شرح القاعدة الخامسة عشر

بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه. نواصل شرح القواعد المباركة من خريطة السلوك العرفاني لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،وقاعدتنا اليوم تقول: الأحدية أول مرتبة وجودية،تدخل في الترتيب التنازلي للوجود،وهي أصل النور المحمدي، وليس بها تجلّ إطلاقاً.فلا بد من معرفة مراتب الوجود لفهم كلام العارفين،أي الخريطة التي يتبعُها كل عارف. سنتناول شرح القاعدة من خلال مفهومين أساسيين ومحوريين في العرفان الصوفي،وهما: (الأحدية) و(مراتب الوجود). 1الأحدية : إختلف العارفون في الأحدية بين كونها(إسماً) أو(صفة)، فالشيخ عبد الكريم الجيلي يعتبرها إسماً ،والشيخ محمد الكتاني يعتبرها إسماً يدُلّ على صفة ..وقد إعتبرها الشيخ الأكبر محيي الدين إبن عربي (صفة)ومشربنا المبارك على مذهب الشيخ الأكبر وهو أن الأحدية صفة .. الصفة حقيقة عقلية،معدومة العين موجودة الحكم،كلية لا تقبل التّجزئة.. يقول إبن عربي في فتوحاته: [الأحدية لا تعرفُك ولا تقبلك] أي: لا تجلّ بالأحدية بإجماع العارفين،فهي حضرة سحق ومحق،ولا تقبل السوى،وليس لها مقتضى في الكون إطلاقاً..والأسماء الإلهية هي حُجُب لهذه الذات الأحدية..لهذا يميّز إبن عربي بين الذات الإلهية في أحديتها عن الألوهية في تجلياتها وطلبها المألوه. ففي مرتبة الألوهية خرجت الأسماء والصفات الإلهية من بطونها،وطلبت أن تُعرف وأن تظهر في الموجودات.. فالأحدية تتميّز بالغنى التام،والوجود راجع في ظهوره إلى الأسماء الإلهية،هي المدبّرة لشؤونه والساهرة على إستمراريته وفق الإرادة الإلهية والتقديرات الأولية..لهذا فالأحدية عند الكثير من العارفين (عدم)،ويقصدون بذلك إنعدام الأسماء الإلهية في بساطها، وبالتالي إنعدام التجلّي والمقتضيات.. والأحدية هي محتدّ النور المحمدي والفيضة القرآنية..ولما كانت النبوة من مقتضى الأحدية،فلها الإطلاق،ولا تأثير للأسماء الإلهية عليها،بل هي طرف في تفاعلهم،لأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم برزخ عظيم جامع،وكل المخلوقات إرتشفت من نور النبوة وإستمدت من برزخيتها ،ونورد هنا بعض الشواهد من الكتاب والسنة على أولية النور المحمدي: قال الله تعالى: “قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين”النور في الآية هو (نور النبوة)،والكتاب المبين هو (القرآن)..فالنور المحمدي أول الأنوار،أما الأنوارالأخرى [الكتب السماوية،الملائكة،الأنبياء والرسل، الأولياء، المؤمنين،الإيمان،النفحات الربانية والتجليات الإلهية. كلها أنوار إنفلقت من نوره صلى الله عليه وسلم،فهو النور الذي أضاء الوجود وأخرجه من ظلمة العدم،ونَقله من الرّتق إلى الفتق،من الوجود العلمي إلى الوجود العيني.. ويقصد العارفون بقولهم بأن سيدنا محمد(نور الأكوان): أن برمجتها وظهور تكوّنها،بشكل تدريجي،يمُرّ عبر برزخية حقيقته،لأنه طرف في تفاعل التجليات الإلهية..