مراسيم تنصيب ابن عربي في مقام الختمية
يقول ابن عربي في مقدمة الفتوحات (الصفحة 2و3):
اللهم صل على سر العالم و نكتته، ومطلب العالم وبغيته،السيد الصادق المدلج إلى ربه الطارق،المخترق به السبع الطرائق، ليريه من أسرى به ،ما أودع من الآيات والحقائق،فيما أبدع من الخلائق.
يقول ابن عربي أنه عند انشاء خطبة كتاب الفتوحات ،أقيم في مشاهدة قلبية شاهد فيها مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.:..:يقول” الذي شاهدته عند إنشائي هذه الخطبة في عالم حقائق المثال في حضرة الجلال،مكاشفة قلبيه في حضرة غيبية .ولما شهدته صلى اللّه عليه وسلم ،في ذلك العالم سيدا معصوم المقاصد،محفوظ المشاهد، منصورا مؤيدا،وجميع الرسل بين يديه مصطفون،وأمته التي هي خير أمة عليه ملتفون،وملائكة التسخير من حول عرش مقامه حافون ،والملائكة المولدة من الأعمال بين يديه صافون،والصديق على يمينه الأنفس، والفاروق على يساره الأقدس،والختم بين يديه قد جثا يخبره بحديث الأنثى ،وعلي رضي الله عنه،يترجم عن الختم بلسانه،وذو النورين مشتمل برداء حيائه،فقال له السيد هذا عديلك،وابنك،وخليلك ،أنصب له منبر الطرفاء بين يدي . ثم أشار إلى أن قم يا محمد عليه،فأثن على من أرسلني وعلي .فإن فيك شعرة مني لا صبر لها عني، هي السلطانة في ذاتيتك ،فلا ترجع إلي إلابكليتك،ولا بد لها من الرجوع إلى اللقاء،فإنها ليست من عالم الشقاء.فما كان مني بعد بعثي شي ء في شي ء إلا سعد، وكان ممن شكر في الملإ الأعلى وحمد.
فنصب الختم المنبر في ذلك المشهد الأخطر،وعلى جبهة المنبر مكتوب بالنور الأزهر هذا هو المقام المحمدي الأطهر،من رقى فيه فقد ورثه وأرسله الحق حافظا لحرمة الشريعة وبعثه .ووهبت في ذلك الوقت مواهب الحكم حتى كأني أوتيت جوامع الكلم.فشكرت الله عز وجل ،وصعدت أعلاه وحصلت في موضع وقوفه صلى الله عليه وسلم ومستواه .وبسط لي على الدرجة التي أنا فيها،كم قميص أبيض فوقفت عليه حتى لا أباشر الموضع الذي باشره صلى الله عليه وسلم، بقدميه تنزيها له وتشريفا. وتنبيها لنا وتعريفا،أن المقام الذي شاهده من ربه،لا يشاهده الورثة إلا من وراء ثوبه .ولولا ذلك لكشفنا ما كشف وعرفنا ما عرف .ألاترى من تقفو أثره لتعلم خبره، لا تشاهد من طريق سلوكه ما شهد منه،ولا تعرف كيف تخبر،بسلب الأوصاف عنه. فإنه شاهد مثلا ترابا مستويا لا صفة له،فمشى عليه وأنت على أثره لا تشاهد إلا أثر قدميه.وهنا سر خفي إن بحثت عليه وصلت إليه ،وهو من أجل أنه إمام وقد حصل له الأمام،لا يشاهد أثرا ولايعرفه فقد كشفت ما لا يكشفه.وهذا المقام قد ظهر في إنكارموسى صلى الله على سيدنا وعليه وعلى الخضر.فلما وقفت ذلك الموقف الأسنى، بين يدي من كان من ربه في ليلة إسرائه قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى.. انتهى.
هذه المشاهدة نُصِّب فيها ابن عربي في مقام الختمية،وتزامنت مع بداية كتابة خطبة الفتوحات.إذا عرفنا أن ابن عربي ولد سنة 558(وهناك من قال 560) ومات سنة 638،أي عاش 80سنة قمرية (78 سنة شمسية)وبدأ كتابة الفتوحات المكية سنة 597 هـ (638 – 597=41) أي بقي ختما لزمانه لأزيد من 41 سنة.
