كتاب: (محاسن المجالس) للشيخ ابن العريف الصنهاجي
نظرة حول مادة الكتاب: اعتمد ابن العريف في تأليف مادته على ثقافة الصوفية التي استقاها من المشايخ التاريخيين، أصحاب الرسالة،كأبي يزيد البسطامي والشبلي وذي النون المصري. والمشايخ الغرب إسلاميين،على رأسهم ابن برجان. دون أن ننسى تأثّره العميق بالغزالي،خاصة بالمقامات التي نَظّر لها في “إحياء علوم الدين”. هذا بالإضافة إلى مجهوده الفكري والذوقي المتميّز،وقدرته الكبيرة على التعبير.. والفكرة المركزية التي يقوم عليها الكتاب وتؤسّس نظريته في التصوف،هي أن هذه المقامات والمنازل المدروسة تُمثّل عوائق للخواص،فهيلا تُناسب إلا العوام. وقد أورد هذه المقامات حسب الترتيب التالي: المعرفة والإرادة والزهد والتوكل، والصبر، والحزن،والخوف، والرجاء،والشكر،والمحبة والشوق. ويضيف إليهما منزلين هما: التوبة والأنس. ويُمارس عليها نقد،مُبيّناً نظر الخواص فيها.فالكتاب مخصّص للعارفين الذين بلغوا مرتبة العرفان والإدراك الباطني للحقيقة. فما عدا منزلتي: الحبّ والمعرفة،فإن كل المنازل: علَل أنِفَ الخواص منها وأسباب انفصلوا عنها.
سبب التأليف:
قد استخرت الله تعالى في جمع فصول من محاسن الكلام الصادرة عن أهل الإلهام، تُسهّل على المريد صعوبة طريقه،وتُشيّد للمراد دعائم صِدقه وتحقيقه،وتحمل سامعها على ارتكاب الأشدّ في تحرّي الأسدّ. فمنها ما نقلته عن معانيه،ومنها ما فتح الله به من خزائنه. وسمّيتها محاسن المجالس،يتجلّى بها من وَسَم نفسه بعلم التذكير،ويطرز مجالسه منها بالقدر اليسير. فهي شبكة الألباب،ومُلاطفة الأحباب،وتُحف القلوب من خزائن الغيوب. نفع الله بها مُستمعها وقارئها والمحبّين فيها،بفضله ورحمته، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وعترته.
المعرفة مَحجّتي والعلم حُجّتي: العلماء لي،والعارفون بِي،والعارف يَستدلّ بي،والعالِم يستدلّ لي. علق العباد بالأعمال، والمريدون بالأحوال،والعارفون بالهِمَم. والحق وراء ذلك كلّه،ليس بينه وبين العباد نِسبة إلا العناية،ولا سَبب إلا الحُكم،ولا وقت إلا الأزل،وما بقي فعمى وتلبيس. فالأعمال للجزاء،والأحوال للكرامات، والهِمَم للوصول،وإنما يتعيّن الحقّ عند اضمحلال الرّسم. فالإشارة نِداء على رأس البُعد،وبَوْح بعين العلّة.والعلم عن القلوب كالأسباب على الغيوب،وما سوى الحق حجاب عنه. ولولا ظلمة الكون لظهر نور الغيب،ولولا فتنة النفس لارتفعت الحُجُب،ولولا العلائق لانكشفت الحقائق،ولولا العلَل لبرزت القدرة،ولولا حظّ التكلّف لصَفت المعرفة،ولولا الطمع لصحّت المحبة،ولولا حظ بارق لأحرق الاشتياق الأرواح،ولولا توهّم العبد لشوهِد الربّ. فإذا انكشف الحجاب تجسم هذه الأسباب،وارتفعت العوائق بقطع العلائق.
