يقول الشيخ الأكبر: [ ربما وَقع عندي أن أجعل في هذا الكتاب،أولاً،فصلاً في العقائد المؤيّدة بالأدلة القاطعة والبراهين السّاطعة ،ثمّ رأيت أن ذلك تَشغيب على المُتأهّب،الطالب للمزيد،المُتعرّض لنفحات الجود بأسرار الوجود. فإن المتأهّب إذا لَزم الخلوة والذكر، وفَرّغ المَحلّ من الفكر،وقَعد فقيراً لا شيء له عند باب ربّه،حينئذ يَمنحُه الله تعالى ويُعطيه من العلم به والأسرار الإلهية والمعارف الربانية،التي أثْنى الله سبحانه بها على عبد الخضر فقال (عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدُنّا علماً)،وقال تعالى (واتّقوا الله ويُعلمكم الله)،وقال تعالى (إن تتّقوا الله يجعل لكم فُرقاناً)،وقال (ويجعل لكم نوراً تمشون به)..فيحصُل لصاحب الخلوة مع الله وبه من العلوم ما يَغيب عندها كل مُتكلّم على البَسيطة،بل كل صاحب نَظر وبُرهان ليست له هذه الحالة،فإنها وراء النّظر العقلي إذ كانت العلوم على ثلاثة مراتب: علم العقل: وهو كل علم يحصل لك ضرورة أو عقيب نظر في دليل،بشرط العثور على وجه ذلك الدليل.. وعلم الأحوال: ولا سبيل إليه إلا بالذّوق،فلا يقدر عاقل على أن يحُدّها ولا يُقيم على معرفتها دليلاً ألبتّة.. وعلوم الأسرار: وهو العلم الذي فوق طور العقل،وهو علم نَفْث روح القدس في الرّوع،يختصّ به النبيّ والوليّ. وهو نوعان: نوع منه يُدرك بالعقل،كالعلم الأول من هذه الأقسام،لكن هذا العالِم به لم يحصُل له عن نَظر ولكن مرتبة هذا العلم أعطت هذا. والنوع الآخر على ضربين: ضرب منه يلتحق بالعلم الثاني،لكن حالَه أشْرف. والضرب الآخر هو من قَبيل علوم الأخبار،وهي العلوم التي يدخُلها الصدق والكذب بذاتها،إلا أن يكون المُخبِر به قد ثَبَت صدقُه عند المُخبَر،وثَبتت عصمته فيما يُخبِر به ويَقوله،كإخبار الأنبياء عن الله بالجنة وما فيها..فقول صاحب علوم الأسرار: إن ثَمّ جنّة،هو من علم الخَبَر. وقوله في القيامة (إن فيها حوضاً أحلى من العسل) من علم الأحوال،وهو علم الذّوق. وقوله (كان الله ولا شيء معه) ومثله هو من علوم العقل،المُدركة بالنّظر. فهذا الصنف الثالث،الذي هو علم الأسرار،العالِم به يَعلم العلوم كلها ويَستغرقها. وليس صاحب تلك العلوم الأخرى كذلك. فلا علم أشرف من هذا العلم المحيط، الحاوي على جميع المعلومات. وينبغي لكل عاقل،إذا أتاه بهذه العلوم علوم الأسرارغير المعصوم،وإن كان صادقاً في نفس الأمر فيما أخبر به،ولكن كما لا يَلزم هذا السامع له صدقُه،لا يَلزم تكذيبه،ولكن يتوقّف،وإن صدّقه لم يضُرّه لأنه أتى في خَبره بما لا تُحيله العقول،ولا يَهُدّ رُكناً من أركان الشريعة،ولا يُبطل أصلاً من أصولها. فإذا أتى صاحب علوم الأسرار بأمر جَوّزه العقل وسَكت عنه الشارع،فلا ينبغي لنا أن نرُدّه أصلاً،ونحن مُخيّرون في قَبوله.. ولو لم يأت هذا المُخبِر إلا بما جاء به المعصوم،فهو حاكٍ لنا ما عندنا من رواية عنه،فلا فائدة زادها عندنا بخبره. وإنما يأتون بأسرار وحِكَم من أسرار الشريعة،ممّا هي خارجة عن قوة الفكر والكَسب ولا تُنال أبداً إلا بالمشاهدة والإحكام،وما شاكل هذه الطرق. ولو لم يَقع الإنكار لهذه العلوم بالوجود،لم يُفد قول أبي هريرة (حَفظت من رسول الله وعاءين: فأما أحدهما فبَثثته،وأما الآخر فلو بَثثته قطع منّي هذا البُلعوم).. ولم يُفد قول إبن عباس،حين قال في قول الله عز وجل (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزّل الأمر بينهم): (لو ذَكرت تفسيره لرَجَمْتُموني). فهؤلاء كلّهم سادات أبرار..قد عرفوا هذا العلم ورُتبته، ومنزلة أكثر العالَم منه،وأن الأكثر مُنكرون له. وينبغي للعاقل العارف أن لا يأخُذ عليهم في إنكارهم،فإنه في قصة موسى والخضر مندوحة لهم، وحجّة للطائفتين..وبهذه القصة عينها نَحتجّ على المُنكرين،ولكنه لا سبيل إلى خصامهم،ولكن نقول كما قال العبد الصالح (هذا فراق بيني وبينك)..]. الفتوحات المكية.ذ موعشي.
حصل المقال على : 334 مشاهدة