مراسيم تعيينه ختما، كانت على يد النبي صلى الله عليه، وحضر جميع الرسل،وحضرت ملائكة التسخير، والملائكة المولدة من الأعمال،والخلفاء الأربعة،وحضر الختم الذي انتقل الى الدارالاخرة،وحل مكانه ابن عربي، وحضرت الأمة المحمدية،ربما يقصد بها أولياء الله الصالحين الأموات والاحياء،لاعامة المسلمين ،لأن المقام، مقام الخصوصية.
يقول : ...فقال له السيد هذاعديلك، وابنك وخليلك، أنصب له منبر الطرفاء بين يدي اهــ .
عديلك أي نظيرك،وابنك، أي ابنك الديني الذي سَيرثُ علومك ومقامك،وخليلك أي اشتركتما في الصفات،وفي مقام القرب من النبوة المحمدية. “أنصب له منبر الطرفاء بين يدي”هو المنبر النبوي الشريف، الذي كان من شجر الطرفاء .
ونصب له المنبر الشريف، لأن فيه شعرة من الرسول ،هي سلطان في ذاته،بها ترقى الى المقام المحمدي،مقام الاقطاب الاختام،والذي أول من ناله سيدنا ابو بكر الصديق( مثلك يا ابا بكر كمثل ابراهيم…(الحديث)…وارثا محمديا على اثرمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
“حديث الأنثى” رسالة مشفّرة،غامضة مبهمة ،تشير الى أمهات المشارب والإمدادات المعرفية للكون كله ،سواء علوما دنيوية،أو علوما دينية،أوفتوحات ربانية،ويقصد به النبوة،والرسالة،والامية،وكذا الخلافة، كلمات مؤنثة، ارحام تنجب كل المقتضيات الكونية، وابن عربي اعتبر الرَّحم شجنة من الرحمن. كما أن أول انثى(حواء)ظهرت عن الذكر(ءادم)فهي جزء وهو كل،هو أصل وهي فرع. فما نسب للأنثى إنما هو بالتبعية .
كل الخلائق تشترك في الاستمداد من الخلافة قال تعالى(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَٰٓئِفَ الْأَرْضِ﴾ (الانعام) تشير الى أولياء الله ومقاماتهم.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَٰٓئِفَ فِـــي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ (فاطر 39).هذه إشارة إلى الخلافة العامة لكل البشر،أي عمران الأرض،والتناسل…
أما قوله تعالى﴿خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾فهي تشمل المومن،والكافر وهي خاصة بكل من برزفي علم من العلوم الدنيوية،وبأصحاب الإكتشافات… والبحوثات،والعباقرة،والملوك والرؤساء…والقادة فهي تشير إلى الخلافة الدنيوية الظاهرة المتميزة لأشخاص أو لقوم.. والخلافة ظاهرة وباطنة وأول من جمع بينهما ابو بكر الصديق . أما الأمية فهي حد محدود لجميع الخلائق،هي سدرة منتهاهم ،ونهاية سيرهم.
وكل مومن ومدده من هاته الارحام الثلاث،هن صفات للنبوة ،ومراتب أولية لها، فمن الاولياء من مدده منهن جميعا،.والأولياء الأميين مددهم من الأمية .
الثأنيت استنتجها العارفون من قوله تعالى (وماأرسلناك الارحمة للعالمين) رحمة كلمة مؤنثة ،وقوله تعالى(ان رحمة الله قريب من المحسنين) ولم يقل تعالى “قريبة“(موافقة للعربية) وهاته الصفات،اتصف بها محمد سول الله وهو ذكر،رجل(ما كان محمد ابا احد من رجالكم)،
فالنور المحمدي الازلي هو أول موجود، وهو” الحق المخلوق به” هو رحم الوجود، ومن هنا سمى العارفون الحقيقة المحمدية ب“سلمى ،وسعدى، وليلي“. سلبت مني ليلى العقلا …هي لغة الرمز،والتورية، والإستغلاق، والإشارة،لسان الحقيقة،يعبر بها الصوفي عن المعاني والرقائق الدقيقة الباطنة وراء ظاهر الكلام.