فكل شيء في الوجود ظهر بمقتضى سريان الحقيقة المحمدية فيه.. قال الله تعالى:”قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين”،أي كُنت ولم يكُن معي غيري،إذ لو كان لله وَلد لكُنت عرفتُه،فهو صلى الله عليه وسلم (أول العابدين) و(أول المخلوقين).. قال الله تعالى:”قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين”،فهوصلى الله عليه وسلم “أول المسلمين” قال الله تعالى:”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”: وإرساله رحمة للعالمين يقتضي أنه أفضل العالمين،وكان موجوداً قبل العالمين،إذ لا فائدة من إرساله رحمة للعالمين وهو لم يظهر إلا مُتأخراً عنهم. قال الله تعالى:”يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً”: فكما لا تَصحّ الحياة بدون شمس وقمر،كذلك حقيقته هي سراج الكون ومَدَده،هي المُمدّة للوجود ،مصباح دائم النور،يَسْتَنير من الحق ويُنير الخلق،ولا ينقص منه شيئاً،ولذلك قال تعالى عنه “سراجاً مُنيراً” فهوالواسطة في كل شيء.. (ألَمْ تًرَ) في القرآن: كلها دالّة على أقدمية النبوة المحمدية: “ألم تر إلى ربّك كيف مَدّ الظلّ”لأنه كان قبل القبل،”ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه”.. وأحاديث مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة في هذا الباب،نورد منها: قوله:(هل تَرون قبلتي ها هنا،فوالله ما يخفى عليّ ركوعكم ولا سجودكم،إني لأراكم من وراء ظهري)..(أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر)..(كلكم من آدم،وآدم من تراب)،ولم يقل (كلنا من آدم).. ومن خصائص سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن له ظل لأن الظلال تابعة للأنوار،وهو نور،فلم يكن له ظل حتى لا يكون تابعاً لشمس أو قمر،فهو متبوع لا تابع.. وقالت أمنا عائشة:كان رسول الله يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء،وهذه الخاصية تعني أنه يرى بنوره وليس بالضوء الحسّي.. وعندما نطبق حساب الجمل على الحروف نجد ما يُشير إلى هذه الأولية للنور المحمدي،وذلك من خلال حرف (الباء)،فكل سور القرآن تبدأ بحرف (الباء / ب)،ولها من الأعداد (2) كسراً،فهي تُشير إلى (أول العابدين)،وفيه إشارة إلى أن بداية الظهورهوالحقيقة المحمدية..أما(بسطاً وكسراً)فهي إشارة إلى الصفة الأحدية للحق تعالى (أحد = 13)،وإلى أول مرتبة من مراتب الوجود،وهذا يعني أن سرّ الأحدية يَكمُن في الباء..ولا يُعرف في كلام العرب باءتَقوم مَقام (الألف)إلا باءالبسملة،ونيابتُها عن الألف تُشير إلى نيابة الحقيقة المحمدية عن الله في مُلكه
2 (مراتب الوجود): لم يتطرّق للكلام عن مراتب الوجودإلا خمسة من العارفين،وهم بالترتيب الزمني:إبن قسّي الأندلسي، والشيخ الأكبرإبن عربي الحاتمي،والشيخ عبد الكريم الجيلي،والشيخ محمد الكتاني،والعارف المحقّق مولاي عبد السلام رجمه الله تعالى.. كلام هؤلاء العارفين الذين خاضوا في مراتب الوجود،يُشير إلى أنه كان لهم إسراء إلى السماوات وإلى سدرة المنتهى،قال تعالى: “سبحان الذي أسرى بعبده”، والعبدية فتحت باب الإسراء لفحول الأمة المحمدية،كل على قدر قامته المعرفية ومقامه العرفاني..لو قال تعالى:(سبحان الذي أسرى بنبيه) لسدّ الباب.. وموضوع مراتب الوجود موضوع غائص في المعرفة،صعب الفهم بدون أستاذ يُوضّح لك خباياه وخفاياه..
(المرتبة): سُميت بذلك لأنها تدخُل في التّرتيب التنازُلي للوجود.. مراتب الوجود مراتب برزخية وليست مراتب عينية،فلا تظنّ أن هناك ترتيباً زمانياً ..و الإنسان آخر مراتب الوجود وأرقاها،وإكتملت الدائرة به.. الوجوديَسير بصفة دائرية،لهذا سمّى العارفون مراتب الوجود ب(الدوائر الكونية)،بناء على التصور الدائري للوجود،مركزه إسم الجلالة (الله)،ومن كل نقطة من المحيط تمتدّ خطوط هي الأسماء الإلهية التي لا حصر لها، وكل إسم يشكل دائرة داخل الدائرة.فالنقطة المركزية واحدة ما تعدّدت ولا تكثّرت،مع كثرة الخطوط الخارجة منها،وهي تُقابل كل نقطة من الدوائر المحيطة بها بذاتها،فظهرت الكثرة عن الواحد بلا حلول ولا إتحاد ولا وحدة وجود.ولكل دائرة من دوائر الوجود إسماً من الأسماء الإلهية مُدبّراً لها،لأنه ما أوجد الله العالم إلا ليُظهر سلطان أسمائه، ولو بَقي من الأسماء من لا حُكم له لتعطّلت دائرة من الدوائر الكونية،والتّعطيل مُحال..فمراتب الوجود هي محلّ ظهور مقتضيات تجليات الأسماء الإلهية بعد الإصطحاب مع النبوة المحمدية لكي يكون اللطف والرحمة في الكون الإلهي.. الوجود كان مَرتوقاً في نبوته،وفُتق بالإصطحاب مع أحمديته.. الدوائر الكونية هي بالأحرى تجليات الحقيقة المحمديةوظهورها في مراتب متعددة ومختلفة”فأينما تولوا فثم وجه الله”،والرابط بين هذه الحقيقة ومراتب الوجود هو علاقة الإمدادمن جانب والإستمدادمن جانب آخر..وهذه المراتب كلها (جمال) لأنها من إبداع الخالق.. والأحدية تُعتبرمرتبة وليست دائرة لأنه لا علاقة لها بالخلائق..وهي أول مرتبة وجودية،وما وراءها إلا الغيب المُطمطم الخاص بالله تعالى،ولا كلام لنا عن الذات الإلهية..وبعد الأحدية تناسلت باقي الدوائر الكونية الألوهية،الرحمانية، الواحدية… الشيخ الأكبر إبن عربي،على عكس الشيخ الجيلي والشيخ الكتاني،لا يعتبر الأحدية مرتبة وجودية،وإنما أول مرتبة عنده هي (مرتبة الألوهية) والكل راجع إليها،والحقيقة المحمدية تُمثّل وسيطاً برزخياً بين مرتبة الألوهية والخلائق.. بالنسبة للشيخ إبن قسّي عدد المراتب الوجودية عنده ستة.. اما إبن عربي فهو يقسم الوجود إلى قسمين:البرزخ الأعلى وتندرج فيه أربعة مراتب..وعالم الأمرويتكون من ثمانية وعشرون مرتبة،على عدد حروف اللغة.. وعند الشيخ عبد الكريم الجيلي فمراتب الوجود عددها أربعون مرتبة..وهو كذلك عند الشيخ محمد الكتاني . قلنا سابقاً بأن العارفين الذين خاضوا في الحديث عن مراتب الوجود،كان لهم معراج روحي من خلاله حصّلوا الفتوحات العرفانية حول هذه المراتب.. فمعارفهم وهبيّة لدُنية،غير مكتسبة،بحُكم الإرث لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم..والإنكار لم يزل في كل عصر من علماء الشريعة (فقهاء ومتكلمون..) على أهل العلم اللدُني،لأنه علم يُعرب عن وطنه،وأتى لصاحبه من غير طريق الفكروالنظر،كما هوالشأن بالعلوم الشريعة.. ونستأنس بما أورده الشيخ الشعراني في كتابه (إرشاد الطالبين إلى مراتب العلماء العاملين)،يقول: [واعلم أن جميع ما يُعطيه الله عز وجل لخواص عباده من العلوم اللدُنية كله من الإمام المبين الذي أحصى الله تعالى فيه كل شيء.