بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى مولاتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين،وعلى سيدتنا خديجة الكبرى أم المؤمنين،وعلىآله وصحبه أجمعين. نستأنف شرح القواعد المباركة من خريطة السلوك العرفاني لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،وقاعدتنا اليوم تقول:[الصفات السبعة الرئيسية هي: (الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر)،وهذه الصفات إجتمعت في الإنسان،فهو المَجْلى الحقيقي للألوهية (إن ربهم به) ].
__ الأسماء والصفات عند العارفين هي نِسَب وإضافات للحق تعالى،لا أعياناً زائدة،لما يؤدّي إلى نَعتها به بالنّقص.. فالزائد بالذات على الذات مُحال،وبالنّسَب والإضافات ليس بمُحال..
يقول الجيلي [الأسماء والصفات للتعيين والتمييز والفرق.. والذات من حيث هي هي،ليس لها،بأيدينا،إسم ولا صفة ولا نعت،لأنها حضرة الجمع والوحدة،وجمع الحضرات وفَرقها.فليس لها،ممّا تَعرّف الله به إلينا،إسم معيّن ولا صفة معيّنة.. ولهذا ذهب طائفة من أهل الله أن الأسماء الحسنى كلها أسماء صفات،حتى إسمه تعالى (الله)وإسمه(الرحمن)،نظراً إلى هذه الحضرة الذاتية.. لأن الصفة إنما تكون لأجل التعرّف بمعنى من معاني الكمالات الإلهية،والإسم إنما يكون لأجل العَلَمية حتى لايقع التنكير.وليس لحضرة الحضرات الذاتية تخصيص ولاتعريف،ولا ظهور ولابطون، ولانسبة ولا إضافة ولا تعيين ولاغيب ولا شهادة.. واعلم أن الأسماء والصفات إنما هي لشؤون الحق تعالى في تجلياته. فكل تجلّ لا بد أن تكون له صفة،وكل صفة لا بد أن يكون لها إسم.فتعدّدت الأسماء لتعدّد الصفات،وتعددت الصفات لتعدد التجليات،وتعددت التجليات لتعدد التنزلات، وتعددت التنزلات لتعدد الشؤون،وتعددت الشؤون لتعدد مقتضيات الكمال،وتعددت مقتضيات الكمال لتعدد المراتب،وتعددت المراتب لتعدد المظاهر،وتعددت المظاهرلتعدد الأسماء. فدارالأمر وإنبهر،وصار أولاً ما كان آخراً..].
وحول الجدل الواقع بين علماء الكلام والعارفين،فيما يتعلّق بالإسم والمسمّى.. نجد نصاً مميزاً للشيخ الأكبر يفصل في المسألة،يقول: [.. أما الأسماء التي بأيدينا التي ندعو بها،فهي على الحقيقة أسماء تلك الأسماء،وفيها يمكن الإشتقاق من أسماء المعاني لامن المعاني.وقد يُحتمل أن تكون أسماء المعاني مشتقة من هذه الأسماء التي هي أسماء الأسماء.وهذه الأسماء التي بأيدينا هي التي تطلب المعاني بحكم الدلالة،لا الأسماء القديمة. فمن قال: إن (الإسم غير المسمى)،أراد هذه،أعني أسماء الأسماء،فإنها ألفاظ وألقاب.ومن قال: إن (الإسم هو المُسمى)،أراد الأسماء القديمة،إذ الوحدانية هناك من جميع الوجوه،فلا تعداد..]. إذا نظرنا إلى الأسماء الإلهية كلها،المعلومة في العالَم العُلوي والسّفلي،نجد الأسماء السبعةالواردة في القاعدة تتضمّنها،ولهذا تُسمى أئمة الأسماء،وهي المُعبّر عنها عند علماء الكلام ب(الصفات)..
يقول الشيخ كمال الدين القاشاني: [أئمة الأسماء هي الأسماء السبعة،وهي: (الحي والعالِم والمريد والقادر والسميع والبصير والمتكلم). وهي أصول الأسماء كلها].. __ ورد في الحديث عن مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلق الله آدم على صورة الرحمن).. فأكمل نشأة ظهرت في الموجودات هي الإنسان الموجود على الصورة ،والمقصود به الإنسان الكامل لا الإنسان الحيوان،لأن الصورة لها الكمال.. وقد صَحّت الصورة لآدم،كما يقول إبن عربي،لخَلقه ب(اليدين) كما قال تعالى(ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ)،فاجتمع فيه حقائق العالَم بأسره.والعالم يطلُب الأسماء الإلهية،فقدإجتمعت فيه الأسماء الإلهية.ولهذا خُصّ آدم بعلم الأسماء كلها التي توجّهت إلى العالَم.. كما أن الخلافة لسيدنا آدم،دون غيره من أجناس العالَم،لأن الله تعالى خَلقه على صورته. فالخليفة لا بدّ أن يظهر بصورة مُستخلفه،وإلا ليس بخليفة له.. فأعطاه الله الأمر والنّهي،وجعل البيعة له..ومما هومعلوم عند العارفين أن الإنسان الكامل بالأصالة هو مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،وكل من حصلت له الصفة فهو نائب وخليفة عنه صلى الله عليه وسلم،رسلاً وأنبياء وأولياء.. فسيدنا محمد هو المستفيض الأول والمُفيض الثاني،يستمدّ من الحق ويُمدّ الخلق..
وقد لخّص لنا الشيخ عبد الكريم الجيلي هذه الخلافة الكلية والبرزخية العظمى لمولانا رسول الله،فقال ما مُلخصه: [.. الأنبياء والأولياء مُتفاوتون في الكمال، فمنهم الكامل والأكمل،ولم يتعيّن أحد منهم بما تعيّن به سيدنا محمد في هذا الوجود من الكمال الذي قُطع له بإنفراده فيه.. فهو صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل، والباقون من الأنبياء والأولياء والكُمّل مُلحقون به لحوق الكامل بالأكمل، ومُنتسبون إليه إنتساب الفاضل إلى الأفضل.. وله صلى الله عليه وسلم في كل زمان إسم يليق بلباسه في ذلك الزمان،وسرّهذا الأمرتمكّنه من التصوّر بكل صورة.. واعلم أن الإنسان الكامل مُقابل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه: فيُقابل الحقائق العُلوية بلطافته،ويُقابل الحقائق السفلية بكثافته..].
ويقول إبن عربي: [..لما لم يتمكّن أن يكون كل إنسان له مرتبة الكمال المطلوبة في الإنسانية،وإن كان يفضل بعضهم بعضاً،فأدناهم منزلة من هوإنسان حيواني، وأعلاهم من هوظلّ الله ،وهو الإنسان الكامل نائب الحق،يكون الحق لسانه وجميع قواه.ومابين هذين المقامين مراتب.ففي زمان الرّسل يكون الكامل رسولاً ،وفي زمان إنقطاع الرسالة يكون الكامل وارثاً.ولا ظهور للوارث مع وجود الرسول،إذ الوارث لا يكون وارثاً إلا بعد موت من يرثه..]..
__ مرتبة الألوهية هي المرتبة الجامعة لحقائق الأسماء الإلهية كلها،والإسم الجامع “الله”هو رئيس هذه الأسماء والمُحيط بها..وهذه المرتبة هي التي تطلب المألوهين،أي المخلوقات.. والذات الإلهية لها الغنى المطلق حتى عن الأسماء والصفات.. يقول إبن عربي: [ ثمّ إن الذات لو تَعرّت عن هذه النّسب(أي الأسماء والصفات) لم تكُن إلهاً.وهذه النّسب أحدثَتها أعيانُنا،فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهاً،فلا يُعرَف حتى نَعرف..فبعض الحكماء إدّعوا أن الله يُعرف من غير نَظرفي العالَم،وهذا غلط.نعم تُعرف ذات قديمة أزلية،لا يُعرف أنها إله حتى يُعرف المألوه،فهو الدليل عليه..ثمّ يُعطيك الكشف أن الحق نفسه ،كان عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيته، وأن العالَم ليس إلا تجلّيه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه، وأنه يتنوّع ويتصوّر بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها..]..
قال الله تعالى(إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)فتعرّف إلينا الحق تعالى من خلال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،فهو الخليفة الكلّي النائب عن الحق.. وهو،كما جاء في (مزج صلاة الفاتح) لأستاذنا حفظه الله: [..نَقل الوجود من الرّتق إلى الفَتق،من الجمع إلى الفرق،من (كُنت كنزاً مخفياً) إلى (فأحببت أن أعرَف)..]..هذه النيابة لمولانا رسول الله شَفّعت وترية الحق،فهو(الأحدي الثاني).. فظهر بصورة لاهوتية من حيث سُلطان الأسماء الإلهية،ف(يُعطي ويَمنع، ويُعزّويُذلّ، ويُحيي ويُميت،ويَضُرّ ويَنفع..).. ولخلفائه ووَرثته النيابة عنه صلى الله عليه وسلم في التحلّي بصفات الأسماء الإلهية.. ويحضرنا هنا الحديث القدسي المشهور: (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يُبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها) الحديث.. وهو ما يُسميه العارفون ب(ظهور الحق في مرآة الإنسان الكامل،الذي هو ظِلّه الرحماني.. وهذا المعنى هو ما جاء في الحديث الثابت كشفاً(من عرف نفسه عرف ربه)، يقول فيه إبن عربي: [.من عرف نفسه بما وصفه الحق به ممّا وصف به نفسه، من كونه له ذاتاً وصفات،وما أعطاه من علمه ومن إستخلافه في الأرض، يولي ويعزل ويعفو وينتقم،ونحو ذلك..].. فالمعرفة ليس لها طريق إلا المعرفة بالنفس.. يقول الشيخ الأكبر: [..فالإنسان الكامل الظاهر بالصورة الإلهية،لم يُعطه الله هذا الكمال إلا ليكون (بَدلاً من الحق)،ولهذا سماه (خليفة)،وما بعده من أمثاله (خُلفاء له).فالأول وحده هو (الخليفة الحق)،وما ظهر عنه من أمثاله في عالم الأجسام فهم خلفاء هذا الخليفة،وبَدل عنه في كل أمر يَصحّ أن يكون له… فما مِن حُكم للنائب ممّا له أثر في الكون أو تنزيه المِثل،إلا وذلك الحُكم لمن إستنابه…]. ومن التأويلات العرفانية لقوله تعالى على لسان سيدنا عيسى (ولا أعلم ما في نفسك)،يقول إبن عربي: [.. مثل قول عيسى عليه السلام: (ولا أعلم ما في نفسك) يعني بهذه النفس هنا نفس عيسى،أضافها إلى الحق كما هي في نفس الأمر،وهو أتمّ في الثناء على الله والتبرّي مما نُسب إليه،وقرّر عليه وإستفهم عنه من قوله: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله)،فقال له: (أنت تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما فيها إنك أنت علام الغيوب،فإنه ما يكون فيها إلا ما تجعله أنت،فكيف يستفهم من له الخلق والأمر؟)،ولم يقل له (ما قلتُ إني إله) لعلمه بأنه (خليفة وإنسان كامل) وأن الأسماء الإلهية له،فقال له (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) ما زدت على ذلك شيء.وإذا قال قائل ما أمر به أن يقوله لم يَلزم أن يقول كل ما هو عليه،فإنه ما أمر أن يقوله،وقد خرج عن العُهدة بما بلّغ..]..
ونختم شرحنا المقتضب بنصّين للشيخ الأكبر،يُلخّصان قاعدتنا المباركة.. يقول إبن عربي في معرض تحدّثه عن (شَرَف الحِسّ):[..ولا تظنّ يا وليّ أن إختصاصنا في المنزلة من هذه الصورة (أي: الصورة الإنسانية) بمنزلة (القوى الحسية) من الإنسان،بل من الحيوان،أن ذلك نقص بنا عن منزلة القوى الروحانية.لا تظن ذلك،بل هي أتمّ القوى،لأن لها الإسم (الوهاب)، لأنها هي التي تَهب للقوى الروحانية ما تتصرّف فيه، وما يكون به حياتها العلمية،من قوة خيال وفكر وحفظ وتصوّر ووَهم وعقل،وكل ذلك من مواد هذه القوى الحية.ولهذا قال الله تعالى في الذي أحبّه من عباده: (كنت سمعه الذي يسمع به،وبصره الذي يُبصر به)،وذكر الصورة المحسوسة وما ذكر من القوى الروحانية شيئاً،ولا أنزل نفسه منزلتها،لأن منزلتها منزلة الإفتقار إلى الحواس، والحق لا ينزل منزلة من يفتقر إلى غيره،والحواس مُفتقرة إلى الله لا إلى غيره، فنزل لمن هو مُفتقر إليه لم يُشرك به أحداً،فأعطاها الغنى،فهي يُؤخذ منها وعنها، ولا تأخذ هي من سائر القوى،إلا من الله.فاعرف (شرف الحسّ) وقدره،وأنه عين الحق..ولهذا لا تكتمل النشأة الآخرة إلا بوجود الحسّ والمحسوس،لأنها لا تكمُل إلا بالحق.فالقوى الحسيّة هم (خلفاء)على الحقيقة في أرض هذه النشأة عن الله.ألا تراه سبحانه كيف وصف نفسه بأنه بكونه(سميعاً بصيراً متكلماً حياً عالماً قادراً مريداً)؟ وهذه كلها صفات لها أثر في المحسوس..ولم يصف سبحانه نفسه بأنه (عاقل ولا مفكر ولامتخيل)،وما أبقى له من القوى الروحانية إلا ما للحسّ مشاركة فيه وهو(الحافظ والمصور)،فإن الحس له أثر في الحفظ والتصوير، فلولا الإشتراك ما وصف الحق بهما نفسه..وهذه النكتة ظهرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من عرف نفسه عرف ربه)،إذ كان الأمر في علم الحق بالعالم علمُه بنفسه.وهذا نظير قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) فذكر النّشأتين: نشأة صورة العالم بالآفاق،ونشأة روحه بقوله (وفي أنفسهم)،فهو إنسان واحد ذو نشأتين،(حتى ينبين لهم) للرّائين (أنه الحق) أي أن الرائي فيما رآه الحق لا غيره.فانظُر يا وليّ ما ألطف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته،وما أحسن ما علّمهم وما طرق لهم،فنِعْمَ المُدرّس والمُطرق،جعلنا الله ممّن مشى على مدرجته حتى إلتحق بدرجته..].. ويقول في النص الثاني ما مُلخّصه: [.. بَقي عَليك أن تَعلم (نسبة الحق إليك ونسبتك إليه).. فأوقَفني الحق على نسبة الأسماء الإلهية إلَيّ لتَحصُل لي الصورة المقصودة،فتَنطلق عَليّ جميع الأسماء الإلهية التي تنطلق عليه تعالى..وأراد الله سبحانه أن يُعرف بالمعرفة الحادثة،لتكمُل مراتب المعرفة،ويكمُل الوجود بوجود المُحدث،ولا يُمكن أن يَعرف الشيء إلا نفسه أو مِثله،فلا بدّ أن يكون الموجود الحادث الذي يوجده الله للعلم به،على صورة موجده،حتى يكون كالمِثل له..فلمّا جَعله (أي الإنسان الكامل) مِثلاً،تجارَت إليه الأسماء الإلهية بحُكم المُطابقة،من حيث ما هي الأسماء ذات صور وحُروف لفظية ورَقمية،كما أن الإنسان ذو صورة جسمية..فالأمر بيننا وبينه (تعالى)على السواء،مع الفُرقان الموجود المُحقّق بأنه الخالق ونحن المخلوقين،وهو (الله) وأنا (الإنسان الخليفة)..].. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد نبي الله،وعلى مولاتنا فاطمة الزهراء بضعة رسول الله.ذ رشيد موعشي.