النقطة_حقيقة الحقائق
المؤلف: العارف بالله عبد الكريم الجيلي.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله مُنزل الحروف العاليات من محيط الإجمال إلى مركز التفصيل،ومُظهر المعاني الأزليات صُوراً متنوعة في عالم التشبيه والتجسيد والتشكيل،ومُبرز الأعيان الثابتات من المجالي الغيبيات إلى المنصّات العينيات بكل وجه جميل، وجاعل الكلمات الإلهية محلّ الحكم البارزة بالأصالة والفطرة والإلهام والوحي والتنزيل. أحمده بحقيقة الأحدية في مجلاها،المنزّهة عن الاسم والرسم والوصف والنعت،بغيرأينيّة ولا علم ولا تعقيل،حمداً مُبهماً غير مُعبّر عنه،فنسبة التجليات إليه كنسبة الحرف إلى النقطة في عالم التمثيل. أما بعد: فإنه لمّا أشهدني الحق تعالى حقائق الحروف والكلمات،ومنزلي تفصيل جزئياتها في إجمال شؤونها الكلميات،أردت أن أبرز من ذلك البحر يتيمة إلى ساحل التعليم في أصداف العبارات على أنامل الإشارات لتنجلي بها أجياد عرائس أبكار الأفكار المنجزات. فلم ألبث أن أدرج شأني في بعض المدارج القدسية،حتى استحضرت في أفُق أحد الحضائر الأقدسية،فإذا صريح الخطاب قد ورد من ذلك الجناب أن تكلّم بها أيها السمير الغريب وتَرجِم عنها أيها الجليس الأديب،وأشار إلى أصداف جواهر تلك العلوم اللدنيّات.وقال: إن ما أجرينا إرادة إظهارها عليك إلا وقد جعلنا أمر مفاتيحها في الوجود إليك، فأمِطْ بيد القدرة الإلهية حيث المقتضيات الحكمية نِقاب تلك الأبكار وأجْلِها للتعليم رحمة لأهل الإيمان والأفكار.وقد سمينا هذا الكتاب المُستطاب،فلا وسواس فيه لخناس ولا إلقاء شيطان، بكتاب: حقيقة الحقائق التي هي للحق من وجه ومن وجه للخلائق.
العلم بالله تعالى: اعلم أن المقصود من إملاء هذا الكتاب،بل المقصود من وجودك،بل المقصود من الوجود كلّه،هو أن تعرف الله حقّ معرفته،وأما حقيقة معرفته فهو من الخصائص الإلهية لا يعرفه حقيقة معرفته إلا هو.وأما حق المعرفة فإنه مُمكن،والكمّل متفاوتون في ذلك.قال الله تعالى(واتقوا الله حق تُقاته)ومن المعلوم أن الله لا يأمُر العبد تكليفاً بما لا يمكنه القيام به،فحقّ التقوى هو حق المعرفة بالله،وهو ممكن بدليل قوله تعالى:(فاتقوا الله ما استطعتم)والاستطاعة الإنسانية تقوى لذلك،وعلمنا أن المراد بالتقوى من باب الإشارة هو المعرفة،بدليل قوله تعالى(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)واتفق العلماء بالله على أن معناه: ليعرفون.فلما فسّرت العبادة بالمعرفة عَلمنا أنها المراد بالتقوى،إذ ليست التقوى إلا عين العبادة.
ومعرفة الله على نوعين:نوع يسمى العلم الضروري،وهوللكمّل من خواص عباده،وقد أنكر المعرفة الضرورية من لم يذُق طُعم حلاوة الجذبات الإلهية فحصر العلم بالله تعالى على المعرفة الكسبية بالأدلة القطعية،وهذا النوع من المعرفة هوالنوع الثاني الذي نسميه نحن بالعلم الوهبي،وإن كان العلمان كلاهما وَهبي.
فالأول هو عبارة عن العلم الذاتي الذي لا يدخل تحت حيطة التكوين،بل هو قطرة من بحر علمه بذاته،وهو علم أزليّ يتعرّف به الحق إلى من شاء من عباده،ولأجل ذلك لم نسمّيه وهبياً لأنه من علم الله، وعلم الله قديم غير موهوب لأحد.
وأما الثاني: فهو عبارة عن علوم تحصُل للعبد بالمنازلات،وهذا العلم يتنزّل من فضل الله تعالى من ثلاثة مسالك: أولها،وهوالأعلى،يسمىعلم الأذواق،يحصُل للعبد بأثر المشاهدة العيانية.وأما الطريق الثاني:فهو ما يرد على قلوب العارفين من العلوم اللدنية بطريقة الإلهام على لسان الواردات،وهذه الواردات نتائج الاستقامة في الطريق على دوام المراقبة،وهذا العلم هو المسمى بالعلم الإلقائي،لأن الله تعالى يُلقيه في قلب العبد كما يشاء..