“وعلي يترجم عنه ” لأن سيدنا علي كرم الله وجهه،هو باب مدينة العلم، ومدد هذا الختم يمرمنه ،فهو رئيسه. ومن هنا يظهر ان هذا الختم ليس عيسى عليه السلام،إذ لوكان، لذكر ابن عربي اسمه،وما احتاج الى سيدنا علي لتقديمه،فسيدنا عيسى اكبر مقاما من علي رضي الله عنه.
هذه المشاهدة،هو( انتقال التعليمات …passation de consigne )
المقصود منه هو ابن عربي،عرَّفه الختم الذي سبقه،بمهام الختمية ،و كيف تكون امدادات هذه المشارب،المشارب لأن تعزلات الختم في النبوة المحمدية تُفَعِّلها ،وتظهر المقتصيات كيفما كانت حسية او معنوية .
يقول: قمت مقنعا خجلا ثم أيدت بروح القدس فافتتحت مرتجلا:
يا منزل الآيات والأنباء ●● أنزل علي معالم الأسماء
حتى أكون لحمد ذاتك جامعا ●● بمحامد السراء والضراء
فبعد ما تعلم امدادات أمهات المشارب،عُلم مقتضيات الأسماء الالهية وتجلياتها(معالم الأسماء) وكما يقول في الفتوحات فهذا شرط في الختمية:معرفة الاسماء الالهية،الجلالية والجمالية(بمحامد السراء والضراء) فجمع المحامد كلها،التي تخص تجليات عصره ،
ثم أثنى على مولانا رسول في قصيدة ومن جملة ما قال:
يا سيدي حقا أقول،فقال لي ●● صدقا نطقت فأنت ظل ردائي
فاحمد وزد في حمد ربك جاهدا ●● فلقد وهبت حقائق الأشياء
“فقال لي أنت ظل ردائي“،فهذا ابن عربي ،الشيخ الاكبر مع علو كعبه، ليس الا ظل رداء مولانا سول الله صلى الله عليه وسلم ،وشعرة في جسده الشريف.
وبعد هذه المشاهدة وهب حقائق الاشياء فتكلم في كل شيء، وفتح الكثير من الابواب العرفانية المغلقة. وانثر من النثر:
وانثر لنا من شأن ربك ما انجلى ●●لفؤادك المحفوظ في الظلماء
من كل حق قائم بحقيقة ●●. يأتيك مملوكا بغير شراء.
لهذا يقول في الباب 373: واعلم أن جميع ما أتكلم به في مجالسي وتصانيفي،إنما هو من حضرة القرءان وخزائنه،فإنني أعطيت مفاتح الفهم والإمداد منه….انتهى.
ويقول عن الفتوحات، أنها من باب الكشف والألهام،والفتح الرباني،وأن ترتيبها كان بأمر رباني ،ويقول عن الفصوص أنه أعطي له من الحضرة المحمية.
فكل العلوم اللدنية والفتوحات الربانية تاتيه بغير شراء ملكا له كما يقول.
فهذه المشاهدة بينت للشيخ الاكبر، مقامه بين العارفين .
يقول ف ح ج 3 صفحة 323 “……فعلمت قدر من اتبعته وهو الرسول المبعوث إلي ،محمد صلى الله عليه وسلم، وشاهدت جميع الأنبياء كلهم ،من آدم إلى محمد عليهم السلام ،وأشهدني الله تعالى المؤمنين بهم كلهم ،حتى ما بقي منهم من أحد ممن كان ويكون إلى يوم القيامة خاصهم ،وعامهم ، ورأيت مراتب الجماعة كلها فعلمت أقدارهم واطلعت على جميع ما آمنت به مجملاً …. ففاته من الكمال أن يعرف قدره ومنزلته فهو وإن كان من أهل الكشف فما كشف الله له عن قدره ومنزلته فجهل نفسه….انتهى.
ثم خرج من المشاهد ة وشرع في اتمام خطبة الكتاب يقول :..ثم شرعت في الكلام بلسان العلام ،فقلت وأشرت إليه صلى الله عليه وسلم حمدت من أنزل عليك الكتاب المكنون الذي لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ…..اخ.