الإرادة حِلْية العوامّ:الإرادة:
هي تجريد القصد إلى الله تعالى وجزم النيّة والجدّ في الطلب له.وذلك في طريق الخواص نقص وتَفرّق ورجوع إلى الأسباب والنفس،فإنإرادة العبد عين حظّه،وهورأس الدّعوى. وإنما الجمع والوجود فيما يُراد بالعبد من الله،لا فيما يريد..حُكي عن أبي يزيد أنه قال: ركبت مركبة الصدق حتى بلغت الهَوى،ثمّ ركبت مركب الشّوق حتى بلغت السماء،ثمّ ركبت مركب المحبّة حتى بلغت سدرة المنتهى،فنوديتُ: يا أبا يزيد ما تُريد؟،قلت: أريد أن لا أريد،لأنّي أنا المراد وأنت المريد،فقيل: الآن بلغت ما تُريد.فصحّة الإرادة: بَذْل الوُسْع واستفراغ الطاقة،مع ترك الاختيار والسكون تحت مَجاري الأقدار،فتكون كالميّت بين يدي الغاسل يُقلّبه كيف يشاء.
الزّهد: أما الزهد،وهو للعوام أيضاً،فإنه:حبس النفس عن الملذّات وإمساكها،بعد تفريق المجموع وترك طلب المفقود،وعن فضول الشهوات،ومخالفة دواعي الهَوى،وترك كل ما لا يعني من كل الأشياء.وهذا نقص في طريق الخواص،لأنه تعظيم للدنيا واحتباس على أبعادها،وتعذيب للظاهر بتركها،مع تعلّق الباطن بها ــ والمُبالاة بالدنيا عيْن الرجوع إلى ذاتك ــ وتضييع الوقت في منازعة نفسك وشهود حسّك وبَقائك معك على حِرصك..فالزهد على الحقيقة: صَرف رغبة القلب إليه وتعلّق الهمّة به،والاشتغال به عن كل شيء يشغل عنه. ليتولّى هو سبحانه حَسْم هذه الأسباب عنك.. كما قيل عن بعض المريدين سأل بعض الشيوخ فقال: أيها الشيخ بأيّ شيء تدفع إبليس عنك إذا قصدَك بالوسوسة؟ فقال له الشيخ: إنّي لا أعرف إبليس فأحتاج إلى دفعه،وإنما نحن صَرفنا هِمَمنا إليه تعالى ومَلأنا قلوبنا بذكره،فكفانا ما دونه اهـ.
التوكّل:التوكل،وهو للعوام أيضاً:توكيل أمرك إلى مولاك،والتجاؤك إلى علمه ورأفته ليُدبّر أمرك ويكفيك هَمّك.وهذا في طريق الخواص نقص وعمى عن الكفاية،ورجوع إلى الأسباب،لأنك رفضت الأسباب ووقفت مع التوكل،فصار عوضاً عن تلك الأسباب. فكأنك مُعلّق بما رفضته،من حيث مُعتقدك الانفصال عنه.والتوكل عند القوم هو: التوكل في تخليص القلب عن علّة التوكل،وهو أن يعلم أن الله تعالى لم يترُك أمراً مُهملاً،بل فرغ عن الأشياء وقدّرها.. وشأنه سَوْق المقادير إلى المواقيت.فالمتوكل: من أراح نفسه عن كَدّ النظر ومطالعة السّبب،سُكوناً إلى ما سبق من القسمة،مع استواء الحالين عنده: وهو أن يعلم أن الطلب لا يجمع،والتوكل لا يمنع،إذ الله تعالى بالغ أمره.ومتى طالَع بتوكله عِوَضاً،كان توكله مَدخولاً وقصده معلولاً. فإذا خلص من رِقّ هذه الأسباب،ولم يُلاحظ في توكله سوى خالص حقّ الله تعالى عليه،كفاه الله كل مهمّ.
الصبر:وأما الصبر،وهو من منازل العوام أيضاً،فهو:حبس النفس على المكروه،وعقل اللسان عن شكواه،ومكابدة الغصص في تحمّله، وانتظار الفرح عند عاقبته.وهذا في طريق الخاصة تجلّد ومقاومة وجُرأة ومنازعة،فإن حاصله راجع إلى كتمان الشّكوى في تحمّل الأذى بالبلوى. والحقيقة عند القوم: الخروج عن الشكوى بالتلذّذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى.
