بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى مولاتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين،وعلى خديجة الكبرى أم المؤمنين،وعلىآله وصحبه أجمعين. نواصل شرح القواعد المباركة من خريطة السلوك العرفاني لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،ومع القاعدة السابعة والثلاثين التي تقول: [ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد من عباد الله،ألبَسه الله تعالى رداء أسمائه وصفاته،وتخلّق بكلامه،فظهر بصفات حقيّة وأخرى خلقية (قل إنما أنا بشر مثلكم) ]. سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم له وجهتان: وجهة حقيّة متحليّة بالأسماء والصفات الإلهية،ووجهة خلقيّة أي بشر مثلنا،مولود من أم وأب.. ففي زمن الصحابة ظهرت النبوة المحمدية في صورة آدمية في هيئة الهيكل المحمدي الشريف،فكان الحكم لبشريته صلى الله عليه وسلم أكثر من نورانيته،لكي لا يُعبد من دون الله. ولم يظهر من نورانيته إلا القليل،كما ورد في كتب السيرة أنه كان: [ يرى من خلف كما من أمام،ويرى في الضوء كما في الظلام،ليس له ظلّ.. ]. فكان الصحابة محجوبين بجسمانيته عن نورانيته: (قل إنما أنا بشر مثلكم)،(يأكل الطعام ويمشي في الأسواق). فظهر بصفات العبودية أكثر من صفات الربوبية،لكي لا يُفتنوا به ولا يؤلّهوه.. أما عندما انتقل المولود من أم وأب إلى الرفيق الأعلى،لم يبق للبشرية أثر،بل لا تُرى النبوة المحمدية إلا بصفات الربوبية،فرؤيتها لا تُطاق للأنوار التي تشعّ منها،ويراها الرّائي بها لا بنفسه،إذ هي تُقوّيه حتى يراها.. وقد أسهب أستاذنا حفظه الله في هذه المسألة عند تعليقه عن كلام الشيخ عبد العزيز الدباغ في موضوع “وقفات مع الحقيقة المحمدية”.. فهو صلى الله عليه وسلم مُلكي وملكوتي،ناسوتي ولاهوتي.. فاجتمعت فيه الأضداد،ولم يكن كهيئة أحد من العباد.. فأكله وشربه صلى الله عليه وسلم تشريع لنا: [ “إنّي لست كهيئتكم،إني أبيت عند ربّي يُطعمني ويَسقين”،”كلكم من آدم وآدم من تراب” ولم يقل: “كلنا”.. ]. من هنا قال سيدنا عمر بن الخطاب: ” والله ما أكلت ولا شربت ولا نكحت يا رسول الله إلا لنا”.. قال الله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله) فالنور في الآية هو نور النبوة وليس المقصود به القرآن،لأن الواو تقتضي المغايرة. وجاء في الآية: “يهدي به” بالمفرد،لأن الصفتان لحقيقة واحدة،والصفة ملازمة للموصوف بها.. لهذا قالت أمنا عائشة عندما سُئلت عن خُلق مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان خلقه القرآن”،وفي رواية أخرى: “كان قرآناً يمشي”. ويعلّق الشيخ الأكبر على هذا الحديث فيقول: [ فكان القرآن خُلقه،فمن أراد أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ممّن لم يُدركه من أمّته،فلينظُر إلى القرآن،فلا فرق بين النظر إليه وبين النظر إلى رسول الله،فكأن القرآن أنشأ صورة جسدية يُقال لها سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. والقرآن كلام الله،وهوصفته،فكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صفة الحق تعالى بجملته.. فيكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما فُقدَ من دار الدنيا،لأنه صورة القرآن الكريم..]. فقد وصف الحق تعالى خُلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالعظمة فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم)،كما وصف القرآن بالعظيم: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم).. وإحاطة سيدنا محمد بالقرآن كانت قبل القبل في بساط الألوهية،حيث اصطحبت النبوة بالرسالة،المحمدية بالأحمدية.. فلولا سريان الحقيقة المحمدية في الحروف لما استطعنا حمل معاني القرآن، فكيف للمحدَث بحمل القديم. فكان من اللازم وجود واسطة وترجمان للقرآن،ولا يستطيع ترجمته إلا من كان والقرآن من مَحتدّ واحد،أي من الصفة الأحدية. ولم يتحقّق هذا إلا في نور النبوة،لسان الأزل وترجمان الخطاب الأزلي،قال الله تعالى: (فإنما يسّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون)، (فإنما يسرناه بلسانك لتبشّر به المتقين).. ولقد ورد في الحديث: أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم،فقال النبي: يا جبريل،من أين تأتي بالوحي؟ فقال: من وراء الحجاب. فقال له النبي: هَلاّ كَشفت الحجاب. قال جبريل: لم يُؤذَن لي في ذلك. فقال النبي: إن أنت رجعت إلى مكانك الذي تستمع فيه الوحي،وسَمعته،فاكشِف الحجاب. فلمّا جاء وسَمع، كَشف الحجاب،فوجد سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم جالساً. فنَزل جبريل إلى الأرض ترتعد فَرائصُه،فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: “أمِنْكَ إليك يا رسول الله”. وهذا ما أفصح عنه الشيخ عبد الحيّ الكتاني بقوله: [ اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا ومولانا محمد أوّل بارز من بُطنان الأزل،آخر من عليه جبريل بما تَلقّاه منه نَزل].. وقال الله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) فيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم أول المخلوقين،كما قال لجابر: “أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر”،وقال: “كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد”.. فنور النبوة هو بداية الخلق وفاتحته،قال الله تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) الآية: خلقناكم راجعة على النبوة،والتصوير لآدم عليه السلام.. الكل ارتشف من نور النبوة،إذ لولا البرزخية العظمى لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان إيجاد ولا استمداد،لانعدام المناسبة بين الخلق والخالق.. فالنبوة هي الممدّة لجميع الموجودات والواسطة في كل العطاءات، يستفيض من الحضرة ويُفيض على الأكوان.. يقول الشيخ أبو الفيض الكتاني في الخبيئة: [ كان صلى الله عليه وسلم أول بارز من الحضرة الأحدية،ولم تكن عليه هيمنة لا للوسائط ولا للأمور الكونية. وعرف الله تعالى بتعريفه له منه إليه به،على سبيل المكاشفة والمعاينة التي لا يقدر عليها الأنبياء والرسل.. فكان أول من افتتح أبواب التوحيد بأنواعه،ولهذا كان العالم كله في صحيفته بأنبيائه ورسله وملائكته ومن عداهم.. ]،وقال أيضاً مُجملاً أوليات الحقيقة الأحمدية: [ ولهذه الحقيقة الأحمدية أوليّات أوجبت البَدء بها: منها: البدء في الخلق بأن كان أول الأنبياء في الخلق. ومنها: أنها أول من أجاب ربّه بالإقرار بالربوبية في عالم الذّر يوم أشهدهم على أنفسهم (ألست بربكم قالوا بلى) كان أول من قال: “بلى”. ومنها: أنها أول من سمع كلام الله تعالى الأزلي في الحضرات الغيبية بلا حرف ولا صوت،فكانت أول فاتح للمعارف الإلهية للأنبياء والرسل والملائكة ولطبقات الأولياء. ومنها: أنها أول من شاهَد جمال الربوبية كفاحاً بدون مظهرية،لأن المظهر إنما يتوقف عليه في عالم المواد والتراكيب،ولا مواد ولا تراكيب ثمّة،إنما هناك عالم الصفاء والأنوار وانفجار الفيوضات الإلهية وتدفّق المواهب الطامة العيانية على هذا الخليفة عن الله تعالى،فهاهناجمعت الحقيقة الأحمدية بين الرؤية والمُكالمة. ومنها: أنها أول من دخل حضرات الأسماء والصفات، فبإفاضة كمالاتها وخصيصاتها عليه صارَ أعظم ممدوح في العالم وأعظم حامد وأحمد أهل الأكوان لربه جل ثناؤه،وعَلم ربّه تعالى هناك على سبيل المكاشفة والمعاينة التي لا يُضام فيها. ومنها: أنها أول فاتح لأبواب التبيان عن المُرادات وما في ضمائر النفوس.. فالحقيقة الأحمدية لما كانت أول مخاطَب من الحق،يلزم أنها أول من سمع انفتاح قباب الحروف التي أولها الألف.. فالحقيقة الأحمدية هي الفاتح لرَتق مُجملات الحروف،كما كانت الفاتق لرتق مجملات الكلمات الإلهية التي بها ينتظم الكلام والعالم،ويُعبّر بها عمّا في الغُيوبات من أعاظم المسائل وشريف الأبحاث.. ]..
قال الله تعالى: (واتلُ عليهم)،(نبّئهم أن الماء قسمة بينهم) والآية تخاطب قوم صالح،ولا يُقال للغائب نبّئهم.. يقول الشيخ الأكبر في فتوحاته: [ فروحانيته صلى الله عليه وسلم موجودة وروحانية كل نبي ورسول. فكان الإمداد يأتي إليهم من تلك الروح الطاهرة بما يَظهرون به من الشرائع والعلوم في زمان وجودهم رُسلاً.. لكن لمّا لم يتقدّم في عالَم الحِسّ وجود عَيْنه صلى الله عليه وسلم، أولاً،نُسِبَ كل شَرع إلى من بُعثَ به،وهو في الحقيقة شَرع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،وإن كان مفقود العَيْن من حيث لا يُعْلَم ذلك،كما هو مفقود العَيْن الآن،وفي زمان نزول عيسى والحُكم بشَرعه.. وانظروا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: “لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتّبعني” فأضاف الاتّباع إليه،وأمر هو صلى الله عليه وسلم باتّباع الدين وهَدي الأنبياء لا بهِم. فإن الإمام الأعظم إذا حضر لا يبقى لنائب من نُوابه حُكم إلا له،فإذا غاب حَكم النوّاب بمراسيمه،فهو الحاكم غيباً وشهادة.. ]،وقال أيضاً: [ لكل أمّة باب خاص،إلهي،ورسولهم هو حاجب ذلك الباب الذي منه يدخلون على الله تعالى. وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو حاجب الحُجّاب لعموم رسالته،دون سائر الأنبياء. فهم حجَبته صلى الله عليه وسلم من آدم إلى آخر نبيّ ورسول.. ].. فلا يُقرّر إلا من بيده مفاتيح الأسماء الإلهية،فهو صلى الله عليه وسلم قبل العالمين وسيد العالمين،والخلائق كلهم تحت حُكمه..
وقوله تعالى: (ألم تر)،وهذا الخطاب ذُكر واحد وثلاثين مرة،كلّها دالّة على أقدمية النبوة المحمدية: (ألم تر إلى ربّك كيف مدّ الظلّ) لأنه كان قبل القبل،(ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه).. وهذا يُفيد حضور الحقيقة المحمدية في الكون الإلهي قبل وجود الهيكل المحمدي الشريف..
قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وإرساله رحمة للعالمين يقتضي أنه أفضل العالمينوكان موجوداً قبل العالمين،إذ لا فائدة من إرساله رحمة للعالمين وهو لم يظهر إلا مُتأخراً عنهم.. يقول الأمير عبد القادر الجزائري في مواقفه: [ اعلم أنه ليس المراد من إرساله رحمة للعالمين، هو إرساله من حيث ظهور جسمه الشريف الطبيعي فقط،وإن قال به جمهور المفسرين وعامّتهم،فإنه من هذه الحيثيّة غير عام الرحمة لجميع العالمين.. بل المراد إرساله من حيث حقيقته التي هي حقيقة الحقائق،ومن حيث روحه الذي هو روح الأرواح. فإن حقيقته صلى الله عليه وسلم هي الرحمة التي وَسعت كل شيء،وعَمّت هذه الرحمة حتى أسماء الحق تعالى من حيث ظهور آثارها ومقتضياتها بوجود هذه الرحمة. وهذه الرحمة هي أول شيء فَتَق ظُلمة العدم،وأول صادر عن الحق تعالى بلا واسطة،وهي الوجود المُفاض على أعيان المُكوَّنات.. ]..
وقال الله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) والآية فيها إشارة واضحة جليّة على وساطته صلى الله عليه وسلم في كل شيء،ففي كل التجليات الإلهية وجود حضرة من حضرات النبوة المحمدية،والكلّ يستمدّ من برزخيتها. لأنه لا نسبة بين الله والمخلوقات،نسبتهم مع النور الأولي وهو نبوة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. يقول الشيخ محمد الكتاني: [المتأحّد بوحدات الذات ]،ومعنى وحدات الذات هي حروف اسم الجلالة (الله)،وهي المسماة في صلاة شيخ شيخنا قدس الله سره في صلاته النورية ب”كهوف الذات”.. ومعنى حروف اسم الجلالة حسب مشربنا المبارك هو: الألف إشارة إلى الأحدية،واللام الأولى إشارة إلى الأحمدية،واللام الثانية إشارة إلى المحمدية،والهاء تُشير إلى سدرة منتهى المقامات،وما بعد سدرة المنتهى لا معرفة للمخلوق به..واللاّمين عنونا عن القُرب والاتّصال الفرقي،ليبقى الرب ربّاً والعبد عبداً.. فما حاز العبودية الخالصة إلا مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الذي أسرى بعبده)،(وأنه لما قام عبد الله)..
يقول الشيخ محمد الكتاني في كتابه (الطلاسم): [ من اجتمع برسول الله في عالم اليقظة وتمتّع به كما تمتّعت به الصحابة،يقول: رأيت الحقّ،لأنه المظهر الأكمل الدالّ على الله بالله،قال: “من رآني فقد رآى الحق”،ولا يقوم مقام الحق إلا الحق ].. فهو صلى الله عليه وسلم النائب عن الحقّ بمقتضى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله). فما من نعمة،ظاهرة أو باطنة،إلا وهو مَيْزاب فَيضها ويدُ مُناولتها ومصدر إسدائها (هذا عطاؤنا فامنُن أو أمسك بغير حساب)..
يقول الشيخ القونوي: [ الإنسان الكامل الحقيقي هو البرزخ بين الوجوب والإمكان،والمرآة الجامعة بين صفات القِدَم وأحكامها وبين صفات الحدثان،وهو الواسطة بين الحقّ والخلق.. ولولاه،من حيث برزخيته التي لا تُغاير الطرفين،لم يقبل شيء من العالم المدد الإلهي الوحداني لعدم المناسبة والارتباط ]. ويقول الشيخ البيطار: [ الإنسان الكامل صلى الله عليه وسلم هو: الذات الجامعة لمرتبة الألوهية وشؤونها وأحكامها وأسمائها وصفاتها الحقيّة،ومراتبتنزّلاتهاالخَلقيّة،وأحوال تلك التنزّلات وأحكامها الصورية الكلية والجزئية ]. ويقول الأمير عبد القادر الجزائري في مواقفه: [ فالحقيقة المحمدية هي تَعيّن الحق لنفسه بجميع معلوماته ونِسَبه الإلهية والكونية،فهي الحق،إذالتعيّن أمر اعتباري لا عين له،فليس هناك إلا المُتَعيِّن،قال تعالى: (قل الروح من أمر ربّي).. فهي المتصرّفة في معلوماته تعالى حسب إرادته ومشيئته،فتستمدّ من العلم وتُمدّ الخَلق.. فهي الظاهرة في الأشياء وهي السارية في الوجود.. فحقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي المَشهودة لأهل الشّهود،وهي التي يَتغزّلون بها ويَتلذّذون بحَديثها في أسْمارهم،وهي المَعنيّة ب”ليلى وسَلمى”،وهي المُكَنّى عنها: ب”الخمر والشّرب والكأس والنار والنور والشمس..”. وهي نهاية سَيْر السائرين،وغاية مَطلوب العارفين.. ]. ويقول العارف أحمد التجاني في قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ): [ معنى “البحرين”: بحر الألوهية والوجود المطلق وبحر الخَليقة،وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو البرزخ بينهما،ولولابرزخية سيدنا محمد لاحترق بحر الخليقة كلّه من هيبة جلال الذات.. ]. ولهذا فمن أسمائه صلى الله عليه وسلم “الحق المخلوق به كل شيء”،وقال صلى الله عليه وسلم: “من رآني فقد رأى الحقّ”.. ومن هنا قال بعض العارفين: [ الوجود الحقّ تعالى ظهر في الحقيقة المحمدية بذاته،وظهر في سائر المخلوقات بصفاته ]..
قال الله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم). يقول العارف سيدي أحمد التجاني في تأويل هذه الآية: [ النبي صلى الله عليه وسلم له الاستيلاء على جميع المراتب،والانفراد بالحكم والتحكّم فيها بكل وجه وبكل اعتبار. والمراتب هي أفراد المخلوقات،من كل جوهر وكل ذات وكل ذرّة وكل جرم. وكل ذات على انفرادها هي مرتبة الحقّ،وكلها مراتب إلهية. فبهذا القدر كان أولى بكل أحد من نفسه.. ].
يقول الشيخ البرهانبوري: [ الإنسان الكامل هو الذي ظهرت فيه جميع مراتب الوجود الحق مع انبساطها ]. فتدرّج مراتب الحقيقة المحمدية في الدوائر الكونية هو الذي أعطى للدوائر وجوداً في ذاتها،فمراتب الوجود ظهرت به ومنه. فلكل دائرة كونية اسم مدبّر لها،وكل اسم مدبّر لا يظهر مُقتضاه إلا بعد الاصطحاب مع النبوة المحمدية ليكون اللطف في الكون الإلهي.. فحيثما كانت الأسماء الإلهية تكون مُصطحبة مع مرتبة من مراتب النبوة المحمدية،وهذا هو الذي أشارت إليه الآية: (فأينما تولّوا فثمّ وجه الله)،وهذا هو ظهور مرتبة الألوهية في الأشياء،وهو ما أشار إليه الشيخ الأكبر ابن عربي بقوله: “هو الظاهر في المظاهر، والوجود الساري في كل الدراري”..
ويقول الشيخ محمد الكتاني في مقدمة كتابه(الديوانة): [ سبحان من لم يجعل الدليل على نبيّه إلا من حيث الدليل عليه،ولم يُعرّف به إلا من أراد أن يعرّفه به: “من عرف نفسه عرف ربه”،وليست النفس غيره،إذ هي وجه الله المتلوّ في: (فأينما تولّوا فثم وجه الله).. فباطنه الفرداني صلى الله عليه وسلم هو المعبّر عنه بالنفس في الحديث الصحيح المصحّح.. وعن هذا السرّ أعرب التنزيل: (واذكر ربك في نفسك).. ]،وكذلك الإشارة إليه بقوله تعالى: (وفي أنفسكم) الآية..
ويقول الشيخ الأكبر في فتوحاته: [..واعلم أن مرتبة الإنسان الكامل من العالم مرتبة النفس الناطقة من الإنسان،فهو الكامل الذي لا أكمل منه، وهوسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ومرتبة الكمّل من الأناسي النازلين عن درجة هذا الكمال،الذي هو الغاية من العالم،منزلة القوى الروحانية من الإنسان،وهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. ومنزلة من نزل في الكمال عن درجة هؤلاء من العالم،منزلةالقوى الحسية من الإنسان،وهم الورثة رضي الله عنهم. وما بقي ممّن هو على صورة الإنسان في الشكل، هو من جملة الحيوان،فهم بمنزلة الروح الحيواني في الإنسان الذي يُعطي النمو والإحساس.. ]..
قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لي وقت لا يسعني فيه غير ربّي”،والمراد به: جنس الوقت،فإنه صلى الله عليه وسلم باطناً دائم العكوف في محراب جمع الجمع العيني الأحدي الصّرف،لا انسدال ولا غيبوبة،وقوّته تحميه من سائر الطوارق.. فقله صلى الله عليه وسلم لا يزال مُستغرقاً في مطالعة الحضرة القدسية،بمراقبة ما يبرُز منها من الفيوض والتجليات والأحوال والمعارف،وتجليات الأسماء والصفات، بملازمته لما يلزمه في مقابلتها من الأدب والتعظيم والإجلال وما تستحقه من الخدمة والعبودية،كما يقول الشيخ أحمد التجاني.. قال صلى الله عليه وسلم: “إنما أنا قاسم والله معطي”،فوجود الأكوان كلها منوط بوجوده صلى الله عليه وسلم،وجوداً وإفاضة. والفيض من ذاته الكريمة ينقسم إلى رحمتين: الأولى: إفاضة الوجود على جميع الأكوان،فخرجت من العدم إلى الوجود. والثانية: إفاضة الرحمات الإلهية على جميعها،من جملة الأرزاق والمنافع والمواهب والمنح.. فهو الكنز الأعظم،إذ بسبب ذلك تُستفاد منه جميع المطالب والفيوض الدينية والدنيوية.. فهو النور الساري الممدود،فلا يتمّ شيء من الموجودات إلا بالمدد من نوره صلى الله عليه وسلم،وإليه الإشارة في الحديث: “حجابه النور”.. وجاء في وصف مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنه لم يكن له ظلّ”،لأن الظلال تابعة للانوار، وهونور،فلم يكن له ظلّ حتى لا يكون تابعاً لشمس أو قمر،فهو متبوع لا تابع،وهو نور الأنوار وأصل الأنوار.. وكان الصحابة الكرام يَرون نوره يتنقّل من مكان إلى مكان،من مسافات بعيدة،وخاصة في الليل،فكانوا يعرفون مكانه من ذلك.. وأيضاً: “كان يرى بالليل كما يرى بالنهار”،وهذه الخصيصة تعني أنه يرى بنوره الأصلي وليس بالضوء الحسّي الاعتيادي.. وكان علينا أن ننتظر زمن ظهور العارف الختم سيدي أبو الفيض محمد الكتاني،فهو أكثر من ميّز بين المحمدية والأحمدية،فلكل زمان معارفه وتجلياته فيما يخصّ المعرفة بمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فالاصطحاب الواقع بين الذات والروح،جعل سلطة الروح تستولي على الجسمية،فعمّتها بحُلَلها جملة وتفصيلاً. ولذلك كان لا يُرى له ظلّ،إلى غير ذلك مما سبق ذكره من أوصافه صلى الله عليه وسلم.. وقد أسهب الشيخ محمد الكتاني في كتابه (الديوانة) في شرح المسألة،شرعاً وعقلاً وكشفاً.. فالاسم محمد كان في طيّ حُلل الأحمدية مُنطوياً ومُنغمراً.. ومن حين خرج صلى الله عليه وسلم لم يبق بين روحانيته وجسمانيته حرَج،مع ثبوت النبوءة له وكُمون الرسالة في حقيقته إلى أن يأتي وقت الظهور بها. فصار ما في الذات في الروح وما في الروح في الذات،فجميع الحُلل التي تُفرغ على الأحمدية تُفرغ على المحمدية،بدون فاصل ولا زيادة،وإلا لزم عليه كون الذات غافلة جاهلة عما لم تتوجّه إليه. ومن هنا ردّ الشيخ الكتاني على من ينفي الاصطحاب بين ذاته صلى الله عليه وسلم وروحه،ومن بينهم الشيخ عبد العزيز الدباغ.. يقول الشيخ الكتاني في كتابه (الطلاسم): [ وسألته صلى الله عليه وسلم عن حقيقة الاصطحاب: هل كانت أم لا؟ فقال لي: اتّحد الاسم والمسمّى،وتخلّل الطلسم المُعمى. فقلت: هل من أول قدم؟ فقال: على ما جرى في القدم،لكن آونة يغيب الناسوت في اللاّهوت ويظهر اللاّهوت في الناسوت،ووقتاً يغيب اللاّهوت في الناسوت ويبقى الناسوت للناسوت.. ]. ونجد إلتفاتة رقيقة للعارف عبد العزيز الدباغ في كتاب (الإبراز)،في حديثه عن صفة البرزخ في الباب العاشر وذكره،وعندما جاء على ذكر قبّة البرزخ وهي البيت المعمور،ذكر بأنها محلّ روحه صلى الله عليه وسلم ومن أكرمه الله عز وجل،ثم قال: [ وروحه صلى الله عليه وسلم وإن كان محلّها في القبّة،فهي لا تدور فيها،لأن تلك القبّة وغيرها من المخلوقات لا تُطيق حمل تلك الروح الشريفة لكثرة الأسرار التي فيها،وإنما تُطيق حمل تلك الروح الشريفة ذاته الطاهرة الزكية الزاهرة.. ].. يقول الشيخ الكتاني في صلاة المتردّي: [ العبدالحقاني،الملتحف بوحدات الذات ]. فهو صلى الله عليه وسلم الذات الجامعة لمرتبة الألوهية وشؤونها وأحكامها وأسمائها وصفاتها.. لبس أرديّة هذه المرتبة،وتحلّى بالأسماء والصفات الإلهية (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله).. فحيثما كانت الأسماء الإلهية كانت مُصطحبة مع مرتبة من مراتب النبوة المحمدية.. يقول الشيخ عبد الكريم الجيلي: [ الإنسان الكامل هو الذي يستحقّ الأسماء الذاتية والصفات الإلهية،استحقاق الأصالة والمُلك بحُكم المقتضى الذاتي.. ]. وحقيقة نبوة سيدنا محمد هي المسماة عند العارفين بالإنسان الكامل،والكمال يتطلّب الجلال والجمال.. فرأت الحقائق الإلهية صورتها في مرآة حقيقته صلى الله عليه وسلم، فاستحقّت الخلافة الكونية.. يقول الشيخ كمال الدين القاشاني: [ الحقيقة المحمدية هي الذات مع التعيّن الأول،فله الأسماء الحسنى كلّها،وهو الاسم الأعظم ].. ويقول الشيخ العراقي: [ الحقيقة المحمدية هي الوحدة الحقيقية، وقيل: صورة الاسم الجامع الإلهي. وهو مظهر الذات،والظاهر في حقيقته ليس إلا النور الذاتي،لأن رتبته قبل رتبة الأسماء والصفات،إذ حقيقته برزخ ما بين الأحدية والواحدية ]. فالوحدة الحقيقية تُشير إلى أن الكلّ كان مرتوقاً في نبوته،وبالاصطحاب مع أحمديته وقع الفتْق. وبارك الله تعالى في هذه الوحدة فتكثّرت،جاء في صلاة المتردّي: [المتأحّد في عين الكثرة،والمتكثّر في عين الوحدة ]،فظهر تفصيل ما كان مُندرجاً في حقيقته.. ولتثبُت له صلى الله عليه وسلم الخلافة الكلية فقد تحلّى بالاسم الجامع (الله)،المتضمّن للأسماء الحسنى كلها،فكان سرّاً كُليّاً جامعاً لتجليات الأسماء الإلهية…. والتصوف في مشربنا المبارك هو: [ معرفة مولانا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن،ومعرفة القرآن بمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ]،وكثيراً ما يُذكرنا أستاذنا حفظه الله في مجالسه المباركة بأن: [ من لم يعرف الاصطحاب،فلا معرفة له بالتصوف ].. وكل مسألة ذكرناها لها شواهد لا تحصى،اقتصرنا على البعض منها من كلام العارفين.. كما أن التحقيقات المذكورة في الشرح هي غيض من فيض من أنفاس شيخنا وأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله كما هو مبثوث في مقالاته وكتبه وشروحاته لصلوات العارفين،وليس لي فيها إلا الجمع والترتيب إن وُفٌّقت،فجزاه الله عنا خير الجزاء.. ونختم هذا الشرح بالصلاة الثانية والثمانين من الدليل المبارك (أسرار وحقائق بين معشوق وعاشق): [ اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا ومولانا محمد. الذي أوجدته من نور أحديّتك،وتوّجته بحُلَل أسمائك،فظهر بصفات حقيّة “من رآني فقد رآىالحقّ”،ولا يقوم مقام الحق إلا الحقّ. فكانت مُبايعتُه مبايعَتك،وطاعته طاعتك،ومحبّته محبّتك. فأنبته منابك (فأجره حتى يسمع كلام الله) فتلى كلامك وبلّغ أحكامك وقام مقامك (يد الله فوق أيديهم)،وليست إلا يذك يا رسول الله،لها الفوقية وهي الرامية،فأنت الظاهر لأصحاب الكشف والمجاهدة (والذين جاهدوا فينا لنهديّنهم سُبُلنا)،”يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصمّاً ولا غائباً،إن الذي تدعونه بينكم وبين أعناق ركابكم”. والمشهود لأصحاب الوحدة والمشاهدة (فأينما تُولّوا فثمّ وجه الله)،”وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه”،وصحبه وسلّم ]. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولان محمد نبيّ الله،وعلى الزهراء بضعة رسول الله. شرح الاستاذ رشيد موعشي
حصل المقال على : 279 مشاهدة