والطريق الثالث: فهوما يُستفاد بطريق الإيمان من كلام الله تعالى وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من عبارات أهل الله تعالى وإشاراتهم،فإن المريد إذا سمع بشيء من علوم الحقيقة ممّا هو فوق طوره، فآمن به،وإذا سكن قلبه إلى ذلك واطمأنت نفسه به كان ذلك العلم له حقيقة،كما هو للمتكلم به،والفرق بينه وبين المتكلم أن المتكلم أخذه من الله تعالى بغير واسطة، وهذا السامع أخذه بواسطة ذلك المتكلم،واستويا بعد ذلك في تلك المسألة إن فهمها على ما قاله المتكلم وإلا فلا. وقد سوّى الله بينهما في قوله تعالى(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او ألقى السمع وهو شهيد)فصاحب القلب هو الآخذ من الله علومه بغير واسطة، والذي ألقى السمع وهو شهيد هو المؤمن بما يُلقي إليه المتكلم فيأخذه بكليّته. واعلم أن المرء إذا آمن بعِلمنا حتى اطمأنّت نفسه إليه شاركنا فيه،فاجتهد أيّدك الله بروح القدس أن تؤمن مُستمعاً لما يُلقي الله إليك على لساني في هذا الكتاب،فإنالله على لسان كل قائل بهذا وردت السنة. فإذا فعلت ذلك حصلت السعادة الكبرى وحصل لي من سعادتك أوْفَى نَصيب في الدار الأخرى،لأنك تصير في ميزاني من حيث المسألة التي تلقيتها،كما صرت أنا في ميزان غيري،كما صار غيري في ميزان غيره،كما أن الكل في ميزان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فصل: وقد آن أوان شروعنا في فهرسة ما يتضمّنه هذا الكتاب من أبواب العلوم التي أراد الله أن يضعها في مسائله،وجميعها تنحصر في مسألة واحدة وهي معرفة الوجود المطلق الكلّي جملة وتفصيلاً على ما هي عليه،وجزئياتها في سائر شئونها. وهذه المسألة هي حقيقة العلم بالله،ولا تكون لأحدٍ بطريق الإحاطة إلا لله وحده.
المسألة الأولى: متعلقات العلم بالوجود القديم:
وتنقسم إلى أربعة علوم: علم بالذات وعلم بالأسماء وعلم بالصفات وعلم بالأفعال،وكل من هذه الثلاثة الأخيرة تنقسم إلى أربعة أنواع.
والعلم الذاتي:علم واحد لواحد،لاشريك له فيه.
فأما علم الأسماء:فهو منقسم إلى أربعة أقسام.
القسم الأول: هو علم تفصيل حقائقها وتميّز ما هو ذاتي منها عن الأسماء الصفاتية.
القسم الثاني:هو علم تجلياتها المخصوصة بالشأن الإلهي.
القسم الثالث:هو علم مواقع نجوم تلك الأسماء في أفلاك السماوات الإنسانية.
القسم الرابع:هو علم القدر الذي هو حظّ الإنسان الكامل من التجلّي بحقائق تلك الكمالات كلها أو بعضها أو بعض كل منها أو كل الكلّ أو ذلك لا يجوز أو هو جائز،وهل يمتنع عليه منها شيء أو ما ثمّ مُمتنع،وما هو المراد بنا منه.
وأما علم الصفات: فهو ينقسم إلى أربعة أقسام.
القسم الأول: هوعلم تفصيل حقائقها وتمييزما هو نفسي منها عن ماهو للمرتبة،وتمييزها عما هو للأفعال. والقسم الثاني:هو علم ما يجوز بالصفات ممّا يُنسب إلى الله تعالى وما لا يجوز،وبأيّ نسبة أخرى لا يجوز أن يُنسب إلى الله تعالى ممّا يجوز أن يُنسب إليه بنسبة أخرى،ومن أيّ وجه تتداخل الصفات بعضها في بعض فتتّحد ومن أي وجه تمتاز كل واحدة منهن عن الأخرى فتفترق،وما مخاطبات بعضها لبعض،وفي أي حضرة تكون تلك المخاطبات،وكم هي أقطاب الصفات والأوتاد والأبدال منها،وما هو وصف كل صفة من الأوصاف وما فلَكها،وفي أين يكون ظهورها وبطونها.
القسم الثالث:هوعلم مواقع نجوم تلك الصفات من سماوات الأفلاك الإنسانية،وأين مساقط عروشها من حقائق القوى الروحانية من الإنسان،وكيفية المسابحة في تلك الأفلاك الكمالية،وهل لها نهاية أم لا،وهل ما يُدرك في بعض المجالي هو ما يتناهى في بعض الحضائر،وأي صفة هي حضرة الحضرات وأين محلها منك،وبأي حيلة تصل إلى تركيب اليد الوصفي على ساعد الزند الإرادي،وعلى كم ينقسم مفهوم كل صفة من الصفات في تشعباتها علواً وسفلاً،وهل ما تُعاين منها لايكون بخلاف ما يُعلم،وهل يكون ما تجد بخلاف ما تُعاين وما تعلم،وهل فيها ما يصير ملكاً لك بنفس العلم به،وهل العلم به هو عين التحقيق.
والقسم الرابع: هو معرفة حظ العبد من تلك الصفات في حقيقة التجلي بتلك الكمالات.
وأما علم أفعال الله تعالى: فعلى أربعة مراتب أيضاً.
المرتبة الأولى:هي علم معرفة تجلّيه سبحانه وتعالى فيها من غير حلول،وعلى كم ينقسم تجليه في الأفعال، ومن هم أرباب ذلك التجلي.
والمرتبة الثانية:هي علم معرفة الحكمة الإلهية في الفعل الكلي والجزئي، تفصيلاً وإجمالاً.
والمرتبة الثالثة:هي علم معرفة كيفية التمكين في مقام:كنت يده التي يبطش بها ،وهل يصدر ذلك الفعل من العبد وهو بعينه فعل الله،وهل ينظر ذلك المشهد صفة من الصفات أو صفتان أو ثلاثة أو أكثر من ذلك، وأي مجلى من مجلى هذا التجلي الفعلي لاينظر إليه إلاصفة واحدة،وأي مجلى لا ينظر إليه إلا صفتان، وأي منظر لا ينظر إليه ثلاث صفات،وأي مجلى لا ينظرإليه أكثر من الثلاثة.
والمرتبة الرابعة:هي علم معرفة الأفعال الإلهية من حيثية معقولاتها حيطة وشمولاً،وذلك أمر من الخصائص الإلهية ليس لأحد فيه قدم،فهل ثمّ مشهد من المشاهد يُريك ذلك كله على سبيل الإجمال الكلّي أم لا. فهذا الذي شرحناه إجمالاً من تقسيم معرفة الوجود القديمهو ممّا لا يمكن شرحه بالتفصيل،لو كان البحر مداداً والدهر أعماراً والموجودات كلها كتاباً لما أمكن شرح تفصيل ذلك على تحقيق ما هو عليه،ولكن الله يمنحه من يشاء من عباده.
المسألة الثانية: متعلقات العلم بالوجود المُحدَث:
فهي أيضاً تنقسم من حيث الإجمال على أربعة أقسام.
القسم الأول:هو العلم بنشئيتها التي صدرالأمر إليها بكُن فيكون،وهذا العلم متفرّع إلى فروع كثيرة لأن معرفة شيئية ذلك الموجود له لوازم كثيرة،كالعلم بحقيقة الشيء وماهيته وشأنه وخاصيته وما يقتضيه لذاته ومايقتضيه لصفاته وما يقتضيه بعارض الأحوال الطارئة،وأي معنى خصّصه ولِمَ خصّصه دون غيره بهيئته وماهيته في شيئيته،وهل حُكم الموجود له أو لغيره،وهل ذلك الغير غير بالحقيقة أوهو غير بالمجاز، وكيف قَبل الحُكم بالأمر مَن ليس هو بموجود ولا حقيقة له،وكيف نقول أنه موجود وهو لم يتكوّن،وهل ينتج من هذه المسألة أن يكون موجوداً في شيئيته وجوداً غير وجود التكوين،وهل إن قُلنا بهذا يستلزم حدوث ما لم يكن في العلم لأن الوجود بالتكوين على هذا القول لم يكن لذلك الشيء وقد صار فيلزم من ذلك عدم العلم بتكوينه،وذلك محال لأنه لو لم يكن له في العلم ما كان بصيراً،وهل الأمر على قبول النسبتين المتضادتين من الوجود والعدم المطلق والوجود التكويني والوجود الحقيقي والعدم الإضافي والقدم المحض والوجود المحض،وهل العدم المحض لا يكون منه وجود بنوع أو يكون،وهل ذلك معقوليته من حيث هو، وهل يتصور معقولية العدم المحض أولاً.وهذا الباب فيه من العلوم مائة ألف علم وستة وثلاثون ألف علم من العلوم الحقيقية، ويجمع ذلك ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:هي المعرفة بأن الأعيان الثابتة معينة في العلم الإلهي على حسب ما هي موجودة الآن من أن هذا الوجود عين ذلك العين الثابتة من غير زيادة ولا نقصان.
والمسألة الثانية:هي معرفة حقيقة ذلك العين الثابتة الموجودة في العلم.
والمسألة الثالثة:هي معرفة الشؤون التي هي للعين الثابتة..
والقسم الثاني:هو علم معرفة المراتب العلوية والمراتب السفلية والمتوسطة،وأحكام تلك المراتب،ومعرفة ترتيب أطوار هذا الوجود المحدث في تكوّنه وتطوّره،ومعرفة تداخل بعضه في بعض،إما حكماً وهو النكاح المعنوي،وإما عيناً وهو النكاح الصوري،ومعرفة سرّ الامتزاج وكيف يصير الأب ابناً والابن أباً والفرع أصلاً والأصل فرعاً،ومعرفة النسب والإضافات والاعتبارات والصفات اللازمة والعارضة،ومعرفة القابلية والاستعداد الذاتيتان اللذان يتغيران واللذان يلحق بهما التغيّر. وفي هذا الباب علم معرفة الأرواح المهيمنة والأمور الكليات،والأرواح العلوية والعلوية العنصرية،وعلم كيفية التحكيم والتحكم لمن صار حاكماً أو محكوماً عليه،وعلم الدقائق الإلهية الناظرة إلى هذه الموجودات في اختلاف هذه الشئون،وفيه علم معرفة تقلبات الطرق في أحدية معانيها..وفي هذا الباب علم الحروف العاليات والكلمات الإلهيات،وعلم النقطة والأشكال والمعنويات،وفيه علم عالم المعنى وعلم عالم الجبروت،وعلم خط الإنسان الصغيرالذي هو آدم والإنسان الكبيرالذي هو العالم الموجود تحت العرش من عالم المعنى وعالم الجبروت،ومن وقف على هذا العلم عكس الأمر وجعل الإنسان عالماً أكبر وجعل العالم الموجود تحت العرش عالماً أصغر.وفي هذا الباب من العلم علم نفوذ القدرة وعلم السحر والسيميا والهيميا،وفيه علم السمسمة،وعلم الخيال الحقيقي والخيال المجازي والخيال العارض،وعلم الوهم ووهم الوهم،وعلم الفهم،وفهم الفهم،وعلم العقل الأول وعلم العقل العليّ وعلم العقل العالي وعلم عقل العقل،وعلم الصورة الروحانية الإنسانية،وعلم القلب وعلم فتح القلب.. ثم إن هذا الباب من العلوم ما لا يمكنني شرحه،ولكن ينحصر جملتها في مائة ألف علم وستة عشر ألف علم ومائة علم وثمانين علماً.
والقسم الثالث:هو معرفة ما حظّ كل موجود فرد من الوجود المطلق،وعلى أي نمط وجد ذلك الموجود على الصورة الإلهية من حيث الباطن أو الظاهرأو كلاهما،أم هو على البعض منها تقديراً،ولا تبعيض في الصورة الإلهية،وهل هو على الصورة والمعنى الإلهيتين أم لا،وهل الكمّل محيطون بالكمالات الإلهية والكمالات الخلقية من حيث الجملة والتفصيل أم لا.
وفي هذا الباب معرفة الحروف اللفظية وما حملته من سرّ النقطة،ومعرفة تنوعات التجلي في حقائق الحروف،ومعرفة أحكام تعيين الحروف وتركيب بعضها مع بعض،ومعرفة ما حظها من الحقيقة،ومعرفة الفرق بين الحروف المعنوية والحروف الخيالية والحروف اللفظية والحروف الحسية،وكيفية تقلباتها في أفلاك الأطوار الحكيمة وأطوار الأفلاك الوجودية.
وفي هذا الباب علوم لا نهاية لها،غير أن جميع ذلك ينحصر في سبعمائة ألف ألف علم وسبعة وثمانين ألف ألف علم وستمائة ألف علم وأربعة وخمسين ألف علم وثلاثمائة علم وواحد وعشرون علماً،كل علم من هذه العلوم أمّ تحتها علوم جمّة بالنسبة إليها..
والقسم الرابع: هو معرفة الوجود والأجسام والجوهر الفرد والعرَض البسيط منه والمركب، ومعرفة الأسرار الحاصلة بالتركيب،ومعرفة مقتضياتها في شئونها الكلي والجزئي، ومعرفة كل مركب منها وكيف تركّب هذا النوع المخصوص.. وفي هذا الباب من العلوم الإجمالية بعدد المخلوقات،ولكل مخلوق لوازم علم،فسبحان من يحيط بكل شيء.
المسألة الثالثة:متعلقات العلم بما ليس بوجود قديم ولا بوجود محدث:
وهو وجود مطلق ،من غير نسبة قديم ولا حديث إليه،وقد ذكر ذلك المحققون في تأليفاتهم بعبارات شتّى، وحاصل الكلام: أن الوجود المطلق هو حقيقة الحقائق أنه غير مقيّد أومنسوب إلى وجهة حقية أووجهة خلقية،فليس انتساب أحدهما إليها بأولى من انتساب الآخر وهي المعبّر عنها بالعماء في قوله صلى الله عليه وسلم:كان ربك في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء اهـ،أي ليس للعماء نسبة فوقية يعبّر عنها بالكمالات الإلهية ولا نسبة تحتية يعبّر عنها بالأوصاف الخلقية.
وفي هذا الباب علوم شتّى،منها علم الممكن المرجّح جانب عدمه في العلم الإلهي.وفيه أيضاً علم الأعيان الثابتة وهو صورة الموجودات في العلم الإلهي،وهل يُقال لها وجود قديم بذلك الاعتبار أم ليس لها إلا وجود محدث في ذلك المحل.
فصل: اعلم أن هذه العلوم التي أردنا ذكرها من حيث الإجمال في هذا الفصل المقدم،لا يمكن الكلام عليها من حيث التفصيل في مثل هذا الكتاب.فنحن نذكر أبواباً هي أمهات لهذه العلوم كلها،والكلام عليها منوط بعلم الحرف،لأنالحروف هي أصل الألفاظ والألفاظ هي الحاملة للمعاني.فمن تحقّق بمعرفة هذه الأبواب فتح الله له باب العلم بمعرفة الوجود المطلق،ومن يتحقّق بمعرفة كتابي هذا فإنه يتحقق بعلم هذا الوجود المطلق ويعرف به الحق والخلق.وذلك لأني أتكلّم على الحرف من حيث السببية الذاتية الإلهية وما يتعلّق بها،ثمّ أتكلّم عليها من حيث حقيقتها في بطونها وظهورها،وأتكلم في مناسباتها بالموجودات،وبذلك تفهم حقائق الأشياء إن كنت ممن له قلب أو ألقى السمع وهوشهيد.ثمّ اعلم أنه ليس مرادي من ذكر الحروف ذات الحروف الرقمية أواللفظية أوالمعنوية،بل مرادي من ذلك ما أشير إليك به عقب ذكره من المناسبات،فذلك المعنى الظاهر كالمجاز للمعنى الحقيقي الذي أردته،ولم أعدِل إلى إشارة بتلك الأسرارعن تصريح لطلب حصول البلاغة في الكلام،فإن البلغاء مُطبقون على أن الكلام بالكتابة أفضل منه بالمجاز،فإنالسرّ لا يُفشى ولو صرّحت به،إذ الحقائق تأبى ذلك.
فصل: فهرسة الكتاب:اعلم أن الحروف ثمانية وعشرون حرفاً،والحرف التاسع والعشرون هو حرف الألف ــ يعني لام الألف، والهمزة حرف منقوطة،فصارت جملتها ثلاثين حرفاً، فلأجل ذلك جعلنا هذا الكتاب على ثلاثين كتاباً بالمقدمة،وسميتها بكتاب:النقطة،نتكلّم فيها على أسرار النقطة ومُجلياتها وأطوار ظهورها وبطونها في سائر شؤونها،ونتكلّم في كل حرف من الحروف،والخاتمة مع الألف: فنتكلم فيها على الحركات الأربع الثابتة والأربع الإعرابية،وعلى الكلمة والكلام. تتضمن المقدمة عشرة أبواب،وكذلك الخاتمة عشرة أبواب.
الأبواب العشرة من المقدمة: حقيقة النقطة:النقطة هي حقيقة حقائق الحروف،كما أن الذات حقيقة حقائق الوجود،فنسبتها إلى الحروف كنسبة الذات الإلهية إلى الصفات. فكما أن الذات تتجلّى بالصفات والأسماء بما تقتضيه حقائقها،كذلك النقطة تظهر في كل حرف بما يقتضيه حُكم الحرف.وإنما تعلم ذلك إذا علمت أن الحرف جميعه إنما هو نقطة بإزاء نقطة،فهو مركب من النقطة،فليس الحرف إلا مجموع نقط،بهذا الاعتبار كانت نسبة الحرف من النقطة كنسبة الجسم من الجوهر الفرد.فلولا الجوهر لما ظهر الجسم، ولولا النقطة لما ظهر الحرف،ولولا الذات لما ظهرت الصفات.ولولا أنت لما ظهرت تلك الحقائق الكلية والجزئية، العلوية والسفلية،الحقية والخلقية.أنت النقطة فاظهَر بذاتك في حقائق حروف الوجود وتصور بصورتها كما تجدها،فما تلك الكمالات إلا عبارة عما حَويته،ولولا ذلك لما وجدت إلى نسبتها طريقاً في علمك.وانظر إلى حقيقة علمك بمعلوماتك،ثمّ حقّق النظر وميّز من هو العالِم ومن هو المعلوم،وما هي النسبة العلمية،وما تلك الصورة المشهودة في خزانة خيالك،تفُز بسرّ لم يطلع عليه إلا الكمّل من عباد الله تعالى.
التجلّي الإلهي من حيث النقطة: اعلم أن للذات الإلهية في الذات تجليات ذاتية ليس لها بأيدينا اسم ولا صفة ولا تعرّف الحق بها إلى أحد من عباده،بل هي من خصائص الذات.وإلى تلك التجليات الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه:اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك،علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك اهـ، فما أعرفه صلى الله عليه وسلم بربه،فإنه سأله بجميع شئون الذات،فما أجمع هذا المظهر المحمدي لجميع الكمالات الإلهية حيث سأل الله بحقيقة السؤال،ولذلك حصلت له الإجابة فكان أكمل الموجودات وأفضلها.. والتجلي الذاتي،الذي هو الذات في الذات،لمّا كان من خصائص الذات الأقدس،إذ كانت الموجودات لا تقوى على حمل ذلك،فلو ظهر للوجود بلمحة من بارق تلك التجليات لانعدم المكونان، الدنياوالآخرة،في أسرع لمحة.ولما كان الوجود الإلهي يقتضي ألايدّخر الحق شيئاً عن خلقه ممّا فيه سعادتهم جعل النقطة في الوجود عبارة عن تلك التجليات الذاتية.ولقد درجت في بعض معارج الغيب فأشهدني الحق تعالى صورة النقطة في عالم القدس عنده،فإذا هي على صورة الحقيقة المحمدية.فعلمت أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو المعبّر عنه بالنقطة وهو الحاوي لجميع ما حوته النقطة، فهوالحقيقة النقطية من هذا الوجه، وتحريف الميم من اسم محمد هو محل النقطة.
مراتب النقطة: النقطة لها مرتبة المراتب في الوجود،فكما أن الألوهية من خصائص الذات كذلك المرتبة العليا في الحروف من خصائص النقطة،كما أنه يُنسب إلى الله تعالى كل كمال إلهي،كما يُنسب إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كل المحاسن الإنسانية، ألا تراه يقول: بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق اهـ، فكل خُلق حسن وصفة حسنة من أوصاف المخلوقات وشمائلها الحسنة،ظهر ذلك فيهم بالنيابة عن سيدنا محمد، وحقيقتها له دونهم،كما أن كل الكمالات الإلهية الظاهرة في جميع أفراد الوجود إنما هو لله تعالى وحده من دون كل موجود سواه. فالفعل في تأثير الحروف للنقطة،كما أن أفعال العباد كلها لله تعالى،وفي هذا التجلي الفعلي مظاهر.
بطون النقطة:النقطة لها في بطونها مقتضيات،وتلك المقتضيات هي حقائق الحروف والكلمات والمعاني الموجودة في جميع ذلك، فالنقطة لتلك الحقائق كالدواة للحروف الرقمية،وذلك عبارة عن شأن الذات الإلهية فإن جميع الموجودات ممّا اقتضته الشئون الذاتية..واعلم أن الأعيان الثابتة في العلم الإلهي عبارة عن صور المعلومات الإلهية،تسمّى في علوم القوم بالحروف العاليات،فنسبة الأعيان الثابتة من صفة العلم كنسبة الحروف الوضعية من النقطة أو نسبة الحروف الرقمية من الدواة،أي نسبة الثمرة من النخلة.. فشأن البطون الذاتي هو تجلّيه تعالى لذاته بذاته بما لا يسعه هذا الوجود،كذلك جعل النقطة عبارة عن هذا المعنى فلها في بطونها شأن لايسعه عالم المعنى،فلا يفهم للنقطة معنى،على أن كل المعاني راجع إليها،كما قُلنا مراراً: أن المعاني ترجع إلى الألفاظ والألفاظ ترجع إلى الحروف والحروف ترجع إلى النقطة،فكل من الكلمات والحروف والمعاني لها تمييز في نفسها عن خلافها،وليس للنقطة تمييز ولامعنى يُفهم. ولأجل هذا ذهب من ذهب إلى أن التجلي الذاتي للذات في الذات لا يقع عليه اسم ولاصفة،وبعضهم يسمّي ذلك التجلّي: تجلياً عدمياً،ويزعم أن هذا التجلي الذاتي خارج عن مدرك الأسماء والصفات،والعلم من جملتها،فلا يحيط بها علم. وأما أنا فلا أقول بهذا،غير أنّي أقول أن التجلي الذاتي تجلي مخصوص لا يقع عليه اسم ولا صفة،وأقول: إن العلم حصر ذلك التجلي،فهوظاهر في علمه لذاته في ذاته بذاته.
ظهور النقطة: ورد في الحديث القدسي: كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني اهـ. كثرة الخلق على ما هي عليه،لأنه تعالى على ما عليه كان لا يتغيّر ولا يتبدّل،فلم يزده خلق الخلق صفة ولم تكن له غاية. فعرفوه على قدر قوابلهم،ومعرفته تعالى من وراء معرفتهم إيّاه،فلم يعرفوه حقيقة المعرفة.. ومن عرف هذا أقرّ بالعجز،فقال: العجز عن درك الإدراك إدراك اهـ. وقال سيد أهل هذا المقام صلى الله عليه وسلم: ما عرفناك حق معرفتك،أنت كما أثنيت على نفسك اهـ،فرجع الأمر إلى الله تعالى في معرفة الله،وأحال أنه كما يعلم نفسه ويُثني عليها ليكون ثناؤه على الله عين ثنائه على نفسه.فمن عرف هذه المعرفة فقد عرف الله بالله حق المعرفة،وإلى هذا المعنى الإشارة: فبي عرفوني.وإذا فهمت هذا عرفت أن النقطة،مع مابرزمن معانيها على الحروف والكلمات، باقية على شأن البطون،فهي كالهيولى لصور الحروف والكلمات والمعاني،فلا يمكن ظهور جميع ما في النقطة،كما لا يمكن ظهور جميع ما للهيولى من الصور بحال.الموجودات مظاهر لله تعالى،فمن عرفها فقد عرف الله تعالى.فما في الوجود جاهل به أبداً، سواء كان كافراً او مؤمناً،فغاية ما في الباب أن الكافر أنكر وجود الله من حيث الصفات الكمالية الإلهية،وأثبته من حيث الوجود الخلقي لأنه لا يقدر أن ينفي الموجودات،ولما أثبتها فقد أثبت وجود الله ضمناً لأنه المُتجلّي بحقائق الموجودات في الموجودات لا كشيء في شيء،ولهذا آل الكل إلى السعادة.ومن لاحظ هذا المعنى عرف ما أشار إليه الشيخ محيي الدين من ذكره لفرعون في كتاب الفصوص..فالكل على الفطرة الأصلية التي هي عبارة عن حقيقة التوحيد المأخوذ عليهم في العهد حيث قال لهم(ألست بربكم قالوا بلى)فهم مولودون على تلك الفطرة ولا تبديل لخلق الله،فهم على ذلك في كل حال،والتهوّد والتنصّر راجع إلى طرف المعرفة المختصة بهم من حيث أتت الرسل،فافهم.
النقطة البيضاء والنقطة السوداء: سبق ذكر أقداس الميم المحمدي،إنما كان مُجوفاً لأنه محل النقطة،فلما تميّزت النقطة عنها بقي الموضع فارغاً،فملأ البياض فصارت نقطة بياضية،وذلك إشارة إلى المقام المحمدي حيث كان محلاً للتنزلات الإلهية،لأن البياض يقبل ما يرد عليه من الألوان،بخلاف السواد فإنه لايقبل لوناً غيره.فكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مهبط الوحي ومنزل الملائكة القدسية ومظهر الصفات الإلهية، فنسبة نقطة الميم المحمدي من النقطة المطلقة نسبة العرش من الاستواء الرحماني. فكما أن العرش محل الاستواء الرحماني،كذلك الميم المحمدي محل النقطة وظهورها،كما أن هيكله صلى الله عليه وسلم ظاهر في الوجود بالصفات الإلهية الكمالية،كذلك باطنه الموصوف.. ثمّ اعلم أن النقطة تبرُز في الحروف اثنين وعشرون مرّة،فاضرب اثنين وعشرون في ثلاثة لأن النقطة إنما ظهرت واحدة في مواضع واثنان في مواضع وثلاثة في مواضع،وليس للظهور إلا ثلاث مراتب،فاضرب الجملة عددها في مراتبها تخرُج لك الجملة ست وستون.وهذا عدد اسم الله،وحقيقة هذا المعنى أن مظاهر الذات في الوجود على ثلاث مراتب: أسماء وصفات وأفعال،والكل هو الله تعالى. ثمّ اعلم أن النقطة البيضاء برزت في الحروف إحدى وعشرين مرة،فتكررت بقدر نصف العدد الذي تكررت فيه النقطة السوداء. وإذا أردت أن تفهم سر ذلك،فخُذ بسائط حروف اسم محمد تلقاه عين هذا العدد، فجملة البسائط أحد عشر وهوعدد تكرار البيضاء في الحروف. فسألني وقُل:لمَ سمّيت تكرارالنقطة البيضاء بنصف تكرار النقطة السوداء،أقول له: لأن الوجود المطلق هو الحق تعالى،والوجود المقيّد للخلق. وفائدة هذا الكلام أن الحق تعالى هو المتجلّي في مظاهر أسمائه وصفاته وأسماؤه وصفاته تجليات في الوجود،أي ظهوره في المخلوقات،فرجع إليه الوجود المنسوب إلى المخلوق،فله الوجود جميعه،وهذا حقيقة التوحيد لأن وحدانيته لن تترُك في الوجود وغيره،فهو كل الوجود(لمن الملك اليوم لله الواحد القهار).فكما أن الاسم الرحمن للظهورات الكثيرة لتنبسط الرحمة بإيجاد الموجودات لإظهار آثار الأسماء والصفات، كذلك الاسم الواحد اقتضى أحدية الأشياء في الباطن فتلاشت عندها حقيقة الكثرة وعدم العدد،فهذا معنى سلطنة الباطن والظاهر في الأسماء بهذين الاسمين.اعلم أنك إذا جمعت عدد تكرار النقطة السوداء والنقطة البيضاء في الحروف،ولا تكرار للوسع الإلهي،بل لو قُلت: باء ألف مرة،لم تكن هذه الكلمة متكررة،لأن النقطة أبداً ليست الأولى مَضت وجاءت نقطة أخرى غيرها،ولكنها تشابهها في الحد ولا تكرار في الوجود.وإذا علمت ذلك وجمعت العدد التي لها بين النقطتين،وجدت جملته ثلاثة وثلاثين،وهي عدد السبحات التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسبّح الله تعالى بها،فإذا هلّلت مثلها وزدت عليها العدد بلغت أعداد اسم الله تعالى وذلك ستة وستون،فإذا كرّرت مثلها وأضفت ذلك إلى العدد الأول بلغت الجملة تسعة وتسعين وهي عدد أسماء الله الحسنى التي هي أصل هذا الوجود الخلقي فإن العالم أثر تلك الأسماء، وليس المراد من العالم إلا ظهور تلك الأسماء ومعرفتها بآثارها،وليس المراد من ظهورها ومعرفتها إلا ذات الله تعالى.فانظر إلى هذا السرّ العجيب،وافهم ما تحت هذه الإشارات. النقطة البيضاء المعبر عنها بالميم المحمدي هي جامعة للنقطة السوداء بظهورها فيها،فكانت البيضاء محلاً لظهورها للرائي إلى العين. فلولا ظهور النقطة السوداء التي هي إنسان العين،في النقطة البيضاء التي هي عين الإنسان،لما ظهرت المرئيات،وهذا المعنى إشارة إلى أن الهوية الإلهية المعبر عنها بغيبوبية الصفات الكمالية في بطون الذات الأقدسية ظاهرة في الحقيقة الذاتية الإنسانية.
توحيد النقطة وتثنيتها وتثليثها: توحّد النقطة دليل على واحدية الله تعالى في الوجود وأنه محض الوجود المطلق،إذ لا موجود سواه. وأما تثنيتها فدليل على أن الله تعالى من حيث الجملة في الوجود مظهرين: مظهر حقيقي قديم،وهو عبارة عن تجليه من أسمائه وصفاته.ومظهر خلقي حادث،وهو عبارة عن تجليه في مخلوقاته من غير حلول ولا كشيء في شيء،بل كما يستحقه لنفسه.وأما تثليتها فدليل على أن تجليات الحق سبحانه وتعالى في المظاهر كلها على ثلاثة أقسام: قسم يسمّى التجليات الذاتية،وهي في الأسماء التي لا تُفيد معنى الوصفية،كاسمه الأحد وغيره من الأسماء الذاتية.وقسم يسمّى تجليات الصفات،وهي تجليه في باقي الأسماء التي تفيد معنى الوصفية.وقسم يسمّى تجليات الأفعال،وهو ظهوره في صفته،أعني في خلقه وفعله. وأما ظهور النقطة في الحرف: تارة من فوقه وتارة من تحته،وتارة نفس الحرف كما شرحنا في النقطة البيضاء،فدليل على تنوّع الظهور الإلهي في هذه الخلقية،ولهذا قال أبو بكر: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله اهـ وهذا موضع الإشارة إلى ظهور النقطة فوق الحرف،وقال عثمان: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله بعده اهـ ..وهذا موضع الإشارة في ظهور النقطة تحت الحرف،وأما قول عليّ: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله معه اهـ فهذا موضع الإشارة إلى ظهور النقطة في أعيان الحروف أي في ذاتها.
