متفرقات من كتاب (المواقف الروحيةللأمير عبد القادر الجزائري)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الانبياء والمرسلين،وعلى مولاتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ،وعلى سيدتنا خديجة الكبرى ام المومنين ،وعلى اله وصحبه اجمعين.
== قيل لي في واقعة من الوقائع: [مَطلب علم التصوف هو ما لا يَقف التحقيق عند مسألة من مَسائله] بمعنى أن الطالب لمسألة من مسائله،إذا حَقّقها،يجعله ذلك التحقّق مُستعدّاً لما وراءها. فإذا تحقّق بما إستعدّ له،ممّا وراء تلك المسألة،إستعدّ كذلك. وهكذا فلا نهاية لمسائل التصوف ومَطالبه،دون الذات البحت الغيب المطلق،وهنالك منتهى العبارات ومُنقطع الإشارات وبحر الظلمات..
== قال الله تعالى: (وربّك يخلُق ما يشاء ويختار): الأعيان الثابتة،التي هي صور الأسماء الإلهية،هي المُختارة،بمعنى الطالبة لما يفعله الحق تعالى بها،فلا تطلُب غيره،بل لا تَقبله. فإختياره تعالى لا يكون إلا لما إختارته وطَلبته بإستعدادها.. فما عَلم الحق تعالى إلا ما إختارته الأعيان الثابتة،وما إختارت إلا ما هو في حقيقتها وإستعدادها..
(ما كان لهم الخِيَرة) من حيث أعيانهم الظاهرة المحسوسة،فإنها جاهلة محجوبة عن إستعدادها وعمّا هي طالبة له،على مُقتضى حقيقتها..
والمعلوم لا يتبدّل ولا يتغيّر عن حقيقته،إذ لو تبدّل وتَغيّر لإنقلب علمه تعالى جهلاً،وذلك مُحال. فليس للخالق تعالى إلا الخلق،وهو إعطاء الوجود للأحوال التي طلبتها الأعيان الثابتة بإستعدادها. فما حَكم عليها إلا بها،ولا أثَر لما يُسمّى مَشيئة وإختياراً إلا من حيث أنه تعالى غير مُكره ولا مُلجأ،بمعنى أنه لا يفعل شيئاً وهو كاره له غير مُريد ولا مُختار. فلا إختيار،لأن سَبْق العلم بالفعل والتّرك يُنافيه. ولا إضرار ولا جَبْر،لأن الفعل بالإرادة يُنافيه..
== العلم تابع للمعلومات في ثُبوتها العَدمي،والمعلومات تابعة للعلم في وجودها العَيْني،من غير تعدّد للعلم ولا حُدوث تَعلّق.
فأما العلم الذّاتي الإجمالي،فالذات هي العالِمة من وَجه،وهي المعلومة من وجه،وهي العلم من وجه. فأما كونها عالِمة،فهو أن الإنكشاف حاصل لها،لا لشيء زائد عليها. وأما كونها معلومة،فلأنها مع ما هو مُستَهلك فيها من الحقائق،مُنكشفة لذاتها. وأما كونها علماً،فلأن الإنكشاف حَصل بها،لا بشيء زائد عليها.. ومن المعلوم: أن حقيقة كل شيء،أي ما يصحّ أن يُعلَم،هي نسبة معلوميّته في علم الحق تعالى من كون علمه عَيْن ذاته. فذاته أعطته العلم بمعلوماته،التي هي عين ذاته في مرتبة التعيّن.. فليس علمه بذاته مُغايراً لعلمه بالعالَم،إذ ليس إلا هو تعالى.
فإن قلنا: المعلوم تابع للعلم في هذه المرتبة،لَزمَ تَقدّم العلم على الذات رُتبة،وفيه ما لا يخفى. فإن قُلت: الحق أخذ معلوماته عن وُجود،صَدقت،لأن جميع معلوماته هي شؤون ذاته ونِسَبه الذاتيّة. وإن قلت: الحق أخذ معلوماته عن عَدم، صَدقت، لأن معلوماته،قبل تَعقّل تعلّق العلم الذاتي،كانت معدومة في العلم والعَيْن،ولها صَلاحية التعيّن في العلم والعين..
وقد قال إمام العارفين قُدوتنا محيي الدين: [إن معلومات الحق تعالى أعطته العلم من نَفسها]. وإعترض هذا القول العارف الكبير عبد الكريم الجيلي بما نصّه: [لما رأى الإمام محيي الدين الحق حَكم للمعلومات بما إقتضته من نفسها،ظَنّ أن علم الحق مُستفاد من إقتضاء المعلومات. وفاتَه أنها إنما إقتضت ما عَلِمَها عليه بالعلم الأصلي الكُلّي النّفسي،قبل خَلقها وإيجادها،فإنها ما تَعيّنت في العلم الإلهي إلا بما عَلمها،لا بما إقتضته ذَواتها،ثمّ إقتضت ذواتها بعد في نَفسها أموراً هي عين ما عَلمها عليه أولاً،فحَكم لها ثانياً بما إقتضته،وما حكم لها إلا بما عَلمها عليه]. وليس لمثلي أن يتتبّع سَهْو الأكابر. فإن كنتَ أيها النّاظر ممّن يعرف الحق،عَرفت أهله لا مَحالة. وإن كنتَ مُقلّداً،فليس كلامي معك. وفي حقيقة الأمر لا إختلاف بين الشيخين عند من يَعلم..
فكلام الإمام محيي الدين من عند الحق تعالى،كما قال في الفتوحات: [ما وضعت كلمة إلا بإلقاء روحانيّ في قَلب كِيّاني] أو كما قال. فيجب الإنقياد لكلامه والخضوع لمعارفه،فإنه الوارث الكامل..
== ليس كل من ثَبُتَ تَخصيصه كَمُل تَخليصُه،ولا كل من حصلت له الكرامة كمُلت له الإستقامة..
== الأفعال التي كانت في الحياة الدنيا أعراضاً قائمة بالأجسام العالمة وأوصافاً لها،هي بعَيْنها تصير بعد الموت أجساداً برزخية مِثالية يَتنعّم بها العامِل أو يتعذّب. قال تعالى: (ولا تُجزون إلا ما كنتم تعملون)،(سيَجزيهم وَصفهم). ففي الحياة كانت الأفعال وَصفاً للفاعل وعَرَضاً قائماً به،وبعد الموت تُستخرج هذه الأوصاف وتتميّز عن العامل وتَصير أجساداً ذات صور،كما تتصوّر المعاني صوراً في الرؤيا،كالعلم في صورة اللبن والدين في صورة الثوب.. وبعد البعث تصير هذه الصور المثاليّة أجساماً محسوسة،لأن الحقائق تظهر في كل موطن بحسب ذلك الموطن. فلا تظهر المعاني مُتجسّدة مُتصوّرة بصورة،في الموطن الدّنيوي،إلا في الرؤيا أو لصاحب كشف. ويختصّ برؤيتها النائم والمُكاشف،دون الحاضرين معه. وكذا الأعمال الصالحة والسيّئة في البرزخ. وهي بعينها تظهر بعد البعث،في موطن الآخرة،أجساماً محسوسة،يُدركها كل مُدرك،لا يختصّ بها صاحبها،فهي حينئذ صُور وقصور ومُشتهيات..
== إعلم أن الحق تعالى له الأوليّة والآخريّة الحقيقية،وإن كُنّا نُسمّيها إضافة،لأنه تعالى لا يوصَف بالحوادث. فكُلّ ما وَصِف به تعالى فهو قديم بالنّسبة إليه تعالى،وإن كان حادثاً بالنسبة إلينا.. فجميع أسماء الله تعالى لها وجهان ونسبتان..
وأما أوليّة غيره تعالى،وآخريّته،فهي نسبيّة. بمعنى: ما وُصِف هذا المخلوق بالأول،إلا بالنّسبة لما بعده. ولا وُصِف بالآخر،إلا بالنسبة لما قبله..
فالحق أوّل من حيث ما هو آخر،وآخر من حيث ما هو أوّل. فآخريّته عين أوّليته،وأوليّته عين آخريّته. ومع هذا فقد يُعطي الحق تعالى وَصف الأول باعتبار تعيّن،ويُعطي حُكم الآخر باعتبار تعيّن آخر،إذا كان أحد التعيّنين شَرطاً أو سَبباً،والآخر مَشروطاً أو مُسَبّباً. فلا بدّ حينئذ في وصف التعيّن،إذا كان شرطاً أو سبباً،بالأوليّة. ومن وصف التعيّن،إذا كان مَشروطاً أو مُسبّباً،بالآخريّة. ضرورة تقدّم الشرط والسبب على المشروط والمُسبّب..
== قال تعالى: (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن مُحدَث) أي حادث النّزول،لا حادث الذات. كما يُقال: حَدَث الليلة عندنا ضَيْف،أي حَدَثت ضَيْفَتُه لا ذاته.. فذكر الله عبده قديم بذاته تعالى،وحادث عندنا بإظهاره..
== سُؤال الإستعداد مَقبول مُجاب،ولا بُدّ،سَواء قارَن سؤال اللسان أم لا. وسؤال اللسان،إذا لم يُوافقه الإستعداد،مَردود ولا بُدّ..
لكن إذا كان قصد السّائل التعبّد بسُؤاله وإظهار الفاقة،كما هو الحكمة في مشروعية الدعاء،يُجاب بالحسنات وتكفير السيّئات،لا بعين ما سأل..
والإستعداد المذكور هو ما تقتضيه الحقائق،إقتضاء ذاتياً ولُزوماً بَيّناً. فإن كل حقيقة لها ذاتيّات ولَوازم،وتلك اللّوازم لها لوازم،وهكذا كالسلسلة إلى ما لا نهاية له.. والإستعدادات: كُليّة وجُزئية. فالكُليّة هي ذاتيات الحقائق،وهي غير مجعولة. والإستعدادات الجُزئيّة مَجعولة..
ووَصف الحق تعالى بأنه خَلاّق على الدّوام،إنما هو في الإستعدادات الجزئية،التي هي لوازم الحقائق،بحيث لا يُتصَوّر بعد الإطّلاع على الحقائق إنفكاك تلك الحقيقة عمّا هي مُستعدّة له.. فكل ما حَصَل في العالَم،أيّ شيء كان،ممّا يُطلق عليه إسم شيء،فمن إقتضاء إستعدادات الحقائق له.. وقد ورد في الخبر: (إن من عبادي من لا يُصلحه إلا الفقر،ولو أغنيته لأفسدته. وإن من عبادي من لا يُصلحه إلا الغنى،ولو أفقرته لأفسدته)..
وبالإستعدادات غير المجعولة،المُقتضية لكل ما أعطاها الحق تعالى،كانت الحجّة البالغة لله تعالى على مخلوقاته. فليس لمخلوق أن يقول بلسانه: يا ربّ لِمَ جعلتني كذا؟ وإستعداده،الذي هو المُقتضى الذّاتي،يَطلُبه. وإذا أمَطنا الحجاب ورفعنا النّقاب،قلنا: ليس المقتضى إلا الأسماء الإلهية،فإن الحقائق الإمكانية صُورها. وإذا زدنا إماطة ورَفعاً،قلنا: ليس المقتضى إلا الذات العليّة،فإن الأسماء صُورها ومَراتب ظهوراتها. فافهم،وإذا فَهمت فاكْتُم،فإنه بحر سِرّ القدر،والخوض فيه خطر.. والخطاب للضعفاء الذين لا يحسنون السباحة،فلربما تزندقوا وصاروا إلى الإباحة،أسأل الله تعالى العافية والسلامة لي ولإخواني،فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
== لكل مخلوق وَجه هو مؤثّر بذلك الوجه الإلهي،لا بصورته المحسوسة. فلذا يقول المحقّق،الذي هو فوق العارف: [المُسبّبات تتكوّن عند الأسباب وبالأسباب]. فإذا رأيت عارفاً بالله يَخاف مَلِكاً أو ظالماً أو سبعاً أو حَيّة،فليس خوفه من صورته المخلوقة المُقَدّرة العَدميّة،وإنما خوفه ممّا هي مَظهر وصورة له،وهي أسماء الضّرّ والإنتقام والقهر..
== قال إمام العارفين محيي الدين،عندما تكلّم على سِرّ العدد: [إن كان الإنسان يُحارب هَوى نفسه،فليُغلّب الزوج على الفرد (يعني: يُغلّب شهود ربّ وعبد). وإن كان يُحارب هَوى غيره،فليُغلّب حُكم الفرد على الزوج (يعني: شهود ربّ فقط،إظهاراً للتوحيد)]. وقال بعض العارفين: [من نَظر للعُصاة بنظر الشريعة مَقَتهُم،ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عَذرهم].. المخلوقات ظُروف لما يَخلقه الله تعالى فيها من الأفعال والأقوال والنيّات،ليس لها من الأمر شيء،وإن كانت مُخاطبة مُكَلّفة مأمورة..
== (النّعمة الباطنة): هي النعمة المُمتزجة بالدنيا والآخرة. وهي ب”إرسال رُسُل الإلهام بالعلوم اللدُنيّة والمعارف الكَشفيّة والحقائق الغيبية،إلى قلوب وَرثة الأنبياء”،وهم العلماء العارفون المتحقّقون بالإقتداء بالأنبياء في أفعالهم وأحوالهم. فتتحلّى بها أرواحكم وقلوبكم ونفوسكم،كما تَزيّنت ظواهركم بالوظائف الشرعية الظاهرة. وهذه العلوم والمعارف توجب السعادة الروحية والقلبية،ودَوام التلذّذ بشهود الجمال الحقيقي والتمتّع بشهود التجليات المتنوعة،باطن لباطن..
وقد جعل الله تعالى بين ظاهر الإنسان وباطنه،إتّصالاً معنوياً غيبياً. فإذا قامت الأعضاء الظاهرة بما كُلّفت به من الطاعات على وجهها المشروع وتَحلّت بالأعمال الصالحات،إنعكس من تلك الطاعات نور إلى القوى الباطنة،فتَقوّت أنوار الباطن. وإذا قامت القوى الباطنة بوظائفها،من المُراقبة والحضور والآداب المطلوبة منها،إنعكس من ذلك نور إلى الأعضاء الظاهرة،فإستحلّت ظواهر الطاعات وإستلانَت مَشقّة العبادات ودَأبت على نوافل الخيرات. فصار كل واحد منهما للآخر سَنداً وعضُداً مُمِدّاً..
== (صراط الله المستقيم) هو الذي جاءت الكتب والرسل،آمرة بإتّباعه والمَشْي عليه،وناهية عن إتّباع السُبُل والمَشي عليها..
الصراط المستقيم هو الذي أمرنا الله تعالى بطلب الهداية إليه في كل صلاة. وأما ما عدا صراط النبيين ومن تَبعهم،فتلك السّبُل،وهي سبيل المغضوب عليهم والضالين..
قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سَبيله). غالباً،في “صراطي”،ضمير المتكلم،وهو الله تعالى. فالصراط المستقيم مَظهر الإسم الجامع (الله)،والسُبُل مظاهر جُزئيات الأسماء الإلهية. فكل سبيل هو سبيل الله،من حيث الحقيقة،وإن تعدّدت وتَكثّرت كَثرة لا يُحيط بها إلا هو تعالى،لأنه ليس في نفس الأمر إلا أسماؤه تعالى،هي الداعيّة للخلق،وهي سُبُله المُضلّة،كما قال: (يُضلّ من يشاء)،وقال حكاية عن موسى: (إن هي إلا فتنتك تُضلّ بها من تشاء).. فكل كافر عاصي مُخالف،ماشٍ على غير طريق الله المستقيم،من حيث الأمر الشرعي التكليفي الوضعي ــ فهو مُطيع مُوافق،ماشٍ على صراط الله من حيث الأمر الإرادي.. (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها)..
== (ليلة القدر): هذه الليلة مُمتزجة،لا ضوء محض ولا ظلمة خالصة. كنت أنظُر إلى ظلّ شخص فأراه متميّزاً،وليس هناك نور زائد كما يتوهّم أكثر الناس،وذلك في الخامس والعشرين من شعبان،فلا تختصّ برمضان،كما قال بعض العلماء. وبعض الناس تنكشف لهم أنوار في وسط السماء أو في جوانبها،أو أنوار تُشبه السّرج،فيظنون أن ذلك علامة ليلة القدر،وليس الأمر كذلك. وإنما علامة ليلة القدر ما رواه مسلم: (إن الشمس تطلع صَبيحتها ولا نور له). وقد شاهدت ذلك،فكانت الشمس كالتّرس النُحاسي لا شُعاع لها. ولو كانت فيها كتابة لأمكَنني قراءتها من غير كُلفة..
== قال الله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا ولو حرصتم فلا تميلوا كل المَيْل): كُلّ مَن طُلب منه العدل بين أمرين مُتضادّين،بحيث يكون إرضاء أحدهما إغضاباً للآخر،وإدخال السّرور على أحدهما تَحزيناً للآخر،إذا كانا على طرفي النّقيض.. وبقدر القُرب من أحدهما،يَبعُد من الآخر،طَلباً لا مَحيص عنه ولا مَهرب منه ــ فذانك الأمران نِساء في حَقّه،بمعنى زوجين مُتقابلين،كالنفس والروح،والدنيا والآخرة.. ولن تستطيع إرضاء الجميع أبداً،ولو بذلت جُهدك وأنفذت ما عندك،فإن جمع النّقيضين مُحال.
فعلّمنا الحكيم تعالى الخلاص من هذا المُشكل والدّواء لهذا الدّاء المُعضل،وهو أن لا نَميل كلّ المَيْل،بأننا وإن مِلْنا بقلوبنا إلى أحدهما فلا نَميل في ظواهرنا،بتَرك حقوق ما ملنا عنه رأساً،ونَعرض عن مطالبه ونَترُكه هَملاً..
ومراد الحق تعالى منّا وأمره لنا،بإرضاء الروح والنفس،وعمارة الدنيا والآخرة،على الحكمة التي جاءت بها الرسل والحدّ الذي حَدّوه لنا،كل واحد بحسبه وما يقتضيه حالُه: (ويريد الذين يتّبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً). فالميل المُضرّ بالدنيا والآخرة أو بالنفس والروح،كلّه من إتباع الشهوات وإستغواء الشيطان وتَزيينه،ليس من الدين في شيء..
== (الممكنات): إما حَقائق،وهي الأعيان الثابتة في العلم،لا توجد إلا خارجاَ. وإما أعراض لا تبقى زمانين،فهي تمُرّ مَرّ السحاب.
فما ترى إلا حَقّاً ظاهراً،مُتَلبّساً بخيال ساتر. وذلك لأن الأسماء الإلهية تَظهر مُتلبّسة بأحكام الإستعدادات،أعني حقائق الممكنات،وهي لا تظهر أبداً،وإنما تظهر الأسماء بظهور الذات مُتحجّبة بالأسماء،والأسماء مُتحجّبة بأحكام الممكنات. فالمحجوب لا يرى إلا أحكام الممكنات. والذي أعلى منه يَخرق حجاب الممكنات،ويَصل إلى الصفات. والأعلى المُحقّق يَخرق الممكنات والصفات،ويصل إلى الذات..
== سلسلة الشرع المحمدي لا تنفكّ عن رقبة سالك،ولا واصل ولا عالم بالله،ولا جاهل. فليحذر المؤمن،المُشفق على دينه،من الزنادقة المُلحدة،الذين يقولون إنهم وَصلوا إلى عين الحقيقة وإستغنوا عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو عن العمل بشَرعه..
== (واذكُر ربّك في نفسك): بمعنى: إعرف ربّك في ضمن معرفتك نفسك. فإن معرفة الربّ والنفس،كاللاّزم والمَلزوم،أو كالظلّ والشاخص،أو كالصورة في المرآن والمُتوجّه على المرآة. وإلى هذا يُشير خَبر: (من عرف نفسه عرف ربّه)..
معرفة الربّ بمعرفة النفس،أعلى وأشرف من معرفته بالعقل والعلم. وأعلى منهما،معرفته بالنفس مع الشرع..
إذا حَصلت لك معرفة ربّك بمعرفة نفسك،فعرفت من أنت وما نِسبتُك،وأنك الكنز المُخبّأ تحت جدار الجسم ــ فلتكُن حالَتك دائماً مع هذه المعرفة: التضرّع والخوف. فمن لوازم المعرفة الحقيقية: الخوف والتضرّع والإشفاق والإنزعاج. فمن زادت معرفته،زاد خوفه،كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله وأشدّكم له خشية)..
== (التوكل): ثقة القلب وحصول الطمأنينة،بوصول القسمة الأزليّة للعبد،بحركة أو سُكون،من خير وشرّ ونفع وضُرّ،ديناً ودنيا وآخرة،قليلاً أو كثيراً.. وليس هذا إلا من مقام الإيمان بأنه تعالى لا يُخلف وَعده في قوله: (وما من دابّة في الأرض إلا على الله رزقها).. وأما العقل مُجرّداً عن الإيمان،فإنه لا يُعطي التوكّل..
فليس التوكل إلا الثّقة والطمأنينة،لا ترك الأسباب،مع الشكّ والإضطراب .. وما إعتنى القوم بمقام التوكل،وعَدّوه من رؤوس المقامات،وتكلّفوا ترك الأسباب ــ إلا ليُحصّلوا على الثّقة،وعدم الإضطراب عند فَقْد الأسباب. وهذه هي الثمرة والنتيجة لما تكلّفوه،إذ المقامات لا فائدة في أعيانها وإنما الفائدة في ثَمراتها. فإذا حَصَلوا على الثمرة،رجعوا إلى إستعمال الأسباب العادية والحركات المعهودة لحُصول ما يطلبون كسائر الناس.. فلا يقول بتَرك الأسباب إلا صاحب حال أو جاهل بالطريق وبالسنّة..
وكذلك (الزّهد) يتصوّره عوامّ أهل الطريق على غير وجهه،وإنما هو: صَرف القلب عن الرغبة فيما سواه تعالى وفيما سوى ما يُقرّب إليه،لا غير..
== (الرؤية والمُشاهدة): لا بُدّ في الرّؤية من حجاب.. والحجاب أمر معنوي،لا عين له قائمة،وإنما هو معنى قائم بالصور الجسمية أو الجسمانية أو المعنوية. فليس المراد من رفع الحجاب،رفع أعيان الصور،بل رفع المعنى القائم بها فإنه الحجاب. فإذا إرتفعت الحجابية من الأعيان،صارت كلّها مَرايا لرؤية وَجه الحق تعالى فيها وهي على حالها،ما تَغيّر منها شيء في الظاهر..
فرفع الحجاب يعني: رفع المعنى الحاجب،لا رفع الأعيان،لأنها لا ترتفع،ولو إرتفعت ما كانت رؤية لأنها مَرايا رؤية الوجه. والإنسان لا يرى وجهه بغير مرآة ونحوها أبداً،وإن عَيْنك ونفسك من أعَمّ الحُجب،ولا تعرف ربّك إلا بها حين تزول حجابيتها وتَصير مرآة..
دائرة مرآة الربوبية واسعة،فلا يأخذ أحد منها إلا ما يخُصّ صورته،فلا يرى إلا إستعداده،أي حقيقته،وهو ربّه. ولذلك يُعبّر بعضهم عن هذا المعنى: بأن أحداً لا يرى إلا نفسه. فافهم واعرف.
والرؤية البصرية في الآخرة تابعة للعلم. فكل من كان علمه في الدنيا أتمّ،كانت رؤيته في الآخرة أوْسَع. وأوْسع المرايا مرآة السيّد الكامل صلى الله عليه وسلم. كما أن المُشاهدة في الدنيا تابعة للعلم،فلا يُشاهد المُشاهد في الحق تعالى إلا صورة علمه..
والقوم ما فرّقوا بين الرؤية والمشاهدة،كما هو مقتضى الوضع اللغوي،إلى أن جاء الشيخ محيي الدين ففَرّق بينهما تَفرقة إصطلاحية له،فقال: [المُشاهدة لا بد أن يَتقدّمها علم بالمَشهود،بخلاف الرؤية فلا يشترط أن يتقدّمها علم بالمَرئي. فكل مشاهدة رؤية،ولا ينعكس].
الرؤية لا يَقع فيها إقرار ولا إنكار،والمُشاهدة يقع فيها الإقرار والإنكار.. فإذا تقدّم للناظر علم بالمنظور،فإنه يُسمّى مُشاهدة ورؤية،ويقع فيها الإقرار والإنكار،ولذا وقع الإنكار من أهل المحشر لأنه تقدّم لهم علم بربّهم،وهي العقائد التي كانت لهم في الدنيا،فلو لم يتقدّم لهم علم به ما أنكروه،فكانت رؤية..
ومُحَصّل هذه التّفرقة،إنما يكون بالنسبة إلى المُتَجلّى له: فإن كان ممّن عَلم الحق تعالى في معتقد،وصَوّره بصورة،وإعتقد أنه لا يتجلّى تعالى بغير تلك الصورة التي إعتقدها ــ فهذا إذا تجلّى له الحق بغير تلك الصورة أنْكَره،وإذا تجلّى له بتلك الصورة أقَرّ به،فهذه الحالة تُسمّى (مُشاهدة)،ويقع فيها الإقرار والإنكار،ويُشترط فيها تقدّم علم بالمشهود. وأما إذا كان المُتجلّى له ممّن عرف الحق بالإطلاق،فهو لا يحكم عليه بصورة خاصة،فهو لهذا لا يُنكر الحق في أيّ صورة تجلّى له. فهذه الحالة تُسمّى (رؤية)،ولا يكون فيها إقرار ولا إنكار،ولا يُشترط فيها تقدّم علم خاص بالمُتجلّي.. قال بعض العارفين: [الحق يَشهدُه كل أحد،ولا يَراه إلا القليل]..
== من أراد الحُصول على الكنوز فليَكسر الأقفال يَظفر بما وراءها..
== (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) التي هي الله حقيقة،فالكُلّ من الله.
فلا غيريّة ولا سوائيّة،وإنما غايَر بينهما ليُعلّمنا الأدب القَولي،لا الأدب الإعتقادي،فإنه لا يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا،لا علينا. إذ كل ما كتبه في اللوح،إنما هو ما عَلمه منّا،وذلك مُقتضى إستعداداتنا التي هي نفوسنا..
== (الألفاظ والمعاني): من لم يَصل إلى هذا الذي نقول عنه بنفسه،فمن المُحال أن يوصِلَه إليه غيره. فإن المُخْبِر ــ ولو بالَغ في الإيضاح والبيان غاية ما يُمكن ــ لا يزيد السّامع الجاهل رأساً إلا حَيْرة وإبهاماً. لأن الألفاظ وُضعت للمعاني المُتواضَع عليها بين المُتكلّم والمُخاطَب. فيتكلّم المُتكلم بما في نفسه،فيعرفه مُخاطَبه.
والمعاني ليست بمحصورة،بخلاف الألفاظ فإنها محصورة مُتناهية في كل لغة. فإذا كان المعنى ممّا لم يوضَع له لفظ يدلّ عليه،فيحتاج المتكلم في إفهام مخاطبه ما في نفسه إلى أن ينظُر في الألفاظ المعروفة للمخاطَب ما يُقارب أو يُناسب،بالمجاز أو الإستعارة أو الكناية أو نحو ذلك،فيُعبّر له به عن مراده. وربما يكون المخاطب لا يلتفت ذهنه إلى ذلك المعنى،فيكون مثل العربي مع العجمي،فيبقى ذلك المعنى كنزاً مُطلسماً أو كنزاً ضاع مفتاحه والباب مردوم.
ولكن في الأخبار فوائد على كل حال،فلربما يكون السالك قارب الوصول إليه فيشُمّ رائحته،بسبب ما وصله من الخبر،فيَجدّ في الطّلب. وربما وَصله،فيتيقّن أنه هو الذي كان سَمع خَبره. وربما أفادَ الإخبار السامع تَشوّقاً،فإنبعثت همّته،فإن النفوس مَجبولة على حُبّ التشبّه بأهل الكمال..
(إله الناس): الإله إسم للمرتبة الجامعة لجميع الأسماء: ذاتية وصفاتية،فعلية وجلالية،جمالية وكمالية. وهذه المرتبة فوق المراتب كلها،من حيث أنها مرتبة إعطاء كل ذي حقّ حَقّه،من الحق والخلق،فلها الحيطة والشمول على كل مَظهر حَقّي وخَلقي..
(من شرّ الوسواس): “ألْ” في الوسواس للجنس،فإن للشيطان وسوسة،وللنفس وللشكّ وللظنّ وللوَهْم وَسوسة،وللهَوى وَسوسة،كما قال تعالى: (وإن كثيراً ليُضلّون بأهوائهم)،(إن النفس لأمارة بالسوء)،(إن يتبعون إلا الظنّ)..
وما أمرنا الحق بالإستعادة من شرّ الوسواس،على أننا نجعل الوسواس مُقابلاً له مُقابلة الضدّ،فيكون بمثابة الشريك في المملكة. وإنما أمرنا أن نستعيذ به منه،فإنه تعالى المُنفرد بالضرّ والنّفع. نَستعيذ بأسمائه الجمالية من أسمائه الجلالية (أعوذ بك منك)..فليس الوسواس إلا مَظهر المُضلّ ونحوه..
قال بعض الأكابر،في قوله تعالى: (إن الشيطان لكم عدوّ): [ وإن طائفة لما سَمعوا هذه الآية فَهموا منها عَداوة الشيطان فقط،فإستعدّوا لعداوته بالحَذر منه والإشتغال بمراقبته وسدّ أبواب هجومه والتيقّظ لمكائده،ففاتَهم بذلك خير عظيم. وطائفة فهموا منها: (الشيطان لكم عدو،وأنا لكم صديق)،فتعلّقوا به تعالى وإنحاشوا إليه وإشتغلوا بمراقبته،فكفاهم شرّ العدو وحَصلوا على خير عظيم. فالطائفة الأولى: العُبّاد والزُهّاد. والثانية: العارفون بالله..]..
== قيل لي في الواقعة: “مَن إستراح تَعِب”،فقلت: “ومن تَعب إستراح”.
وذلك أن الحق خلق الإنسان وجعله ينتقل في المنازل والأطوار،ولا يستقرّ به قرار إلا في دار القَرار،إما في جنّة أو نار. وأعظم مواطنه مَوطنان: موطن الدنيا وموطن الآخرة. ف”موطن الدنيا”: موطن تكليف وتَعب،وضيق وعمل،وحجاب وحَجْر. و”موطن الآخرة”: موطن تَشريف وراحة،وإطلاق ومُشاهدة وجَزاء. فمن إستراح في الدنيا بإعطائه نفسه مُناها،وإتّباع مُرادها وهَواها،فلم يُعْط الموطن حَقّه ولم يُراقب حكمة الحكيم تعالى،ولا بَذَل له من نفسه ما إستحقه ــ تَعب في الآخرة،لأنها موطن جزاء وإجتناء ثَمرات ما غرس في الدنيا من الأعمال. ومن تَعب في الدنيا وأعطى الموطن حَقّه،بالقيام بوظائف التكاليف والعمل بما رسم المُشرّع،إستراح في الآخرة.. وليس الخير في الدنيا إلا ما أمر به الشارع،ولا الشرّ فيها إلا ما نهى عنه.
== (النعمة): نعمة الإمداد لإبقاء الإيجاد،أبديّة لكل موجود،وكل موجود مُنعَم عليه بإبقاء وُجوده. فاوّل نعمة على المخلوق،إعطاء الوجود في العموم.. وأما في الخصوص فهي نعمة الإيمان،فهذه النعمة لها لوازم،ولوازم لوازم،وتوابع ومقتضيات،لا نهاية لها..
== قال القوم: ليس للشيخ على المريد بعد الفتح إلا مرتبة الصحبة والأخوّة والمُشاورة،لا غير..
== الذي نُسمّيه في الواجب القديم (حَياة)،هو الذي نُسميه في الممكن الحادث (روحاً)،فالروح لا تموت..
== (الأبرار): هم أصحاب تَجلّي الأفعال والصفات،الذين ما فارقوا الكثرة بعد ولا فازوا بإستهلاك الكثرة في الوحدة.. لهم في الآخرة كيت وكيت من الإكرام والإنعام،وأنهم يُسقَون من رحيق.. والمشروبات أربعة: اللبن والعسل والماء والخمر،وهي علوم الوَهْب لمن شَربها،تتصوّر العلوم بصور هذه المشروبات الأربعة..
والأبرار إنما يُسقَون الرحيق من كؤوس الأسماء والصفات،بخلاف المُقرّبين من عباد الله فإنهم يَشربون بلا كأس،بمعنى أن لهم عين الذات،فلم تُقيّدهم الأسماء والصفات.ولذا وصف تعالى سَقْي الأبرار بأنه مَختوم،بمعنى محدود،لتَقيّدهم وإنحجابهم بالصفات والأسماء..
والمُقرّبون هم السابقون السابقون،أهل تجلّي الذات الجامع المطلق.. (يشرب به) ولم يقل يشرب منها،لأن العين بمعنى الذات،هي الشاربة،من وجه مَحو آثار الغيرية حُكماً،وهي المشروبة من وجه بَقاء التمييز عَيْناً..
== (ليس كمثله شيء): نَفي المثليّة له تعالى من حيث ألوهيته،أي نفي المُماثلة عن المرتبة.. وإسم الجلالة في كلمة التوحيد،عَلَم على الذات العَليّة،لا صفة،إذ لو كانت صفة ما أفادت الكلمة المشرّفة توحيداً..
فالألوهية لا مثل لها،ولها ضدّ وهو المألوه العابد.. والمَنفي في الآية هو “المِثْل” بسُكون المُثلثة،وهو المُشارك.. وأما ” المَثل” بفَتح الميم،فلم تَنفه الآية،لأنه لا يُشارك في الحقيقة،وإنما هو مَظهر يَظهر به وتَعيّن يتعيّن به،ولذا ورد في الخبر: (إن الله خلق آدم على صورته).. فالتعيّن “مَثَل”،لا “مِثْل”. قال الله تعالى: (ولله المَثَل الأعلى وهو العزيز الحكيم) فعلامة المَثَل العِزّة والحكمة،وأما الذات فلا مثل له ولا ضدّ،إذ لا غير لها..
== [الموقف 192]: (فإذا قرأت القرآن فاستعد بالله من الشيطان الرجيم).
أي إذا قرأت القرآن،ثمّ نزلت إلى قراءة الفرقان،فاستعذ،لأن حضرة القرآن حضرة الجمع،والوجود حضرة الذات الجامعة الأحدية،وهو حال شهود حق بلا خلق،وهو المعروف عند ساداتنا ب”وحدة الشهود”،وهذه الحضرة لا شيطان فيها.
ثمّ بعد قراءة القرآن،رجعت إلى قراءة الفرقان،مقام شهود الخلق قائم بحق،وهو المعروف عند ساداتنا ب”وحدة الوجود”،حضرة الصفات والكثرة الإعتبارية. فحينئذ يلزمك بعد قراءة القرآن والرجوع إلى الفرقان،ملاحظة الحِكَم الإلهية،ومُراعاة الأسباب والوسائط،حسب أمر الشارع بذلك.. فإنه جعل للخير أسباباً وللشرّ أسباباً،ومن جملتها الشيطان الرجيم،فإنه مظهر الإضلال والإغواء،فإستعذ بالله وتحصّن منه به تعالى.. فالمُستعاذ به هو المُستعاذ منه. لذا ورد في الخبر: (بسم الله الذي لا يضر مع إسمه شيء في الأرض ولا في السماع) أي أستعيذ بسم الله،فذكر المُستعاذ به وما ذكر المُستعاذ منه،إشارة إلى أنه هو هو: فيُستعاذ بأسماء الرحمة والجمال من أسماء القهر والجلال. فذكر الإسم الجامع الله لا يُستعاذ به ويُستعاذ منه. ثمّ زاد الإشارة إيضاحاً بقوله: (الذي لا يضرّ مع إسمه) الضارّ شيء ممّا يُنسب إليه الضّرر من شيطان ومن كل ما ذرأ وبَرأ في الأرض وفي السماء،فلا تأثير لمخلوق في ضرر مخلوق أصلاً.. فقوة الشيطان وسُلطته بتَسليط الله وإقداره على الذين يَتولّونه.. ومن خاف من شيء سُلّط عليه،لأن من خاف مخلوقاً فقد أدخل نفسه تحت حكمه وجعله ملحوظاً له،فيُعاقبه الله تعالى على ذلك بتسليط ذلك المُخوّف عليه..
== كل ما ورد في الكتاب والسنة من التشبيه فمَحلّه مرتبة الظهور والتعيّن بالمظاهر،من إسمه تعالى (الظاهر). وكل ما ورد في الكتاب والسنة من التنزيه فمحلّه مرتبة التجرّد عن المظاهر،من إسمه تعالى (الباطن)..
== لا يُريد الحق تعالى إلا ما يَعلم قبوله وإنفعاله،ويعلم المعلوم على ما هو عليه في حقيقته،من القبول وعدمه،والمُحال غير قابل للإنفعال. وعليه فقول القائل: هل يَقدر الله على المُحال؟ سؤال فاسد،وإن كان ولا بد فليقُل: هل يريد الحق فعل المُحال أو لا؟ فحينئذ فالعقلاء مجمعون على أن الحق حكيم..
تعلّق القدرة بالمَقدور،مُتأخّر بالذات،عن تعلّق الإرادة به. كما أن تعلّق الإرادة بالمُراد المشيوء،متأخّر بالذات،عن تعلّق العلم به. كما أن تعلّق العلم به،متأخّر بالذات عنه،إن العلم تابع للمعلوم. فهذه التعلّقات مُترتّبة ترتّباً ذاتياً عقلياً،لا زمانياً،لأن صفات الحق لا تدخل تحت الزمان. فلو أراد فعل ما لا يدخل تحت قُدرته،كان جاهلاً عابثاً ظاهر العجز،تعالى العليم الحكيم القادر عن ذلك. ولو فعل ما لا يريد،كان مجبوراً مَقهوراً،تعالى الفاعل المُختار عن ذلك..
== كل رسول أمّة،لأن حقيقة كل رسول مجموع أمّته التابعين له..
== لا يلزم من تعدّد الصور تعدّد الحقيقة،فإن الحقيقة الإنسانية واحدة بإجماع العقلاء،وصورها لا تُحصى كثرة،فإن السمع والبصر والشمّ واليد والرجل،كلّها صُورها..
(أءله مع الله) أي لا إله مع الله،فهو إله واحد تعدّدت تعيّناته ومظاهره. بل هم قوم يَعدلون عن شهود الوحدة الحقيقية إلى الكثرة المجازية الإعتبارية. فالعارف يرى جميع الصور المعبودة وغير المعبودة،ليس لها وجود مع الله،وإنما وجودها هو وجود الله الواحد العَيْن،والحقيقة والصور ظُهوراته وتعيّناته. والظهور والتعيّن والتعدّد إعتبارات عقلية لا وجودية خارجية،ولكن الحجاب صَيّرها كما يراها المحجوب..
وهذا التوحيد هو الذي أمر الله به عباده،وجاءت به الرسل. فإنه تعالى أمر بتوحيد حقيقة ألوهيته،فإنها واحدة،وُجد المُوحّد أو عُدم،وما أمر بتوحيد الصور والتعيّنات،فإنها أعدام إعتبارية. وإنما أمر بشهود وَحدته في ألوهَته،وسَريان هُويته في مظاهره المتعدّدة وتعيّناته المُتكثّرة. وحينئذ يكون هو الذي وَحّد نفسه بنفسه..
== (النفس الإنسانية): لكل إنسان نَفسين: “نفس مُدَبّرة” (إسم فاعل)،وهي النفس الروحانية الربانية العلوية.
و”نفس مُدَبَّرة” (إسم مفعول)،وهي النفس الطبيعية العنصرية السُفليّة الحيوانية.
وحقيقتها: كَيفيّة تَعْرِض بين النفس الروحانية الكُليّة وبين الجسم،فهي مثلاً كالصورة في المرآة عند المقابلة،وبواسطتها يَصل تدبير النفس الروحانية للجسم..
(من قتل نفساً بغير نفس): أي كان سَبباً في منع تجلّي النفس على جسم من الأجسام،بغير إذن شرعي،من جماد ونبات وحيوان وإنسان.. (ومن أحياها): أي كان سبباً في إبقاء وصول تجلّي النفس على الجسم الإنساني،بمعنى دفع الهلاك المُتوجّه على إنسان..
== (فتح الرسالة وفتح الولاية): فتح الرسالة مُتعلّق بالأوامر والنواهي الوضعية،المُتعلّقة بمصالح الخلق،والنظر إلى ما ينفعهم في مَعادهم ومَعاشهم،بحسب أزمانهم وأحوالهم،وإرتباط الأسباب بعضهم ببعض،وتَرتّب الأشياء على شَرائطها. فهو خدمة التجلّي بضدّه ومُعارضته بنقيضه،والنظر إلى الأمر الشرعي دون الإرادي.
وفتح الولاية ليس كذلك،فهو فتح مطلق لا تعلّق له إلا بحقائق الأشياء ومبادئها ونهايتها،ولا تعلّق له فيما بين ذلك. وليس فيه أسباب ولا شروط موانع ولا أوضاع شرعية ولا حُكمية،بل هو سكون تحت الأمر الإرادي ومُساعدة التجليات إلى أن تنقضي دُولها،لا معارضة ولا منازعة ولا مناقضة.
وهذا دون النبوة والرسالة والوراثة الكاملة،التي هي مقام الدعوة إلى الله تعالى..
== يتصرّف الحق تعالى،عطاء ومنعاً،ضُراً ونفعاً،بالعلم وبالحكمة والعدل،لأنه العليم الحكيم المُقسط. بيده الميزان،يخفض ويَرفع. فلا يمنع من يستحق الكل بعض ما يستحقّ،ولا يُعطي من يستحق البعض أكثر مما يستحق،دنيا وآخرة،حسّاً ومعنى.. فعطاؤه تعالى ومنعه،وضُرّه ونفعه،تَبع للإستحقاق والإستعداد،والإستعدادات الكُلية هي حقائق الأشياء.. فالإستعداد الكُلّي غير مَعلول ولا مَجعول،بخلاف الإستعداد الجُزئي فإنه معلول ومجعول.. فلا تظنّ أن الحق العليم الحكيم،يمنع أحداً مما يطلبه بإستعداده الكلّي الذّاتي،وليس هذا إلا من إقتضاء الأسماء الإلهية،التي هذه الأعيان الثابتة صور لها. فما يقتضيه الإسم،الذي هو حقيقة هذا المخلوق،هو إستعداده..
والحق تعالى له ثلاث نُسَخ غيبية،والرابعة شَهادته: النسخة الأولى هي موطن كون العالَم شؤوناً ذاتية له تعالى،وهو التعيّن الأول. والنسخة الثانية هي موطن كون العالَم أعياناً ثابتة،وهو التعيّن الثاني. والنسخة الثالثة هي موطن كون العالم مكتوباً مسطوراً في اللوح المحفوظ. والنسخة الرابعة هي موطن كون العالم أعياناً خارجية شهادية.
فما كان في النسخة الأولى،وهو العلم الذاتي المحيط المتعلق بما لا يتناهى،فلا يصل إليه علم أحد،إلا أن يكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه صاحب “أو أدنى”،أعني باطن موطن الوجود والعلم. وأما النسخة الثانية فإنه يصل إليه الرسل وبعض الكُمّل من الوَرثة المحمديين،كالأقطاب والأفراد،فإن التعين الثاني،الذي هو “قاب قوسين”،منتهى عروجهم ومَسراهم. وأما ما كان في النسخة الثالثة،وهي اللوح المحفوظ،فيصل إليه كثير من الأولياء،ومع كون علوم اللوح محصورة،فقد قال مظهر الصفة العلمية الإلهية محيي الدين الحاتمي: [لم يُحط أحد من الأولياء بعلوم اللوح المحفوظ]. وأما النسخة الرابعة فهي هذه المشهودة المحسوسة،ومُحال أن لا يكون هناك شيء في النّسخ الثلاث،ويكون ويَظهر هنا في النسخة الرابعة. وقد قال بعض الأكابر: [خوف العامة من سوء الخاتمة،وخوف الخاصة من سوء السّابقة]. ونظر العارفين إلى السّابقة مختلف،فمنهم من نظره إلى ما خطّه القلم في اللوح المحفوظ،ومنهم من نظره إلى عينه الثابتة،ومنهم من نظره إلى مقتضى إستعداده،وهو أعلاهم.
فاحفظ هذا الموقف [الموقف 206] فإنه يُريحك من أتعاب كثيرة تُفضي بك إلى الجهل وسوء الأدب،وتُهمة الحق،ويحُطّ عنك أثقالاً عظيمة..
== (كل رسول أرسل بلسان قومه): كُلّ من حَمل أمراً ليوصله إلى غيره فهو رسول،لغة..
ومن الرّسُل الذي يُلْهَم. وسَميناه إلهاماً تأدّباً مع مقام النبوة،وإلا فما يحصُل للأولياء كذلك هو وَحْي،لكن من غير واسطة مَلَك مشهود،وبواسطة مَلك غير مشهود،وهو الوارث المحمدي الذي يؤمر بدعوة الناس إلى معرفة الله وتوحيده التوحيد الذي جاء به الرسل،لا التوحيد العقلي،وإلى إتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله..
وما أرسل الله تعالى رسولاً مُستقلاً،أو نبياً أو ولياً،إلا بلسان قومه،ولسان قومه هو إستعدادهم الذي يفهمون عنه ما يُكلّمهم به. إذ المقصود من الكلام والخطاب إفهام المُخاطَب،ولا يكون الفهم إلا بالإستعداد.. وأما اللسان،الذي يكون سَماعه بالأذن فقط،فغير كاف في المقصود من الخطاب وهو الفهم،ولذا قال تعالى: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم)،(ولهم آذان لا يسمعون بها)،(ولا تُسمع الصُمّ الدعاء).. وما كان صَممُهم من جهة آذانهم،وإنما كان صَممُهم من جهة إستعدادهم وعدم قبولهم وفَهمهم لما يدعوهم إليه..
وقَوْم كلّ رسول أنواع ثلاثة: عامة وخاصة وخاصة الخاصة.. وكل نوع لا يفهم إلا الخطاب الذي يكون بلسانه،وهو إستعداده.. فإذا رأيت من يدّعي الأمر الإلهي بدعوة الناس إلى الله،وهو على غير ما ذكرناه،فاعلم أنه كاذب أو مُلبّس عليه،فإن الحكيم العليم يَزرع كل بزر في الأرض القابلة لإنباته،فما كل أرض تَقبل كل بَذْر..
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نُكلّم الناس على قدر عقولهم) أي إستعدادهم. وفي حديث آخر: (ما كَلّم أحد قوماً بحديث لم تبلُغه عقولهم إلا كان فتنة عليهم)،وفي صحيح البخاري: (حدّثوا الناس بما يفهمون،أتُحبّون أن يُكذّب الله ورسوله؟)..
== (علوم فوق طور العقل): أي أن العقل لا يَصل إليها بفطرته وآلاته التي من عادته إقتناص العلوم بها،وإنما يُدركها بالوَهْب المُجرّد عن الآلات،لا أنه لا يُدركها بوجه ولا حال. فإن المُدرك لكل ما تُطيقه القوة البشرية هو العقل،لكن إما بآلات في مرتبته،وذلك للعقلاء،وهم حُكماء ومُتكلمون وفقهاء،وإما بالفيض والوَهب في مرتبته،وذلك للرسل والأنبياء والأولياء..
== كل من عَلَت رُتبته وأزلفت منزلته،يُعاقَب على ما لا يُعاقب عليه من هو أسفل مرتبة وأبعد منزلة،كما هو في الشاهد في خاصة المَلك ورَعاياه..
== (علم اليقين) يحتاج في إثباته إلى دليل،ويَقبل التّشكيك. و(عين اليقين) يحتاج إلى دليل،ولا يقبل التشكيك. و(حق اليقين) لا يحتاج إلى دليل ولا يقبل التشكيك. وجميع علوم الأذواق ــ وهي العلوم الحاصلة بالتجليات لمن شاء الله تعالى من عباده ــ من القسم الثالث..
فلا يحصل الإيقان الزائد على الإيمان في الأشياء،إلا بكشف بواطن الأشياء والإطّلاع على ملكوتها..
== (خوف السُعداء): خوف السعداء خَوفان:
“خوف الإجلال والتعظيم والمَهابة”: وهو للمُقرّبين السابقين،فإن الخوف منه تعالى على قدر المعرفة به،فمن كانت معرفته أتَمّ كان خوفه أكمل،ولذا قال السيد الكامل صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرفكم بالله وأشدّكم له خشية)..
و”خَوف النار والأغلال والعذاب والنّكال”: هو للأبرار أصحاب اليمين. وليس الخوف من لازِمِه الإجلال والإعظام،فإن الإنسان يَخاف الحَيّة والعقرب،من غير تعظيم ولا إجلال..
ولما كان خوف الأبرار والمُقرّبين مختلفاً في النوعية،كان جزاؤهما مختلفاً في العين والماهية. فجزاء المُقرّبين،دخول جَنّتي الذات والصفات،وهو جزاء معنوي ودخول معنوي،حيث كان خوفهم معنوياً،جزاء وِفاقاً،إذ الجزاء من جنس العمل..
== قال الله تعالى: (ولولا دَفْع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) [البقرة: 251]. الإسم الجامع (الله) هو المُدافع بين مظاهر الجلال والجمال.. وهي مُطاردة ومُدافعة لا تنفكّ دائماً أبداً..
== إعلم أن الحق تعالى له الفعل والإختيار المطلق،ما لم يتقيّد بمَظهر ويتعيّن بتعيّن،فإنه حينئذ لا يكون فاعلاً مختاراً في المظاهر إلا بحسب إستعداداتها وطبائعها. فإن التقيّد بالأعيان يحكُم على الوجود الحق،فلا يظهر فيها إلا بحسبها.. فهو تعالى قادر أن يُخرج من الحجر ثَمراً،ولكن بعد أن يجعل الحجر شجراً. هكذا فلتعرف الحقائق وتَفهم الدّقائق.
== (وُجوه الحق): هي أسماؤه ونِسَبه. سُمّيت نِسَباً من حيث أنها لا موجودة ولا معدومة. وسُميت أسماء لأنها تدُلّ عليه دَلالة الأسماء على مُسمياتها،وإن كان لا يخلو إسم منها عن رائحة الوصفية،لأنه تعالى إنما يُذكر بها على وجه الثناء،والثناء لا يكون بالإسم العلم المُجرّد عن الوَصفية. وسُميت وُجوهاً من حيث أن ظهور الحق،لمن ظهر له،لا يكون إلا بها. ولذا سُمي العضو الذي هو أول ما يظهر من الإنسان لمُقابله وَجهاً،لأنه يظهر به أولاً..
ومع كون وجوه الحق لا نهاية لها،فهي ترجع إلى أصول سبعة،وهي: أئمّة وأمّهات وكُليات وأصول لجميع الوجوه،وهي: [القادر والمريد والعالِم والمتكلم والسميع والبصير والحي] عند المتكلمين. وعند الطائفة العليّة: [الحيّ والعالِم والمريد والقائل والقادر والجواد والمُقسط]..
وإمام هذه السبعة هو (الحيّ)،فهو إمام الأئمة.. ومعنى الحيّ في حَقّه تعالى هو: إقتضاء الوجود للفعل والإدراك. فجميع الوجوه داخلة تحت هذا..
وأخصّ الوجوه وأشدّها لزوماً للوجه (الحيّ): الوجه (القيّوم). ولم يرد،في القرآن وأكثر السنة،ذكره إلا مقروناً به،حتى قال بعض سادات الطائفة: (الحيّ القيوم) إسم واحد مُركّب مَزجيّ ك(بعلبك).. ومعنى القيوم: القائم بنفسه،المِقوام لغيره. فهو قريب من الوجه الحيّ،فإنه تعالى حَيّ لذاته،وحياة كل شيء إنما هي من حياته..
ويَلي الوجه الحيّ،من هذه الوجوه التي هي أئمّة وأصول،الوجه (العليم)،حتى جعله بعض القوم إمام الأئمة،وقَدّمه على الوجي الحيّ،نظراً إلى عموم تعلّقه بأقسام الحُكم العقليّ كلّها..
== (حضرة الإستعداد): هي الحضرة التي إستمدّ القلم منها ما كتب،وهي حضرة العلم بالمعلومات وإستعدادها وأحوالها التي تكون عليها إذا وُجدت..
== (علوم أهل الله مؤسّسة على الدّليل): إعلم أن كل ما تقوله الطائفة العَليّة له دليل من الكتاب والسنة،عرفه من عرفه وجهله من جهله. لأن طريقتهم مُؤسّسة على الكتاب والسنة. غير أن من علومهم أموراً وجدانيات،لا يمكن أن يُقام عليها دليل ولا تُحَدّ بحَدّ. وأن الوجدانيات المحسوسة لا تُحَدّ،فكيف بهذه؟.
على أن كلامهم في العلوم الخاصة بهم،إنما يكون مع أبناء جنسهم وأهل جلدتهم،المؤمنين بهم وبكلامهم،فلا يُطالبونهم بدليل. وقد إتّفق أهل النظر على أن عدم الدليل لا يوجب عدم المدلول..
وذلك أن القوم لما إستقامت ظواهرهم وبَواطنهم على الطاعات وإتباع السنة،قولاً وعملاً وحالاً،قَوي نور إيمانهم،فتَثوّروا (أي بَحثوا) قاموس القرآن والسنة،إذ ذلك بُستانهم الذي فيه يتنزهون وفي أرجائه يتردّدون،ظهرت لهم منها أشياء كانت مُندمجة مَستورة عن العموم،وما هي بخارجة عن الأصل الذي هو الكتاب والسنة،ولا هي زائدة عليه،حتى يُقال: الحقيقة غير الشريعة،كلاّ وحاشا،وإنما ظهرت أسرار الكتاب والسنة وإشارتهما ظهور السمن من اللبن،عندما خُضّ وحُرّك،فهل يُقال: السّمن ليس من اللبن؟ وإنما كان السمن باطناً في اللبن،فظهر منه عندما خضّ،بصورة غير الصورة المعروفة من اللبن،وهو هو..
فإقْبَل يا أخي ما جاءك من كلام أهل الله.. فما فَهمته على وجهه فتلك الغنيمة الباردة،وما إعتاص عنك فهمه فكِله إلى أهله،كما تفعل في متشابه الكتاب والسنة،مع التصديق به،إلى أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده،بدَلالتك على من يفُكّ لك مُعمّاه ويُفصح لك عن معناه.. فإياك يا أخي أن يصُدّك صادّ أو يُعارضك مُعارض عن محبّة هذه الطائفة العليّة والتصديق لكلامهم،فإن محبتهم عنوان السعادة،والإعراض عنهم عنوان الشّقوة.
== (درجات الإبتلاء): ما يحُلّ بالإنسان من الآلام التي لا تُوافق الطبع،ثلاثة أنواع: (مُصيبة)،وهو ما يَصحبه التسخّط والإعتراض،وهو خاص بالكفار وبعض ضَعفة الإيمان. و(إبتلاء تَمحيص وإختبار)،وهو الذي يصحبه الصبر وعدم التسخّط،وهو لأهل الإيمان الكامل. و(رفع الدرجات)،وهو ما يصحبه الرّضى ويحصُل به الترقّي في درجات القُرب،وهو خاص بخاصّته الخاصّة من الأنبياء والكُمّل من ورثتهم.. فما يحُلّ بالكفار،وضعفة الإيمان،فهو مُصيبة. وما يُصيب خاصة المؤمنين،فهو تكفير سيّئات. وما يُصيب خاصة الخاصة،كالأنبياء والصالحين،الأمثل فالأمثل،فهو ترقّي درجات ونعيم خَفيّات..
== الموجودات،عند الطائفة العَليّة،لا وجود لها إلا في المَدارك،لا في نفس الأمر،وإنما الوجود له تعالى،والموجودات نِسَبه وإعتباراته وتعيّناته وظُهوراته،وكلها أمور عدمية ظهرت في المدارك البشرية للحجاب الذي وُصفت به،وهو الجهل. والوجود الذي نُسبت إليه الموجودات،وجود خَيالي،فليس هو عند التحقّق عَينُها ولا غيرها،كما أنه ليس عين الحق تعالى ولا غيره.
فليس الوجود الحقيقي إلا له تعالى. والعالم كلّه،أعلاه وأسفله،له الوجود الخيالي المجازي.
== الحق تعالى يشاء بعباده ما عَلمه منهم أزلاً،وهو ما تقتضيه حقائقهم ويطلبونه بإستعدادهم،من خير وشرّ وتوحيد وكُفر. فمشيئته تابعة لعلمه،وعلمه تابع لمعلومه،ومعلومه منه: مُهتَد وضال،ومُوحّد ومُشرك،وشقيّ وسعيد،وصادق وكاذب. فإن مخلوقاته تعالى مظاهر أسمائه،وأسماؤه منها ما يقتضي الجمال والرحمة،وهو حظّ أهل السعادة وأصحاب القبضة اليُمنى،ومنها ما يقتضي الجلال،وهو حظ أهل الشّقوة وأصحاب القبضة الشّؤمى.
فمشيئته تعالى لأمر ليست عُنواناً على محبّته له ورضاه به،فإنه لا يرضى لعباده الكفر،وقد شاءَ كُفر كثيرين منهم. وإنما المشيئة عُنوان على أنه سَبق علمه أزلاً بما يشاؤه أبداً. فلو كان كل ما يشاؤه بعباده خيراً للَزم أن يكون إرسال الرسل وتشريع الشرائع عَبثاً،فإنها جاءت بالأمر والنّهي وبيان قبضة اليمين وقبضة الشمال..
== يا عجباً ممّن يَرمي الطائفة العليّة بالحلول والإتحاد والإمتزاج؟ فكيف يَحُلّ الوجود في العدم؟ أم كيف يتّحد الحدوث بالقِدَم؟ أم كيف يُتصوّر إمتزاج المعاني بالكَلِم؟.. فلا وجود،قديماً ولا حادثاً،إلا وجوده تعالى. ولا حياة،قديمة ولا حادثة،إلا حياته تعالى. فإن الحياة هي إقتضاء الوجود للفعل والإدراك،فدخل في الفعل جميع ما هو من قَبيل الأفعال،وفي الإدراك جميع الصفات الكمالية..
وحيث كان الوجود ليس إلا له تعالى،وتوابع الوجود ليست إلا له حقيقة. فمُحال أن يكون الوجود لغيره حقيقة،لأن الوجود حقيقته واحدة لا تتعدّد ولا تتبعّض. كما أنه من المُحال أن تكون الصفات التابعة للوجود لغيره تعالى حقيقة،إذ الصفات لا يظهر بها غير من هي له أبداً. فالكُلّ منه له.
والمُسمى (خَلق الله،وغَير الله)،إنما هي تجريدات جَرّدها الحق من نفسه لنفسه في نفسه.. كرجع الصّدا،فإنه ليس هنا إلا الصوت حقيقة وعلماً،وهو إثنان مَجازاً ووَهماً..
== مقام النبوة أعلا من أن يتكلّم فيه برأي أو قياس،وأعَزّ من أن يُدرك لغير نبيّ. فما عَلم العلماء من مقام النبوة والأسماء،إلا ما علمه الناس من النجوم عند ظهورها في الماء. فالحذر الحذر من الخوض في النبوة والأنبياء مطلقاً،والله يعصمنا وإياكم من الزّلل في القول والعمل.
== لا يُقال: الحق تعالى قادر على إيصال المنافع من غير حُصول ضَرر لأحد،لأنا نقول: الحقائق الإمكانية لها إرتباطات مع بعضها،فمنها لوازم وملزومات،وتوابع ومتبوعات. فهو تعالى يفعل ما يريد ويُريد ما يَعلم. وما علم إلا ما هو المعلوم عليه في ثبوته وعدمه،فلا يوجِد شيئاً إلا كما عَلمه..
== أخبر تعالى أن له نفساً،أي ذاتاً،وأن له كلاماً وقَولاً وكلمات. وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أن له نفساً،قال: (إن نفس الرحمن يأتيني من قِبَل اليمن). والنفس يستدعي مراتب تمييزه وتكييفه،كمخارج الحروف في الشاهد..
فالذات تُقابل الذات،والأسماء بالأسماء،والأفعال بالأفعال،والأحكام بالأحكام،والأمر بالأمر،والنهي بالنهي،والطاعة بالطاعة..
فلا يُمكن أن يَخلق الخالق ويفعل الفاعل،شيئاً ليست له منه نسبة بوجه من الوجوه أو إعتبار من الإعتبارات. فقد تقرّر عند أهل هذا الشأن،الذين أعلمهم الله تعالى بحقائق الأشياء،أن الشيء لا يُنتج شيئاً يكون ضدّه أو نقيضه،قال تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته) أي على ما يُناسبه،لا على ما يُناقضه ويُضادّه. ولأن نتيجة الشيء هي أثره الحاصل منه،فهي من لوازمه. ومن المستحيل أن يكون لازم الشيء ضدّاً أو نقيضاً له..
== الممكنات،من حيث حقائقها،هي شؤون الحق تعالى في التعيّن الأول،فلا يجوز أن يؤثّر فيها من هذه الحَيثيّة. ولذا يقول إمام العارفين محيي الدين: [ليس ثَمّة شيء يؤثّر في شيء،وإنما المَدَد يَصل من باطن الشيء إلى ظاهره]،والنور الوجود الحق يُظهر ذلك..
== (المعدومات): المعدومات أربعة أقسام: قسم معدوم ولا يصحّ وجوده،كالشريك للباري تعالى. وقسم يجب وجوده وجوباً إختيارياً،كشخص من الجنس الموجود. وقسم يجوز وجوده،كعُذوبة ماء البحر في البحر. وقسم لا يصحّ وجوده قطعاً إختيارياً،لكن وُجد شخص من جنسه،هذا على ما يجوز وجوده وما لا يصح إختياراً،والمُراد الشخص الثاني من الجنس فصاعداً.
فأما القسم المعدوم الذي لا يصحّ وجوده،وهو المستحيل،فلا يتعلّق به علم أصلاً،لأنه ليس شيئاً،فهو عدم محض. والعدم المحض لا يتصوّر تعلّق العلم به،لأنه ليس على صورة ولا مُقيّد بصفة.
وما عدا هذا،من أقسام المعدوم،فقد جعلناه إما وجوباً أو جوازاً أو مُحالاً إختيارياً،مع فرض وجود شخص من الجنس،وكلها راجعة إلى الوجود،وما كان راجعاً إلى الوجود فالعلم يتعلّق به..
فالعلم إنما يتعلّق بالمعدوم لتعلّقه بمثله الموجود،وهذا هو إدراك المُفصّل في المجمل مفصّلاً،وهو مُختصّ بالحقّ. وأما نحن معاشر الحوادث،فما نُدرك المجمل إلا من المفصّل الحادث الحاصل في الوجود،ثمّ أدركنا في ذلك المجمل تفصيلاً مُقدّراً،يُمكن أن يكون أو لا يكون. فهذا هو الفرق بين علم الإجمال المنسوب إلى الحق وإلى الخلق: فالحق يعلم التفصيل في الإجمال،وهو لا يدلّ على أن المجمل مُفصّل،وإنما يدلّ على أنه يقبل التفصيل إذا فُصّل بالفعل. فليس العالَم،عُلواً أو سُفلاً،دنيا وأخرى،إلا صوراً تعقُب صوراً،والعلم يسترسل عليها إسترسالاً،وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: (حتى نَعلم) مع علمه،قبل تفصيلها،أنها تتفصّل،لا أن علمها مُفصّلة حال إجمالها،فإنه جهل لا علم. ومعنى الإسترسال هو أنه تعالى يعلمها بالعلم الكُلّي الشامل لها على سبيل التفصيل،فيَسترسل عليها من غير تفصيل الآحاد لتعلّقه بالشامل لها من غير تمييز بعضها عن بعض. وتعلّقه بها على هذا الوجه ليس بنقص،فإنه تعلّق بها على ما هي عليه،وكشف الشيء على ما هو عليه هو العلم. وقد شُنّع على إمام الحرمين أبي المعالي حيث قال: [علم الله تعالى إذا تعلّق بجواهر لا نهاية لها،فمعنى تعلّقه بها إسترساله عليها،من غير فرض تفصيل الآحاد،مع نفي النهاية].. فمذهب الفلاسفة نَفي علمه تعالى بالجزئيات الشخصية،إلا على وجه كُلّي. وكلامنا إنما في المعدومات الشخصيّة،التي لا تدخل في الوجود بعد..
== كما أن آلة التصوير لا تَظهر عنها صورة إلا بنور الشمس،فإذا كانت الشمس محجوبة لا تظهر عنها صورة ما قابلها. كذلك يُقال في العلم الإلهي: لولا النور الوجود الذات،ما ظهر شيء من المخلوقات. لأن المخلوقات ظلّ الحق تعالى،ولا يظهر الظلّ،عادة وشَهادة،إلا بنور وشاخص وشيء يظهر الظلّ فيه. فالشاخص مرتبة الأسماء،والذي يظهر الظلّ فيه أعيان الممكنات،والنور الوجود. فعندما يُشرق النور على الشاخص يَظهر الظلّ في أعيان الممكنات..
== (قاعدة ذهبية): كلّ شيء فيه ضَيق وحَرج على المُكلّف،فليس هو من دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،ولا من مِلّته،ولا جاء به. وكل ما كان فوق الإستطاعة فهو حَرج،فليس من الدين. ومن المُرجحات عند أهل الله تعالى،الذين تَعدُّوا على قواعد الشريعة المحمدية،أن يكون أحد القولين والدّليلين أسْمَح وأسهل من مُقابله،فيترجّح بذلك على ما هو أصعب وأضيق.
فاحفظ هذه القاعدة،وإعمل عليها على أي مذهب كُنت. وإن خالفت الفقهاء الذين حَجّروا على أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما وسّع الله به عليهم،فضيّق الله عليهم أمرهم في الآخرة،وشدّد عليهم المُطالبة والمُحاسبة يوم القيامة،لكونهم شدّدوا على عباد الله أن لا ينتقلوا من مذهب إلى مذهب في نازلة،طلباً لرفع الحرج،وإعتقدوا أن ذلك تلاعُب بالدين،وما عرفوا أنهم بهذا القول مَرقوا من الدين..
== (اللطيفة): في الإصطلاح: كل إشارة دقيقة المعنى تَلوح للفَهم،لا تَسعها العبارة،وهي من علوم الأذواق والأحوال،فهي تُعلَم ولا تُنقال،لا تأخذها الحُدود وإن كانت محدودة في نفس الأمر..
== أهل الطريق مُتفاوتن فيما يَهبهم الحق من العلوم،تفاوُتاً لا ينحصر ولا ينضبط إلا له تعالى،أكثر من تفاوت علماء الرّسوم بما لا يتقارب..
== (العالَم مَظهر الحق): الممكنات مع الحق تعالى،من حيث مرتبة الألوهة،كالمُتضايفين،لا تثبُت الإضافة إلا بهما معاً. فكما نطلبه نحن لوجود أعياننا الثابتة في العلم والعدم،يطلُبنا هو تعالى لظهور مظاهره،فإنه لا مظهر له يَظهر به تعالى إلا نحن معاشر الممكنات،لأنه إنما يظهر بأسمائه،ونحن آثار أسمائه أو نحن أسماؤه.
لكن بين الطلبتين فُرقان: فهو يطلبنا ليؤثّر فينا،ونحن نطلبه لنتأثّر به. فلا ظهور لنا إلا به،فبه عرفنا أنفسنا لأنه وجودنا. ولولا خلعة الوجود التي خَلعها علينا،لما كُنّا نعرفه؟ فما عرفناه إلا به.. وبمعرفتنا نفوسنا عَرفناه،فإنها مقدمة معرفة الربّ،ومعرفة الربّ نتيجتها.. فانظر ما أعجب هذا الأمر. وبنا تحقّق ما يستحقه الإله من المَعبودية،فإن معبوداً بغير عابد،وجوداً أو تقديراً،غير معقول..
أظهرنا تعالى،معاشر الممكنات،وأخفى نفسه،وذلك من مرتبة الإسم (الباطن) بالنسبة لعامة المحجوبين. فلا يُرى الحق عندهم ولا يُدرك بمُشعر من المشاعر،وإنما يُدرك بالعقل من وراء حُجب الصفات. لأنه تعالى عندهم مُباين لخلقه،مُنفصل عنهم بالذات والصفات والأحكام والأفعال،فلا يَشهدون إلا خَلقاً.
أظهر تعالى نفسه وأخفانا معاشر الممكنات المخلوقات،وذلك في مرتبة تجلّيه بالإسم (الظاهر) لأهل وحدة الشهود. فإنهم لا يشهدون إلا حَقاً.. فالحق هو الظاهر البادي،ولكن حَكمت عليه أحوال الممكنات فأخفته عن المحجوبين أصحاب العقول..
والطائفة الثالثة: أهل وحدة الوجود،الذين يَشهدون حقاً وخَلقاً،يشهدون البطون في الظهور والظهور في البطون،لا يحجبهم هذا عن هذا..
== (الخواطر): التصرّفات الإلهية في العبد،أول ما تظهر في باطنه،وهي المُكنّى عنها ب”الخواطر”. من المُحال أن يَظهر على ظاهر العبد،خيراً وشراً،قبل وروده على باطنه بطريق الخاطر. ولكن أكثر الناس لا يعلمون،فلا يُلقون للخواطر بالاً،فلا يعرفون أنها رُسُل الله تعالى إلى قلوب عباده..
قالت الطائفة: [كُن مع الله ولا تُبالي].. فما أخبرنا تعالى بأنه معنا إلا لنُعانق الآداب معه،ونُديم التوجّه إليه،ونُراقب ونَترقّب ما يورده علينا بواسطة رُسله المسماة بالخواطر..
== (ولله جنود السموات والأرض): أخبر تعالى أن الجنود التي في الأرض،والجنود التي في السماوات،كلّها مملوكة لله وتحت قبضة حُكمه وتصرّفه. والمُراد بالجنود السماوية: الأسماء الإلهية،لعُلوّ مكانتها. والجنود الأرضية مَظاهرها. فالكل في قبضة الإسم الجامع (الله)،وإن تباينت تصرّفاتها ومَطالبها وما تقتضيه ذواتها.
وهذه الجنود تتنازع مع بعضها بعضاً،فتُنازع أسماء الجمال ومظاهرها أسماء الجلال ومظاهرها،كما نازعت الرحمة الغضب وسابَقته فغلبته وكان الدولة لها.. فليس المراد أن لله جنود السماوات والأرض،يُقابل بها جنود مُقابلة له ومُعاند. فإن الله لا يُقابله شيء يَستعين عليه بجنود السماوات والأرض..
== (سورة الزلزلة): ورد في الخبر أنها تَعدل رُبع القرآن،وذلك بالنسبة إلى الإنسان وما يتعلّق به.
فإن الإنسان له أربعة مواطن: موطن الدنيا،وموطن البرزخ،وموطن ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار،وموطن الآخرة.
والقرآن جامع لأحكام هذه المواطن كلها،ولِما تعلّق بها على سبيل التفصيل. وسورة الزلزلة مُتضمّنة لموطن من هذه المواطن،وهو ما بين البعث وإستقرار أهل كل دار في دارهم،فهي تعدل ربع القرآن إجمالاً.
== (إيمان فرعون / الموقف 265): ألهمني الحق تعالى: أن فرعون عاش ما عاش سعيداً سيّداً،بل إلهاً يُعبد. ولما حضرت وفاته قبضه الله،بعد توبته وإيمانه،طاهراً مُطهّراً شهيداً،وهو في الآخرة مَلك من ملوك الجنة،وأكثر الناس يأبون عليه ذلك..
== (القرآن والحقائق العرفانية): دواء العقائد الفاسدة والأخلاق الرديئة الكاسدة،وهو النور الذي به تُبصر الأشياء كما هي حقاً أو باطلاً.. وهو بعينه للذين لا يؤمنون وَقر وصَمَم في آذانهم،فلا يسمعون حقاً: (كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون).. وكما هو وَقْر في آذانهم،هو عَمى في بَصائهم وأبصارهم. يزيد الظالمين خَساراً إلى خسارتهم،ويزيد الكافرين رجساً إلى رجسهم..
هذا مع وحدة الكلام القديم.. ولكن للقوابل أثراً في المقبول،فتقبله بحسب إستعداداتها وأمزجتها وما تقتضيه حقائقها،إنحرافاً وإعتدالاً..
وهكذا هي الحقائق العرفانية التي تكلّم بها العارفون بالله أو أودعوها كُتبهم،كالقرآن الكريم،يُضلّ بها كثيراً ويَهدي بها كثيراً.. فإن كلام أهل الله في الحقائق الإلهية والتوحيد الشرعي التنزّلي،إنما هو تنزّلات إلهية وإلقاء رباني وإلهام روحاني،يُنزله الحق في قلوبهم فتنطق به ألسنتهم. وذلك إما ناشئ عن تَقوى.. أو وَهْب مَحض،لا ثمرة عمل ولا نتيجة حال ولا مقام..
وقد رأينا ممّن ضَلّ بسماع كلام أهل الله تعالى في الحقائق أو بمطالعة من غير فَهم لها على مُرادهم،خَلقاً كثيراً،فضلّوا وأضلّوا..
فإن العلم محبوب للنفوس طبعاً لشَرفه،لا سيّما علم ما غاب عن أكثر الناس،لا سيّما في الإلهيات. فتتوجّه النفس لذلك،فتَبرُق لها بارقة من الجناب الإلهي عند توجّهها،إذ حقيقة النفس تُعطي ذلك على أي حالة كانت،من جميل وقبيح وعلى أيّ نِحْلَة كانت من النّحل،لكن لا على الكمال ولا على ما يُعطي السعادة. فتقصد النفس تلك البارقة،فتنطفئ البارقة،فتضلّ النفس وقد فارقت السبيل التي كانت عليها. وتُريد النفس أحياناً الرجوع إلى ما كانت عليه،فلا يتأتّى لها لأنها تتخيّل أن ذلك نُزول وإنحطاط من الذروة العُليا،ومُشاركة للعامة والسوقَة فيما هم عليه،فلا هي بالحاصل ولا الفائت: (مثلهم كمثل الذي إستوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون).. فيصيرون حينئذ إما حُلوليّة أو إتّحادية أو إباحية،أو ما شاء الله من الضّلالات،وهم مع هذا يتخيّلون أن ما هم عليه هو طريق أهل الله.. فقَنعوا بكلمات من الحقائق يتمشدقون بها في المجالس.. فلا يرفعون بالأوامر والنواهي الشرعية رأساً،يستهينون بالأعمال الصالحات وأنواع القُربات،ولا يُناجون الحق بكلامه في الصلاة والتهجّد في الليالي المُظلمات: (أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون). وعند هذا يُقبل عليهم الحارث (إبليس) إقبال الوالد المُشفق على ولده الوحيد،بالإلقاءات والواردات والتنزّلات الشيطانية،وقد مَلّك الله لإبليس الخيال،فيُخيّل لهم ما أراد ممّا يزيدهم به ضلالاً ووبالاً وخساراً..
== قال بعض الحكماء: [رب منحة في طَيّها محنة،ورب نقمة في طيّها نعمة].. وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً) فتستعيذون بالله منه وتسألون رَفعه،(وهو خير لكم) لو علمتم،(وعسى أن تحبوا شيئاً) فترغبون فيه وتسألون الله حصوله،(وهو شر لكم) لو علمتم كفاية..
قال بعض ساداتنا: [كُلّ داعٍ غير مُفوّض،فهو مُستدرج]. فيسأل العبد الخير من حيث يعلمه تعالى خيراً،والسعادة من حيث يعلمها الحق سعادة. ويستعيذ من الشقاء والبلاء،من حيث يعلم تعالى ذلك كذلك. فلا يسأل السعادة والخير فيما يتخيّله ويظنّه من أسبابها،على القطع والجزم،والعكس بالعكس،فإن من أسمائه تعالى “اللطيف” وهو الذي يُخفي الأشياء في أضدادها..
== (مراتب الإستغفار): الإستغفار على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: (إستغفار خاصة الخاصة): إستغفار الأنبياء ليس هو من مُقارفة الذنوب والمُخالفات كغيرهم،وإنما إستغفارهم بمعنى طَلب الغفر،وهو السّتر عن المخالفات والحيلولة بينهم وبينها فلا يُلامسونها..
النوع الثاني: (إستغفار الخاصة): وهو طلب الغفر والسّتر،بمعنى عَدم الفضيحة. وإذا إنتفت الفضيحة بالذنب،إنتفت المؤاخذة به لا مَحالة. وهذا النوع هو المُشار إليه في تفسير “العَرْض”،الوارد في الحديث الصحيح: (يا عائشة ذلك العَرْض،وإلا فمن نوقش الحساب يَهلك) الحديث. وصفة العرض: أن يضع الحق تعالى كَنفه على عبده المؤمن،فلا يراه نبيّ مُرسل ولا مَلك مُقرّب،فيُقَرّره الله بذنوبه،فلا يَسعه إلا الإقرار،فيقول له: قد سَترتها عليك في الدنيا،وأنا أغفرها لك اليوم..
النوع الثالث: (إستغفار العامة): وهو طلب الستر عن العقوبة والمُؤاخذة بالذنوب،لا يُبالون بالفضيحة بين الخلائق..
== (الحركات النفسية): الحركات النفسية الخمسة التي تتقدّم الفعل هي: “الخاطر”،ويُقال له نَقْر الخاطر،ويُقال الهاجس،ويُقال السيّد الأول. ثمّ “الهَمّ”،ثم “العزم”،ثم “القصد”،ثم “النيّة” تُقارن الفعل الظاهر.
و”الهَمّ” يُعطي الحيرة في الأمر: الفعل والترك،ولا يكون إلا في المعاني،لا يكون في الأعيان..
(ولقد هَمّت به وهَمّ بها): هَمّ سيدنا يوسف بها،هو أن يُظهر لها رحمته بها وشَفقته عليها،وأنه يُحبها حُباً إلهياً روحانياً أسمائياً. حيث إن المرأة،من حيث هي مظهر مرتبة الإنفعال،التي بها ظهرت مرتبة الفعل وهي مرتبة الأسماء. والأسماء أشدّ حُباً لمرتبة الإنفعال من محبّة مرتبة الإنفعال للأسماء. ومن هذا المشهد حُبّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،وإلى كل كامل من نبيّ ووليّ،النساء،فلا تجد كاملاً إلا وهو يُحبّ النساء لهذا الشّهود..
== ما يُسميه المتكلمون “صفة”،يُسميه أهل الله “نِسْبة”،حيث لم يرد لفظ الصفة في حقه تعالى،بل نَزّه تعالى نفسه عن الصفة..
== (ولنبلونكم حتى نعلم): أي لنختبرنكم بالتكاليف،حتى نعلم منكم،من حيث ظهورنا بكم،في مرتبة وجودكم الحسّي،ما علمنا منكم في مرتبة ثُبوتكم. فالعلم واحد لا يتعدد ولا يتجدّد ولا يتغيّر تغيّر المعلوم،وإنما المعلوم هو الذي تتوارد عليه الأحوال وتتبدّل عليه المواطن فتختلف عليه الأحكام..
== (النّسخ): حَدّ النّسخ على مذهب من يرى الأحكام الإلهية مُعَلّلة بمصالح العباد،وهو الحقّ،فتختلف مصالح الأوقات فتختلف الأحكام بسببها. فما إنْتَسخت الأحكام والشرائع وإختلفت إلا لإختلاف النّسب،وما إختلفت النّسب إلا لإختلاف الأحوال،وما إختلفت الأحوال إلا لإختلاف الأزمان..
== (أنواع الكُتُب): للحق تعالى ثلاث كتب: كتاب الإستعدادات الكُليّة،وكتاب العلم القديم،وكتاب اللوح المحفوظ.
== (الأسباب): الأسباب مأمور بها عند الجميع،وإن إختلفت أحكامهم فيها،لأنهم علموا أن العالم على قسمين: عالم أمر،وعالم خلق. فعالم الخلق جميعه لا يوجده الله إلا عند سبب،سُنّة الله وحكمته إقتضت ذلك. فلهذا كانت كل ذرّة من ذرّات عالم الخلق،لها وجهان: وجه إلى الحق تعالى،ووجه إلى سَببها. وعالم الأمر ليس له إلا وجه واحد: (ألا له الخلق والأمر)..
== إعلم أنه لا مُناقضة في كلام النبوة،ولا مُدافعة.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من أوتي الحكمة وفصل الخطاب،يُخاطب كل إنسان ويُعالج جَهالته ويُداوي علّته،حسب إستعداده الحالي الجُزئي،وعلة قدر علّته. فربما نَهى واحداً عمّا أمر به آخر،وذلك في السنّة كثير. وربما أجاب سائلين مُتعدّدين عن شيء واحد بأجوبة مختلفة،كما ورد في الصحيح: أنه سُئل عن أفضل الأعمال،فقال لواحد: الجهاد،وقال لآخر: الإيمان،وقال لآخر: الصلاة لأول ميقاتها.. ونحوه. فيُخاطب كل شخص بحسب ما يراه قابلاً له في الحال،فإنه أعلم الخلق بالقابليات والإستعدادات. فيُربّي أصحابه ويُرقّيهم من حالة سُفلى إلى حالة وُسطى،إلى حالة عُليا،إلى حالة أعلى. والطبيب الماهر ربما ساعَد العلّة،أحياناً،لما يرى من إستعداد الجسم لها وقابليته. ويرى العلّة مُستعصية لذلك،طالبة للزيادة. فإذا بلغت حَدّها عالجها بما يقطعها. وربما سعى في توقيفها فقط،لأنه يرى الجسم غير قابل لعلاج يَقطعها. وربما أثار علاجها داء أعظم.. كُلّ هذا لما يراه من قابليات الأجسام،ولا فرق بين طبّ الأرواح وطبّ الأجسام في القابليات والإستعدادات..
فأهل الحديث ورُواته ينقلون الحديث كما يَسمعونه،ويضبطون ألفاظه وحروفه. وأرباب القلوب،إذا سمعوه عَرفوا كشفاً حديثه صلى الله عليه وسلم مع مَن،وفي أيّ مرتبة هو المُخاطَب بذلك الحديث،وفي أيّ مقام هو؟ فلا تُشكل عليهم الأحاديث الشريفة ولا يضطربون،لأنهم عرفوا خطاباته صلى الله عليه وسلم تتعدّد وتتنوّع بتنوّع إستعدادات المُخاطبين وقابلياتهم..
والرسل وجميع الأنبياء “أهل مقام”،فلا يتكلمون إلا بالظواهر المُحتملة للتأويل،وكلامهم في الحال قليل جداً،ولهذا كان كلامهم كلّه يحتمل التأويل. بخلاف الأولياء،فإنهم إذا كانوا في الحال أجابوا بالنصّ،وإذا كانوا في المقام أجابوا بالظواهر المحتملة للتأويل.
وقد بُعث صلى الله عليه وسلم لجاهلية جَهلاء،فكان يسوسهم بلُطف وحكمة. وكانت العرب في جاهليتها تستشفي بأنواع من الأدوية،كما ورد في الخبر: (الشفاء في ثلاث: شربة عسل،وشرطة محجم،وكيّة نار) الحديث،وغيرها من التمائم والرّقى والتِّوَلة والخرز والودع والأصنام وغير ذلك،ممّا فيه شرك. ولا يمكن أن يرُدّهم صلى الله عليه وسلم عما إعتادوه من الباطل وإعتقدوه دفعة واحدة،ولا يُبقيهم مع جميع الأسباب لما في بعضها من الشرك. وقد ورد في الخبر: (من علّق تميمة فقد أشرك)،(إن التّولة من الشرك).. فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (الشفاء في ثلاث)،ولم يُرد الحصر ولا الإخبار بذلك فقط. وإنما أراد منهم ترك ما هو شرك أو ما ظاهره شرك.. وكما قال أيضاً في الخبر: (إنما الشؤم في ثلاث) بصيغة الحصر والتأكيد،ولم يرد إثبات الشؤم في هذه الثلاثة،وإنما أخبر عمّا تَقرّر عندهم.. ثم قال لهم بعدما رفعهم من حضيض الشرك الظاهر: (إن كان في أدويتكم خير) يعني شفاء،فأدخل عليهم الشكّ في الإستشفاء بهذه الثلاثة،ليعلمهم بعد أن الله هو الشافي عند هذه الثلاثة وغيرها،إذا أراد الله الشفاء..
== (الموقف 281): بحث فيه الشيخ الأمير طاعة وعبادة “السجود”.. قدّم مبحثاً قيّماً فيها..
== (ترك الأسباب): من يعتقد في الأسباب العادية عقيدة أهل السنة،ولكن يضطرب عند فَقْد الأسباب ويتشوّش لغلبة الطبع عليه. فهذا هو الذي أمره سادات أهل الطريق المُرشدين ب”ترك الأسباب”،ليحصُل على كمال اليقين والطمأنينة بأنه تعالى المُنفرد بالخَلق والإيجاد والتدبير. فإنهم رأوا حصول المُريد على مقام التوكل،مع تعاطي الأسباب،غير ممكن أو مُتعذّر. لا أنهم فعلوا ذلك لكون ترك الأسباب أفضل من تعاطي الأسباب على الطريقة المشروعة التي يعرفها أهل الله..
== (كل شيء هالك إلا وجهه): أي مَظهره،أي مظهر كان،لا مظهر خاص. فليس المُراد بالوجه الذات،وإنما على المظهر. مثل إطلاق “الأول” عليه تعالى،بمعنى أنه أول بالنسبة إلى المظهر لا الذات. لأن أوليّة الحق،من حيث ذاته،ليس بمعنى الأول الذي له ثان. فإن أولية الحق لا ثاني لها،من حيث ذاته،وإنما من حيث مظهره. فلذا جامَعت أوليّته آخريّته،فهو أول بالنسبة إلى المظهر،آخر بالنسبة إلى المظهر..
== إمتاز الأنبياء عن الأولياء بالمنزلة الزُلفى والمرتبة العليا،مرتبة النبوة. وأما العلوم،فقد يكون عند الوليّ من العلوم ما ليس عند النبيّ ،تَشريفاً لعلماء هذه الأمة المحمدية لسيادة نبينا صلى الله عليه وسلم وشَرفه على كل مخلوق. وقد ورد: (علماء أمّتي كأنبياء سائر الأمم)،وفي رواية: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل). والمُراد بالعلماء الأولياء،لا مطلق العلماء. ومن هذا الباب قول عبد القادر الجيلاني: [معاشر الأنبياء أوتيتم اللّقب،وأوتينا ما لم تُؤتَوه]،وقول أبي الغيب إبن جميل: [خُضنا بحراً وقفت الأنبياء بساحله]،وقال سيدنا (أي الشيخ الأكبر): [في هذه الأمة من لَحقت رُتبته رُتبة الأنبياء،لا في التشريع]،ونُقل عنه أنه قال في بعض كتبه: [قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك أعطيت ما لم تُعط الأنبياء غيري]..
ومعلوم أن الكامل من الأولياء له ثلاثة أثواب: “ثوب إيمان” وهو أن يُظهر التصديق بقول القائل،و”ثوب كُفر” وهو أن يستُر ما عنده،و”ثوب نفاق” وهو أن يُظهر خلاف ما أكَنّ. وكل واحدة من هذه الثلاثة مُرتبطة بحقيقة إلهية،فابحث عنها..
وإن أخبر الكامل بشيء من الكَوائن وإستقرب زمانه،وما وقع،فذلك أن الكُمّل ينظرون المعلومات في الحضرة المُنزّهة عن التحديد في الزمان،المُجرّدة عن الغواشي الغريبة. فعلمهم حُضوري،فلا يقدح ذلك في إختباراتهم عن الكوائن..
== بعض الصحابة،منهم: سلمان الفارسي وأبو ذرّ والمقداد وخباب وجابر وأبو سعيد الخدري وزيد بن أرقم. وبعض التابعين وأتباع التابعين،وبعض الأئمة،كسفيان.. إلى هلمّ جرّاً. يُفضّلون عليّاً بن أبي طالب على الصديق رضي الله عنهم أجمعين..
== (الدعاء): كُلّ داعٍ غير مُفوّض فهو مُستدرَج. ولذا قال سادة القوم: [الفقير ليست له إلى الله حاجة] يُريدون: ليست له حاجة على التّعيين،وإنما يسأل الخير من حيث يعلمه الله خَيراً،ويستعيذ من الشرّ من حيث يعلمه الله شرّاً..
قال صلى الله عليه وسلم: (أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة). لا يصحّ حَمل الحديث على حُسن الظنّ بالله تعالى كما قيل. فإن العبد جاهل بمصالحه،فلا يُناسبه إلا تفويض الخيرة للعالِم ببواطن الأمور وعَواقبها. ولا تفويض مع تيقّن الإجابة،لا سيما أهل الله الذين أطلعهم وأعلمهم بسرّ القدر،فعلموا أن الإستعدادات الكُليّة هي الطالبة المُجابة.. وليس للحق تعالى إلا إعطاء الوجود لما أنت مُستعدّ له. فهو الجواد الذي لا يبخل،الحكيم الذي لا يجهل..
ومع هذا كُلّه: فمشروعية الدعاء،وكونها مُخّ العبادة،إنما ذلك لإظهار الذلّة والفاقة والعبودية التي هي صفات ذاتية لكل مخلوق،لا لقضاء الحوائج ونَيل الرّغائب. هيهات هيهات،كيف يكون دُعاؤك اللاّحق سَبباً في القضاء السابق؟ جَلّ حُكم الأزل أن يُضاف إلى الأسباب والعِلَل..
== الزمان ليست له شيئية وجودية،فما هو جوهر ولا عرض،فيُذَمّ أو يُحمد أو يُعاتب،وإنما هو نسبة لا وجود لها خارجاً. والذي يتوجّه إليه الذمّ أو العتاب أو الحمد،إنما هو الموجود في الزمان،وليس إلا أنت. فأنت هو المُعاتَب،وأنت هو الزمان،فذَمّك للزمان جور باطل.
== (الروح والجسم): النفس المُدبّرة للجسم،المُسمّى مكاناً،مُجرّدة عنه،ليس لها فيه إلا التدبير من غير حلول.. فكما أن ربّ الدار الحقيقي وبانيها،وهو الحق تعالى،ليس له مكان،فكذلك أنت ليس الجسم لك بمكان ولا أيْن. فلا تشتغل به الإشتغال الكُلّي عما خلقك الحق لأجله،وهو عبادته تعالى. فما أسكنك فيه لتَعمُره،وإنما ذلك لتَعبُره..
وأنْس المخلوق بالله،ليس هو من حيث ذاته تعالى،فإنه مُحال. إذ لا أنس إلا بمُناسب،ولا مناسبة بين المخلوق والذات العليّة. وإنما يكون الأنس من جهة ما يكون منه،وهو آثار أسمائه بالتعطّف والحَنان. هذا هو الحق عند المحققين من أهل الله..
لكل حاسيّة وقوّة حكمة مخصوصة،ليست لغيرها. فلا تنال النفس الناطقة،الروح القُدسيّة،هذه الحكم إلا بواسطة الجسم بما إشتمل عليه. وكذلك الأعمال الصالحة،من الأقوال والأفعال والعلوم والمعارف الإلهية والعقلية،لا تحصل للنفس إلا بواسطة الدار،الجسم..
== (الصّدقة): المُتصدّقون طَوائف: طائفة تُعطي المُتصدّق عليه رحمة به،مع رجاء ما وعد الله به المتصدقين. وهؤلاء لا يُفرقون في صَدقاتهم بين المؤمن والكافر والمُطيع والعاصي،نَظرُهم إلى ما وَرد من الأمر بإختيار الإنسان لصَدقته.
وطائفة أعلى منها،تُعطي المتصدّق عليه لبقاء صورته مُسبّحة لله تعالى،ذاكرة له. وهؤلاء لا يفرقون بين مؤمن وكافر،ولا بين حيوان ناطق وصامت،بل ولا بين حيوان ونبات. نظرهم إلى أن كل صورة،كانت ما كانت،مُسبّحة لله تعالى ما دامت باقية.
وطائفة،وهي أعلى الجميع،وقليل ما هُم،تُعطي المتصدّق عليه لبقاء ظهور آثار الأسماء الإلهية،فإنه لا ظهور لها إلا بالصور،وكل إسم إنهَدّ مَناره خَبت آثاره.
== الشيخ عمر بن الفارض ما كان من كُمّل الوَرثة،بشهادته على نفسه وشهادة غيره من الكُمّل. وهو من أولياء الله تعالى بلا ريب. فإنه رُوي أن وَلده محمد سأله التربية في طريق القوم والسلوك،فقال له: [يا ولدي،أنا ما كملت في نفسي،فاذهب إلى السهروردي]. ونقل الشيخ الشعراني عن شمس الدين الحنفي المصري،أنه سمع مُنشداً يُنشد من كلام الشيخ عمر بن الفارض،فقال: [إن هذا وأمثاله مَلؤوا الدنيا بالعياط،وما شمّوا رائحة من معرفة الله تعالى]. قال بعض من سمع هذا الكلام من الشمس: وقع في قلبي شيء من هذا الكلام،فرأيت في المنام بركة كبيرة مملوءة ماء،والشيخ عمر يَشرب منها بقصبة،فعرفت صدق كلام الحنفي..
== كل ما يُكاشف به الأنبياء والأولياء،ممّا لم يكن وسيكون،إنما هي أمثلة ينصُبها تعالى لهم،ليُعلمهم بالأمر على ما سيكون. وأرواح من لم يوجد غير مُتميّزة من بعضها بعضاً إلا له تعالى،فإن الأرواح قبل إيجاد صورها كالحروف مجملة في الدواة..
== الله تعالى يُحبّ “المؤمن”،ولو كان عاصياً مُرتكباً للكبائر،غير كبائر أهل القطيعة. فإن مرتكب كبائر أهل القطيعة لا يُرجى له خير. ولا تسمع قول من عمّم في المعاصي كلها وفي المؤمنين كلهم،فقال:
تَعصي الإله وأنت تُظهر حُبّه /// هذا لعُمري في القياس بَديع.
لو كان حُبّك صادقاً لأطعته /// إن المُحبّ بمن يُحبّ مُطيع.
فهذا قائل أعجِب بطاعته فإنحجب بما،ويَكفيه جَهلاً قياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق. كأنه ما علم قصة الرجل الذي أوتي به سكران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقال رجل من الحاضرين: “لعنه الله،ما أكثر ما يؤتى به شارباً”. فقال له رسول الله: “لا تكن عَوناً للشيطان على أخيك،أما علمت أنه يُحب الله ورسوله”.. ولذا قال بعض الكاملين: [المؤمن لا تخلو له معصية من طاعة،أقلّها الإيمان بحُرمة المعصية]. ولولا طنّ المؤمن الجميل بربّه،ما عصاه،فإنه يرجو من ربه السّتر في الدنيا والغفران في الآخرة..
== إعلم أن كشف الأنبياء صحيح حقّ لا شك فيه،وكذا مَرائيهم،فإن رؤيا النبي وَحي. وكذا كشف كُمّل الأولياء.
وإنما يدخل الخَلل،أحياناً ناذراً،فيما كوشفوا به،من جهة تَفقّههم فيه وحُكمهم عليه،كما إذا حكموا على الخاص بالعموم أو على العموم بالخصوص،لكونهم إنما كوشفوا بفَرد من أفراد العالم..
== أهل الله مُجمعون على أبدية الجنة والنار،وما يُنقل عن بعضهم أو يوجد في كتبهم من فناء النار وزوالها،فليس المراد منه ظاهره،وإنما مُرادهم بذلك هو ذهاب أنواع عذابها وآلامها عمن فيها،وحُصول اللذّات والأفراح لمن فيها وتنعّمهم برؤية الحق تعالى وقد كانوا محجوبين عنها. ومسكنهم ودارهم هي دارهم،ما خرجوا منها ولا فارقوها..
كما أن أهل الله مُجمعون على عموم الرحمة وحصول الراحة والنعيم لأهل النار،الذين هم أهلها،من مُشرك ومُعطّل،بعد نفوذ الوعيد ولَبثهم في العذاب أحقاباً..
== العذاب وإن تنوّعت مظاهره،فأصله الحجاب،وهو أشدّ العذاب..
== إعلم أن الله تعالى إذا أراد من العبد النظر بالبصر الظاهر إلى ظاهر الشيء،المأمور بالنظر إليه،قال “أنظُر إلى كذا”،فعَدّى النظر ب(إلى) لأن البصر الظاهر لا يُدرك إلا ظواهر الأشياء،أجسامها وسُطوحها وألوانها،لا غير،فلا نفوذ إلى بواطن الأشياء.. قال تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت)،(أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم)..
كما أنه تعالى إذا أراد النظر إلى بواطن الأشياء وملكوتها،قال: “أنظر في كذا”،فعَدّى النظر ب(الفاء)،كما قال تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء). أراد النظر إلى بواطن السماوات والأرض،وباطن كل مخلوق من الأشياء،وملكوت كل شيء باطنه..
العوالم ثلاثة: (عالم المُلك) وهو عالم الشهادة المُدرك بالأبصار الظاهرة،ظاهر لظاهر. و(عالم الملكوت) وهو باطن المُلك،وهو المُدرك بالبصائر الباطنة،باطن لباطن. و(عالم الجبروت) وهو عالم الأسماء المُتحكّم في المُلك والملكوت،وهو المُدرك بالعقول..
فمن أدرك ببصره جسماً مُتحركاً،مثلاً،طلب مُشاهدة مُحرّكه ببصيرته،وإدراك المُؤثّر في المُحرك والمُتحرّك بعقله..
== (من عرف نفسه عرف ربه): معرفة النفس مقدمة وسُلّم لمعرفة الربّ،فإنه تعالى خَلقها ليرتقي بها إلى معرفة الربّ. فمعرفتها أصل،ومعرفة الربّ فرع عنها. فهو تعالى أصل في الوجود،فرع في المعرفة والنفس.
فالنفس مِثْل،بل مثال،مثليّة لغوية لا عقلية،إذ أنه تعالى جعل لكل ما هو عليه من الصفات والنعوت أنموذجاً في صورة النفس،فما فعل الفاعل تعالى شيئاً إلا وله مثله،و(ليس كمثله شيء).
قال تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته) أي كُل عامل إنما يعمل ما يُشاكله ويُشابهه،فافهم.
== قال تعالى لسليمان: (هذا عطاؤنا فامنُن أو أمسك بغير حساب)..
== التحذير الوارد في المنع من الخوض في الذات الإلهية،إنما هو من حيث النظر العقلي والتفكّر الحَدسي.. وأما من جهة الوَهْب الإلهي بالإخبار الرحماني،فقد يفتح الله في ذلك لمن شاء من خواص عباده. وما ورد من الصفات السمعية،الواردة في الكتاب والسنة،التي رَدّتها العقول بتأويل عقلي،كُلّه كلام في الذات العَليّة..
== (اتقوا الله حق تُقاته): المُتّقي الله حقّ تُقاته لا يرى في الوجود إلا الله ومظاهره وتعيّناته،فيتّقي بأسماء الجمال والرحمة من أسماء الجلال والنّقمة..
== المسائل الثلاث التي أظهرها الخضر إنما هي متعلّقة بحوادث كونية،لا تعلّق لها بالألوهية..
== (الربّ): له أربعة معان: (المَلك،والمُصلح،والسيّد،والمَعبود). وكل معنى من هذه المعاني تحته أسماء لا تُحصى..
== الكلّ تحت قبضة الأسماء،فمن خالَف الأمر وافَق الإرادة..
== (خلق آدم على صورته): خلق الحق تعالى النفس الإنسانية على صورة الله أو على صورة الرحمن،وهي واحدة وحدة حقيقية عَدّدتها الصُور الإنسانية لتعدّد الصور،فحدثت لها أسماء وصفات،فقيل فيها: مطمئنة ولوّامة وأمارة.. وهي المُسماة بالأصالة بالإنسان الكامل.
فإن الله تعالى أول ما تجلّى بالنور الذي فتق العماء،كان هذا النور مرآة للتمايُز،فتميّزت صورته المُسماة بصورة الرحمن على سبيل الإنطباع: (ولله المثل الأعلى). فكان الناظر نفسه في المرآة هو الحق تعالى،والمنظور هي صورة الإنسان الكامل. فإستتر الحق وإنحجب بظهور النفس الإنسانية الكمالية،لأنها مِثْل،والمثلان لا يجتمعان. وهذا من أعجب الأمور بالنفس الكمالية الإنسانية،ظهر الحق بها وإستتر. فجمع الإنسان بين الحجاب والظهور،فهو المُظهر السّاتر،يشهد الحق من ذلك خَلقه،ويشهد الإنسان من نفسه ذلك. فالنفس الإنسانية هي الإزار والرّداء،فلذا كان الحق لا يُعرف إلا بالنفس الإنسانية.. فمنه تعالى عرفنا أنفسنا،وبنا تحقّق ما يطلبه الإله منّا. قال الحق للإنسان الكامل النفس الإنسانية: [وكما أنّي لا أعرف إلا بك،كذلك أنت لا تكون إلا بي]..
== (مراتب العارفين في الشهود): العارفون في “الشهود” على طبقات: فالخاصة يرون الوحدة من غير كَثرة،لا عقلاً. وخاصة الخاصة يرون الوحدة في الكثرة،ولا غيرية بينهما. وخُلاصة خاصة الخاصة يرون الكثرة في الوحدة. وصفاء خلاصة خاصة الخاصة يجمعون بين الشّهودين.
وهم في هذا الشهود على طبقات: عال وأعلى وكامل وأكمل. وأعلى من الجميع من يَشهد العين الجامعة مطلقة عن الوحدة والكثرة،والجمع بينهما.
وأما مُشاهدة الحق قبل كل شيء أو بعده أو معه أو فيه،فكلها ناقصة،لما فيه من التحديد (القبلية والبعدية والمعية والظرفية)..
والكاملون لا يَنفون العالَم كما ينفيه أهل الشهود الحالي الذين غَلبت عليهم مشاهدة الوحدة،ولا يُثبتون العالَم كما يُثبته أهل الحجاب على أنه غَير وسِوى،والحق مُباين له مُنعزل عنه..
== (الإسم والمُسمّى): المُسمى واحد،فالمُعزّ هو المُذلّ،من حيث دلالتهما على المُسمى. والمُعزّ ليس هو المُذلّ من حيث حقيقته ومعناه الخاص الذي وُضع له.. فكل إسم من الأسماء الإلهية له إعتبارات: إعتباره من حيث دلالته على الذات العليّة،فهو بهذا الإعتبار عين الذات وعين غيره من جميع الأسماء الإلهية،فكل إسم يُسمّى ويُنعت بجميع الأسماء بهذا الإعتبار. والإعتبار الثاني: إعتبار كونه يدلّ على معنى مخصوص وحقيقة خاصة وُضع لها،فهو بهذا الإعتبار غير الذات وغير ما سواه من الأسماء..
== (الحق والخلق): حُكم الخَلق مع الحق،حُكم الأسماء الإلهية. فكما أنه لا إنفكاك بين الحق وأسمائه،كذلك لا إنفكاك بين الحق ومخلوقاته من حيث مرتبة التقييد والأسماء.
فما تقرّر عند الكُمّل من أهل الكشف والوجود،أن الوجود الحق مَظهر للخلق،والخلق مظهر للحق،فأنت مرآته وهو مرآة أحوالك.
وأما غير الكمل،فإنه لا ينظُر ولا يشهد إلا وجهة واحدة،كل واحد وما أعطاه الحق في كشفه..
“تجلّي الإطلاق”: هو ما أشعر بعدم المخلوقات.. والحق تعالى،منذ خلق الخلق،ما تجلّى إلا في مرتبة التقييد،وهي الصورة المنطبعة في نوره تعالى..
و”تجلّي التقييد”: كل ما أشعر بوجود الخلق مع الرب تعالى،فهو تجليه في الأسماء الإلهية التي تطلب المخلوقات وتطلبها المخلوقات. وفي هذه المرتبة وهذا التجلي،يُشهد ويُحسّ ويُعلَم..
== (طُرق حصول المُغيبات): الإلقاء والوحي والإلهام والنّفث والوجود. والذي يختصّ به النبي والرسول هو “الوحي” بوساطة المَلك،ينزل على قلبه أو يتمثّل له رجلاً بحُكم مشروع.
وأما الوحي بغير أمر مشروع لبعض العبيد بإخبارات غيبية وعلوم إلهية،يجدها في نفسه،لا يتعلق بذلك الإخبار تَحليل ولا تحريم،فغير ممنوع،بل حاصل. ولكن لا نُطلق عليه إسم الوحي أدباً مع منصب النبوة،وإن أطلق عليه إسم الوحي فمجازاً. لأن الوحي،حقيقة: هو الكلام الخفيّ،يُدرك بسرعة في ذاته،غير مركّب من حروف مُقطّعة تحتاج إلى تمويجات مُتعاقبة..
== الوجود الذات،من حيث الإسم (النور) الساري في كل نعت ومنعوت،وحُكم ومحكوم عليه ومحكوم به،مما له عين ثابتة،وما لا عين له إلا الإسم،وما ثَمّ إلا هذا..
الأسماء الإلهية تقتضي وجود الصُور،والذات الأحدية تقتضي إعدامها. فالعالَم دائماً بين هذين المُقتضيين،فله في كل آن خلق جديد،وآن وجوده آن إنعدامه..
== (السّير إلى الله له نهاية،والسّير في الله ما له نهاية): فلا غاية إلا من حيث التوحيد،أعني توحيد العقل،وهو توحيد الأسماء. لا من حيث الواردات،فالتجلي الإلهي لا يتناهى من حيث أسماؤه،فإن التكوين لا ينقطع،فالمعلومات لا تنقطع..
== أهل الله إذا أنزلهم الله في “مقام التوحيد المحض”،كَمّلهم بالأعمال الصالحة وأوقفهم عند حدود الشريعة. وإذا أنزلهم في “مقام الفرق” حَفظهم من الشرك،وأشهدهم قيام العالَم بوجود الحق الله..
فالتوحيد المحض يكون عليه باطن الإنسان وعَقده.. وأما ظاهره فلا بدّ فيه من الفَرق،رب وعبد،آمر ومأمور. فإن إظهار التوحيد المحض للعوام فتنة،وأي فتنة وضلال.. كما ضلّ هؤلاء الزنادقة الذين هم في زماننا بكُتب الإمام العارف بالله عبد الكريم الجيلي،فنظروا بالكتب بلا تقييد بالتقوى ومُراعاة أحكام الشريعة،فضلّوا وأضلّوا. ولهذه العلّة منع أهل الله بعض تلامذتهم عن مطالعة كتب الحقائق لإشرافهم على قُصور ذلك المُريد عن فَهم ما وُضع في كتب الحقائق،كهؤلاء الزنادقة الذين إنتسبوا إلى الشاذلية. فإن قاصر الفهم لا يخلو إما أن يتأوّل كلامهم على خلاف ما أرادوه فيهلك في الهالكين،أو يُضيع العمر في النظر في الكتب من غير فائدة..
== (الإطلاق والتّقييد): الإطلاق تقييد بعدم التقييد،لأن عدم العلامة علامة بين أصحاب العلامات..
فالحق تعالى غير منعوت بإطلاق ولا تقييد،فمن أطلقه فما عرفه ومن قيّده فقد جهله. فهو عين الأشياء،وما الأشياء عينه.. فالعالَم مرتبط بالحق إرتباطاً لا يمكن الإنفكاك عنه،لأنه وصف ذاتي له من حيث أسماؤه،هكذا عرفه العارفون به تعالى..
== (الهمّة): لغة تُطلق على نوع من القصد. وإصطلاحاً: الباعث الطلبي المُنبعث من النفوس والأرواح لمطالب كمالية ومقاصد غائبة،وتتنوّع بحسب تنوع أهلها وإختلاف مداركهم..
== (العالم والعارف): يُغاير الشيخ الأكبر بين العالِم والعارِف،وإن كان العلم والمعرفة في الحق والحقيقة على السواء في كشف الشيء على ما هو عليه،حيث أنه تعالى أثنى بالعلم على من إختصّه من عباده أكثر مما أثنى على العارفين. فالعارف لا يرى إلا حقاً وخلقاً،والعالم يرى حقاً وخلقاً في خلق،فيرى ثلاثة..
== (العلماء بالله): أربعة أصناف:
_ صنف ما لهم علم بالله إلا من طريق النظر الفكري،وهم القائلون بالسّلوب،المانعون لتجلي الحق في الصور،القائلون بالتنزيه المحض.
_ وصنف ما لهم علم بالله إلا من طريق التجلي،وهم القائلون بالثبوت والحدود التابعة،وهم أهل وحدة الشهود.
_ وصنف يحدُث لهم علم بالله بين الشهود والنظر،فلا يبقون مع الصور في التجلي،ولا يصلون إلى معرفة هذه الذات الظاهرة بهذه الصور في عين الناظرين.
_ وصنف ليس واحداً من هذه الثلاثة،ولا يخرج عن جميعهم،وهو الذي يعلم أن الله قابل لكل معتقد في العالَم من حيث عين الوجود،فإنه قضى وحَكم ألا يُعبد إلا إيّاه. وهذا الصنف ينقسم إلى صنفين: صنف يقول عين الحق هو المُتجلّي في صور الممكنات،وصنف يقول أحكام الممكنات هم الصور الظاهرة في عين الوجود الحق. وكل قال ما هو الحق،والكامل جمع بين الشّهودين..
والعارفون بالله من طريق التجلي والشهود مُتفاضلون مُتفاوتون،فأكملهم وأعلاهم ــ الذي لا يوجد عارف غيره إلا مجازاً ــ من كان يشهد الحق في مقام الجمع،وهو الذي يُشاهد ربه علماً وحالاً،ويُشاهد الخلق حالاً لا علماً،لأن المعلوم معدوم. هذا شَرَب فازداد صَحواً،وغابَ فازداد حُضوراً. فلا فرقُه يحجُبه عن جمعه،ولا جَمعه يحجبه عن فرقه..
== (التأويل): التأويل لغة من الأول،وهو الإنصراف. وكتاب الله وسنة رسوله جاءا بلسان عربي مبين،لا رمز فيهما ولا لغز ولا إيماء إلى شيء مما يُخالف الشرع المحمدي.
وأما ما يقوله بعض المحققين من الصوفية أن نصوص الكتاب والسنة على ظواهرها،ومع ذلك فيها إشارات خَفية إلى حقائق تنكشف على أرباب السلوك أصحاب القلوب،فهي كمالات الإيمان ومحض العرفان،وما هو من التفسير بالرأي المُتوعّد عليه في الحديث النبوي: (فما ضلّ من ضلّ إلا بالتأويل)..
وقد جاء في بعض الهواتف الإلهية: [إذا جاء التأويل فقد جاء حجابي الذي لا أنظُر إليه،ومَقتي الذي لا أعطف عليه..واعلم أنه ما آمَن بي من حَكّم عقله على آياتي وصفاتي وما أضفته إلى نفسي على ألسنة رُسلي،وأنا ما قُلت إلا ليؤمنوا بي لا بعقولهم،ومن أوّل فما آمن حقيقة إلا بعقله لا بي. فإن قال إنه ما قصد بالتأويل إلا تنزيهي،فذلك من حيل النفوس وحُبّها لمُنازعة ربوبيتي]..
السلف الصالح قالوا: ما خاطبنا الحق إلا بما نعرف ونَفهم،ولكن لما جهلنا الذات جهلنا نسبة هذه الأشياء إليها. ولا يُقال إن الطائفة العليّة كذلك أوّلت،كما قالوا: (لما خلقت بيدي) المُراد باليدين أسماء الجلال والجمال ونحو هذا مما ورد عنهم. لأنا نقول: الطائفة العلية مُعلمهم الله،فما قالوا ذلك نظراً وتفكّراً،وإنما القائل تعالى هو المٌفسّر والمُبيّن لهم مراده بما قال..
وما ورد عن السلف وأئمة الهُدى ومُحقّقي الصوفية،من كراهة التأويل والنهي عنه،إنما هو في حقّ من كَمُل إيمانهم بما أخبرت به الرسل من العلماء العقلاء. وأما من ليس بعالم ولا عاقل،فيجب ستر السرّ الإلهي عنه بالتأويل،لأن كشف السرّ له ربما يؤدّي إلى عدم إحترام الجناب الإلهي الأعزّ الأحمى. فإنه تعالى أوّل لعبده لمّا إستنكر قوله: (جُعت فلم تُطعمني،ومرضت فلم تعُدني) الحديث..
كل ما ورد في الكتاب والسنة،من ذكر العين واليد والجنب ونحوها،لا يقتضي شيء منها تشبيهاً،إنما التشبيه يكون بلفظة (مثل) أو (كاف) الصفة،وما عدا هذين الأمرين فإنما هي ألفاظ إشتراك،فتُنسَب إلى كل ذات بما تقتضيه حقيقة تلك الذات..
== (مطالعة كتب العارفين): قال الإمام الجيلي: بلغني عن شيخي إبراهيم الجبرتي أنه قال لبعض تلامذته: “عليك بمطالعة كتب إبن العربي”. فقال له التلميذ: “يا سيدي،إن رأيت أن أصبر حتى يفتح الله به عليّ من حيث الفيض”. فقال له الشيخ: “إن الذي تُريد أن تصبر له هو عين ما ذكره الشيخ في هذه الكتب”.
قال الجيلي: لأن المريد قد ينال بمسألة من مسائل علمنا هذا،ما لا ينالُه بمجاهدة خمسين سنة. وذلك أن السالك ينال ثَمرة سُلوكه،والعلوم التي وَضعها الكُمّل من أهل الله في كتبهم هي ثمرة سلوكهم وأعمالهم الخالصة. وكم بين ثمرة عمل معلول وثمرة عمل مُخلص،بل علومهم من وراء ثمرات الأعمال،لأنها بالفيض الإلهي الوارد عليهم على قدر قوابلهم،وكم بين قابلية الكامل وقابلية المُريد. فإذا فهم المريد ما قصدوه من تلك المسألة،إستوى هو والمُصنّف في تلك المسألة. فالآخذ لها من الكتب،إذا فهمها ومَيّزها،يصير كالآخذ من المعدن الذي أخذ منه مُصنفها،إذا كان ذا “قلب ذَكيّ وإيمان قويّ”،فإنه يأخذ من مطالعة كتب الحقائق كل مأخذ. وقد رأينا في زماننا ظوائف من العرف والعجم “بلغوا بمطالعة كتب الحقائق مبلغ الرجال”،فمن أضاف بعد ذلك إلى علمه فَضلة سُلوك كان من الكُمّل،ومن وقف مع علمه كان من العارفين..
== ذكر الشيخ الأكبر في كتابه (التجليات) صورة الترقي بعد الموت في المعارف الإلهية،حيث كان العلم لا يتقيّد بوقت ولا بمكان ولا بنشأة ولا بحالة ولا بمقام. و”كتاب التجليات لو كُتب بماء العيون كان قليلاً في حقه”.. ذكر فيه سبعة وتسعين تجلياً،أودع فيها من الحقائق والعلوم الإلهية ما لا يصدُر إلا منه،ولا أقول لا يصدر إلا من مثله،فافهم. وذكر فيه من إجتمع به من الطائفة العلية أهل الله المشهورون بالمعارف الإلهية في أزمنتهم. إجتمع بهم في الكشف،لأن أرواح الكمّل في البرزخ غير مقيّدة كأرواح غيرهم. فإذا توجّه الكامل إلى روح من أرواح الكمل أو غيرهم،إجتمع به إجتماعاً روحانياً محقّقاً أحقّ من إجتماع الأجسام..
== (الكثرة الأسمائية): مدلول الأسماء الإلهية التي لا تُحصى كَثرتها،مع إختلاف معانيها ومدلولاتها،وإن إختلفت حقائقها ومدلولاتها،ترجع إلى عين واحدة. فهذه الكثرة الحاصلة في الأسماء الإلهية كَثرة معقولة،فإنها نِسَب وإضافات وإعتبارات. فتكون الكثرة في التجلّي الإلهي في الصور،من كل ما يُطلق عليه إسم صورة،كثرة مشهودة في عين واحدة مرئية،بعين الحسّ والخيال والعقل،والحق من وراء ذلك كله من حيث الذات..
ولا يعتاص عليك أيها العاقل المحجوب كَون صاحب التحقيق يرى الكثرة،الحاصلة من صور التجلي،في العين الواحدة. فهذا كما تقول أنت في “الهيولى” إنها تؤخذ في حدّ كل صورة من الصور التي تحت مرتبتها،إذا حُدّدت الصورة بذاتياتها وصفاتها النفسية.. إذ الهيولى عندكم جوهر معقول بسيط،لا تخلو منه صورة.. فالهيولى محلّ للجوهر،والموضوع محلّ للعرض..
وأهل الله المُكاشفون بحقائق الأشياء يُسمون الجوهر الحاصل لصُور العالَم بأسره ب”الهباء”،وأول من سماه بهذا الإسم علي بن أبي طالب لكونه رأى هذا الجوهر مبثوثاً في كل صورة من صور العالَم كله،أعلاه وأسفله،لا تكون صورة بدونه،مع وحدته وعدم إنقسامه وتجزئته. والشيخ الأكبر يُسميه ب”العنقاء” لكونه يُسمع بذكره ويُعقَل،ولا وجود له في العين.. ويُسمى العماء ب”الحق المخلوق به”،لأنه عين النفس الرحماني.. ولكل تسميّة وجه باعتبار..
== (الخلق على الصورة الإلهية): لا خصوصية لآدم عليه السلام بالخلق على الصورة الإلهية،بل كل إنسان كامل من أولاده إلى يوم القيامة،مخلوق على الصورة. ومن كان إنساناً حيواناً فليس مخلوقاً على الصورة الإلهية،وإن كان له قابلية وإستعداد. لذلك إذا حَفّته العناية فلا يكون مخلوقاً على الصورة الإلهية إلا إذا كان إنساناً كاملاً بالفعل لا بالقوة والصلاحية..
وليس المراد بالصورة الذات،فإن الذات العلية المقدسة لا صورة لها إلا من حيث التجلي بالمثال. وإنما المراد بالصورة مُشاركة الإنسان الكامل للحق تعالى في الأسماء الإلهية كلها،ومشاركته للحق في التقلّب في الأحوال بتقلّب الحق في الأحوال. والإنسان تتقلّب عليه الأحوال بسبب التجلّي عليه بها..
وما قاله بعضهم في الصورة التي خُلق آدم عليها،كونه ذاتاً وله سبع صفات فقط،ليس بشيء. لأن الحيوان كذلك له ذات،وهو حي عالم مريد قادر متكلم سميع بصير. ولو كان المراد ذلك لكان يبطُل وجه الخصوصية للإنسان.. بل إذا كشفنا الغطاء وهَتكنا الحجاب نقول: هو تعالى عين هُوية الإنسان الكامل.. فظاهر الإنسان صورة خَلقية كونية،وباطنه هُوية الحق غير محدود للصورة..
يقول سيدنا: [ولهذا ما عَثر أحد من علماء المتكلمين والحكماء المتقدمين على معرفة النفس وحقيقتها،إلا الإلهيون من الرسل والأكابر من الصوفية. وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر،من القدماء والمتكلمين،في كلامهم في النفس وماهيتها،فما منهم من عثر على حقيقتها،ولا يُعطيها النظر الفكري أبداً. فمن طلب العلم بها من طريق النظر الفكري فقد إستسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم..]..
== (جوهر الهيولى): جوهر الهيولى الذي أثبته الفلاسفة مرتبته دون الطبيعة،وأول ما ظهر فيه صورة الجسم الكُلّ. والجوهر الذي قال به أهل الله فوق الكلّ،فيه ظهرت صور الأرواح المُهيّمة وصورة العقل الأول وصورة النفس الكلية والطبيعة. والهيولى التي أثبتها الحكماء،غير جوهر الهيولى،وإن إتّفق الجوهران في بعض الصفات.
وصلى الله على سيدنا محمد نبي الله ،وعلى الزهراء بَضعة رسول الله ،وعلى اله وصحبه
ذ رشيد موعشي.