الحُزن: وأما الحزن،فإنه من منازل العوام،فهو:انخلاع عن السّرور وملازمة الكآبة،لتأسّف على فائت أو توجّه لمُمتنع.وإنما كان من منازل العوام،لأن فيه نسيان المنّة والبقاء في رقّ الطبع. وهو في مسالك الخواص،لأن معرفة الله تعالى جَلاّ نورُها كل ظلمة وكشف سُرورها كل غمّة،فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
الخوف: وأما الخوف،فإنه من منازل العوام،وهو:انخلاع عن السّرور،وملازمة الخوف والتيقّظ له بالوعيد، والحذر من سطوة العقاب.وليس في منازل الخواص خوف،لأنهلا يليق للعبد أن يعبد مولاه على وحشة من نظره ونُفْرة من الأنس به عند ذِكره..
وأهل الاختصاص جعلوا الوعيد منه وَعْداً والعذاب فيه عَذْباً،لأنهم شاهدوا المُبتلى في البلاء والمُعذّب في العذاب،فاستعذبوا ما وجدوا في جَنْب ما شاهدوا.. ومن كان مُستغرقاً في حال المشاهدة وفي بساط الأنس،فلا يبقى للخوف بساحته إلمام،لأن المشاهدة توجب الأنس والخوف يوجب القبض..فالخوف من منازل العوام، وللخواص الهَيْبة،وهي أقصى درجة يُشار إليها في غاية الخوف. لأن الخوف يزول بالعفو وبالأمن،ومنتهاه خوف الشخص على نفسه من العقاب،فإن أمِنَ من العقاب زالَ الخوف. والهيبة لا تزول أبداً،لأنها مُستحقّة للربّ تعالى بوصف التعظيم والإجلال.. وهذه الهيبة تُعارض المُكاشَف في أوقات المناجاة،وتصون المشاهد أحيان المشاهدة،وتَقصِم المُعايِن بصدمة العزّة.
الرّجاء: وأما الرجاء،فإنه من منازل العوام،وهو:انتظار غائب وطلب مفقود.وهو أضعف منازل القوم في هذا الشأن،لأنه معارضة من وجه واعتراض من وجه آخر. وهو وقوع في الرعونة. ونطق به التنزيل لفائدة واحدة،فقال تعالى: (أولئك يرجون رحمة الله) يُريد: على العِوَض من أجل المجاهدة.. ووردت به السنة لفائدة،وهيتبريد حرارة الخوف،لئلاّ يُفضي بصاحبه إلى اليأس والقنوط. فهو دواء لمرض،ولا يعرض ذلك المرض إلا لعوام هذه الطائفة.أما الخواص فالرجاء عندهم: شَكوى ومطالعة عوض وعَمى،لأن العبد من سيّده على سبيل البرّ والألطاف،وفي بحر الجود والألطاف غريق،وتحت وابل الإحسان مغمور. ولم يَدَع له ما يُشاهده من مولاه مُستزاداً،ولا كشف له عما طالعه منه في الدارين مَزيداً.فالرجاء: وَهَن عِقال،وفترة،وغفلة. وفي الفتوّة: علّة،وفي المحبّة: وَصْمة.
الشّكر: وأما الشكر،فإنه من منازل العوام،وهو:رؤية النعمة من المُنعِم،والثّناء على مُعطيها،والقيام بحَقّها والإقرار بوجودها..وهو من أضعف منازل القوم،لأنه حجاب عنه،ولأنه معارضة طوله ونعمته بحولك وقوتك،ومقابلة نعمته بقَولك قُصور منك. وإنما لم يكن ذلك من منازل الخواص: لأنهم رأوه قِياماً بمكافآت المعطي،وهرباً من رِقّ المنّة،واستراحة من حبل الجود وأداء لحقّ النعمة.. فالشكر عند القوم: أن لا تَشهد في حال النعمة سوى المُنعِم أولاً،فإذا شَهده ــ عبوديّة ــ استعظم منه النعمة،إذ لا حَقّ للعبد عليه. وإذا شَهده ــ حُبّاً ــ استخلص منه الشدّة.وإذا شَهده ــ تَفريداً،فانياً عما سواه ــ لم يشهد منه شدّة ولا نعمة،فيكون شُغله به واستغراقه فيه. وغيبته،في حال شهوده،شُغل به عن معرفة المِنْحة والمحنة والشدّة،في حال فنائه،كالنسوة حين شاهدن يوسف عليه السلام..مع أن الشكر لا طريق إلى القيام به ولا سبيل إلى الخروج عن عُهدَة واجبه،فإنه يتناهى ولا ينتهي،إذشُكرك لله تعالى على النعمة نعمة مُستجدّة يجب له عنك فيه شكر،فالشكر يفتقر إلى شكر.