منافع النقطة:النقطة من باب الإشارة روح،والحرف جسم.فإذا كتبت الحرف وجعلت عليه نقطته،فقد نفخت فيه الروح وأكملت حقيقته،وحينئذ يُثمر لك ما أردت من الحرف بحسب ما تختار من المعنى.. ثمّ اعلم أن النقطة السوداء كالنقطة البيضاء،فإذا طمست الحرف الذي له نقطة بيضاء فقد أسقطت نقطته ونقصت بذلك قوله في التأثير ولا يتوهّم أن المُهمل ليس له نقطة،فإنعدم العلامة بين أهل العلامة علامة..فلا أقلّ لك من أن تشهد الحق تعالى عند رؤيتك لخلقه، أي تراه بقوله(فأينما تولوا فثم وجه الله)ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى في قبلة المصلياهـ، فكن ناظرا إليه في خلقه من غير اعتقاد حلول،كما قال صلى الله عليه وسلم: اعبد الله كأنك تراهاهـ، ثم بيّن لك رسول الله كيفية الوصول إلى هذا الشهود بأن قال عقب ذلك: فإن لم تكن تراه اهـ بعين،فإن لم يكن عند نفسك موجوداً سواه تَراه أنه كل الموجود وأنه عينُك أيها الرائي. ثمّ قال عقب ذلك: فإنه يراك اهـ يعني: إذا لم تكن أنت كأنك تراه،بلفهو الذي يراك وتراه،وهذا عين معنى قوله تعالى:(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)أثبت الرمي لسيدنا محمد ثمّ جعله لله،فافهم. الأسماء المختصة بالنقطة: الأسماء التي تختصّ بالنقطة من جهة الحقيقة هو اسم الله”هو”،ويصلح هذا الاسم أن يكون ذكراً للعارفين فإنهم يعرفوه على ذواتهم المشار إليها في:(قل هو الله أحد)،ولا بد من تعقّل الهوية الإلهية التي هي عبارة عن شأن الذات والأسماء والصفات،بطوناً لا ظهوراً.فالهوية باطن الأحدية، والأحدية باطن الهوية،لأن هذه الإشارات أيضاً تنقطع في الأحدية.. وأما الأسماء التي هي للنقطة من حيث المجاز فهي اسمه: الله والأحد والرحمن والمحيط والعظيم والخبيروالقدوس،فهذه سبعة أسماء تختص بالنقطة ويصلح هذا القسم من الأذكار للمريدين والسالكين ولكل من له توجه في طلب الحق تعالى ورغبة في سلوك طريقته سبحانه،فإنه يُسرع لهم الفتح وتظهر لهم الحقائق وتطهّر نفوسهم،وتنكشف لهم العوالم. ومن داوم على هذا الذكر مع خشوع وسهَر، وهو يُلاحظ عند ذكره معاني حقائقها (أي: يتعقّل ألوهية الحق تعالى إما من حيث الإطلاق لله أو من حيث ظهوره في الذكر)،كشف الله عنه الحجب المانعة له من شهوده حتى يراه عياناً،بل يرجى أن يفتح الله عليه ولو بجلسة واحدة على قدرما قسم الله له بحسب الفراغ من كذورات الأشياء المشوشة في الخاطر.الظاهرعندنا هو المجاز والباطن هو الحقيقة،وبهذا الاعتبار قال بعض العارفين: المجاز قنطرة الحقيقة،يعني أن من عرف هذا الوجود الظاهر وحقّق معرفته عرف الله تعالى.وما عرف هذا الوجود إلا أحد رجلين: رجل شهد العالم مظهر والحق باطن فيه،ورجل شَهد الحق تعالى مظهر والعالم هو الظاهر فيه. وعلى كِلا الوجهين،فما في الوجود إلا حق وخلق،فما ثَمّ إلا خلق بحقّ وحقّ بخلق. ومن قال غير هذا فقد قيّد الذات بما لها من حُكم المرتبة لا بما لها من حيث وجود العين، فالحق تعالى له من حيث حكم المرتبة أوصاف وله من حيث التعيّن الذاتي الوجودي أوصاف.
الوفق المختص بالنقطة: ذلك الوفق هو الاسم الله من حيث المعنى،وهوالإنسانية من حيث الصورة. الوفق إنما سمّي وفقاً لحصول الموافقة الكليّة وضعاً وعدداً واطلاعاً وسطراً ومشاكلة للمطلوب وللوقت وللشرف وللاسم الناظر في ذلك الوقت،فإذا اجتمع ذلك كله سمي وفقاً.. النقطة من حيث الإشارة هي عبارة عن الذات الإلهية،وليس لها وفق إلا اسم الله،إذ هو الاسم الذاتي باتفاق العلماء بالله. ثمّ إن هذا الاسم ليس له وفق إلا الإنسان،وذلك أنك تجد فيه جميع الاعتبارات الموجودة في ذلك الاسم..وللنقطة بسائط،فإذا ألغيت المكرّر منها بقي سبعة أحرف وهي: النون والواو والقاف والألف والفاء والطاء والهاء.فالألف إشارة إلى الحياة لسريانها في الأحرف،كما سرت الحياة الإلهية في الوجود. والنون إشارة إلى القلم،لأن اللوح يسمى النون في الملكوت الأعلى،قال الله تعالى(ن والقلم وما يسطرون)يعني اللوح والقلم الأعلى،واللوح محل العلوم الإلهية. والهاء إشارة إلى الإرادة،والقاف إلى القدرة،والفاء هي الفهوانية وتلك الإشارة إلى المتكلم، والطاء إشارة إلى السمع،والواو إلى البصر.فكانت السبع أسماء النفسية هي الباطنية في هذه الحروف.. تمّت المقدمة من كتاب حقيقة الحقائق،وسُمّي أحد الجزئين بكتاب النقطة،وهو جزء من تجزئية ثلاثين جزء منه من كتاب حقيقة الحقائق.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. لخصه الاستاذ رشيد موعشي غفر الله له ولوالديه