علم البَدْء
هو علم الفصل بين الوجودين،القديم والمُحدث.وهو علم عزيز وغير مقيّد.وأقرب ما تكون العبارة عنه،أن يُقال: (البَدْء إفتتاح وجود الممكنات على التّتالي والتّتابُع)،لكون الذات الموجدة له إقتضت ذلك،من غير تقييد بزمان،إذ الزمان من جملة الممكنات الجسمانية،فلا يُعقل إلا إرتباط ممكن بواجب لذاته.فكان في مقابلة وجود الحق،أعيان ثابتة،موصوفة بالعدم أزلاً،وهو الكون،الذي لا شيء مع الله فيه،إلا أن وجوده أفاض على هذه الأعيان،على حسب ما إقتضته إستعداداتها،فتكوّنت لأعيانها،لا لهُ،من غير بينيّة تُعقَل أو تتوهّم.فوقعت في تصوّرها (الحَيْرة) من الطريقين: من طريق (الكشف)،ومن طريق (الدليل الفكري).والنّطق عما يقتضيه الكشف،بإيضاح معناه،يتعذّر: فإن الأمر غير مُتخيّل،فلا يُقال،ولا يدخُل في قوالب الألفاظ بأوضح مما ذكرناه.وسبب عزّة ذلك،الجهل بالسبب الأول وهو (ذات الحق).ولما كانت سبباً،كانت إلاهاً لمألوه لها،حيث لا يعلم المألوه أنه مألوه.فمن أصحابنا من قال: (إن البدء كان عن نسبة القهر)،وقال بعض أصحابنا: (بل كان عن نسبة القدرة)..والذي وصل إليه علمُنا من ذلك -وَوَافَقنا الأنبياء عليه- أن (البدء عن نسبة أمْر،فيه رائحة جَبْر).إذ الخطاب لا يَقَع إلا على عَيْن ثابتة،معدومة،عاقلة،سميعة،عالمة بما تسمع: بسَمْع ما هو سمع وجود،ولا عقل وجود،ولا علم وجود.فإلْتَبست،عند هذا الخطاب،بوجوده.فكانت (مَظْهراً له) من إسمه (الأول-الظاهر).وإنسحبت هذه الحقيقة،على هذه الطريقة،على كل عَيْن عين،إلى ما لا يتناهى..فإن مُعطي الوجود لا يُقيّده ترتيب الممكنات،فالنسبة منه واحدة.ف(البَدْء ما زال،ولا يزال).فكل شيء من الممكنات له عين الأوليّة في البدء.ثُمّ إذا نُسبت الممكنات،بعضها إلى بعض،تعيّن (التقدّم والتأخّر)،لا بالنسبة إليه سبحانه..فوقف “علماء النّظر” مع (ترتيب الممكنات)،حيث وَقَفنا نحن مع (نسبتها إليه تعالى)..
فأوليّة الحقّ هي أوليّة (العالم)،إذ لا أوليّة للحق بغير العالم،لا يَصحّ نسبتُها ولا نَعْتُه بها.وهكذا جميع النّسب الأسمائية كلها..فعَيْن الممكن لم تَزل،ولا تزال،على حالها من الإمكان..والأمور لا تتغيّر عن حقائقها،بإختلاف الحكم عليها،لإختلاف النّسب.ألا ترى إلى قوله تعالى (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً)،وقوله تعالى (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)،فنَفى الشّيئيّة عنه وأثْبَتها له،والعين هي العين،لا غيرها…
ابن عربي