المحبّة أوّل أوديّة الفناء: وأما المحبّة فهي أول أوديّة الفناء والعقبة التي ينحدر منها على منازل المحو،وهوآخر منزل تلتقي فيه مقدمة العامة بساقة الخاصة،وما دونها أغراض لأغراض،للعوام منها شِرْب وللخواص شِرْب..وقد اختلفت إشارات أهل التحقيق منهم في العبارة عنها،وكل من القوم نَطق بحسب ذَوْقه وأفصح عنه بمقدار شُرْبه وذوقه. وهي على الإجمال قبل أن تنتهي إلى التفصيل: وجود تعظيم في القلب يمنع الشخص من الانقياد لغير محبوبه.وقال قوم: ليس للمحبة صيغة يُعبّر بها عن حقيقتها، فإن الغيرة من أوصاف المحبة،والمحبّة تأبى إلا الستْر والإخفاء. وكل من بسط لسانه بالعبارة عنها والكشف عن سرّها فليس له منها ذوق،وإنماحركة وجدان الرائحة،ولو ذاق منها شيئاً لغابَ عن الشرح والوصف. فالمحبة الصادقة لا تظهر على المُحبّ بلفظه،وإنما تظهر بشمائله ولَحظه،ولا يفهم حقيقتها من المُحبّ سوى المحبوب لموضع امتزاج الأسرار من القلوب..وأما محبة العوام: فإنها تَنْبُت من مطالعة المنّة،وتثبُت باتباع السنّة،وتنموا على الإجابة للعناية. وهي محبة تقطع الوساوس،وتلذّذ الخدمة،وتُسلّي عن المصائب. وهي في طريق العوام عُمدة الإيمان.وأما محبة الخواص فهي: محبّة خاطفة تقطع العبارة،وتدقّق الإشارة،ولا تنتهي بالنّعوت،ولا تُعرف إلا بالحيْرة والسّكوت.
الشّوق: وأما الشوق،فإنه من منازل العوام،وهو:هبوب القلب إلى تمنّي غائب يحضُر،وإعواز الصبر عن فقْده،وارتياح السِرّ إلى طلبه.وهو من أضعف منازل القوم،وأما الخواص فهو عندهم علّة عظيمة،لأنالشوق إنما يكون إلى غائب. ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة،فالطريق عندهم أن يكون العبد غائباً والحقّ حاضراً. ولأجل هذا المعنى لم ينطق بالشوق كتاب ولا سنة صحيحة، لأنالشوق مُخبِر عن بُعد ومُشير إلى غائب وتَطلّع إلى مُدرَك.. ما تقدّم من منازل عِلَل أنِفَ الخواص منها: فهذه جميعاً،أي المنازل السابقة،عِلَل أنف الخواص منها،وأسباب انفصلوا عنها. فلم يبْق لهم مع الحقّ إرادة،ولا في عطائه شوق إلى استزادة. فهو منتهى مُرادهم وغاية رغبتهم،فيعتقدون أن ما دونه قاطع. قال الله تعالى: (قل الله ثم ذرهُم في خوضهم يلعبون)،(قل أي شيء أكبر شهادة قل الله).فزُهدُهم:جمع الهمّة عن متفرقات الكون،لأن الحق عافاهم بنور الكشف من التعلّق بالأحوال:(إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار).وتوكّلهم:رِضاهُم بتدبير الخلق وتخلّصهم من تدبيرهم، وفَراغ هِمَمهم من إحالتها في إصلاح شأنهم لوقوفهم على فراغ المُدبّر منه،فنفوسهم مطمئنة بذلك: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية).وصبرهم: صَونُهم قلوبهم عن خواطر السّوء،لأنه ليس لله تعالى قضاءً عارياً عن الرأفة،خارجاًعن الرحمة: (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً).وحُزنهم: بأسُهم عن أنفسهم الأمارة بالسّوء: (إن الإنسان لربّه لكنود).وخوفهم: هَيبة الجلال،لا خوف العذاب. لأن خوف العذاب مناضلة عن النفس،وهَيبته سبحانه تعظيم للحقّ ونِسيان للنفس: (يخافون ربّهم من فوقهم)..ورجاؤهم: ظمأهم إلى الشراب الذي هم فيه غرقى وبِه سَكرى:(ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظلّ)..وشُكرهم: سُرورهم بوجودهم ورؤيتهم النعمة لموجدهم،ومن رضي فله الرّضى: (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به).ومحبّتهم: فناؤهم في محبّة الحقّ وأحبابه،فإنالمَحابّ كلها طلب في محبّة الحقّ،وتصاغرت واضمحلّت: (فماذا بعد الحق إلا الضلال).وشوقهم: هَربهم من رَسمهم وسِماتهم: (وعجلت إليك ربّي لترضى).
منازل أهل الشرع،السائرين إلى عين الحقيقة: فإن شَهدوا عين الحقيقة اضمحلّت فيها أحوال السائرين،ووصلوا فيها إلى مقام الفناء عمّا سواه سبحانه. فإن ما قبل هذه المقامات (مثل: التوبة والورع والزهد والفقر والصبر والرضا والتوكل،وغيرها)فمُرادة إلى هذه الغاية،وهو النظر إلى الله عز وجل: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية)،وقد كانت قبل هذا في بدايتها أمارة بالسّوء. ثمّ (قد أفلح من زكّاها)،ثمّ صارت لوّامة: (فلا أقسم بالنفس اللوامة). والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. ثمّ صارت مطمئنة بذكر الله: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).. ألم تر كيف فنى منهم ما لم يكن لدخول الجِنان أهلاً،وبقي ما لم يزل.. فمن يطلب الملك الكبير في دار النعيم الخالد المُقيم،أيَسكثر مع ذلك أن يصلّي لله تعالى ركعتين أو يتصدّق درهمين أو يسهر ليلتين. كلاّ،بل لو كان له ألف نفس وألف روح وألف عُمر مثل عمر الدنيا وأكثر،فيَبدُل ذلك كلّه في هذا المطلوب العزيز،لكان ذلك قليلاً.. فتنبّه أيها المسكين من رقدة الغافلين. كرامات العبودية: ثمّ إنّي تأمّلت ما يعطيه الله تعالى للعبد،إذا أعطاه ولزم خدمته وسَلك هذه الطريقة عُمره. فوجدتها على الجملة أربعين كرامة،عشرون منها في الدنيا وعشرون في العُقبى. أما التي في الدنيا: الأولى: أن يذكُره الله تعالى ويُثني عليه.. والثانية: أن يشكُره تعالى ويُعظّمه.. والثالثة: أن يُحبّه تعالى.. والرابعة: أن يكون له وكيلاً يُدبّر أموره. والخامسة: أن يكون لرزقه كفيلاً،يُوجّهه إليه من حال إلى حال،من غير تعب أو وبال. والسادسة: أن يكون له نَصيراً،يكفيه لكل قاصد سوء. والسابعة: أن يكون له أنيساً لا يستوحش بحال ولا يخاف التغيّر والزوال والاستبداد. والثامنة: غِنى النفس،فلا يلحقه ذُلّ خدمة الدنيا وأهلها.. والتاسعة: رفع الهمّة،فيرتفع عن التلطّخ بقادورات الدنيا وأهلها.. والعاشرة: غنى القلب،فيكون أغنى من كل غنيّ في الدنيا،لا يزال طيّب النفس فسيح الصدر لا يَفزُعه جَذْب ولا يُهِمّه عدم. والحادية عشرة: نورالقلب،فيهتدي بنور قلبه إلى علوم وأسرار وحِكَم لا يهتدي إلى بعضها غيره إلا بجُهد جَهيد وعمر مديد. والثانية عشرة: شرحالصدر،فلا يضيق دَرعاً بشيء من محَن الدنيا ومصائبها،وظنون الناس ومكائدهم. والثالثة عشرة: المَهابة والمَوْقع في النفوس،تحترمه الأخيار والأشرار،ويَهابُه كل فرعون وجبار. والرابعة عشرة: المحبّة في القلوب.. والخامسة عشرة: البركة العامة في كل شيء.. والسادسة عشرة: يتخيّر الأرض من البر والبحر،إن شاء سار في الهواء أو مشى على الماء أو قطع وجه الأرض بأقلّ من ساعة. والسابعة عشرة: تسخير الحيوان والوحوش والبهائم وغيرها.. والثامنة عشرة: مُلك مفاتيح الأرض.. والتاسعة عشرة: القيادة والوَجاهة على باب العزّة.. والعشرون: إجابة الدعوة من الله تعالى. وأما التي في الآخرة والعُقبى: الواحد والعشرون: أن يُهوّن الله عليه سكرات الموت.. والثانية والعشرون: التثبّت على المعرفة والإيمان.. والثالثة والعشرون: إرسال روحه بالرّوْح والريحان والبُشْر والأمان.. والرابعة والعشرون: الخلود في الجنان. والخامسة والعشرون: التحيّات والبُشَر من ملائكة السماوات لروحه بالإكرام والإلطاف والإنعام.. والسادسة والعشرون: الأمان من فتنة سؤال القبر.. والسابعة والعشرون: توسيع القبر وتنويره.. والثامنة والعشرون: ناقصة من المخطوط). والتاسعة والعشرون: إيناس روحه وإكرامها.. والثلاثون: الحَشْر في العزّ والكرامة.. والحادية والثلاثون: الأمن من الأهوال يوم القيامة.. والثانية والثلاثون: إيتاء الكتاب باليمين،ومنهم من كُفيَ رأساً. والثالثة والثلاثون: تيسير الحساب،ومنهم من لا يُحاسب أصلاً. والرابعة والثلاثون: ثِقْل الميزان،ومنهم من لا يوقَف للوزن أصلاً.. والخامسة والثلاثون: ورود الحوض على النبي صلى الله عليه وسلم. والسادسة والثلاثون: جواز الصراط والنجاة من النار،حتى أن منهم من لا يسمع حسيسها وتخمُد له النار. والسابعة والثلاثون: مُلك الأبد في الجنة. والتاسعة والثلاثون: الرّضوان الأكبر. والأربعون: لقاء ربّ العالمين. __
ما يجب على العبد: ولتعلموا أن العبد لا بد له،في الجملة،من أربعة:أولاً: العلم بذات الله،أولاً،وهو الأحد الصمد. ثانياً: العلم بصفاته تعالى،التي هي: حياته وعِلمه وإرادته وقدرته وسمعه وبصره وكلامه. ثالثاً: نفي النقائص عنه تعالى والآفات،لكونه سالماً. الرابعة: ثبوت أسمائه الحسنى.ثمّ العمل المتقن من علم،والإخلاص والخوف. ويعلم، أولاً،الطريق باعتقاده وجوب النظر،وإلا فهو أعمى. ثمّ يعمل بالعلم،وإلا فهو محجوب.ثمّ يُخلص العمل،وإلا فهو مغبون. ولا يزال يخاف ويحذر من الآفات،إلى أن يحذر الأمان، وإلا فهو مغرور.والعجب ثم العجب من أربعة: من عاقل غير عالِم.. ومن عالِم غير عامِل.. ومن عامِل غير مُخلص.. ومن مُخلص غير خائف..ثمّ جملة الأمر وتفصيله ما قاله ربّ العالمين في أربع آيات من الكتاب العزيز: (أفحسبتم أنما خلقناكم غبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)، (ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)،(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)،(ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين). فهذا آخر ما أردنا أن نذكره في شرح كيفية سلوك طريق الآخرة،وقد وفّينا بالمقصود.. لخصه الفقير الى عفو ربه : ذ رشيد موعشي.
حصل المقال على : 104 مشاهدة