وعدّة أنواع علومه الشريفة،كما أخبرني شيخي،مائة ألف نوع وتسعة وعشرين ألف نوع وستمائة نوع،تحت كل نوع من فروع تلك العلوم ما تَكلّ عنه الألسنة.وأماعلوم اللوح المحفوظ فهي على عدد أسنان القلم الكاتب ،وعدّة الأسنان ثلاثمائة وستون سنّاً،كل سنّ يفترق عن ثلاثمائة وستين صنفاً من العلوم الإجمالية،فإذا ضربت ثلاثمائة وستين في مثلها فالخارج هو مقدارما كُتب في اللوح المحفوظ من العلوم،ليس في اللوح زيادة على ذلك علماً واحداً.فاعلم ذلك وصدّق به،يُعطيك الله تعالى من علومه،ولا تُنكر تُحرم العطاء..].. ونورد نصاً بديعاً ذكره الشيخ الأكبر إبن عربي،في سياق حديثه عن علاقة مراتب الوجود بالحقيقة المحمدية،في كتابه (عنقاء مغرب في ختم الولاية وشمس المغرب)، ومما قاله الشيخ الأكبر: [ ..ولما تعلّقت إرادة الحق سبحانه بإيجاد خلقه وتقدير رزقه،برزت الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية..فوُجدت الحقيقة المحمدية على صورة حكمه،فسلخها من ليل ذاته فكانت نهاراً،وفجّرها عيوناً وأنهاراً،ثمّ سلخ العالم فكانت سماء عليهم مدراراً..ثم إن الحق صيّره حجاباً لا يُرفع وباباً لا يُقرع،ومن خلف ذلك الحجاب يكون التجلّي،ومن وراء ذلك الباب يكون التدلّي،كما إليه ينتهي التداني والتولّي،وعلى باطن ذلك الحجاب يكون التجلّي في الدنيا للعارفين ولو بلغوا أعلى مقامات التمكين،وليس بين الدنيا والآخرة فروق العارفين في التجلّي عن غيرالإحاطة بالحجاب الكلّي،وهو في حقّنا حجاب العزّة، وإن شئت رداء الكبرياء،كما أن ذلك الحجاب يكون تجلي الحق له خلف حجاب الهباء،وإن شئت قلت رداء الثناء.وما ذكرناه زبدة الحق اليقين وتحفة الواصلين..]. هذا النص المقتطف من كلام طويل نفيس لم نورده بكامله،يُظهر لنا القصد من قاعدتنا المباركة بأن معرفة مراتب الوجود ضرورية لفهم كلام العارف،فهي بمثابة الخريطة،وكما هو معلوم فإن الخريطة المعرفة للعارفين في ترقّ دائم،ولكل زمان خريطته العرفانية التابعة للتجليات الإلهية التي لها الإستمرار والترقي في إظهار المقتضيات القرآنية..ولهذا السبب إختلف العارفون في ترتيب مراتب الوجود وعددها،كما إختلفوا في محتدّ أو أصل النور المحمدي،وقولنا إختلفوا لا نقصد منه إختلاف تضاد الحقائق، فكلهم تكلّم عن كشف وشهود،بل هوإختلاف في ما تعطيه التجليات لكل واحد منهم،فكل عارف يتكلم على حسب مقامه،دقة وتفصيلاً،وفي كل زمان تظهر تحقيقات غير مسبوقة للحقيقة المحمدية،وتبعاً لها لمراتب الوجود.. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه
الفقير الى عفو ربه رشيد موعشي

حصل المقال على : 833 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية

    الاشتراك في النشرة البريدية

    احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

    اترك تعليقا

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد