الصّلاة الثّالثة
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلاَنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا وَمَوْلاَنَا مُحَمَّدٍإسطرلاب المملكة الإلهية.سَجَنْجَلُ مظاهر الرحمانية.الدائرة المحيطة بجميع الدوائر الكونية،والخط الفاصل بين الربوبية والمربوبية،والنقطة التي بها رُحم الوجود،وميزت العابد من المعبود.خوطب و خاطب،دنا فتدلى، ،وبخُلق عظيم تحلى،تقدم في الوجود،وتأخر في الشهود.ظهر وتستر،وفي عين الوحدة بورك وتكثر،فظهر تفصيل ما كان مندرجا في حقيقته اندراج النخلة في النواة : ففي حقيقة النواة هناك نخلة﴿ وما أرسلنا مِن قبْلك من رسولٍ ولا نبي ﴾ وصحبه وسلم .
*إسطرلاب: كانت الأسطرلابات آلات فلكية في وقتها، فقد كانت تحلُّ المسائل المتعلقة بأماكن الأجرام السماوية، مثل الشمس والنجوم، والوقت أيضًا، وكانت تستخدم أيضا في الملاحة لتعيين زوايا ارتفاع الأجرام السماوية بالنسبة للأفق في أي مكان لحساب الوقت والبعد عن خط الاستواء..استعار العارف المحقق أهمية هاته الآلة لينعت بها عمل النبوة في الكون فما من حركة في المملكة الإلهية إلا وهي تابعة للنبوة مشيرة إليها مرهونة بها ..
*سَجَنْجَلُ : في اللغة هي المِرآة ،إشارةً إلى أنّ المحمدية هي مرآة بساط الرحمانية الذي هو بساط سُطّر فيه الحُكم بإظهار المقتضيات الأسمائية والصفاتية..
*الدائرة المحيطة بجميع الدوائر الكونية : ﴿ والله مِنْ ورائهم محيط ﴾ المحيطُ مِنْ أسماء الحق سبحانه ،و النبوة متحلية بهذا الإسم الإلهي اصطحابًا فهي محيطة بكل شيء ( للتوسع الرجوع للموقف التاسع و التسعون)…لهذا فالمولى رسول الله صلى الله عليه و سلم هو سجنجل الدائرة التي انطبعت فيها كل الدوائر ، ومن مقتضى ذلك تحقق إحاطته و وُسعه : فهو صلى الله عليه و سلم شاهد و شهيد مُتَحَلٍّ بحال مشهوده سبحانه..
*والخطُّ الفاصل بين الُّربوبية والمربوبية : الخط يُقصد به الحجاب ،أي البرزخ الذي يستَمِدُّ مِنْ وِجهتين ..فَلَه صلى الله عليه وسلم وِجهةٌ حقية تردّى فيها بكل إسم و صفة إلهية و وِجهة خلقية باعتباره مولودا من أبٍ و أمِ طاهرين عليهما السلام ،فيعتريه ما يعتري كل إنسان كما تقدَّم بيانُه..الله سبحانه هو الذي أعطاه هذا الخلق الفريد..ومِنْ تمام رحمة الحق سبحانه بالخلق أنَّ للنبوة وجهةٌ خلقية ليتنزّلَ ما يصلُ للخلق عن طريق هذا البرزخ ،وبهذه الوجهة الخلقية البشرية للنبوة المجانِسة للخلائق تُرجِمت الرحمة ووصل مقتضاها للكون و أهله ..بل كانت مناط الرسالة ﴿ وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَة لِّلۡعَـٰلَمِینَ ﴾..قال الحق تعالى﴿ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُوا۟ مَسَـٰكِنَكُمۡ لَا یَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَیۡمَـٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ﴾، فحين انعدمت المجانسة بين سيدنا سليمان عليه السلام و بين النمل كان انعدام الشعور ،لكن حين حصل هذا الشعور ظهرت الرحمة فلم تتحطم النملة التي ظنَّتْ أنَّ هلاكَها مُحقَّقٌ..
*والنقطة التي بها رُحم الوجود : النقطة النورانية البارقة من بساط الأحدية هي هيولى الفيض التي لولاها لما كان الوجود موجودا و لا مرحوما بشاهِدِ ﴿ وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَة لِّلۡعَـٰلَمِینَ ﴾و ﴿ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ رَءُوف رَّحِیم ﴾.. ومن مظاهر رحمة النقطة النورانية بالوجود كونُها هي هيولاه إيجادًا،و هي القاسِمةُ المعطية له إمدادًا بحسب ما يستحق كل موجود مِنْ قسائم ِمقتضياتِ الأسماء .. ومن مظاهر تلك الرحمة أيضا قيامه صلى الله عليه و سلم (حاجزا بين المخلوقات و صدمات التجليات فلولا وساطته لما استطاع الوجودُ الصمود)الصلاة 38 الخبيئة.
*وميّزت العابد من المعبود : ما كان لأحدٍ أنْ يعْرِف ربه لولا النُّبوة ،فهي التّي دلَّت المألُوهين على الإله فعَبَدُوه سبحانه ،الكونُ كله مفطورٌ على معرفة الله سبحانه و لو كان في الوجود ثَمّةَ مَنْ لا يعْرف الله تعالى معرفةَ عبادةٍ فذلك معناه أن النبوة لم تقم بما أنيط بها من الدّلالة و الرِّسالة وهذا باطلٌ لشواهِد قرآنية كثيرةٌ ﴿وإن من شيء الا يسبح بحمده﴾..﴿لله يسجد ما في السموت و ما في الارض من دابة﴾ .. ﴿كل قد علم صلاته و تسبيحه﴾..هذه هي الحقيقة التي تَبِعَت التجلي ،أما الشريعةُ فتَبِعَتِ الرسل عليهم السلام وكل مَنْ خالف ما أمَرُوا به حُوسِبَ،وهو سِرُّ ما قاله سيدنا إبراهيم عليه السلام حين رأى مظاهر هذه التجليات ﴿فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما لأفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما افلت قال ياقوم أني بريء مما تشركون﴾..عرَف أنَّ هذه المظاهر ليست الله فقال ﴿ لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين﴾ و عرف أنّ عبادة الله في مظهر من مظاهره هي الشرك بعينه ﴿ ياقوم أني بريء مما تشركون﴾..) الرفاق ص 99.
وفي الحديث الشريف عن أَبُو اليَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، أَخْبَرَهُمَا: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُمَارُونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ القَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ).
ما تعرّض لذِكر هذا الملمحَ الرقيقَ غيرُ الشيخ الأكبر بن عربي و الختم الأكبر مولاي عبد السلام الوهراني رضي الله عنهما ،إذ أنّ التجلي يكون في المقتضى ،فالصّنَم هُبَل الذي هو مقتضىً مِنْ مقتضيات الأسماء الإلهية ، سيأتي يوم القيامة في الصورة التي رآها مُعْتَقِدُوهُ فيعرفونه، وهذا دليلٌ أنّ ما عُبِد شَئٌ لعَيْنِه بل لاعتقاد الأُلُوهَة فيه والحقيقة هي ﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ﴾..جفت الأقلام و طويت الصحف..
قال الختم الأكبر الوهراني رضي الله عنه ( فإنّ الله تعالى يتجلّى لعباده يوم القيامة بمقتضى أسمائه و صفاته ، فمَنْ عرفه هنا يعرفه هناك، و مَنْ لمْ يعرفه هنا لا يراه هناك.لهذا حَصَرَ المُحقّقون الملذّات في المعارف.فإذا تجلى لهم ربهم بأي تجل عرفوه فيها أو بها و تحقّقت رُؤيتهم له على قدر معرفتهم به هنا و كُلٌّ تابع لمتبوعه، فمن تبع محققا صحّت له الرؤية بواسطته و على قدر تحقيقه حتى يكون لتابعه كالمجهر ينظر إلى ربه به، و لولا أسماء الله و صفاته تعالى لما حصل شيء من ذلك) الاستمدادات ص162.
وقال وارث سره مولاي لحميتي نفع الله به ( ولو كان التجلي يوم القيامة هو نفس تجل يوم ﴿ ألستُ بربّكم﴾ لمَا أنكره أحد فعلى قدر معرفتك بالله في الدنيا تكون معرفتك به في الآخرة و الكل تابع لقضاء الله و قدره و يسير و فق الإرادة الالهية و لا يقع في ملك الله ما لا يريده). (الموقف الواحد و العشرون)، و قال ( لهذا يكون التجلي يوم القيامة في صور المعتقدات و تكون وحدة التجليات الإلهية مشهودة لأهل الشهود..) (“ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضلّ سبيلا” لأن يوم القيامة التجلي الإلهي يكون في المقتضى).الرفاق ص 102 و 111..ولذلك شمّر الرّجال عنْ سوامق الهِمم في دُنياهم قبل انتقالهم للرّفيق الأعلى..
وميّزت العابد من المعبود.. فيها أيضا معنى أنَّ العابد الحق هو المولى رسول الله صلى الله عليه و سلم و باقي الكون عبادته هي بالتَّبَع ،فهو الامام و هم مأمومون وراءه ، و ارتشف يا ولي من معين الآية (وَلَاۤ أَنَا۠ عَابِد مَّا عَبَدتُّمۡ) و انتبه إلى الألف الثابت في كلمة (عَابِد) وهي الوحيدة في القرآن،فتلك إشارة ثبوت خصوصية صفة العبودية له صلى الله عليه و سلم لا يزاحمه فيها غيره البتة..لكن حين كان وجوده صلى الله عليه و سلم بين باقي العابدين التابعين له المأمومين وراءه مظهَرَ لُطفٍ و بركة ،جاء حذف الألف في كلمة (ٱلۡعَـٰبِدِینَ) لتسري الرحمة منه إليهم ببركة تقديمه و أوليته ( قُلۡ إِن كَانَ لِلرَّحۡمَـٰنِ وَلَد فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡعَـٰبِدِینَ..)
*خوطِب و خاطَب : فما توجّه خطابُ الله تعالى لأحدٍ البتّة إلا لسيّدنا ومولانا مُحمّدٍ صلى الله عليه و سلم و ما خاطَبَ أحَدٌ الكونَ و أهله إلا سيّدنا ومولانا مُحمّد صلى الله عليه و سلّم ،فالله تعالى غنيٌّ عنِ العالمين ..
خُوطب: جاء في الأثر ( القبضة التي قال لها كوني محمدا) فهنا خطاب بين حبيب و حبيب،خطاب بينه سبحانه و بين النقطة النورانية..وانظر لسر بناء هذا الفعل (خُوطب) للمجهول: إشارة أنّ الكونَ يجهل ما كان ثم من خطاب في وقت لا وقت..
ثم خاطَب: أي أنه صلى الله عليه و سلم قام مخاطبا الكون و أهله ،كما قال الختم الوهراني رضي الله عنه (كان المُخاطِبُ الأول هو الله عز و جل و المُخاطَبُ الأول هو سيدنا محمد صلى اله عليه و سلم و على آله و المُخاطب للأكوان ، فصارت المُخاطبة القرانية بعد ذلك متبادَلةً مع أهل الكون كلهم و هو بساط الترجمة عن الله تعالى أولا و عن النبي صلى الله عليه و سلم ثانيا )ص 21… وإلى هذا المعنى تشير بعض مواضع الوقف في الآية القرآنية (رب السموت و الأرض و مابينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح..) :
-الوقف الاول (منه خطابا) ..أي أن الخطاب منه للكون صلى الله عليه وسلم ،جُمّلُ هذا الوقف هو…354 ×2..354 هو بسط و كسر الاسم الشريف “محمد صلى الله عليه و سلم ..
-الوقف الثاني (منه خطابا يوم يقوم)..النبوة دائمة القيام ، يقوم فعل ماضٍ يفيد في حق الله الإستمرار و التأبيد فالخطاب منه صادر للكون على وجه الديموم.. جُمّلُ هذا الوقف هو 92 ×10..92 هو جُمّلُ الاسم الشريف “محمد صلى الله عليه و سلم مضروبا في عشرة و هو أس الكمال ( تلك عشرة كاملة).
قال صاحب المشرب الفاطمي المحمدي نفعَنا الله به ( فلا تقَعُ الرُّؤيا إلا على مراتب مُحمّديته و لا الكلام إلا مع قهرمانية أحمديته وما شاهد العارفون إلا تجلّيات نبوته فتاهوا بين ناسوتيته و لاهوتيته ،هم معذورون هيهات هيهات لما يطلبون )الصلاة 54 من الخبيئة الشريفة..
الشيخ الاكبر ابن عربي وهو من هو،رضي الله عنه، تجٍدْهُ في مكانٍ مِنْ كتاباته يتكلم عن حقيقة اختصاص النبوة حصرا بهذا الخطاب مِنْ لدُن الحق تعالى ، ثم لن تلبث أنْ تجدهُ في مواضعَ أُخَر يقول “خاطبني الحق”،وهو و غيره معْذورون رضي الله عنهم ، لأنهم سمعوا بارقةً مما تيَسَّر لهم مِنَ الوٍجْهة الحقّية للنُّبوَّة فحسبوها الحق سبحانه،وهذا ما يسميه المحققون ب “التّلوين في الأسماء الإلهية”، وهو أنْ يرى أو يسمع العارف ما فُتِحَ له به فيُعبّـِر بما لا يعكس ذوقه أو بما هو أعمق من مراده أو بما يراه خطابا صرفا من الحق سبحانه..ومن شاكلة ذلك ما أوْرده البخاري رواية عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: أقبلَ نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل. قال فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق وإنما يعني سبيل الخير… الحديث. فكانت هنالك حاجة لإخفاء الحقيقة مما ألجأ سيّدنا أبي بكر الصّديق رضي اللّه عنه إلى استخدام المعاريض فعن عمرو بن الحصين أنّ سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه و سلم قال : ( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب.) رواه البخاري..
ومن نماذج المعاريض و التورية أن سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي طليعة للمشركين وهو في سفر من أصحابه، فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء)، فنظر بعضهم إلى بعض! فقالوا: أحياء اليمن كثيرة، لعلهم منهم، وانصرفوا”؛ (السيرة النبوية لابن هشام: 2/ 255).
هذا في ظاهر الشريعة أما في علوم الحقائق و الرقائق فيكون استخدام المعاريض و التورية من باب آكد ..وهو ديدن الأكابر رضي الله عنهم.
*دنا فتدلى: دنا تشير للوجهة الحقية .. فتدلى تشير للوجهة الخلقية ..ومن هنا يتضح أن الحقيقة المحمدية تسموعلى أية مرتبة من مراتب الوجود،لأنها النورالإلهي..
*وبخُلق عظيم تحلى: هذا الخُلُق هو النعت الذي ورد في حديث قصة سعد بن هشام بن عامر حين قَدِمَ المدينة ، وأتى عائشة رضي الّله عنْها يسألها عن بعض المسائل ، فقال : فَقُلتُ : يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ ! أَنبئِينِي عَن خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَت : أَلَستَ تَقرَأُ القُرآنَ ؟ قُلتُ : بَلَى . قَالَت : فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ القُرآنَ .
قَالَ : فَهَمَمْتُ أَن أَقُومَ وَلَا أَسأَلَ أَحَدًا عَن شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ … ) رواه مسلم وفي رواية أخرى : ( قُلتُ : يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ ! حَدِّثِينِي عَن خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ .قَالَت : يَا بُنَيَّ أَمَا تَقرَأُ القُرآنَ ؟ قَالَ اللَّهُ : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) خُلُقُ مُحَمَّدٍ القُرآنُ )..وفي الآية الكريمة ﴿ لقد أرسلنا إليكم ذِكْرا رسولا﴾.. ..فهو صلى الله عليه به و سلم قرءانٌ يمشي ، وفي الآية ﴿ إنْ هُو إلاّ ذِكْرٌ ﴾ ، ضمير الهوية يعود على سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه و سلم فهو القرءان و الذكر..
*تقدّم في الوُجود : التقدّم هنا يشمل ضمن ما يشمل معنيَيْن :
-المعنى الأول- معنى الأقدمية و إليه يشير أستاذنا مولاي محمد بن المبارك نفعنا الله به بقوله (النبي الذي نزهه الله في كتابه،ورفع عنه الحرج،ونوه به وأشار الى أقدميته، فهو﴿أَوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾و﴿أَوَّلُ العَابِدِينَ﴾وأول المخاطبين﴿نَبِّئْهُمْ﴾﴿اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ﴾.فتقدّمت حقيقته على جميع الخلائق..) الصلاة 87 من الخبيئة
.. وبقوله (فهو الفاتح لسائر الاوليات الذي كان قبل خلق الارض و السموات و البسائط و المركبات)108 أسرار و حقائق.. و بقوله (الصلاة و السلام على الحقيقة الجمعية التي لها التقدم و السببية)الصلاة99 من أسرار و حقائق..
فالتقدم في الوجود من مرادفات معنى الأولية و مستلزماتها المشار لها ، لأنّ الممكنات ما ظهرتْ إلا متأخرة في بساط رحمانيته ..ومن معاني هذا التقدم : انه هيولى الكائنات و أس الحضرات، فهو نورُ اللّه البارق مِنْ بساط الأحدية باعتبار وِجهته الحقّية الصِّرْفة ،وهو جوهرُ نعْتِنا للنُّبوة أنَّ لها الأقدمية أزَلا ،وهو مبْحثٌ هامٌّ جدّا في معرفة النبوة التي ترفَعُ العارف بها إلى أعلى مقام ،ولِهاته الأقدميةِ شواهدٌ كثيرة في القرآن الكريم و في الأحاديث النبوية الشريفة..”أوّلُ ما خلق اللهُ نورُ نبيك يا جابر”،”كُنْتُ نبيا و آدم منجدل في طينته”، “كنت نبيا “هذا و صفٌ و الوصف لا بد له من وجود الموصوف، وإلا ما معنى أنْ يكونَ وجود النبوة قبل آدم دون وجود حسي و معنوي؟.. فإنْ قيل أنَّه كان في حُكم الله ،أُجِيبَ و ماهي خصوصية النبوة التي يُنْبِئُ عنها متْنُ الحديث إِنِ اشتركتِ النبوةُ مع الخلائق في كونها معلومةٌ لحكم الله.. ؟..فعلوم آدم التي بها حاجَّ الملائكةَ و فاقَ مرتَبَتَهم و تفوّق عليهم ليست إلا رشحات من ما أعطته إيّاهُ حضرة النُّبُوة ، وهو ما قاله الختم الوهراني قدس الله سره مُصحِّحا للصّلاة المشيشية (و تنزّلت عُلُومه لآدم فأعجز الخلائق)..فشواهد أقدمية النبوة كثيرة (للتوسع يُرجى مراجعة الموقف الاثنين و الستين و الموقف التاسع و الثمانون و الموقف الرابع بعد المائة و مراجعة الإستمدادت في معرض شرح تعبير” حتّى أراه بكليتي “ص 104 )..
- المعنى الثاني-معنى التقدم لإمامة الكون و قيادة سفينتة ،فهو قائد التجليات الأسمائية و مدبرها ،باعتباره الامام الفرد الوتر و الكون كله علويه و سفليه في مرتبة الشفع، مأموم وراءه مشمول برحمته صلى الله عليه و سلم ، ومن كمال تقدم إمامته أنّ روحه الكلية هي التي منها اتّقدتْ جميع السرج الكونية..
*وتأخَّر في الشهود : فهو مولودٌ مِن أب و أم باعتبار و جهته الخلقية..وسبقه في الظهور الشّهادي ساداتنا الأنبياء و الرسل فهو خاتمهم عليه و عليهم أكمل الصلاة و أتم التسليم..قال المحقق(الاول في النظام الآخر في الختام)111 أسرار و حقائق.
*ظهر وتستـَّرَ: ظهرتْ نُبوتّه و رسالته لِمَنْ أُرْسِل إليهم لكنَّ كُنْه حقيقته لمْ و لنْ يعْرفها أحَد لا في الدنيا و لا في الآخرة ﴿ وتريهم ينظرون إليك وهم لا يُبْصِرون ﴾..لايبصرون حقيقتك النورانية، فرأوا و ما أبصروا ، شاهدوا و ما حقّقوا : ( ما عرفني حقيقة غير ربي) ،فالصفة مشهودةُ الأثر مفقودةُ النّظَر ، قال مولاي لحميتي نفعنا الله به (ولو فُقِدَ سريانه صلى الله عليه و سلم في ذرَّة من ذرات الوجود لصارت محْضَ عدم فهو الظّاهر الذي لا يُعرَف و الباطن الذي لا يُجهل﴿ و ءامنوا بما نُزّل على محمد و هو الحق من ربهم ﴾ ، أي محمد هو الحق و لكل حق حقيقة)الموقف الواحد و الأربعون.
ومن معاني التستر : ان الإسم الشريف محمد ذُكر في القرءان المجيد أربع مرات فقط ، ثلاثة منها ستره الحق بالرسالة، قال تعالى {وما محمد إلا رسول} وقال عز من قائل {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيئين}، وقال جل جلاله {محمد رسول الله، والذين معه أشداء}، ومرة ستره بالحق وهي صفة أخرى له عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى {وءامنوا بما نزل على محمد وهو الحق}.. فيظهر من خلال هذه الايات أن محمدا مكتوم ومستور بالرسالة التي هي صفته، لهذا خاطبه الحق في القرءان المجيد بالصفة ولم يخاطبه بالإسم ولو مرة واحدة كما قاله الختم الأكبر مولاي عبد السلام الجبلي الوهرني المشيشي الإدريسي الحسني قدس الله سره (الاستمدادات…. صفحة 14) .
ومن معاني التسترأيضا أنّ حقيقته صلى الله عليه و سلم بقيت في حُجُرات العزة و العلو ، تستّرتْ و تبرقعت بالأسماء الإلهية وهذا من مقتضى وجهته الحقية، وما رُئِيَ منه غير الصورة البشرية التي كانت حجابا ان يعبد من دون الله ،وأشار سيدنا اويس القرني رضي الله عنه لذلك بقوله أنهم لم يعرفوا منه إلا ما يرى من السيف في غمده…قال العارف المحقق(استتر عن الأبصار بنوره ،واحتجب عن البصائر بظهوره.ومِنْ عَجَبٍ أنَّ الظهور تسَتُّر)14أسرار و حقائق..
*وفي عين الوحدة بُورِك وتكثـَّر: قال الختم مولاي الكتاني ( المُتأحِّد في عين الكثرة المتكثر في عين الوحدة)، وهو ما شرحه مولاي لحميتي قدس الله سرهما بقوله (إعلم أنّ سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم هو مجموع العالم مِنْ حيث أنّ النور المحمدي هو الهيولى و المادّة التي خلق الله منها العالم بأسره، و المتأحد هي الروح الكلية المتأحدة فلا كثرة فيها أصلا إنما الكثرة راجعةٌ لتعدُّد التّجليات الإلهيّة التي لا حصر لها، التابعة للأسماء الإلهية و الراجعة إلى عين واحدة ، إلى إسم الجلالة و إلى المصطحب معه..)شرح صلاة المتردي..فهو صلى الله عليه و سلم واحد من حيث ذاته متكثر من حيث تجلياته..
وعين الوحدة هو الإشارة لتوحيد المقربين الذين لا يرون في الكون إلاّ الصفة(أحدٌ أحمدٌ) وهذا المقام أخبر عنه الحكيم الترمذي و سماه العارفون بمقام القربة كما أفادنا به مولاي لحميتي .
- فظهر تفصيل ما كان مندرجا في حقيقته اندراج النخلة في النواة : إذا كانت الحقيقة النورانية لسيدنا و مولانا محمد صلى الله عليه و سلم قد تطلسمت بسرادقات حجب الهوية و تلثمت بنقاب كنزية الأسماء الإلهية ، فإنّ بعضا من تجلياتها ظهرتْ في مظاهر الوجود، وكان هذا الظهور هو المقصود و عليه مبنى الوجود ومناط عبادة الخلق ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ فانفلقت كل الأنوار من نوره و كل الأسرار من سره ، صلى الله عليه و سلم(الصلوات 28و18 من الخبيئة) .
جمع وشرح للسي ابن الفاطمي غفر الله له ولوالديه
اسلوبه اللغوي العرفاني يعطي جمالا للصلاة ويظهر الحقائق الباطنة وراء الكلمات
اتمنى ان يجمع كل الصلوات عند النهاية في كتاب
جزاه الله خيرا