالأعيان في الموجودات هي هيوليّ لها أو أرواح لها،والوجود هو ظاهر تلك الأرواح أو صور تلك الأعيان الهيولانيّة. فالوجود كلّه حقّ ظاهر،وباطنه الأشياء. فالحديث الإلهيّ من بين الأشياء أوضح عند السامع في الدلالة أنه هو المُكلِّم،من أن يُكلّمنا في الأشياء. فافهم،والله تعالى المُلهِم.
__ السُّمَراء : وهم صنف خاصّ من أهل الحديث،قال تعالى: (وشاورهم في الأمر). وهذا الصنف لا حديث لهم مع الأرواح، فحديثهم مع الله من قوله تعالى: (يُدبّر الأمر يُفصّل الآيات). فجليسهم من الأسماء الإلهية “المُدبّر المُفصّل”. وهم من أهل الغيب في هذا المقام،لا من أهل الشهادة.

__ الوَرثة : وهم ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه،ومُقتصد،وسابق بالخيرات.. كان شيخنا أبو مدين يقول في هذا المقام: [ من علامات صدق المريد في إرادته فِرارُه عن الخلق،ومن علامات صدق فراره عن الخلق وجوده للحقّ،ومن علامات صدق وجوده للحقّ رجوعه إلى الخلق ]. وهذا هو حال الوارث للنبي صلى الله عليه وسلم: فإنه كان يخلو بغار حراء ينقطع إلى الله فيه،ويترُك بيته وأهله،ويفرّ إلى ربّه. حتّى فَجئه الحقّ،ثمّ بعثه الله رسولاً مُرشداً إلى عباده. فهذه حالات ثلاث وَرثه فيها من اعتنى الله به من أمّته،ومثل هذا يُسمّى وارثاً. فالوارث الكامل: من وَرثه عِلماً وعملاً وحالاً        

     جمعه الاستاذ رشيد موعشي

هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد