مراتب الوجود

مراتب الوجود موضوع مهم للسالك طريق التصوف العرفاني من فهمه، فهم 50 في المئة من اسرار التصوف العرفاني

اعلم أن الوجود مرتب ترتيبا تنازليا، وأعلا مرتبة هي الأحدية. واعلم أن الوجود ليس شيئا واحدا. فما من وجود إلا فوقه وجود أخص منه، إلى أن ينتهي الوجود الى أحدية الحق تعالى والتي ما “بعدها” الا الغيب المطمطم الخاص بالله تعالى، والذي لا خُبر لنا به ولا خبر عنه.

سميت بالدوائر الكونية، لتصور دائري للوجود مركزه اسم الجلالة الله، ومن كل نقطة من المحيط تمتد خطوط، هي الأسماء الإلهية التي لا حصر لها، وكل اسم يشكل دائرة داخل الدائرة. فالنقطة المركزية، واحدة ما تعددت ولا تكاثرت مع كثرة الخطوط الخارجة منها، وهي تقابل كل نقطة من الدوائر المحيطة بها بذاتها، فظهرت الكثرة عن الواحد بلا حلول، ولا اتحاد، ولا وحدة الوجود (خلافا لمذهب الفلاسفة الاشراقيين، القائلين لا يصدر عن الواحد إلا الواحد)

الكون كله يرجع الى اسم الجلالة الله والى المصطحب معه: محمد سول الله. ان مراتب الوجود مراتب برزخية، وليست مراتب وجودية عينية والإنسان اخر مراتب الوجود وأرقاها، واكتملت الدائرة، وهذا التصور يجب أن ينفي عن أذهاننا مفهوم الآخرية الزمانية، فالإنسان أول بالمرتبة آخر بالوجود

ودوائر الوجود منها ما يشير الى المراتب الاولى في عالم البطون، وبعضها يمثل العناصر الطبيعية الأربعة النار، الهواء، الماء، والتراب….

 فالحق تعالى حدد لكل موجود مرتبة تخصه “وإن من شيء إلا عندنا خزائنه” كل شيء خلقناه بقدر “ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى”.

ولكل دائرة من دوائر الوجود اسما من الأسماء إلَهية مدبرا لها. لأنه ما أوجد الله العالم إلا ليظهر سلطان أسمائه، فلا يوجد علم بدون معلوم، ولا قدرة بدون مقدور، ولا إرادة بدون مراد، ولا باعث بدون مبعوث، ولا رازق بدون مرزوق… فليس بممكن أن لا يكون في العالم بلاء وعافية، وليس إزالة مقتضى اسم الله المنتقم من الوجود، بأولى من إزالة اسمه القهار، أو الغفار… ولو بقي اسم من الأسماء لا حكم له، لتعطلت دائرة من الدوائر الكونية، والتعطيل محال.

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله تعالى، فيغفر لهم (رواه مسلم).

هناك تفاعل بين الأسماء الإلهية، ومراتب الوجود، وهي علاقة الفعل من جانب الأسماء الإلهية، والانفعال من جانب الموجودات. فتدرج الحقيقة المحمدية في مراتبها المختلفة هي التي جعلت من الوجود، وجودا حقا يذكر. فالسبب المانع حظ العاقل، هو الذي سبب رزق الجاهل، فلا تسأل عن العلة والسبب، فقد تميزت الرتب وعُرفت النسب.

أما إرادته تعالى فواحدة، إنما الاختلاف في متعلقاتها هي جامعة لجميع المرادات: الجلال والجمال، الحب والبغض والرضى والسخط…فمراتب الوجود هي محل ظهور مقتضيات تجليات الأسماء الإلهية، بعد الاصطحاب مع حضرة محمدية، لكي يكون اللطف والرحمة في الكون الإلهي (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الحقيقة المحمدية، هي التي أعطت للوجود صفة الوجود، وهي التي نسجت مراتب الوجود. فبطونها وسريانها في كل ذرات الوجود، اعطى لهذا الوجود وجودا حقيقيا وهو قول القائل: لولاه لم تخرج الدنيا من عدم.

والحقيقة المحمدية فاصلة بين حقائق الألوهية والكون، ومعنى هذا أن لها وجهة حقية وجهة خلقية، وهذا يؤكد برزخيتها، فالدوائر الكونية هي بالأحرى تجليات هذه الحقيقة وظهورها في مراتب متعددة ومختلفة (فأينما تولوا فثم وجه الله) والرابط بين الحقيقة المحمدية، ومراتب الوجود هو علاقة الامداد من جانب والاستمداد من الاخر وهذه المراتب كلها جمال، لأنها من ابداع الخالق، والاشياء توزن بمرتبتها التي تُرجع بها الى الأسماء الإلهية لا بصورتها (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا )

يقول الجيلي في كتابه الكمالات الإلهية عن اسمه تعالى ” الكريم“هو عبارة عن إعطاء الإجمال الوجودي تفصيلاً تبلغ به الموجودات الوجودية غاية الكمال. فيتعين كل شيء في مرتبته كما هو عليه الآن. وهذا من غاية الكرم. لأنه تعالى لم يدّخر مرتبة لم تتعين في الوجود، ولا ادّخر معنى مما يتوقف عليها كمال مرتبة من مراتب الوجود. بل تكرم عليها غاية الكرم الذي لا مزيد عليه. انتهى

فسيدنا محمد هو مَعْشُوقُ الْحَضَرَاتِ الفَرْدَانِي، فكل الحضرات تطلبه لأنه هو الرحمة المهداة الشاملة، وهو برزخ بين الألوهية والكون، فلا ينزل شيء إلا عليه، هو واسطة في كل شيء. فالجمال لو ظهر من غير حجاب برزخيته، لما استطاع الكون تحمله فما بالك بالجلال، فالشمس التي لولاها لما كانت حياة لو اقتربت بعض الكلومترات من الارض لأحرقت كل شيء.

لِمَ لَمْ يُفرض الصيام إلا بعد خمسة عشر سنة؟ والصلاة؟ والزكاة؟ فكل أجوبة علماء الشريعة مقبولة. ولا نشك فيها.

الحج ركن من اركان الإسلام، والعلماء اختلفوا في تاريخ مشروعية الحج على أقوال، فمنهم من قال في السنة السادسة للهجرة، وقال آخرون في السنة التاسعة.

 فرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة، أي بعد خمسة عشر سنة من بعثة الرسول عليه الصلاة السلام.

فرضت الصلاة على الرسول قبل الهجرة الى المدينة المنورة بثلاث سنوات في معجزة الإسراء والمعراج، لو سألت أحدا لمَ فرض الحج في السنة السادسة، ولم يفرضه الله تعالى قبل ذلك؟ لأجاب: لأن فرضه قبل ذلك ينافي الحكمة، وذلك أن قريشاً منعت الرسول من العمرة فمن الممكن والمتوقع أن تمنعه من الحج، ومكة قبل الفتح بلاد كفر، وما تحررت من الكفر إلا بعد الفتح، وصار إيجاب الحج على الناس موافقاً للحكمة

يقول شيخي رحمه الله تعالى: في حقيقة الأمر فإن كل فريضة قد فرضت من دائرة وجودية مخالفة للأخرى: فكانت الدعوة الى التوحيد ” لا إله إلا الله“ قبل أي فريضة، لأنها كانت من أول دائرة: دائرة الألوهية، ومن دائرة الربوبية فرضت الصلاة، ومن دائرة الرحمانية فرضت الزكاة، ومن دائرة الرحيمية فرض الصوم، ومن دائرة الجسم الكلي فرض الحج لهذا تأخر. انتهى..

هذه الدائرة (الجسم الكلي) هي الثامنة بالنسبة للجيلي والكتاني، والخامسة بالنسبة لابن عربي، وهذا هو سر الفرق الزمني بين كل فريضة والاخرى، لأنها لم تفرض من بساط واحد فحكم الله سابق لا لاحق، فليس الخوف من قريش هو الذي منع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو هو الذي جعل الحج لا يفرض حتى السنة السادسة من الهجرة ” خلق كل شيء فقدره تقديرا“ الكل مقدر، وفي بساط الرحمانية مسطر، فلا يقع في ملك الله ما لا يريده الله. (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).

ومثال ثاني: الأيات التي تكرر بها اسم الجلالة ”الله“ مرة ومرتين إلى سبعة مرات (سورة المزمل) فكل اسم يرجع بك الى دائرة كونية، فاسم الجلالة ”الله“ رئيس جميع الأسماء الإلهية المدبرة للدوائر الكونية، فمن حيث المعنى والسر الباطني فليس هناك تكرار.

فما نسميه اسباب نزول هو في الحقيقة مناسبات نزول، لأن القرءان أزلي له وجود مسبق عن تلك المسماة اسباب النزول، انزل دفعة واحدة (شهر رمضان الذي انزل فيه القرءان). (انا انزلناه في ليلة القدر).

وللإشارة فستة شيوخ، هم من تكلموا على مراتب الوجود: أولهم  الشيخ ابن قسي (القرن السادس) وحصرها في ستة مراتب، وتبعه ابن عربي وعدَّها 28 مرتبة في عالم الامر، وفق الحروف الهجائية، وأربعة مراتب في عالم البطون: أولها مرتبة الألوهية ،وثانيها مرتبة العما، والثالثة مرتبة حقيقة الحقائق الكلية (وهي التي سماها العارفون بعد ابن عربي الاحمدية) والرابعة مرتبة الحقيقة المحمدية، إذا مجموع مراتب الشيخ الأكبر 32 ، والكثير من الباحثين في ثرات ابن عربي يجهلون المراتب الأربعة التي يسميها ابن عربي مراتب البرزخ الاعلى(انظر هذا بالمدونة).ثم الجيلي، وبعده الشيخ محمد الكتاني حصراها في اربعين مرتبة (وحسب نظري هذا العدد هو الصائب هو جُمَّلُ الميم الباطنة من اسم محممد).

أما شيخي قدس الله سره فصعد بالعدد الى 45 مرتبة. وكل شيخ وأذواقه وفتوحات عصره. والكلام على مراتب الوجود موضوع صعب وشائك، ولا يمكن فهم كلام ابن عربي أو الجيلي فهما مدققا، دون معرفة كيف رآى تسلسل مراتب الوجود.

لهذا فبعض الباحثين في ثرات ابن عربي يشرحون كلام ابن عربي بكلام ابن عربي وكفى. ليس لهم ذوق في كلامه، وإن كان ابن عربي قد طرق الكثير من ابواب وحقائق التصوف وفتح جلها، فكلامه يبقى كلام بشر، والخطأ والسهو (كما يقول عنه الجيلي) وارد في كلامه لأن كلامه ليس قرءانا.

فابن عربي لم يعتبر الأحدية مرتبة وجودية، بل يقول في فتوحاته: الأحدية لا تعرفك ولا تقبلك. وهذا ينفي عنه بتاتا مذهب وحدة الوجود فبالنسبة له الأحدية، وهي صفة إلهية ليست من الوجود فما بالك بالذات الإلهية…. (ولا أوافقه في كون الأحدية ليست مرتبة وجودية).

أما الجيلي والكتاني فيعدون الذات الإلهية أول مرتبة وجودية(؟؟).. وشيخي رحمه الله تعالى يبدأ مراتبه من الأحدية… هؤلاء العارفون فحول كبار من العيار الثقيل والاختلافات بينهم في ترتيب مراتب الوجود كثيرة جدا.

 فمثلا ابن عربي يصنف العقل الاول، أول مرتبة في عالم الامر، بينما الجيلي يضعه في المرتبة التاسعة ومعه القلم الأعلى. أما الكتاني فيضع القلم الأعلى في المرتبة التاسعة، والعقل الاول في المرتبة الحادية عشرة. أما شيخي فيصنف القلم الاعلى في المرتبة العاشرة، والعقل الاول في المرتبة الحادية عشرة…. وسيطول بنا الكلام ان أوردت كل الاختلافات التي بينهم

وهؤلاء الأربعة رضي الله عنهم، استفدت منهم كثيرا وأحبهم كثيرا، رحمهم الله. وربما ذوقي في هذه الحقائق ضعيف، فحسب نظري العقل يفكر فله الاسبقية والقلم يكتب ما قدر العقل، فيجب تقديم العقل على القلم والله اعلم…

 ويستحيل تغيير الدوائر الكونية، لأنها تابعة لقدر الله وقدره، فلاحظوا ان الاختلاف بين المشارقة والمغاربة، فيما يخص حساب الجمل، جاء بعد الميم والنون من “كلمن” قبلها الاعداد كلها متماثلة…

كتبت كتابا منذ ازيد من 20 سنة عدد صفحاته 153 صفحة اقارن فيه دوائر هؤلاء الأربعة من العارفين، كانت محاولة لتقريب المعنى للسالك المتصوف خصوصا للإخوان الذين يسيرون بسيري، وليس تفضيل هذا العارف على الاخر حاشا، أو اظهار عضلاتي، انا متطفل على موائدهم وهذا هو جهدي (التطفل) (وإن لم يصبها وابل فطل). اعتمدت فيه على الذوق، والمنطق الصوفي السليم، وبقي مخبوؤا في غيابات جب هذا الجهاز، كل هذه السنين انتظر ان يوفقني الحق تعالى الى فتح في المسألة ولكن عقدين من الزمان لم يتغير فيه شيء فلم يخرج للوجود، اللهم الا قلة قليلة من اصحابي الذين اطلعوا عليه. ومؤخرا كلما فتحته يحضرني قوله تعالى (ما أشهدتهم خلق السموات والارض ولا خلق أنفسهم)

رحم الله هؤلاء الفحول الكبار الذين تركوا بصماتهم في التصوف وعبَّدوا لنا الطريق واناروا، لنا المسالك، وعرفونا بالحقائق وأخرجوا لنا الرقائق. ورحم الله تعالى كل شيوخ التصوف كنوز الحقائق وهداة الخلائق.

وصلى الله على سيدنا محمد نبي الله، وعلى الزهراء بضعة سول الله.

حصل المقال على : 825 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

عرض التعليقات (2)

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد